هل يمكن التكيف مع الاشمئزاز والقرف؟

 


 

 

تناولت وسائل الإعلام والوسائط صورا لطفح الصرف الصحي في سكن بعض الطلبة! ونتيجة لذلك تعددت الرسائل التي تثير التساؤلات وتستنكر ذلك الوضع المزري، وتدعو للمحاسبة. وإضافة لذلك أرى أنّه من المهم أيضا أن نتساءل: لماذا يتعايش البعض ويتكيفوا مع الأوضاع المقرفة والمثيرة للاشمئزاز؟
ومن الناحية النفسية فإنّ القرف والاشمئزاز موجود في حياتنا اليومية وسلوكنا الشخصي والاجتماعي بدرجات متفاوتة سلبا وإيجابا، ومن أمثلة ذلك تعاملنا مع تناول الأدوية، والأطعمة، وقبولنا ورفضنا لبعض المهن، وفي توتر بعض العلاقات الاجتماعية بناء على الاشمئزاز والقرف.
والاشمئزاز هو حالة انفعالية تتمثل في المقت والكراهية الشديدة والنفور نتيجة لوجود بعض المثيرات المرفوضة (المقرفة) مثل الحشرات والفضلات وغيرها، ولب الاشمئزاز هو حماية صحتنا، ولذلك يستتبع الاشمئزاز النفور من الشيء وتجنبه تجنبا مطلقا، والحرص على عدم الالتصاق به. ويتضمن تعبيرا وجهيا أوليا يتم التعرف عليه في غالبية أنحاء العالم، كما يرتبط بعمليات تقييم بعينها، كما أنّه يثير أحاسيس ترتبط بالغثيان والتقيؤ، ويتضمن الغثيان انخفاضا في معدلات ضربات القلب وضغط الدم، وارتفاع إفراز اللعاب والتعرق، والانقباض المفاجئ لعضلات المعدة، وهو نمط يهدف إلى التخلص من المحتويات الخطرة داخل المعدة.
ويميز الباحثون في علم النفس بين نوعين من الاشمئزاز هما: الاشمئزاز المادي أو الجوهري (Core Disgust) والاشمئزاز الخلقي (Moral Disgust)، فالاشمئزاز المادي أو الجوهري هو الذي يرتبط بالصحة الجسمية ويعتمد على فكرة وضع شيء ضار في الفم، مثل: أكل الحشرات والفضلات. والاشمئزاز الخلقي يرتبط بانتهاك الحقوق وتجاوز القيم الاجتماعية والنظامية مثل: زنا المحارم.
ولكن القرآن الكريم يكشف لنا عن نوع من الاشمئزاز مرتبط بالجوانب الإيمانية، والتقديرات الروحية لدى الناس، كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُون} [الزمر:45]. وقد ذكر الأستاذ الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر ووزير الأوقاف المصري الأسبق في كتابه الإسلام والعقل، أنّ أحد أصدقائه من السودان – وهو يحتل مكانة مرموقة في العلم والإيمان- قد قصّ عليه قصة هزت شعوره هزا قويا، وأخذ يفكر فيها عدة أيام، وما كان يتخيل أن يصل صدق الإيمان إلى هذه الدرجة. تتلخص القصة في أنّه كان هناك رجل يعيش في قرية في أطراف السودان وتكاد تكون منعزلة عن حركة حياة المدن في أيام الاستعمار الإنجليزي للسودان، واضطر ذلك الرجل البسيط إلى أن يسافر إلى إحدى المدن لإجراء معاملة مهمة، واصطحب معه أحد الأفراد من معتادي السفر إلى المدن، ولما وصلوا إلى المدينة وجدوا ضابطا إنجليزيا، فاندهش ذلك القروي من هذا الكائن الغريب في سحنته وفي زيه، فسأل مرافقه ما هذا؟ فقال له هذا خواجة، فسأله مرة أخرى عن معنى خواجة؟ فقال له مرافقه: خواجة يعني كافر. فوقف الرجل البسيط وقال له يعني لا يؤمن بالله! فقال له نعم، فتغير حال هذا الرجل البسيط وبدأ يشعر بالاشمئزاز، وازداد اشمئزازه شيئا فشيئا إلى أن وصل إلى التقيؤ.
كيف نكتسب الاشمئزاز والقرف؟
تشير الدراسات إلى أنّ الأطفال الصغار حتى عمر العام والنصف تقريبا يضعون كل شيء في فمهم، ويقومون بمضغه ما لم يكن طعمه سيئا، ومع تقدم العمر يبدؤون في رفض الأطعمة التي يرفضها المحيطون بهم، أو التي يعتقدون أنّ فيها خطر عليهم، ولذلك يرتبط الاشمئزاز بالخوف. كما أنّه يمكننا أن نتعلم الشعور بالاشمئزاز عن طريق الارتباط الشرطي من بعض الأطعمة حتى لو كانت لذيذة، وذلك عندما يحدث لنا تقيؤ بعد تناول ذلك الطعام خاصة إذا تناولناه لأول مرة، وكأنّ أجسادنا تعمل فورا على وضع ذلك الطعام في قائمة الأطعمة الخطرة.
وفيما بعد يعتمد الاشمئزاز على التقدير العقلي المعرفي والتعميم والتشبيه، وقد أفادت كثير من التجارب النفسية أنّ الاشمئزاز يعتمد على التفكير في الشيء وليس على الخواص الخاصة به فقط، فمثلا قد يضع أحد الأفراد قطعة بلاستكية غير ضارة في فمه، ولكن إذا بدأ في مضغها وشعر أنّها تشبه القيء فإنّه سيشمئز منها ويعافها ويلفظها فورا، وإذا رأى طعاما جيدا ولكنه شبهه بشيء مكروه لديه فإنّه سيشمئز منه كذلك.
وتلعب الثقافة والسلوك المجتمعي العام دورا كبيرا في اكتساب الاشمئزاز والقرف من خلال ميل الإنسان إلى المسايرة الاجتماعية في سلوكه بصورة عامة وذلك لأنّه يجد تعزيزا وتدعيما من المحيط الذي حوله لممارسة سلوك معين بغض النظر عن وجود الأساس المنطقي لذلك السلوك أو عدمه، ونتيجة لذلك نجد بعض المجتمعات تتناول بعض الأطعمة أو يعيشون في بعض البيئات التي يشمئز منها غيرهم، فبعض المجتمعات تتناول الحشرات في أطعمتها، والبعض يتناول الدم واللحوم النيئة بينما يشمئز ويتقزز غيرهم وينفروا منها نفورا كبيرا.
وترتبط بعض المهن بالتعامل مع ما ينفر ويشمئز منه الإنسان بطبعه، مثل العمل في نظافة المجاري أو معالجة مياه الصرف الصحي أو التعامل مع الدم والجروح والجثث وغيرها، ويحدث التكيف التدريجي للعاملين في تلك المجالات بعد العديد من التجارب، وبناء على رغبتهم في المهنة أو نتيجة لما تحققه لهم من عوائد شخصية أو لتقديرهم لحاجة المجتمع لها. ولذلك يشمئز طلبة الطب من المشرحة في البدايات، وكذلك دارسو الحشرات والكائنات الحية المنفرة الأخرى، ولكن نتيجة للتدريب والتدعيم يصبح الأمر عاديا فيما بعد.
ولكن التكيف مع الاشمئزاز والوضع المقرف ليس محمودا بصورة دائمة، وخاصة إذا كان ذلك يرتبط سلبيا بالصحة أو القيم أو الحياة الاجتماعية بصورة عامة. ولذلك يحتاج البعض لتنمية انفعال الاشمئزاز والقرف تجاه الأوضاع المزرية، ويتم ذلك من خلال الإرشاد الفردي والجماعي. وتنمية مفاهيم الصحة والسلامة الذاتية والبيئية من خلال التعليم والإعلام والخطاب الديني عبر المنابر المختلفة.

sirkatm@hotmail.com

 

آراء