هوامش حول أسئلة اتفاق جوبا لسلام السودان
أحمد ضحية
5 January, 2023
5 January, 2023
تمهيد
وقع على (اتفاق جوبا لسلام السودان) في ٣ أكتوبر ٢٠٢٠ مع الحكومة الانتقالية حركات تحالف الجبهة الثورية الأربعة: (تحرير السودان) بقيادة مني أركو مناوي، و(العدل والمساواة) بقيادة جبريل إبراهيم، و(الحركة الشعبية لتحرير السودان)، مالك عقار، و(تجمع قوى تحرير السودان)، بقيادة عبدالله يحيى.
إضافةً إلى مسارات: (الشرق) الذي وقّع عليه أسامة سعيد وخالد شاويش، و(الوسط) الذي وقع عليه التوم هجو، و(الشمال) الذي وقع عليه دهب إبراهيم دهب.
بينما تخلفت عن التوقيع (الحركة الشعبية لتحرير السودان، عبد العزيز الحلو)، التي تمسكت بضرورة "علمانية الدولة"، وإعطاء جنوب كردفان والنيل الأزرق "حق تقرير المصير"، لكنها عادت وقبلت بمبدأ التفاوض، ووقّعت في ٣ سبتمبر ٢٠٢١ اتفاقاً منفصلاً، مع رئيس الوزراء "عبدالله حمدوك"، وهو ما مهّد الطريق لمحادثات قطع الانقلاب الطريق عليها.
كما يُلاحظ أيضاً أن حركة الحلو رّحبت مؤخراً، بالاتفاق الإطاري، الذي وقعه تحالف (قوى الحرية والتغيير المجلس - المركزي) مع (المكون العسكري وبعض حركات الجبهة الثورية) في ٥ ديسمبر ٢٠٢٢، لتصفية الانقلاب واسترداد مسار التحوّل الديمقراطي.
كذلك يُلاحظ غياب طرفين مهمين عن التوقيع على هذا الاتفاق الاطاري، هما حركتي مناوي وجبريل. إلى جانب (حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور)، الذي يحظى أكثر من غيره من (قادة الحركات الدارفورية)، بتأييد واسع في إقليم دارفور. والذي كان فيما مضى قد رفض اتفاقية جوبا لسلام السودان برمتها، ودعا بدلاً من ذلك إلى عقد مؤتمر وطني جامع.
وما هو لافت للانتباه، تعرض (أحكام تقاسم السلطة) في اتفاقية جوبا لسلام السودان لانتقادات واسعة، من قبل دوائر السلطة المهيمنة تقليدياً، وجماعات الإسلام السياسي، باعتبار أن النسب غير متناسبة مع حجم الدوائر السياسية للحركات ووزنها العسكري.
وكذلك تعرضت الاتفاقية للانتقاد من بعض الحركات المسلحة، الأقل تأثيراً على الأرض. إلى جانب بعض منظمات المجتمع المدنى، التي انتقدتها بقسوة.
اتفاق جوبا لسلام السودان
حددت الاتفاقية نهاية الفترة الانتقالية بالعام ٢٠٢٣، على أن تحصل الجبهة الثورية على (ثلاثة مقاعد في المجلس السيادي)، الذي يعد أعلى هيئة في الحكومة الانتقالية. و (ربع المناصب الوزارية)، و(ربع المقاعد في البرلمان الانتقالي)، المؤلف من ٣٠٠ عضواً، حال تكوينه.
كما تم الاتفاق على أن لا تقل نسبة النساء عن ٤٠% من المناصب الحكومية على جميع المستويات.
ونص اتفاق جوبا على الحرية الدينية، وفصل الدين عن السياسة. لضمان عدم استغلال الدين من قبل مؤسسات الدولة، ولتجنب التجربة سيئة السمعة، على عهد نظام الحركة الإسلامية البائد.
وفي الحقيقة، عمليا لم يكن هذا المبدأ عند تطبيقه فاعلاً! -فعلى سبيل المثال من بين أمثلة عديدة- بدا واضحاً أكثر في معركة (تغيير مناهج التعليم)، التي انتصرت فيها (قوى الردة) التابعة للنظام البائد على دكتور القراي، بعد أن نجحت في قمع إرادة دكتور حمدوك، والأطراف المستنيرة في قوى الحرية المركزي. وغني عن القول، أن قوى الردة انتصرت في أكثر من معركة، زجت فيها بالدين مستغلة عواطف العوام، لإفساد الحياة السياسية برعاية و حماية المكون العسكري.
وما هو لافت للنظر أيضاً، أن قوى الجبهة الثورية، أضاعت فرصة ثمينة لتوطين نفسها كأحزاب مدنية وطنية قومية لكل السودان، عند قيام الانتخابات، بانحيازها للانقلاب! ما أدى لموقف شعبي واسع ضدها، حتى في الأقاليم التي تزعم الحديث باسمها وتمثيلها!
فرغم أن الاتفاق أتاح للحركات المسلحة، القدرّة على تغيير قواعد اللعبة السياسية، المكرسة تاريخياً. إلا أنها فضلت التنافس على النفوذ، ضد قوى الحرية والتغيير- المركزي، واولت ثقتها للمكون العسكري، العدو اللدود للهامش، والحارس الشرعي لقواعد لعبة السياسة السودانية التقليدية الموروثة منذ الاستقلال.
فالجبهة الثورية فضلت التعامل مع الجنرالات، الذين يُعتبرون أصحاب السلطة الحقيقية في المؤسسات الانتقالية، بدلًا من قوى الحرية والتغيير- المركزي. أو الأطراف المدنية الأخرى في الحكومة.
ويُلاحظ أن اتفاق جوبا منح بالفعل "المجلس الأعلى المشترك" المؤلف من الجيش والمخابرات والشرطة وقادة الجماعات المسلحة، سلطة تنفيذ الترتيبات الأمنية في دارفور، وهو ما يعني استبعاد المدنيين. لذلك في الاتفاق النهائي، الذي مهد له الاتفاق الاطاري الحالي الموقع في ٥ ديسمبر الماضي، يجب إعطاء دور للمدنيين في تنفيذ الترتيبات الأمنية.
تحديات
وفقاً لتقرير مجلس الأمن الدولى فى مايو ٢٠٢١، أن السودان وقتها -أي قبل انقلاب ٢٥ أكتوبر- أحرز تقدما ملحوظاً في انتقاله الديمقراطي منذ التوقيع على اتفاق جوبا للسلام. على الرغم من عدم تنفيذ العديد من جوانب الوثيقة الدستورية وترتيبات التسريح ونزع سلاح المقاتلين وإعادة دمجهم، وتشكيل المجلس التشريعى الانتقالى، إلخ..
إلا أنه منذ اليوم الأول لسريان الاتفاقية، بدا واضحاً، أن التحدّي الأساسي الذي تواجهه هذه الاتفاقية، أن أطرافها اكتشفت -خاصة بعد انقلاب ٢٥ أكتوبر- أنها لم تكن أكثر، من كونها جزءاً من استراتيجيات التفاوض، التي ظل نظام ٣٠ يونيو ١٩٨٩ ينتهجها خلال ثلاث عقود، حتى لحظة سقوطه.
بدا ذلك واضحاً في نفوذ اللجنة الأمنية، الذي انعكس على إدارة التفاوض، بالعقلية الموروثة من نظام الحركة الإسلامية البائد، ثم مروراً بوضع المكون العسكري العوائق، أمام تنفيذ بنود أساسية في الاتفاق، انتهاءً بانقلابه على المكون المدّني بالشرّاكة مع الحركات المسلحة وقوى الفلول.
وفي الوقت نفسه ارتفع الصوت الثوري المعارض لبند المحاصصات والتسويات السياسية، التي لجأ إليها المكون المدني لحكومة حمدوك، تحت تأثير نفوذ المكون العسكري. فيما ظلت المواجهات المستمرّة للجان المقاومة والقوى السياسية على الأرض، ترفع لاءاتها الثلاثة المعروفة: لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية، ما مثل تهديداً كبيراً لاتفاق جوبا لسلام السودان، وأيضاً تهديداً حاضراً بقوة لهذا الاتفاق، حتى لو لم تستهدفه هذه اللاءات بصورة مباشرة.
خاصة أن الاتفاق متهم بأنه: ليس أكثر من عملية تقاسم للسلطة بين أطراف محدودة، وهنا تجدر الاشارة أن عملية تقاسم السلطة، كما وردت في الاتفاق، هي نفسها بحاجة للتفصيل، فالقضايا السودانية كبيرة لا تحتمل الاتفاقيات ذات طابع المناورة والتكتيك، الذي درجت الحكومات السودانية تاريخياً على ممارسته في الاتفاقيات.
فمفاوضات حكومة (الإنقاذ) -على سبيل المثال- مع الحركات المسلحة كانت تدور وفقاً لاستراتيجية إنهاك الخصم واستنزاف الوقت والجهد وتجزئة القضايا.
أي الاستراتيجية نفسها التي ظل يتبناها البرهان ضد القوى السياسية ولجان المقاومة، منذ ما قبل تشكيل الحكومة الانتقالية برئاسة حمدوك، وحتى انقلابه على المكون المدني، وإجهاض الوثيقة الدستورية.
من الجهة الأخرى نجد أنه لهذا السبب، أن المفاوضات التي أفضت إلى اتفاقية جوبا لسلام السودان، نزعت إلى (استراتيجية مفترق الطرق)
، التي عجلت بأن تكون الحكومة الانتقالية (المكون المدني) ضحية التنازل عن القضايا الأساسية لأهالي المسارات، التي أصبحت منذها مصطكة في قضايا هامشية، الأمر الذي قاد إلى احتقانها بالنزاعات الاثنية المتفاقمة، فيما كسبت الحركات المسلحة مقاعد في السلطة، دون أن تنزع السلاح من قواتها. أو تحث الحكومة على المضي قدماً، في تنفيذ بند الترتيبات الأمنية، لدمج ميليشياتها ضمن القوات المسلحة.
المعضلة الأساسية هنا، أنه بدلاً من أن تتخذ هذه الحركات خطوات جادة للتحول إلى أحزاب مدنية، نجدها قررت التمترس في أُطرها وتفكيرها القديم، الذي يعتبر أن جوهر الصراع بالنسبة لها كحركات مسلحة، هو (صراع ثقافي، و ثورة لهامش على مركز، فرض حتى الجلابية كزي قومي!!!).
فالحركات المسلحة تستخدم (مفهوم التهميش) كعدة شغل، و(رأس مال معنوي) لتحصل من خلال توظيفه، على مطالب لقادتها وليس لشعوبها في حقيقة الأمر! مع الاحتفاظ برأس المال هذا، ومقاومة إزالة التهميش.
فمعالجة قضايا التهميش تُجرد الحركات المسلحة، من أقوى ترساناتها التي تحتمي بها. لذلك يسعى قادة الحركات للاحتفاظ بهذا (التهميش كرأسمال ووقود للمليشيات) التي يترأسونها، وفي الوقت ذاته (يستمرون في المطالبة بمعالجة التهميش)، دون التحول لحزب سياسي، يتبنى معالجة هذا التهميش عبر البرلمان!
ومن هنا نلاحظ مخاوف قادة الحركات، في رغبتها في تمديد الفترة الانتقالية، لخشيتها مما يعنيه قيام الانتخابات، بانتهاء الفترة الانتقالية وحدوث التحول الديمقراطي، ما يعني مباشرةً تنازل قادة الحركات عن نصيبهم، الذي ضمنته لهم الاتفاقية في السلطة والثروة.
عقلية واحدة
أثبتت التجربة بعد الانقلاب على وجه الخصوص، خلال النزاعات الدموية في النيل الازرق ودارفور، أن عقلية قادة الحركات لا تختلف عن عقلية البرهان واللجنة الأمنية كثيراً، فقد كان نظام الحركة الاسلامية في السابق، يستخدم الاثنية و الجهوية كآلية لإدارة الصراع، باستقطاب بعض الحركات وتأليب الأخرى ضد بعضها اثنياً وجهوياً، وهو ما حاول البرهان إعادة توظيفه، عندما ظهر في مناسبات مختلفة مسوقاً لنفسه، كحامي حمى الشمال والحدود الشمالية!
بل سعى بموجب هذا التسويق، الى استقطاب حلفاء في مواجهة الحلف القبلي، الذي كان حميدتي يبنيه في السر والعلن!
وجميعنا نذكر خطابات البرهان الرسمية، التي ترددت أصداء آخرها في الآفاق، عندما صرح العام الماضي في شندي، ضد منسوبي الحركات المسلحة قائلا: "ديل ما بيشبهونا، نحن عبر تاريخ السودان قادة البلد دي!" وبطبيعة الحال لم تجرؤ حركة واحدة على التعليق على خطاب سيادته في شندي!
مثلما لم تعلق حركة واحدة من قبل، على توظيف البرهان للناظر محمد الامين ترك في شرق السودان، لخنق الحكومة الانتقالية!
فهذه الحركات مضت منذ يومها الأول في السلطة، للتآمر مع البرهان لإسقاط الحكومة الانتقالية برئاسة حمدوك بانقلاب ٢٥ أكتوبر الفاشل، تمني نفسها بسيطرة أعضائها على الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية، دون التعلم من أن دعم الانقلابات واستخدام الولاءات القبلية أو الجهوية في تجارب الصراع السياسي في السودان، على الدوام كان أشبه ببراميل بارود لا توفر أحدا لحظة انفجارها.. سواء في تجارب جنوب السودان أو جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور.
ويبدو واضحا الآن نتيجة ممارسات البرهان في شرق السودان: احتقانات اثنية تنذر بالخطر لا في مكونات المجموعات السكانية في الشرق فقط، بل في امتداداتها عبر الحدود السودانية، الاريترية والاثيوبية وخارج الشرق.. داخل الولايات السودانية المجاورة.
لذلك عندما ننظر لاتفاق سلام جوبا الآن، على ضوء مثل هذه التداعيات، ندرك أنه كان ينبغي ابتداء معالجة القضايا الأساسية، وليس التركيز على تقاسم السلطة مع (قادة الحركات).
وعلى رأس هذه القضايا الأساسية، قضية العدالة الإنتقالية والتمكين. فكل اتفاقيات السلام في السودان، منذ اتفاقية أديس أبابا ١٩٧٢، تناولت ما عبر عنه اتفاق سلام جوبا، وجميعها سقطت لأنها حملت بذور فنائها داخلها، بتركيزها على الدوام على تقاسم السلطة، وإغفال القضايا الأساسية الأخرى، التي تسببت في النزاعات السودانية ابتداءً.
فباستثناء مفاوضات النظام البائد مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، بقيادة الزعيم الراحل دكتور جون قرنق، والتي تمخضت عن بروتوكول مشاكوس عام ٢٠٠٢، ثم نيفاشا عام ٢٠٠٥، والتي مهدت فيما بعد لانفصال الجنوب في عام ٢٠١١. باستثناء ذلك، نجد أن كل الاتفاقيات في النزاعات السودانية سقطت.
على الرغم من أن اتفاق جوبا لسلام السودان، انشأ لجنة للحقيقة والمصالحة، وتمكين آليات العدالة التقليدية. وأن الموقعون أكدوا على استعدادهم للتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، فيما يتعلق بالأشخاص الذين صدرت بحقهم أوامر اعتقال.
على الرغم من كل ذلك، نجد أن المكون العسكري والحركات المسلحة تعمدا معاً، عدم المضي بجدية في إجراءات هذا الملف. وإذا كان بالإمكان أن نفهم: لماذا وضع المكون العسكري العوائق أمام تحرك هذا الملف، وهو الذي أحدث جرائمه ضد الإنسانية، مجازر (اعتصام القيادة العامة)، والاستمرار حتى الآن في قتل الثوار في الحراكات الجماهيرية، وممارسة العنف المفرط، الأمور التي ظلت تدفعه باستمرار للمطالبة بضمانات للإفلات من العقاب، فما لا نفهمه هو تواطؤ الحركات الدارفورية على وجه الخصوص، في تجاهل فتح هذا الملف، وعدم الضغط في سبيل فتحه، فالقاصي والداني يعلم أن دارفور تعرضت لفظائع غير مسبوقة في انتهاكات حقوق الإنسان والإبادة والجرائم ضد الإنسانية، إلخ!
كذلك نجد أن قادة الحركات في الواقع تجاهلوا القضايا الحقيقية للاجئين والنازحين، ومواطنيهم في معسكرات التهجير الداخلي والخارجي، ما جعل المناطق التي يزعمون التحدث باسمها، تفقد فيهم الثقة، وقد بدا ذلك واضحاً خلال موقف هؤلاء المواطنين، في الحراكات الجماهيرية التي قادتها لجان المقاومة، سواء في النيل الأزرق أو مدن وارياف دارفور!
و يُلاحظ أن بعض وُلاة الحركات المسلحة، لا يستطيعون زيارة المعسكرات، التي بعواصم ولاياتهم، إلا تحت حماية راجمات الدعم السريع!!
فمواطنين المناطق التي عُرفت بالمهمشة خاصة (المستنيرين) غير المنتمين إلى حركات، ظلوا يجأرون بالشكوى من أن المحاصصة اقتصرت حصرياً علي (قبيلة أو عشيرة) قادة الحركة المسلحة. لذا ينظرون إلى اتفاقية سلام جوبا، كعقوبة لشعوب إقليمهم، وليست مكافأة لهم!!
ولذلك ينتقدون من تولوا مسئولية إدارة الأقاليم من منتسبي الحركات، بأنهم يفتقرون للتأهيل والمهنية والكفاءة اللازمة، والعجز في التعامل مع مشاكل الإقليم المعقدة، التي تتطلب قدراً عالياً من الإدراك النظري والخبرة العملية، ويستهجنون في سياق المثال العملي، إحدى ولايات دارفور، التي عُين واليا عليها، وكيل عريف متقاعد من الجيش، يفك الحرف بصعوبة، وبطبيعة الحال غير مؤهل أن يكلف بإدارة ولاية حدودية، مساحتها أكبر من مساحة فرنسا، ويسكنها أكثر من مليوني مواطن!
كذلك الموقف غير الأخلاقي لقادة الحركات، من المكون المدني للحكومة الانتقالية، وتآمرهم وتماهيهم في إنقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، الأمر الذي عزز انفصال هذه الحركات عن الشعوب، التي تدعي الحديث باسمها.
أيضاً من الأمور المثيرة للشكوك، أن الاتفاق استخدم صياغة غامضة فى تحديد مهام قوة حفظ الأمن في دارفور (١٢ ألف فرد) نصها كالآتي: "القيام بالمسئولية الدستورية و(الأخلاقية) والسياسية لحكومة السودان في حماية المدنيين".
فاستخدام كلمة (الأخلاقية) هنا أمر مفتوح على التأويلات في كلٍ من دارفور، ومنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان!!!
ونظراً لهشاشة الحكومة الانتقالية، التي سقطت بانقلاب المكون العسكري والحركات، على المكون المدني، كنتيجة طبيعية لانعدام الثقة والتنافس بين المكون العسكري وحلفائه من قادة الحركات من جهة، والمكون المدني من الجهة الأخرى.
إلى جانب تزايد انعدام الأمن في أجزاء كثيرة من السودان بما في ذلك الخرطوم، نتيجة وجود الميليشيات المسلحة والعنف القبلي، وانتشار الأسلحة، وتنامي مؤامرات عناصر النظام السابق بحماية من المكون العسكري.
والمؤشرات المتزايدة لاحتمالات مقاومة من قبل بعض المجموعات المسلحة التي استولت على الأراضي غصباً. إذ ترى أن الاتفاق هدد مصالحها.
اذا اضفنا لهذه العوامل واقع الانهيار الاقتصادي، بسبب سوء الإدارة الاقتصادية من قبل نظام الحركة الإسلامية البائد، والآثار المدمرة التي ترتبت على فيروس كوفيد-١٩ و الفيضانات غير المسبوقة، وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية؛ واعتماد وزير المالية جبريل ابراهيم على الجبايات، في ظل غياب مجلس تشريعي يجيز الميزانية، فإن مسألة الحصول على موارد لتنفيذ اتفاق سلام جوبا، على ضوء هذه المعطيات مجتمعة، تصبح بعيدة المنال.
خلاصة القول هنا، أن تنفيذ اتفاق السلام مكلف جداً. خاصة أن الاقتصاد السوداني يعاني من تشوهات هيكلية، ورغم تعهد المانحون بدفع تكاليف السلام إلا أن هذا ليس كافياً، فقد تم استنزاف خزائن وموارد الدولة، بسبب الفساد وسوء إدارة وزير المالية جبريل ابراهيم، والنهب المنظم للموارد الحيوانية والمعدنية على وجه الخصوص، وعدم كفاية المساعدات من قبل المانحين الدوليين.
ففي ظل اقتصاد جبايات غير منتج، وأضعف من أن يعالج فقر اقليم واحد من اقاليم السودان، أو يخلق وظائف جديدة، ويحسن مستويات المعيشة في هذا الإقليم الواحد، لنا أن نتساءل: من سيتكفل بدفع مئات الملايين من الدولارات اللازمة سنوياً لتنفيذ الاتفاق؟
ولعل إجابة هذا السؤال تكمن في المغزى من وراء تشكيل بعثة أممية بموجب الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، لمعالجة هذه القضايا.
وزبدة القول أن رؤى صنع السلام الواردة في الاتفاقية، بحاجة لمعالجة على أساس أن يكون الإصلاح المؤسسى، متزامناً مع تحقيق السلام بالترافق مع أوجه الإصلاح الأخرى، سواء فى مجال تفكيك التمكين، أو المجال السياسى والعسكري والأمنى أو الاقتصادي، والسعي لتوحيد المسارات، بالتعامل مع قضايا السودان كقضية واحدة لا تحتمل التجزئة.
الترتيبات الأمنية
أهم بروتوكولات اتفاق جوبا لسلام السودان، هو بروتوكول (الترتيبات الأمنية)، الذي يتوقف تنفيذه بصورة فاعلة، على استقرار الأوضاع السياسية. وهو البروتوكول الذي تنفيذه يعني: حلِ جميع الجيوشِ والمليشياتِ، وتطهير الجيشِ من العناصر المؤدلجة، وإعادة هيكلةِ القطاع الأمني والعسكري، ببناءِ جيشٍ قومي محترف واحد، بعقيدةٍ عسكرية وطنية والنأي به عن السياسة.
وهو الأمر الذي لم يحدث حتى الآن، إذ أن ما حدث هو دمج قادة الحركات المسلحة في السلطة، سواء على مستوى مجلس السيادة، أو مستوى الحكومة القومية والإقليمية، دون أي معالجة حقيقية جادة، للمشكلات الأساسية، التي تعانيها هذه الأقاليم، التي تزعم الحركات المسلحة، أنها تتحدث باسمها! كيما تكون هذه المعالجات، حجر الأساس لسلام دائم في السودان.
فحتى الآن لم يتم وضع أسس فعالة، لحل الصراعات القبلية، التي لا تفتأ تنفجر من آن لآخر، وكذلك لم تتم معالجة قضايا الأراضي، أو تحديات إعادة دمج النازحين داخلياً واللاجئين، وتداعيات الاتفاقية نفسها في مناطق المسارات الأخرى، غير دارفور والمنطقتين.
العسكريون ظلوا يتعللون في تبريرهم بطء تنفيذ بروتوكول الترتيبات الأمنية، بتوقف الدعم الدولي. بينما توقف الدعم الدولي سببه هم أنفسهم، بسبب انقلابهم على الفترة الانتقالية، بدعم من قادة الحركات المسلحة، في الخامس والعشرين من أكتوبر ٢٠٢١.
كذلك بدا واضحاً الآن عجز حكومة جنوب السودان كجهة راعية لهذا الاتفاق، عن تمويله، ما شكل تحدياً إضافيا أمام التنفيذ الكامل.
من الجهة الأخرى نجد أن قادة الحركات المسلحة، يرغبون في الاحتفاظ بقواتهم العسكرية، من أجل المحافظة على السلطة، لاعتقادهم أن دمج قواتهم في الجيش، سيقود إلى خسارة مناصبهم في السلطة، ويعجل بالاستغناء عن خدماتهم!
ولذلك هم أيضا يماطلون في تنفيذ ملف الترتيبات الأمنية، لرغبتهم في الاحتفاظ بقواتهم لأطول وقت ممكن، إذ يريدون خوض الانتخابات، وهم لا يزالون يحتفظون بهذه القوات!
وبدلاً عن السعي لدمج هذه القوات، نجدهم عملياً يعملون على تجنيد المزيد من الأفراد فى صفوف الحركات المسلحة، وذلك: (١) للمطالبة بحصة أكبر من المناصب داخل الأجهزة الأمنية. (٢) كلما زاد عدد مقاتلي الحركات المسلحة زادت مكاسبهم النقدية والمادية، التي يحصلون عليها عن طريق المشاركة فى عملية التسريح والدمج. (٣) يُعد التجنيد وسيلة للحركات المسلحة، للتأكد من أن لديها مخزوناً احتياطياً دائماً فى متناول اليد، إذا انهار الانتقال السلمى فى السودان.
ونتيجة لذلك، قد تنشأ عددٌ من المخاطر من عمليات التسريح والإدماج. من حيث الكلفة المالية، فإذا تضخمت الأجهزة الأمنية بعد استيعاب المزيد من المقاتلين السابقين، فإن الخزانة القومية لن تستطيع مواجهة ضغوط الإنفاق على الخدمات العامة الأخرى.
وربما يُساهم عدم تقديم هذه الخدمات، فى إثارة حالة من الاضطراب العام، وهو الأمر الذى يعرض الانتقال الديمقراطي للخطر.
بالإضافة إلى ذلك، كلما أصبحت الأجهزة الأمنية أكبر عدداً وأكثر قوة، كان من الصعب على الحكومة المدنية، إجراء إصلاحات في القطاع الأمني، بشكل يكبح جماح مصالح أفرادها التجارية، والتى تشمل السيطرة على العديد من الشركات، التي تديرها الدولة. والتي تحقق أرباحا لكبار الضباط. فضلاً عن أنها تستأثر بنصيب الأسد من الموارد العامة.
ومع ذلك نجد أن من الأخطاء المدمرة للبروتوكول، إحتفاظ الحركات المسلحة بقواتها لمدة أربعين شهراً، بينما عمر الفترة الانتقالية تسعة وثلاثون شهراً -قبل حدوث الانقلاب- ولذلك في ظل الواقع الجديد الذي فرضه الانقلاب، ومن ثم الاتفاق الإطاري الأخير الهادف لتصفية الانقلاب، يتوجب في الاتفاق النهائي، إعادة النظر في هذه المسألة بدمج هذه الحركات المسلحة والدعم السريع فوراً دون تأخير -قبل نهاية الفترة الانتقالية- لمقابلة الانتخابات بجيش مهني واحد بعقيدة عسكرية موحدة قوامها الولاء للوطنِ والشعبِ والسيادة الوطنية.
ومن المآخذ على الاتفاق أيضاً، أنه لم يتم تحديد أعداد قوات الحركات الموقعة على الاتفاق، فقادة الحركات المسلحة يضخمون من أعداد قواتهم العسكرية على نحو مبالغ فيه!
كما أن تزايد حجم الحركات المسلحة، وعسكرّة المجتمعات المحلية والمدن الكبرى، أنه فى حالة تأخر أو فشل برامج التسريح والدمج، فقد يفقد قادة الحركات السابقون سيطرتهم على قواتهم المتضخمة من حيث العدد والعتاد، وهو ما يشكل تهديداً محتملاً في المستقبل، حال إلغاء الاتفاق أو انهياره لأي سبب من الأسباب.
وربما يكون التهديد حاداً بشكل خاص فى دارفور، التي رأينا فى الأحداث الدامية، التى تقع من آن لآخر -وآخرها أحداث بليل وزالنجي، التي اتهم فيها حميدتي أهله الرزيقات، بأنهم طعنوه في ظهره- وفي الواقع، بسبب انتهاء تفويض العملية المختلطة للأمم المتحدة، والاتحاد الإفريقي في دارفور (يوناميد)، اختفت الآلية الرئيسية لمنع وردع العنف.
وبالتالي يُمثل تأخر تشكيل قوة أمن دارفور المشتركة، التى نص عليها اتفاق السلام، حافزاً آخر لتكريس هذه التهديدات المحتملة. خاصة أن اتفاقية جوبا للسلام، لم تعالج العنف الذي اندلع بكثافة أكبر، في جميع أطراف السودان منذ عام ٢٠١٩.
وربما أن ذلك أيضاً يُعزَى إلى تحريض المجتمعات ضد بعضها بعضاً، وغالباً ما تتورط فصائل من القوات العسكرية وشبه العسكرية. كما حدث في جنوب كردفان، إذ أدت التوترات القبلية إلى اشتباكات، بين وحدة من الجيش يهيمن عليها النوبة، وقوات الدعم السريع شبه العسكرية، التي يأتي معظم منتسبيها من بين صفوف عرب الأبالة الرعاة.
وكذلك في شرق السودان، المنطقة التي ظلت مستقرة لوقت طويل، حيث اشتبك أهالي من قبيلة الهدندوة، مع أهالي آخرين من قبيلة البني عامر. وعلى الرغم من أن بعض بنود الاتفاقية المتعلقة بحيازة الأراضي والتعويضات، يمكن -من حيث المبدأ- أن تعالج بعض العوامل الكامنة وراء هذه النزاعات؛ فإن تهدئة التوترات المحلية، تحتاج إلى استثمار بعيد المدى في عملية تفريغ الاحتقانات و صنع السلام.
كما أن اشارة بعض قادة الحركات (مناوي) إلى وجود اتفاق (تحت التربيزة)، عمق من فقدان الثقة، وأشعل المخاوف! إذ أوحى مناوي، ومن قبل حميدتي، بوجود اتفاقيتين، أحداهما الاتفاقية المعلنة التي نعرفها، والثانية اتفاقية خفية، يعلمها فقط قادة الحركات والمكون العسكري!.
هناك ملاحظات مهمة، كان قد أشار لها الرفيق رئيس التيار الثوري الديمقراطي ياسر عرمان، في اجتماعات المجلس المركزي والمجلس القيادي، حول أيهما صحيح: المطالبةُ بإلغاءِ اتفاقِ سلام جوبا بالكاملِ، أم معالجته؟ حيث خلص إلى ضرورة معالجة نقاط الضعف فيه، بمشاركةِ جميع أصحابِ المصلحةِ، بهدفِ المحافظةِ على ايجابياتهِ والتخلص من سلبياتِه وأخطائه.
وهنا تطل قضية المسارات العديدة، التي اُقحمت اقحاماً على الاتفاق الأساسي، الذي كان يجب أن يقتصر على مناطق الحرب في دارفور والمنطقتين، وإلى حد ما شرق السودان.
لا شك أن الاتفاق حقق مكاسبَ للمواطنين في مناطقِ الحربِ، إذ أعطاهم نسبة ٤٠% من مواردِ أقاليمهم لمدة ١٠ سنوات، ومنحهم حقوقاً سياسية مثل الحكم الإقليمي، وحقوقاً اقتصادية وثقافية وهي حقوقٌ للمواطن العادي في دارفور والمنطقتين وليست لقادةِ الحركات.
مهمُ أيضاً فهمُ أن نسبةَ ٢٥% التي مُنحت لأطراف الاتفاقية في الحكومةِ المركزية، هي لمواطني المنطقتين ودارفور، وبطبيعة الحال ليست لقادةِ الحركاتِ المسلحة. وإذا تمخض الاتفاق النهائي عن تكوينِ حكومةِ كفاءاتٍ وطنية غير حزبية، يجب أن يشمل ذلك أيضاً النسبةَ المخصصةَ لأطرافِ اتفاقِ السلام، وأن يتم إلزامهم بترشيح كفاءاتٍ وطنية، لا تنتمي للحركاتِ المسلحة لشغل نسبة ٢٥%، المشار إليها. أسوةً بغيرهم من أطراف الاتفاق.
من ناحية اخرى، نجد أن حصص أطراف الاتفاقية، يجب أن تُراجع، لأنها خصماً على الأحزاب السياسية، خاصة عند قيام انتخابات، فإعادة قسمة السلطة في الاتفاق النهائي المزمع توقيعه، أمر يهم الأحزاب كثيراً، مع التركيز على معالجة القضايا، التي تجعل تطبيق الاتفاقية مستحيلاً، وتهدد أمن السودان.
لا شك إن إتفاق سلام جوبا بين المكونين العسكري والمدني، وحركات الكفاح المسلح: "الجبهة الثورية"، مثل خطوة جادة في مُخاطبة قضايا التهميش والحكم في السودان.
لكن نقطة الضعف المركزية، أن الاتفاق عالج مشاكل النخب السياسية، وتمكينهم الوظيفي، أكثر من معالجته لطبيعة الأزمة في المجتمعات السودانية كازمة واحدة، لا تقبل التجزئة ولا تقبل المسارات.
على الرغم من أن المسارات شملت تقريبا كل أقاليم السودان: دارفور، الشرق، الوسط، النيل الأزرق وجنوب كردفان، وفقا لتصنيف قبلي وإثني في بعض المسارات، وجهوي في مسارات أخرى، ما أدى إلى استقطاب حاد، عبر عن نفسه في وسائط التواصل الاجتماعي (دولة البحر والنهر، دولة الزغاوة، دولة دارفور، إلخ).
بالتالي تبني مسارات فتح أبواباً بمثابة قنابل موقوتة، تمظهرت في أصوات تهدد بالحكم الذاتي، وتقرير المصير والانفصال، في أقاليم لم تكن طرفاً في الحرب أو خطاب التهميش، وبعضها محسوب تاريخياً على المركز وليس الهامش.
وفي الحقيقة، باستحواذ قادة المسارات التي تنضوي تحت الجبهة الثورية، على امتيازات السلطة، واستثناء مسارات الشمال والوسط والشرق من هذه الامتيازات، باعتبار أنها ليست مناطق حروب أهلية، أدى ذلك إلى خلق حالة تهميش سياسي جديدة، اُستُنفر بسببها أهل هذه المسارات، الذين رفضوا ضم مساراتهم ضمن الجبهة الثورية، وناهضوا الموقعين عليها من أقاليمهم.
وصحيح أن هذه الأصوات خافتة الآن، ولكننا نرجح أن أحد أسباب عوامل بروز مثل هذه الأصوات، هو تبني الاتفاق لمسارات وعدم تعامله مع القضية السودانية كقضية واحدة.
الأمر الذي انعكس على أن التمثيل تم للمناطق بالتالي (شراكة)، وليس معالجة حسب القضايا الوطنية في السودان. وهي قضايا تقتضي المساءلة. كما أن معالجة القضايا الأساسية، يحتاج مساهمة جميع الأطراف، خاصة تلك المهتمة أكثر بمخاطبة جذور الأزمة السودانية، لذلك يتوجب معالجة الاتفاق، بحيث يكون جاذباً للحلو وعبد الواحد نور على وجه الخصوص، إذ لا يجب استثناء أي حركة مسلحة. وكذلك عدم تهميش المؤسسات المجتمعية، والإدارات الأهلية وقادة الطرق الصوفية، التي يجب أن تكون طرفاً في معالجات الاتفاق.
وكذلك يجب تركيز أطراف الإطاري، على استقطاب دعم داخلي وإقليمي ودولي أكبر لهذه المعالجات. والاعتناء بملاحق التنفيذ، حتى يتم تفادي كل الأخطاء، التي صاحبت تنفيذ اتفاق جوبا لسلام السودان.
كذلك بند الحكم الذاتي الوارد في اتفاق جوبا، كاغراء بديل لحق تقرير المصير، وكخطوة استباقية للمشورة الشعبية لمواطني المنطقتين، بحاجة لدقة و تحديد وتفصيل أكثر، حتى لا يكون مبهما و عرضة للتأويلات.
كذلك يجب أن تكون هناك مصفوفة واضحة ومحددة، لتنفيذ الاتفاق النهائي، بضمانات إقليمية ودولية موثوقة، خاصة دور الاقليم والعالم الداعم للاتفاق، كأطراف فعالة في تنفيذ الاتفاقية، وليسوا كمراقبين من على البعد، كما حدث في اتفاقية جوبا لسلام السودان، إلى أن تم الانقلاب على المكون المدني.
أحمد ضحية
Lansing, Michigan
٤ ديسمبر ٢٠٢٣
ahmeddhahia@gmail.com
وقع على (اتفاق جوبا لسلام السودان) في ٣ أكتوبر ٢٠٢٠ مع الحكومة الانتقالية حركات تحالف الجبهة الثورية الأربعة: (تحرير السودان) بقيادة مني أركو مناوي، و(العدل والمساواة) بقيادة جبريل إبراهيم، و(الحركة الشعبية لتحرير السودان)، مالك عقار، و(تجمع قوى تحرير السودان)، بقيادة عبدالله يحيى.
إضافةً إلى مسارات: (الشرق) الذي وقّع عليه أسامة سعيد وخالد شاويش، و(الوسط) الذي وقع عليه التوم هجو، و(الشمال) الذي وقع عليه دهب إبراهيم دهب.
بينما تخلفت عن التوقيع (الحركة الشعبية لتحرير السودان، عبد العزيز الحلو)، التي تمسكت بضرورة "علمانية الدولة"، وإعطاء جنوب كردفان والنيل الأزرق "حق تقرير المصير"، لكنها عادت وقبلت بمبدأ التفاوض، ووقّعت في ٣ سبتمبر ٢٠٢١ اتفاقاً منفصلاً، مع رئيس الوزراء "عبدالله حمدوك"، وهو ما مهّد الطريق لمحادثات قطع الانقلاب الطريق عليها.
كما يُلاحظ أيضاً أن حركة الحلو رّحبت مؤخراً، بالاتفاق الإطاري، الذي وقعه تحالف (قوى الحرية والتغيير المجلس - المركزي) مع (المكون العسكري وبعض حركات الجبهة الثورية) في ٥ ديسمبر ٢٠٢٢، لتصفية الانقلاب واسترداد مسار التحوّل الديمقراطي.
كذلك يُلاحظ غياب طرفين مهمين عن التوقيع على هذا الاتفاق الاطاري، هما حركتي مناوي وجبريل. إلى جانب (حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور)، الذي يحظى أكثر من غيره من (قادة الحركات الدارفورية)، بتأييد واسع في إقليم دارفور. والذي كان فيما مضى قد رفض اتفاقية جوبا لسلام السودان برمتها، ودعا بدلاً من ذلك إلى عقد مؤتمر وطني جامع.
وما هو لافت للانتباه، تعرض (أحكام تقاسم السلطة) في اتفاقية جوبا لسلام السودان لانتقادات واسعة، من قبل دوائر السلطة المهيمنة تقليدياً، وجماعات الإسلام السياسي، باعتبار أن النسب غير متناسبة مع حجم الدوائر السياسية للحركات ووزنها العسكري.
وكذلك تعرضت الاتفاقية للانتقاد من بعض الحركات المسلحة، الأقل تأثيراً على الأرض. إلى جانب بعض منظمات المجتمع المدنى، التي انتقدتها بقسوة.
اتفاق جوبا لسلام السودان
حددت الاتفاقية نهاية الفترة الانتقالية بالعام ٢٠٢٣، على أن تحصل الجبهة الثورية على (ثلاثة مقاعد في المجلس السيادي)، الذي يعد أعلى هيئة في الحكومة الانتقالية. و (ربع المناصب الوزارية)، و(ربع المقاعد في البرلمان الانتقالي)، المؤلف من ٣٠٠ عضواً، حال تكوينه.
كما تم الاتفاق على أن لا تقل نسبة النساء عن ٤٠% من المناصب الحكومية على جميع المستويات.
ونص اتفاق جوبا على الحرية الدينية، وفصل الدين عن السياسة. لضمان عدم استغلال الدين من قبل مؤسسات الدولة، ولتجنب التجربة سيئة السمعة، على عهد نظام الحركة الإسلامية البائد.
وفي الحقيقة، عمليا لم يكن هذا المبدأ عند تطبيقه فاعلاً! -فعلى سبيل المثال من بين أمثلة عديدة- بدا واضحاً أكثر في معركة (تغيير مناهج التعليم)، التي انتصرت فيها (قوى الردة) التابعة للنظام البائد على دكتور القراي، بعد أن نجحت في قمع إرادة دكتور حمدوك، والأطراف المستنيرة في قوى الحرية المركزي. وغني عن القول، أن قوى الردة انتصرت في أكثر من معركة، زجت فيها بالدين مستغلة عواطف العوام، لإفساد الحياة السياسية برعاية و حماية المكون العسكري.
وما هو لافت للنظر أيضاً، أن قوى الجبهة الثورية، أضاعت فرصة ثمينة لتوطين نفسها كأحزاب مدنية وطنية قومية لكل السودان، عند قيام الانتخابات، بانحيازها للانقلاب! ما أدى لموقف شعبي واسع ضدها، حتى في الأقاليم التي تزعم الحديث باسمها وتمثيلها!
فرغم أن الاتفاق أتاح للحركات المسلحة، القدرّة على تغيير قواعد اللعبة السياسية، المكرسة تاريخياً. إلا أنها فضلت التنافس على النفوذ، ضد قوى الحرية والتغيير- المركزي، واولت ثقتها للمكون العسكري، العدو اللدود للهامش، والحارس الشرعي لقواعد لعبة السياسة السودانية التقليدية الموروثة منذ الاستقلال.
فالجبهة الثورية فضلت التعامل مع الجنرالات، الذين يُعتبرون أصحاب السلطة الحقيقية في المؤسسات الانتقالية، بدلًا من قوى الحرية والتغيير- المركزي. أو الأطراف المدنية الأخرى في الحكومة.
ويُلاحظ أن اتفاق جوبا منح بالفعل "المجلس الأعلى المشترك" المؤلف من الجيش والمخابرات والشرطة وقادة الجماعات المسلحة، سلطة تنفيذ الترتيبات الأمنية في دارفور، وهو ما يعني استبعاد المدنيين. لذلك في الاتفاق النهائي، الذي مهد له الاتفاق الاطاري الحالي الموقع في ٥ ديسمبر الماضي، يجب إعطاء دور للمدنيين في تنفيذ الترتيبات الأمنية.
تحديات
وفقاً لتقرير مجلس الأمن الدولى فى مايو ٢٠٢١، أن السودان وقتها -أي قبل انقلاب ٢٥ أكتوبر- أحرز تقدما ملحوظاً في انتقاله الديمقراطي منذ التوقيع على اتفاق جوبا للسلام. على الرغم من عدم تنفيذ العديد من جوانب الوثيقة الدستورية وترتيبات التسريح ونزع سلاح المقاتلين وإعادة دمجهم، وتشكيل المجلس التشريعى الانتقالى، إلخ..
إلا أنه منذ اليوم الأول لسريان الاتفاقية، بدا واضحاً، أن التحدّي الأساسي الذي تواجهه هذه الاتفاقية، أن أطرافها اكتشفت -خاصة بعد انقلاب ٢٥ أكتوبر- أنها لم تكن أكثر، من كونها جزءاً من استراتيجيات التفاوض، التي ظل نظام ٣٠ يونيو ١٩٨٩ ينتهجها خلال ثلاث عقود، حتى لحظة سقوطه.
بدا ذلك واضحاً في نفوذ اللجنة الأمنية، الذي انعكس على إدارة التفاوض، بالعقلية الموروثة من نظام الحركة الإسلامية البائد، ثم مروراً بوضع المكون العسكري العوائق، أمام تنفيذ بنود أساسية في الاتفاق، انتهاءً بانقلابه على المكون المدّني بالشرّاكة مع الحركات المسلحة وقوى الفلول.
وفي الوقت نفسه ارتفع الصوت الثوري المعارض لبند المحاصصات والتسويات السياسية، التي لجأ إليها المكون المدني لحكومة حمدوك، تحت تأثير نفوذ المكون العسكري. فيما ظلت المواجهات المستمرّة للجان المقاومة والقوى السياسية على الأرض، ترفع لاءاتها الثلاثة المعروفة: لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية، ما مثل تهديداً كبيراً لاتفاق جوبا لسلام السودان، وأيضاً تهديداً حاضراً بقوة لهذا الاتفاق، حتى لو لم تستهدفه هذه اللاءات بصورة مباشرة.
خاصة أن الاتفاق متهم بأنه: ليس أكثر من عملية تقاسم للسلطة بين أطراف محدودة، وهنا تجدر الاشارة أن عملية تقاسم السلطة، كما وردت في الاتفاق، هي نفسها بحاجة للتفصيل، فالقضايا السودانية كبيرة لا تحتمل الاتفاقيات ذات طابع المناورة والتكتيك، الذي درجت الحكومات السودانية تاريخياً على ممارسته في الاتفاقيات.
فمفاوضات حكومة (الإنقاذ) -على سبيل المثال- مع الحركات المسلحة كانت تدور وفقاً لاستراتيجية إنهاك الخصم واستنزاف الوقت والجهد وتجزئة القضايا.
أي الاستراتيجية نفسها التي ظل يتبناها البرهان ضد القوى السياسية ولجان المقاومة، منذ ما قبل تشكيل الحكومة الانتقالية برئاسة حمدوك، وحتى انقلابه على المكون المدني، وإجهاض الوثيقة الدستورية.
من الجهة الأخرى نجد أنه لهذا السبب، أن المفاوضات التي أفضت إلى اتفاقية جوبا لسلام السودان، نزعت إلى (استراتيجية مفترق الطرق)
، التي عجلت بأن تكون الحكومة الانتقالية (المكون المدني) ضحية التنازل عن القضايا الأساسية لأهالي المسارات، التي أصبحت منذها مصطكة في قضايا هامشية، الأمر الذي قاد إلى احتقانها بالنزاعات الاثنية المتفاقمة، فيما كسبت الحركات المسلحة مقاعد في السلطة، دون أن تنزع السلاح من قواتها. أو تحث الحكومة على المضي قدماً، في تنفيذ بند الترتيبات الأمنية، لدمج ميليشياتها ضمن القوات المسلحة.
المعضلة الأساسية هنا، أنه بدلاً من أن تتخذ هذه الحركات خطوات جادة للتحول إلى أحزاب مدنية، نجدها قررت التمترس في أُطرها وتفكيرها القديم، الذي يعتبر أن جوهر الصراع بالنسبة لها كحركات مسلحة، هو (صراع ثقافي، و ثورة لهامش على مركز، فرض حتى الجلابية كزي قومي!!!).
فالحركات المسلحة تستخدم (مفهوم التهميش) كعدة شغل، و(رأس مال معنوي) لتحصل من خلال توظيفه، على مطالب لقادتها وليس لشعوبها في حقيقة الأمر! مع الاحتفاظ برأس المال هذا، ومقاومة إزالة التهميش.
فمعالجة قضايا التهميش تُجرد الحركات المسلحة، من أقوى ترساناتها التي تحتمي بها. لذلك يسعى قادة الحركات للاحتفاظ بهذا (التهميش كرأسمال ووقود للمليشيات) التي يترأسونها، وفي الوقت ذاته (يستمرون في المطالبة بمعالجة التهميش)، دون التحول لحزب سياسي، يتبنى معالجة هذا التهميش عبر البرلمان!
ومن هنا نلاحظ مخاوف قادة الحركات، في رغبتها في تمديد الفترة الانتقالية، لخشيتها مما يعنيه قيام الانتخابات، بانتهاء الفترة الانتقالية وحدوث التحول الديمقراطي، ما يعني مباشرةً تنازل قادة الحركات عن نصيبهم، الذي ضمنته لهم الاتفاقية في السلطة والثروة.
عقلية واحدة
أثبتت التجربة بعد الانقلاب على وجه الخصوص، خلال النزاعات الدموية في النيل الازرق ودارفور، أن عقلية قادة الحركات لا تختلف عن عقلية البرهان واللجنة الأمنية كثيراً، فقد كان نظام الحركة الاسلامية في السابق، يستخدم الاثنية و الجهوية كآلية لإدارة الصراع، باستقطاب بعض الحركات وتأليب الأخرى ضد بعضها اثنياً وجهوياً، وهو ما حاول البرهان إعادة توظيفه، عندما ظهر في مناسبات مختلفة مسوقاً لنفسه، كحامي حمى الشمال والحدود الشمالية!
بل سعى بموجب هذا التسويق، الى استقطاب حلفاء في مواجهة الحلف القبلي، الذي كان حميدتي يبنيه في السر والعلن!
وجميعنا نذكر خطابات البرهان الرسمية، التي ترددت أصداء آخرها في الآفاق، عندما صرح العام الماضي في شندي، ضد منسوبي الحركات المسلحة قائلا: "ديل ما بيشبهونا، نحن عبر تاريخ السودان قادة البلد دي!" وبطبيعة الحال لم تجرؤ حركة واحدة على التعليق على خطاب سيادته في شندي!
مثلما لم تعلق حركة واحدة من قبل، على توظيف البرهان للناظر محمد الامين ترك في شرق السودان، لخنق الحكومة الانتقالية!
فهذه الحركات مضت منذ يومها الأول في السلطة، للتآمر مع البرهان لإسقاط الحكومة الانتقالية برئاسة حمدوك بانقلاب ٢٥ أكتوبر الفاشل، تمني نفسها بسيطرة أعضائها على الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية، دون التعلم من أن دعم الانقلابات واستخدام الولاءات القبلية أو الجهوية في تجارب الصراع السياسي في السودان، على الدوام كان أشبه ببراميل بارود لا توفر أحدا لحظة انفجارها.. سواء في تجارب جنوب السودان أو جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور.
ويبدو واضحا الآن نتيجة ممارسات البرهان في شرق السودان: احتقانات اثنية تنذر بالخطر لا في مكونات المجموعات السكانية في الشرق فقط، بل في امتداداتها عبر الحدود السودانية، الاريترية والاثيوبية وخارج الشرق.. داخل الولايات السودانية المجاورة.
لذلك عندما ننظر لاتفاق سلام جوبا الآن، على ضوء مثل هذه التداعيات، ندرك أنه كان ينبغي ابتداء معالجة القضايا الأساسية، وليس التركيز على تقاسم السلطة مع (قادة الحركات).
وعلى رأس هذه القضايا الأساسية، قضية العدالة الإنتقالية والتمكين. فكل اتفاقيات السلام في السودان، منذ اتفاقية أديس أبابا ١٩٧٢، تناولت ما عبر عنه اتفاق سلام جوبا، وجميعها سقطت لأنها حملت بذور فنائها داخلها، بتركيزها على الدوام على تقاسم السلطة، وإغفال القضايا الأساسية الأخرى، التي تسببت في النزاعات السودانية ابتداءً.
فباستثناء مفاوضات النظام البائد مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، بقيادة الزعيم الراحل دكتور جون قرنق، والتي تمخضت عن بروتوكول مشاكوس عام ٢٠٠٢، ثم نيفاشا عام ٢٠٠٥، والتي مهدت فيما بعد لانفصال الجنوب في عام ٢٠١١. باستثناء ذلك، نجد أن كل الاتفاقيات في النزاعات السودانية سقطت.
على الرغم من أن اتفاق جوبا لسلام السودان، انشأ لجنة للحقيقة والمصالحة، وتمكين آليات العدالة التقليدية. وأن الموقعون أكدوا على استعدادهم للتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، فيما يتعلق بالأشخاص الذين صدرت بحقهم أوامر اعتقال.
على الرغم من كل ذلك، نجد أن المكون العسكري والحركات المسلحة تعمدا معاً، عدم المضي بجدية في إجراءات هذا الملف. وإذا كان بالإمكان أن نفهم: لماذا وضع المكون العسكري العوائق أمام تحرك هذا الملف، وهو الذي أحدث جرائمه ضد الإنسانية، مجازر (اعتصام القيادة العامة)، والاستمرار حتى الآن في قتل الثوار في الحراكات الجماهيرية، وممارسة العنف المفرط، الأمور التي ظلت تدفعه باستمرار للمطالبة بضمانات للإفلات من العقاب، فما لا نفهمه هو تواطؤ الحركات الدارفورية على وجه الخصوص، في تجاهل فتح هذا الملف، وعدم الضغط في سبيل فتحه، فالقاصي والداني يعلم أن دارفور تعرضت لفظائع غير مسبوقة في انتهاكات حقوق الإنسان والإبادة والجرائم ضد الإنسانية، إلخ!
كذلك نجد أن قادة الحركات في الواقع تجاهلوا القضايا الحقيقية للاجئين والنازحين، ومواطنيهم في معسكرات التهجير الداخلي والخارجي، ما جعل المناطق التي يزعمون التحدث باسمها، تفقد فيهم الثقة، وقد بدا ذلك واضحاً خلال موقف هؤلاء المواطنين، في الحراكات الجماهيرية التي قادتها لجان المقاومة، سواء في النيل الأزرق أو مدن وارياف دارفور!
و يُلاحظ أن بعض وُلاة الحركات المسلحة، لا يستطيعون زيارة المعسكرات، التي بعواصم ولاياتهم، إلا تحت حماية راجمات الدعم السريع!!
فمواطنين المناطق التي عُرفت بالمهمشة خاصة (المستنيرين) غير المنتمين إلى حركات، ظلوا يجأرون بالشكوى من أن المحاصصة اقتصرت حصرياً علي (قبيلة أو عشيرة) قادة الحركة المسلحة. لذا ينظرون إلى اتفاقية سلام جوبا، كعقوبة لشعوب إقليمهم، وليست مكافأة لهم!!
ولذلك ينتقدون من تولوا مسئولية إدارة الأقاليم من منتسبي الحركات، بأنهم يفتقرون للتأهيل والمهنية والكفاءة اللازمة، والعجز في التعامل مع مشاكل الإقليم المعقدة، التي تتطلب قدراً عالياً من الإدراك النظري والخبرة العملية، ويستهجنون في سياق المثال العملي، إحدى ولايات دارفور، التي عُين واليا عليها، وكيل عريف متقاعد من الجيش، يفك الحرف بصعوبة، وبطبيعة الحال غير مؤهل أن يكلف بإدارة ولاية حدودية، مساحتها أكبر من مساحة فرنسا، ويسكنها أكثر من مليوني مواطن!
كذلك الموقف غير الأخلاقي لقادة الحركات، من المكون المدني للحكومة الانتقالية، وتآمرهم وتماهيهم في إنقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، الأمر الذي عزز انفصال هذه الحركات عن الشعوب، التي تدعي الحديث باسمها.
أيضاً من الأمور المثيرة للشكوك، أن الاتفاق استخدم صياغة غامضة فى تحديد مهام قوة حفظ الأمن في دارفور (١٢ ألف فرد) نصها كالآتي: "القيام بالمسئولية الدستورية و(الأخلاقية) والسياسية لحكومة السودان في حماية المدنيين".
فاستخدام كلمة (الأخلاقية) هنا أمر مفتوح على التأويلات في كلٍ من دارفور، ومنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان!!!
ونظراً لهشاشة الحكومة الانتقالية، التي سقطت بانقلاب المكون العسكري والحركات، على المكون المدني، كنتيجة طبيعية لانعدام الثقة والتنافس بين المكون العسكري وحلفائه من قادة الحركات من جهة، والمكون المدني من الجهة الأخرى.
إلى جانب تزايد انعدام الأمن في أجزاء كثيرة من السودان بما في ذلك الخرطوم، نتيجة وجود الميليشيات المسلحة والعنف القبلي، وانتشار الأسلحة، وتنامي مؤامرات عناصر النظام السابق بحماية من المكون العسكري.
والمؤشرات المتزايدة لاحتمالات مقاومة من قبل بعض المجموعات المسلحة التي استولت على الأراضي غصباً. إذ ترى أن الاتفاق هدد مصالحها.
اذا اضفنا لهذه العوامل واقع الانهيار الاقتصادي، بسبب سوء الإدارة الاقتصادية من قبل نظام الحركة الإسلامية البائد، والآثار المدمرة التي ترتبت على فيروس كوفيد-١٩ و الفيضانات غير المسبوقة، وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية؛ واعتماد وزير المالية جبريل ابراهيم على الجبايات، في ظل غياب مجلس تشريعي يجيز الميزانية، فإن مسألة الحصول على موارد لتنفيذ اتفاق سلام جوبا، على ضوء هذه المعطيات مجتمعة، تصبح بعيدة المنال.
خلاصة القول هنا، أن تنفيذ اتفاق السلام مكلف جداً. خاصة أن الاقتصاد السوداني يعاني من تشوهات هيكلية، ورغم تعهد المانحون بدفع تكاليف السلام إلا أن هذا ليس كافياً، فقد تم استنزاف خزائن وموارد الدولة، بسبب الفساد وسوء إدارة وزير المالية جبريل ابراهيم، والنهب المنظم للموارد الحيوانية والمعدنية على وجه الخصوص، وعدم كفاية المساعدات من قبل المانحين الدوليين.
ففي ظل اقتصاد جبايات غير منتج، وأضعف من أن يعالج فقر اقليم واحد من اقاليم السودان، أو يخلق وظائف جديدة، ويحسن مستويات المعيشة في هذا الإقليم الواحد، لنا أن نتساءل: من سيتكفل بدفع مئات الملايين من الدولارات اللازمة سنوياً لتنفيذ الاتفاق؟
ولعل إجابة هذا السؤال تكمن في المغزى من وراء تشكيل بعثة أممية بموجب الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، لمعالجة هذه القضايا.
وزبدة القول أن رؤى صنع السلام الواردة في الاتفاقية، بحاجة لمعالجة على أساس أن يكون الإصلاح المؤسسى، متزامناً مع تحقيق السلام بالترافق مع أوجه الإصلاح الأخرى، سواء فى مجال تفكيك التمكين، أو المجال السياسى والعسكري والأمنى أو الاقتصادي، والسعي لتوحيد المسارات، بالتعامل مع قضايا السودان كقضية واحدة لا تحتمل التجزئة.
الترتيبات الأمنية
أهم بروتوكولات اتفاق جوبا لسلام السودان، هو بروتوكول (الترتيبات الأمنية)، الذي يتوقف تنفيذه بصورة فاعلة، على استقرار الأوضاع السياسية. وهو البروتوكول الذي تنفيذه يعني: حلِ جميع الجيوشِ والمليشياتِ، وتطهير الجيشِ من العناصر المؤدلجة، وإعادة هيكلةِ القطاع الأمني والعسكري، ببناءِ جيشٍ قومي محترف واحد، بعقيدةٍ عسكرية وطنية والنأي به عن السياسة.
وهو الأمر الذي لم يحدث حتى الآن، إذ أن ما حدث هو دمج قادة الحركات المسلحة في السلطة، سواء على مستوى مجلس السيادة، أو مستوى الحكومة القومية والإقليمية، دون أي معالجة حقيقية جادة، للمشكلات الأساسية، التي تعانيها هذه الأقاليم، التي تزعم الحركات المسلحة، أنها تتحدث باسمها! كيما تكون هذه المعالجات، حجر الأساس لسلام دائم في السودان.
فحتى الآن لم يتم وضع أسس فعالة، لحل الصراعات القبلية، التي لا تفتأ تنفجر من آن لآخر، وكذلك لم تتم معالجة قضايا الأراضي، أو تحديات إعادة دمج النازحين داخلياً واللاجئين، وتداعيات الاتفاقية نفسها في مناطق المسارات الأخرى، غير دارفور والمنطقتين.
العسكريون ظلوا يتعللون في تبريرهم بطء تنفيذ بروتوكول الترتيبات الأمنية، بتوقف الدعم الدولي. بينما توقف الدعم الدولي سببه هم أنفسهم، بسبب انقلابهم على الفترة الانتقالية، بدعم من قادة الحركات المسلحة، في الخامس والعشرين من أكتوبر ٢٠٢١.
كذلك بدا واضحاً الآن عجز حكومة جنوب السودان كجهة راعية لهذا الاتفاق، عن تمويله، ما شكل تحدياً إضافيا أمام التنفيذ الكامل.
من الجهة الأخرى نجد أن قادة الحركات المسلحة، يرغبون في الاحتفاظ بقواتهم العسكرية، من أجل المحافظة على السلطة، لاعتقادهم أن دمج قواتهم في الجيش، سيقود إلى خسارة مناصبهم في السلطة، ويعجل بالاستغناء عن خدماتهم!
ولذلك هم أيضا يماطلون في تنفيذ ملف الترتيبات الأمنية، لرغبتهم في الاحتفاظ بقواتهم لأطول وقت ممكن، إذ يريدون خوض الانتخابات، وهم لا يزالون يحتفظون بهذه القوات!
وبدلاً عن السعي لدمج هذه القوات، نجدهم عملياً يعملون على تجنيد المزيد من الأفراد فى صفوف الحركات المسلحة، وذلك: (١) للمطالبة بحصة أكبر من المناصب داخل الأجهزة الأمنية. (٢) كلما زاد عدد مقاتلي الحركات المسلحة زادت مكاسبهم النقدية والمادية، التي يحصلون عليها عن طريق المشاركة فى عملية التسريح والدمج. (٣) يُعد التجنيد وسيلة للحركات المسلحة، للتأكد من أن لديها مخزوناً احتياطياً دائماً فى متناول اليد، إذا انهار الانتقال السلمى فى السودان.
ونتيجة لذلك، قد تنشأ عددٌ من المخاطر من عمليات التسريح والإدماج. من حيث الكلفة المالية، فإذا تضخمت الأجهزة الأمنية بعد استيعاب المزيد من المقاتلين السابقين، فإن الخزانة القومية لن تستطيع مواجهة ضغوط الإنفاق على الخدمات العامة الأخرى.
وربما يُساهم عدم تقديم هذه الخدمات، فى إثارة حالة من الاضطراب العام، وهو الأمر الذى يعرض الانتقال الديمقراطي للخطر.
بالإضافة إلى ذلك، كلما أصبحت الأجهزة الأمنية أكبر عدداً وأكثر قوة، كان من الصعب على الحكومة المدنية، إجراء إصلاحات في القطاع الأمني، بشكل يكبح جماح مصالح أفرادها التجارية، والتى تشمل السيطرة على العديد من الشركات، التي تديرها الدولة. والتي تحقق أرباحا لكبار الضباط. فضلاً عن أنها تستأثر بنصيب الأسد من الموارد العامة.
ومع ذلك نجد أن من الأخطاء المدمرة للبروتوكول، إحتفاظ الحركات المسلحة بقواتها لمدة أربعين شهراً، بينما عمر الفترة الانتقالية تسعة وثلاثون شهراً -قبل حدوث الانقلاب- ولذلك في ظل الواقع الجديد الذي فرضه الانقلاب، ومن ثم الاتفاق الإطاري الأخير الهادف لتصفية الانقلاب، يتوجب في الاتفاق النهائي، إعادة النظر في هذه المسألة بدمج هذه الحركات المسلحة والدعم السريع فوراً دون تأخير -قبل نهاية الفترة الانتقالية- لمقابلة الانتخابات بجيش مهني واحد بعقيدة عسكرية موحدة قوامها الولاء للوطنِ والشعبِ والسيادة الوطنية.
ومن المآخذ على الاتفاق أيضاً، أنه لم يتم تحديد أعداد قوات الحركات الموقعة على الاتفاق، فقادة الحركات المسلحة يضخمون من أعداد قواتهم العسكرية على نحو مبالغ فيه!
كما أن تزايد حجم الحركات المسلحة، وعسكرّة المجتمعات المحلية والمدن الكبرى، أنه فى حالة تأخر أو فشل برامج التسريح والدمج، فقد يفقد قادة الحركات السابقون سيطرتهم على قواتهم المتضخمة من حيث العدد والعتاد، وهو ما يشكل تهديداً محتملاً في المستقبل، حال إلغاء الاتفاق أو انهياره لأي سبب من الأسباب.
وربما يكون التهديد حاداً بشكل خاص فى دارفور، التي رأينا فى الأحداث الدامية، التى تقع من آن لآخر -وآخرها أحداث بليل وزالنجي، التي اتهم فيها حميدتي أهله الرزيقات، بأنهم طعنوه في ظهره- وفي الواقع، بسبب انتهاء تفويض العملية المختلطة للأمم المتحدة، والاتحاد الإفريقي في دارفور (يوناميد)، اختفت الآلية الرئيسية لمنع وردع العنف.
وبالتالي يُمثل تأخر تشكيل قوة أمن دارفور المشتركة، التى نص عليها اتفاق السلام، حافزاً آخر لتكريس هذه التهديدات المحتملة. خاصة أن اتفاقية جوبا للسلام، لم تعالج العنف الذي اندلع بكثافة أكبر، في جميع أطراف السودان منذ عام ٢٠١٩.
وربما أن ذلك أيضاً يُعزَى إلى تحريض المجتمعات ضد بعضها بعضاً، وغالباً ما تتورط فصائل من القوات العسكرية وشبه العسكرية. كما حدث في جنوب كردفان، إذ أدت التوترات القبلية إلى اشتباكات، بين وحدة من الجيش يهيمن عليها النوبة، وقوات الدعم السريع شبه العسكرية، التي يأتي معظم منتسبيها من بين صفوف عرب الأبالة الرعاة.
وكذلك في شرق السودان، المنطقة التي ظلت مستقرة لوقت طويل، حيث اشتبك أهالي من قبيلة الهدندوة، مع أهالي آخرين من قبيلة البني عامر. وعلى الرغم من أن بعض بنود الاتفاقية المتعلقة بحيازة الأراضي والتعويضات، يمكن -من حيث المبدأ- أن تعالج بعض العوامل الكامنة وراء هذه النزاعات؛ فإن تهدئة التوترات المحلية، تحتاج إلى استثمار بعيد المدى في عملية تفريغ الاحتقانات و صنع السلام.
كما أن اشارة بعض قادة الحركات (مناوي) إلى وجود اتفاق (تحت التربيزة)، عمق من فقدان الثقة، وأشعل المخاوف! إذ أوحى مناوي، ومن قبل حميدتي، بوجود اتفاقيتين، أحداهما الاتفاقية المعلنة التي نعرفها، والثانية اتفاقية خفية، يعلمها فقط قادة الحركات والمكون العسكري!.
هناك ملاحظات مهمة، كان قد أشار لها الرفيق رئيس التيار الثوري الديمقراطي ياسر عرمان، في اجتماعات المجلس المركزي والمجلس القيادي، حول أيهما صحيح: المطالبةُ بإلغاءِ اتفاقِ سلام جوبا بالكاملِ، أم معالجته؟ حيث خلص إلى ضرورة معالجة نقاط الضعف فيه، بمشاركةِ جميع أصحابِ المصلحةِ، بهدفِ المحافظةِ على ايجابياتهِ والتخلص من سلبياتِه وأخطائه.
وهنا تطل قضية المسارات العديدة، التي اُقحمت اقحاماً على الاتفاق الأساسي، الذي كان يجب أن يقتصر على مناطق الحرب في دارفور والمنطقتين، وإلى حد ما شرق السودان.
لا شك أن الاتفاق حقق مكاسبَ للمواطنين في مناطقِ الحربِ، إذ أعطاهم نسبة ٤٠% من مواردِ أقاليمهم لمدة ١٠ سنوات، ومنحهم حقوقاً سياسية مثل الحكم الإقليمي، وحقوقاً اقتصادية وثقافية وهي حقوقٌ للمواطن العادي في دارفور والمنطقتين وليست لقادةِ الحركات.
مهمُ أيضاً فهمُ أن نسبةَ ٢٥% التي مُنحت لأطراف الاتفاقية في الحكومةِ المركزية، هي لمواطني المنطقتين ودارفور، وبطبيعة الحال ليست لقادةِ الحركاتِ المسلحة. وإذا تمخض الاتفاق النهائي عن تكوينِ حكومةِ كفاءاتٍ وطنية غير حزبية، يجب أن يشمل ذلك أيضاً النسبةَ المخصصةَ لأطرافِ اتفاقِ السلام، وأن يتم إلزامهم بترشيح كفاءاتٍ وطنية، لا تنتمي للحركاتِ المسلحة لشغل نسبة ٢٥%، المشار إليها. أسوةً بغيرهم من أطراف الاتفاق.
من ناحية اخرى، نجد أن حصص أطراف الاتفاقية، يجب أن تُراجع، لأنها خصماً على الأحزاب السياسية، خاصة عند قيام انتخابات، فإعادة قسمة السلطة في الاتفاق النهائي المزمع توقيعه، أمر يهم الأحزاب كثيراً، مع التركيز على معالجة القضايا، التي تجعل تطبيق الاتفاقية مستحيلاً، وتهدد أمن السودان.
لا شك إن إتفاق سلام جوبا بين المكونين العسكري والمدني، وحركات الكفاح المسلح: "الجبهة الثورية"، مثل خطوة جادة في مُخاطبة قضايا التهميش والحكم في السودان.
لكن نقطة الضعف المركزية، أن الاتفاق عالج مشاكل النخب السياسية، وتمكينهم الوظيفي، أكثر من معالجته لطبيعة الأزمة في المجتمعات السودانية كازمة واحدة، لا تقبل التجزئة ولا تقبل المسارات.
على الرغم من أن المسارات شملت تقريبا كل أقاليم السودان: دارفور، الشرق، الوسط، النيل الأزرق وجنوب كردفان، وفقا لتصنيف قبلي وإثني في بعض المسارات، وجهوي في مسارات أخرى، ما أدى إلى استقطاب حاد، عبر عن نفسه في وسائط التواصل الاجتماعي (دولة البحر والنهر، دولة الزغاوة، دولة دارفور، إلخ).
بالتالي تبني مسارات فتح أبواباً بمثابة قنابل موقوتة، تمظهرت في أصوات تهدد بالحكم الذاتي، وتقرير المصير والانفصال، في أقاليم لم تكن طرفاً في الحرب أو خطاب التهميش، وبعضها محسوب تاريخياً على المركز وليس الهامش.
وفي الحقيقة، باستحواذ قادة المسارات التي تنضوي تحت الجبهة الثورية، على امتيازات السلطة، واستثناء مسارات الشمال والوسط والشرق من هذه الامتيازات، باعتبار أنها ليست مناطق حروب أهلية، أدى ذلك إلى خلق حالة تهميش سياسي جديدة، اُستُنفر بسببها أهل هذه المسارات، الذين رفضوا ضم مساراتهم ضمن الجبهة الثورية، وناهضوا الموقعين عليها من أقاليمهم.
وصحيح أن هذه الأصوات خافتة الآن، ولكننا نرجح أن أحد أسباب عوامل بروز مثل هذه الأصوات، هو تبني الاتفاق لمسارات وعدم تعامله مع القضية السودانية كقضية واحدة.
الأمر الذي انعكس على أن التمثيل تم للمناطق بالتالي (شراكة)، وليس معالجة حسب القضايا الوطنية في السودان. وهي قضايا تقتضي المساءلة. كما أن معالجة القضايا الأساسية، يحتاج مساهمة جميع الأطراف، خاصة تلك المهتمة أكثر بمخاطبة جذور الأزمة السودانية، لذلك يتوجب معالجة الاتفاق، بحيث يكون جاذباً للحلو وعبد الواحد نور على وجه الخصوص، إذ لا يجب استثناء أي حركة مسلحة. وكذلك عدم تهميش المؤسسات المجتمعية، والإدارات الأهلية وقادة الطرق الصوفية، التي يجب أن تكون طرفاً في معالجات الاتفاق.
وكذلك يجب تركيز أطراف الإطاري، على استقطاب دعم داخلي وإقليمي ودولي أكبر لهذه المعالجات. والاعتناء بملاحق التنفيذ، حتى يتم تفادي كل الأخطاء، التي صاحبت تنفيذ اتفاق جوبا لسلام السودان.
كذلك بند الحكم الذاتي الوارد في اتفاق جوبا، كاغراء بديل لحق تقرير المصير، وكخطوة استباقية للمشورة الشعبية لمواطني المنطقتين، بحاجة لدقة و تحديد وتفصيل أكثر، حتى لا يكون مبهما و عرضة للتأويلات.
كذلك يجب أن تكون هناك مصفوفة واضحة ومحددة، لتنفيذ الاتفاق النهائي، بضمانات إقليمية ودولية موثوقة، خاصة دور الاقليم والعالم الداعم للاتفاق، كأطراف فعالة في تنفيذ الاتفاقية، وليسوا كمراقبين من على البعد، كما حدث في اتفاقية جوبا لسلام السودان، إلى أن تم الانقلاب على المكون المدني.
أحمد ضحية
Lansing, Michigan
٤ ديسمبر ٢٠٢٣
ahmeddhahia@gmail.com