هيلدا جونسون وإخصاء الفحولة السياسية
khaliddafalla@gmail.com
ليس لهذا العنوان اي ترميزات جنسانية، لكنها كناية عن الانحياز السياسي ضد صيرورة الكيان الجغرافي والتاريخي للسودان. اذ يهدف المقال لمناقشة الادبيات السياسية التي اصدرتها هيلدا جونسون عن السودان وهي عبارة عن ثلاثة كتب حررتها وزيرة التعاون الدولي النيرويجية الأسبق و الممثل الخاص للامين العام للأمم المتحدة قي جنوب السودان والمدير التنفيذي لليونيسف السابقة هيلدا جونسون عن تقاطعات وتطورات عملية السلام في السودان وجنوب السودان. اذ أصدرت هيلدا جونسون مؤخرا كتابا باللغة النرويجية تحت عنوان ( السلام الصعب) وهو النسخة النرويجية لكتابها الذي صدر باللغة الانجليزية تحت عنوان ( جنوب السودان: قصة لم ترو. من الاستقلال الي الحرب الأهلية ) الذي صدر في العام ٢٠١٦ . وقد اضافت في النسخة النرويجية تحديثا لبعض الفصول حتي تغطي اخر التطورات في قضية صنع السلام في السودان وجنوب السودان. وكانت جونسون قد اصدرت كتابها الاول عن ( صنع السلام في السودان) في العام ٢٠١٢ عقب انفصال جنوب السودان، ونسبت لنفسها ادوارا في المفاوضات شكك فيها بعض المفاوضين في الوفد الحكومي. لكن في ظل غياب ادبيات مكتوبة من الجانب الحكومي المفاوض تصبح رواية هيلدا جونسون هي الرواية الوحيدة والمتاحة حتي يصدر ما ينفيها.
وكنت استغرب لوقت قريب عن الانحياز المكشوف لهيلدا جونسون لجنوب السودان والحركة الشعبية وعدائها الخفي للسودان، وعندما دشنت كتابها الأخير عن جنوب السودان في مركز الحوار الانساني بجنيف العام الماضي قلت لها في مداخلتي ان روايتها في كتابها الاول عن السلام عقب الانفصال وهذا الكتاب عقب الحرب الأهلية في جنوب السودان يتعارضان تماما، اذ صورت مثل كل الغربيين ان انفصال الجنوب هو تتويج لمسيرة النضال والانعتاق نحو الحرية من الاستعمار العربي المسلم، لكنها الان تأسي لاندلاع حرب أهلية بين المكونات الاثنية المتناحرة في جنوب السودان وهو ما توقعه وحذرت منه الخرطوم من قبل. كانت اجابة هيلدا جونسون ردا علي سؤالي ان خيارات الخرطوم الاستراتيجية عقب استقلال جنوب السودان كانت خاطئة وذلك حتي تنفي عن نفسها تهمة المشاركة في صنع الفشل في جنوب السودان.
لكن عقب اطلاعي علي المقدمة التي بدات بها كتابها المنشور باللغة النرويجية وهو ما حجبته من النسخة الانجليزية تكشف لنا جميعا سر انحيازها السياسي العميق للحركة الشعبية اذ عاشت طفولتها في تنزانيا واحتكت حينها ببعض طلائع نخب جنوب السودان. اذ تمتد جذور عائلتها الي الحزب الديمقراطي المسيحي الذي يُعني بتقديم العون والدفاع عن المسيحيين في مختلف ارجاء العالم. كما ساعد تخصصها الأكاديمي في الأنثربولوجيا وتلقيها دروسا عن التكوين الاثني في جنوب السودان الي تفتح آفاق وعيها الباكر لقضية الاثنية والأقليات الدينية في السياسة الافريقية.
وسمت في كتابها ما جري في جنوب السودان بانه تكريس لدكتاتورية النخب الشمالية علي جنوب السودان وزعمت ان التمييز الذي مارسته النخبة الشمالية علي جنوب السودان أسوأ من نظام الفصل العنصري في الجنوب لانه يقوم علي اضطهاد مزدوج عرقي وديني.
ولا شك ان هيلدا جونسون بهذه الانحيازات الباكرة في وعيها السياسي ضد الخرطوم لم تكن تصلح لتكون وسيطا نزيها بل كانت تقدم الدعم الخدمي واللوجستي والسياسي والاستشاري للحركة الشعبية. وقالت ان حكومة النرويج كانت متكلفة بتسديد فواتير تكلفة الهاتف النقال لجون قرنق الذي كان مرتبطا بالاقمار الصناعية. كما اعترفت بالجهود التي بذلتها لتوحيد الحركة واعادة رياك مشار من الخرطوم واعادة الانضمام لجون قرنق مجددا .
رغم انها اعترفت في الكتاب ان الرئيس البشير زار جوبا قبل الاستفتاء عام ٢٠١١ ووعد الجنوبيون بالاعتراف بنتائجه والاحتفال معهم في جوبا اذا اختاروا الانفصال ، الا انها شككت كالعادة في نوايا الخرطوم اذ قالت انها سالت الرئيس البشير بعد ذلك عن سر زيارته تلك فأكد لها انها جاءت بدافع ترسيخ الاستقرار والسلام رغم اعتراض كثير من مساعديه علي زيارته الشهيرة الي جوبا وتعهداته لقادة الجنوب في ذلك الوقت. لكن جونسون المسكونة بهواجس المؤامرة ضد الخرطوم قالت انها ترجح ان السودان قرر ان يضعف دولة جنوب السودان بعيد استقلاله وليست تقويته.
وخصصت في كتابها الصادر باللغة الانجليزية فصلا عن ما أسمته ( الطلاق غير الكامل) وذكرت فيه العرض المستفز الذي قدمه سلفاكير للرئيس البشير بدفع اثنين بليون دولار كتعويض اقتصادي عن فقدان عائدات النفط مقابل تنازلات من السودان في ابيي وترسيم الحدود. وقد رفض الرئيس البشير ذلك العرض علي الفور. وقد انتقدت جونسون الحماقة السياسية للحركة الشعبية وهي تقرر إغلاق أنبوب النفط تحت مشاعر عاطفية جياشة علي خلفية ان الدول والمؤسسات المالية الدولية ستقدم لهم قرضا لبناء أنبوب لتصدير النفط عبر ميناء ممبسا. لكن اخطر ما كشفت عنه جونسون هو ان قرار غزو هجليج جاء بضغط من باقان اموم ودينق ألور لاسقاط الحكومة في الخرطوم. وكانت خطتهم قد انبنت علي فرضية ان ميزانية جنوب السودان تستطيع ان تصمد لمدة ستة اشهر ، مما يرجح سقوط حكومة الخرطوم في هذه الفترة بعد توقف عائدات النفط. لكن كان ذلك القرار بمثابة الرصاصة الموجهة الي ساق حامل البندقية. وهذا ما دعا الرئيس البشير ليؤكد لها احساسه بالخيانة اذ وافق علي انفصال جنوب السودان وفقا لنتائج الاستفتاء لكن بدلا من رد الجميل شن عليه الجنوبيون حربا داخل حدود دولته وزادوا من دعم التمرد. واشارت جونسون ان الوفد الحكومي اراد تبادل الاعتراف بالدعم المتبادل للتمرد في البلدين علي نهج الإطار الذي صممه الدكتور غازي صلاح الدين في مفاوضاته مع الرئيس التشادي اذ اعترف الطرفان بالدعم الذي قدماه للمعارضة. وعندما انتهي الوفد السوداني من الإدلاء باعترافاته الكاثوليكية علي نهج التسوية التشادية كما وصفته سكت وفد الحركة الشعبية ورفض الإدلاء باي اعترافات بشان الدعم الذي يقدمونه للتمرد في السودان. وكان رد مدير المخابرات في جنوب السودان لهيلدا جونسون ان الخرطوم قدمت اعترافا بدعم التمرد وهي تعلم ان ذلك لا يشكل خطرا علي جوبا. لكن دعم جوبا للتمرد في السودان يشكل خطرا علي الخرطوم لذا لم ولن نعترف بهذا الدعم المعلوم للجميع. وكررت جونسون ما اشارت اليه صحيفة النيويورك تايمز من قبل في المقابلة الأولي بين اوباما وسلفاكير اذ توجه اوباما بالسؤال لسفاكير عن أسباب دعمهم للتمرد في السودان فأنكر سلفا ذلك ولما عرض عليه الأدلة من صور الأقمار الصناعية قال سلفاكير لا شك ان امريكا فقدت تقدمها التكنولوجي في رصد صور الأقمار الصناعية. وحينها قال اوباما لمساعديه انه لا يستطيع ان بتعامل مع رئيس يكذب امام وجهه ويغالط في الحقائق والادلة. وتميزت علاقتهما بالفتور حتي غادر اوباما البيت الأبيض.
في كتابها باللغة النرويجية اعادت جونسون تسليط الضوء علي الدور الذي لعبه النائب الاول للرئيس السابق علي عثمان محمد طه وقالت انه تعرض لمضايقات عقب توقيع الاتفاقية حيث اتهمته دوائر في الخرطوم انه قدم تنازلات كبيرة للحركة مما اضطره للانزواء عقب توقيع الاتفاقية، واشارت ان موت قرنق كان خصما علي دور ومستقبل علي عثمان السياسي في البلاد.
كما اعترفت جونسون بمشاركة واستخدام فصائل دارفور في الحرب الأهلية في جنوب السودان، وقدمت سردا لتفاصيل تدخلها و وساطتها لوقف النزاع والاقتتال في جنوب السودان، الامر الذي دعا الحكومة لاتهامها بموالاة رياك مشار واتهمتها صحف جوبا الموالية للحكومة انها عشيقة لمشار وهاجمها سلفاكير واتهمها انها تريد ان تشاركه الرئاسة وإدارة امر البلاد. واشارت الي تفشي الفساد والمحسوبية والنزعة الاثنية ووصفت الفظائع التي نجمت عن الحرب الأهلية التي اندلعت مؤخرا مؤكدة انها ترقي لتكون جرائم ضد الانسانية. وقالت عن سلفاكير انه يفتقد لكارزما جون قرنق وثقافة رياك مشار ويطغي عليه سلوك رجل المخابرات اذ يؤثر الأمن الشخصي علي الرفاهية. كما انه كثير الحِنث بوعوده وتعهداته ولا يحترم المواعيد.
وتختتم هيلدا جونسون اعترافاتها في هذا الكتاب ان التطهير العرقي المتبادل بين الدينكا والنوير سيترك جروحا غائرة في مستقبل جنوب السودان هذا اضافة لتفشي الفساد وتركيز السلطة في يد سلفاكير بدعم وحماية من رئيس الأركان مالونغ الذي درب أكثر من ١٥ الف عنصر من الدينكا للحماية الشخصية للرئيس سلفاكير. كما تناولت التدخلات الإقليمية خاصة يوغندا في جنوب السودان . وقالت في ختام كتابها في نسخته النرويجية ان سبب الازمة التاريخية ان النخبة الشمالية غلبت مصالحها الفئوية علي الحلول السلمية. واكدت ان ٦٠٪ من النزاعات والحروب الأهلية تعاود الظهور مرة اخري بصور مختلفة وفِي أطوار جديدة ، لذا فان تجدد الحرب الأهلية في جنوب السودان ما هو الا أصداء لمنابع الحرب التاريخية ولا يوجد أمل قريب لتوقفها.
و مارست جونسون اعترافا جهيرا قالت فيه لقد صدقت توقعات السودان ونبوءته في اشتعال حرب أهلية بين الفرقاء في الجنوب لغياب المؤسسات السياسية والغبن الاثني وتقوية دور الجيش في السياسة وان كبار جنرالات الجيش يعتقدون ان ثروات البلاد تعتبر حقا مكتسبا و تعويضا عادلا لفترة الحرب والنضال.
قدمت هيلدا جونسون هذا الكتاب في نسخته النرويجية وهي تستعد لخوض الانتخابات داخل بلدها وهي تشغل دورا قياديا في حزبها، وتحاول ان تقدم نفسها بطلة للسلام في افريقيا ، و لكن رغم تطاول الوقت فان انحيازها للحركة الشعبية ونظرتها السلبية للقيادات السياسية التاريخية في السودان سيظل احد ابرز علامات أدبياتها السياسية المنشورة عن السودان. ويبقي السؤال هل نسبت لنفسها ادوارا بطولية لم تقم بها كما أوضحت في كتبها الثلاثة عن السلام والحرب في السودان. ولماذ يصمت المتشككون في روايتها في ظل فقر المكتبة السودانية عن اي كتاب موثوق يعتمد عليه في قصة السلام وانفصال جنوب السودان. ولعل كتاب الدكتور الراحل عبدالماجد بوب وكتاب الدكتور سلمان محمد سلمان الصادر العام الماضي عن دور القوي الشمالية في فصل جنوب السودان قد سد فجوة كبيرة في هذا الصدد.
كما اشيد في خاتمة هذا المقال بالإسهام العلمي لجمعية العلوم السياسية وهي تعقد مؤتمرها السنوي العلمي عن السودان والتحولات الإقليمية. وقد ناقش المؤتمر اربعة أوراق علمية عن التطورات في جنوب السودان وأثرها علي الأمن القومي السوداني.