وجدي وكمير وخطاب العقل والفكر

 


 

 

كتب الدكتور وجدي كامل مدخلا لمبحث بعنوان " أفكار في سلطة العقل السياسيوي الأدبي السوداني" و رغم أن المقال منشور في عدد من الصحف الالكترونية، إلا أنه أرسله إلي في الواتساب، و وجدي معروف بحكم تكوينه الفكري و الثقافي يحاول أن يستفز معارفه في شهوة الجدل الفكري و الكتابة عندهم، لإيمانه أن الحوار الفكري هو الذي يشكل القاعدة الأسياسية لثقافة التحول في المجتمع من الشمولية إلي الديمقراطية، لقناعته أن عملية التحول الديمقراطي ليست شعارات تردد بين الناس أنما هي ممارسة يومية بين الرؤى المختلفة، و أحترام هذه الرؤى هو الذي يخلق الثقة بين التيارات الفكرية المتنوعة و المختلفة.
و يعتبر وجدي كامل من المثقفين الذين يعتبرون أن الفكر و الشغل العقلي أهم أدوات التغيير الاجتماعي السياسي في أي مجتمع. و جاءت عنده القناعة من خلال الإطلاع الواسع و المتنوع، الذي يمزج فيه بين الخيال الذي يتأكد في كتابة الشعر و بين الواقعية التي أكتسبها من خلال فن التصوير و السينما التسجيلية و التعمق في ثقافة المجتمع. لذلك الحوار معه يحتاج لحضور كامل للعقل، و قرأة دقيقة لمقالاته و مباحثه، لكنها ترفع قيمة المكتوب، و في ذات الوقت؛ تقود إلي الغوص في عمق الفكرة، و تناولها من عدة جوانب. و رغم أننا جميعا في عطلة العيد، و جلسات الأنس و استدعاء الذاكرة لقصص الطفولة و مراحل التعليم و الحكايات و القفشات، لكنه يحاول أن ينقلك بين عالمين أن تملأ النفس بشهوة الحكي و القصص، و في ذات الوقت يرجعك للواقعية و استنهاض العقل من حالة الكسل. وجدي يستفز في الإنسان كل ملكاته حتى لا تصاب بالامبالاة التي تقود لها كثرة الانكسارات في الحياة. هذا هو الذي جعلني أكسر حالة الاسترخاء في العيد و اتجاوب مع استفزازه. لكن لا اقول غير شكرا صديقي وجدي كامل.
تذكرني كتابات وجدي بكتابات الدكتور الواثق كمير الذي يأتي من مدرسة ذات تكوين واقعي، تهتم بالتفاصيل و ترتيبها و محاولة نقدها، التي أكتسبها من دراسته لعلم الاجتماع، فالدكتور الواثق يقدم الفكرة و يشرحها متبوعة بعدد من الأسئلة الهدف منها هو أن يجعل حضور عقل القارئ أهم هدف في الفكرة، لأنه مؤمن أن الفكرة إذا لم تجد الحوار الواسع تموت، مما يدل أن فكرة الديمقراطية ناضجة عند الواثق و ليست مجرد شعارات كما هي عند بعض النخب، و إذا فحصنا المقالات التي كتبها كمير في عهد الإنقاذ كانت تمثل مخرجا للأزمة السياسية في البلاد، إذا كانت استطاعت النخبة الحاكمة قرأتها بصورة جادة، ثم تجئ كتاباته بعد الثورة حول عملية التحول الديمقراطية و إلعوائق التي تواجهها، محاولة لفهم الواقع من كل جوانبه، و توازنات القوة فيه، باعتبار أن التغيير لا يتم إلا بمعالات التوازن لليس لقوة لوحدها بل أيضا الثقافي و الفكري، كان كمير يعتقد أنه يستطيع أن ينقل المثقفين السودانين من حالة الاصطفاف إلي الحوار الفكري الذي يشكل به القاعدة الأسياسية للثقافة الديمقراطية، لكن للأسف أن النخبة السودانية لا تدخل نفسها في هذه الحوارات، في اعتقاد منها أن الهدف منها هو أختبار قدرات الأخرين. و نفور النخب من الحوارات الفكرية الجادة ربما يكون هو سبب امتناع كمير من الكتابة اراتبة.
هناك مدرسة أخرى هي مدرسة المؤرخين السودانيين كتاب المقالات، البروفيسور أحمد إبراهيم أبوشوك و البروفيسور عبد الله علي إبراهيم، و هي مدرسة واقعية تحاول أن ترجع القارئ إلي نماذج التاريخ في محاولة أن تقول فيها أن الظاهرة السياسية و الثقافية لا تقطعها من جذرها التاريخي و يجب أن تتبع تطورها لكي تتأكد أنها ليست ظاهرة جديدة بل هي ظاهرة قديمة تتجدد بتجدد العوامل المؤثرة فيها، و عبد الله علي إبراهيم رغم أنه يميل للمنهج التاريخي التحليلي فهو لم يهاجر المنهج الجدلي التاريخي كليا، و يحاول من خلاله أن يثير حفيظ القارئ، و يريد أن يقول له هذا ما أملك ماذا تملك أنت؟ و عبد الله من خلال كتاباته اليومية يريد أن يدفع بأفكار عديدة للساحة الثقافية و السياسية لكي ينقلها للجدل الفكري. و في الجانب الأخر نجد أن أحمد أبراهيم أبوشوك يعتمد على المنهج التاريخي الوصفي التحليلي، و متابعة الظاهرة في تطورها اليومية و تسجيلها، و في نفس الوقت وضعها أمام القارئ و المتابعين باعتبار أن الأحداث السياسية و الثقافية المرتبطة بها هي تسير في نسق واحد، و قرأتها يجب تبدأ منذ ظهورها ثم يتم تتبع تطورها الجدلي الذي يتطلب نقدا علميا و ليس قراءة سطحية لها. لذلك أبوشوك و عبد الله من خلال كتباتهم المقالية بهدف أحداث تغيير في العقلين الثقافي و السياسي لاتباع منهج يتلأم مع التطورات الجارية في المجتمع.
نرجع للدكتور وجدي كامل في منظوره الفكري يقول في مقدمة مبحثه ( ما يسمح بتعريف العقل الأدبي انه عقل يجري عملياته ويقدم نتائجه في تفسير الاشياء والنظر الى الواقع المحيط بنوع من التفكير الافقي فيجنح الى الوصف واغراق جملته بالمحسنات البلاغية متخذا مسافته الخاصة من مبنى الظاهرة او الموضوع دون الولوج في طبقاته وتحويلها آلي فائدة ذات قيمة تطورية خالصة وعامة. والعقل السياسي الادبي عقل غير تفكيكي غالبا ما يخشى التحديات الواقعية ويهرب منها بنظر الى الوراء بحثا عن الأمن والأمان الاجتماعيين والاحتفاظ بعلاقات متوازنة ومستقرة أقرب الى المحافظة على ما هو سائد وموروث ودعم ما هو قائم دون البحث في اسباب سلطته ودون صراع معها او خوض في الاشتباكات الفلسفية وإطلاق قدرات التأمل بتصحيح المفاهيم والتخلص من فائض قيمة الاخطاء المرتكبة والاشارة والتعريف بمرتكبيها( و يريد أن يقول وجدي؛ أن المدرسة السياسية السودانية التي نشأت عقب المدارس الأدبية في العاصمة و الجزيرة و الأقاليم الأخرى نتيجة للتعليم الحديث هي مدرسة أهتمت بالخيال و الوصف و التعامل السطحي مع القضايا دون سبر غورها، لأنها مدرسة بنيت على الخيال، و حاولت أن تشكل من الخيال قاعدتها السياسية، دون أن تنظر للظواهر بواقعية و تتبعها ثم نقدها بمنهج علمي يكسبها هذه الواقعية، هذا الخيال قد جعلها تبتعد عن الفكر و تستعيض عنه بالشعارات لكي تملأ بها فراغات، و عندما تباغتها الأحداث تقف موقف الحائر، لذلك يحاول أن يقول وجدي لابد من أحداث تغيير جوهري يعتمد على الشغل العقلي المرتبط بالواقع و تحولاته الاجتماعية. و إذا نظرنا لدعوة وجدي و الواقع نجد أن القوى السياسية جميعها دون استثناء ليس لها إنتاج فكرى تؤسس على ضوئه رؤيتها السياسية، الأمر الذي يفقدها القدرة على أحداث أختراق لأزمات البلاد، كما جعلها تميل للشعارات خالية المضامين التي تسند بواقعية الفكر و الثقافة.
و يقول وجدي في ذات المبحث (هذا تقليد ايضا ساهمت الجمعيات الادبية في بذره في البنيان التحتي باستهداف عرقي وجهوي مركزي حرض فيما بعد على الثورة ضده بإشكال متنوعة من الكيانات والتنظيمات والهيئات الجهوية المضادة دون ان تقرا الدرس لاحقا وتقع هي نفسها في شراك العنصرية المضادة "كما ينبئ كتاب نواياها حاليا لحكم السودان"- هذا العقل الثقافوى وعند تحوله الى سياسيوي بحكم الانتقال السلس الذي ام من مهن كالمحاماة الى السياسة واجادة فن المرافعات اتصف بالاداء السياسي الصراعي القائم على المنافسة الشخصية والفردية حول الامتيازات والنظر الى الدولة كغنيمة جعل من السوق السياسي السوداني سوقا يرحب بذوي النفوذ الحزبي والقبلي واصحاب الطموحات في الزعامة باستصحاب لجمهورهم وتابعيهم وذوي الارتباط بمصالحهم من سماسرة السياسة) و هنا يحاول الدكتور وجدي أن يربط ظاهرة الخطاب العنصري المنتشر الآن بأنه نتيجة للانتاج الثقافي للجمعيات الأدبية في فترة عتاشرات و عشرينات القرن الماضي الذي كان خطاب التصنيف الذي يميل إلي الاعتزاز بالعنصر العرقي و الانتماء الثقافي للعروبة سائدا في ذالك الوقت، و خلق ردات فعل أخرى له. و كان يجب على المثقفين السياسيين النظر لهذا الخطاب و محاولة محاربته، لكن النخبة السياسية فشلت في قيام حوار ثقافي يؤسس للتنوع في البلاد. و هذا يقودنا إلي الثورة الحالية " ثورة يسمبر 2018م" أن يكون لها خطاب يتماشى مع شعارات الثورة. و هذا التحول في التفكير لا يتم من خلال الركون للإرث الثقافي السياسي الذي أنتجته نخبة الاستقلال، بل يتعداه لثقافة جديدة، و دعوة وجدي ليست دعوة تؤسس على الخيال و إطلاق الشعارات، بل هي تحتاج لإنتاج ثقافي جديد لذلك هي عرضة للجدل الفكري بين التيارات المختلفة، و اسفزاز المثقفين لكي يغيروا نمط التفكير السائد. و هي قضية تحتاج لحوار واسع بين النخب الفكرية و المثقفة.
بعد ما عاد الدكتور وجدي كامل للبلاد واضعا حدا للهجرة، كنت قد قدمت له فكرة من قبل أن يختار أحد الجرائد في الخرطوم، تستوعب الحوارات الفكرية على أن ترسلها للمتداخلين PDF، و تكون بداية للحوار الجاد الذي يؤسس لثقافة حوارية فكرية جديدة، ينقل الناس من ثقافة الوصف ألي ثقافة النقد المنهجي،و تنقل أيضا على صفحات الصحف الالكترونية الأخر " مثل سودانيزأون لاين و سودانيل" حتى تتوسع قاعدة الحوار. و أي تغيير مجتمعي سياسي في حاجة لثقافة تتماشى مع الفكرة و تشكل لها سندا قويا. نسأل الله التوفيق و السداد في هذه الأيام المباركة.

zainsalih@hotmail.com
////////////////////////////

 

آراء