وداعاً أمــــيـر الحُـســن

 


 

 

وداعا للأمير.. اقولها وأكاد لا أقوي فالعبرة تخنقني والحزن يكسوني من شعر رأسي لأخمص قدمي، لأمير لا يسمعني ولا يراني هذه المرة. عجبا بالأمس القريب كان أمير ذلك الرجل اللماح الذي يقرأ ما يدور في ذهنك، الذي يفسر صمتك وابتسامتك وغضبك، يعرف ماذا أنت قائل قبل أن تحرك شفتيك فيغنيك عن الكلام، ليتحدث هو حديث العارف بشأنك وشأن غيرك وشأن الدنيا كلها. هو الذي يمسك بناصية الحديث ليملأك أملا وفرحا وحبا للحياة. ماله اليوم لا يسمعني!! لقد سكت الأمير ووجمت كل الأفواه وشخصت المآقي و بلغت القلوب الحناجر... يا لهول المصيبة وعظم الخطب.
غاب الأمير عن دنيانا الغياب الأبدي.. غياب اللا عودة الذي أذاقنا طعمه وفاجعته قبله الأولون (الوالدان والإخوة والأخوات والأهل والأصحاب..) نفس الكأس المر المليء فاجعة وألما نتجرعه اليوم بغياب أمير الغياب الأبدي. لقد وافته المنية فجر السبت 21 سبتمبر 2024 إثر تعرضه لوعكة صحية مفاجئة في شقته في القاهرة أودت بحياته في لمح البصر، كانت لحظات غياب الابن معتز صلاح عنه.
غاب الأمير روحا وجسدا.. فمن ذا الذي سوف يلاقيك ضاحكا ويناديك باسم الكنية أو الدلع الذي يروق له، من ذا الذي سوف ينهك جواله المسكين ليلا ونهارا سائلا عن الأحباب في كل مكان عن كل صغيرة وكل كبيرة ليحللها في صالحهم، من ذا الذي سوف يسهل عليك الصعب، من ذا الذي سوف يعطيك جرعات الأمل في الحياة، من ذا الذي سوف يعين المرضى والمحتاجين، من ذا الذي سوف يجمع الأهل والأصحاب عنده، من ذا الذي يطير من الفرح بمجرد وجوده بجانبهم، من ذا الذي سوف يقطع الفيافي مسافرا ليزين مناسبات الأفراح بطلعته البهية، من ذا الذي سوف يطوي المسافات مجاملا في فرح أو في كره.. حتى ولو في زيارة ليوم واحد. كان أمير فاكهة المناسبات يضفيها حلاوة ومذاقا خاصا ببهجته ومشاركته وكلامه المعسول وقبلاته التي كان يوزعها هنا وهناك وحتى بهندامه المرتب الذي يفصله لكل مناسبة.
مسيرة ابن خالي وصديقي "أمير محمد حسن دهب" تخللتها عدة مراحل مثيرة كونه كان طموحا وعصاميا يعتمد على نفسه وقدراته الذاتية، ولذلك سوف أذكر بعض الملامح من شخصيته ومسيرته في الحياة باختصار خاصة وهناك بعض من القريبين والبعيدين يجهلون شخصيته الحقيقية، فالظاهر عنه غير الباطن والكمال ثابت لله، فهو يحمل بين طيات أضلعه قلبا أبيضا صافي النية حنونا وعطوفا وبارا.
ابدأ بالمرحلة الأولى من حياته وهي ميلاده في مدينة وادي حلفا في عام 1961. وكانت والدتي، طيب الله ثراها، تنادي ابن شقيقها ب "أمير الحسن"، ولم يخطر على بالي أن أسألها يوما ظانا أنه نوع من الإطراء والدلال كعادتها، لكن علمت الآن، بعد مضي كل هذه السنوات أن للتسمية قصة أو مناسبة، فوالده المرحوم "محمد حسن دهب"، والذي كان يعشق الشعر والغناء، هو الذي سماه "أمير" بمناسبة أن يوم ميلاده صادف يوم ميلاد أغنية الفنان محمد وردي، رحمه الله، "أمير الحسن". وربما لذلك السبب كان سيد الاسم "أمير الحسن" مرهف الإحساس كوالده يحب الغناء ويعشق الموسيقي وكان يغني ويتعلم العزف على آلات الموسيقي المختلفة.
لم يمض وقت طويل على ميلاده حتى كانت هجرة النوبيين إلى حلفا الجديدة عام 1964 بعد قيام السد العالي في مصر وغرق مدينة وادي حلفا وقراها. تفرق بعدها الجميع أشتاتا هنا وهناك، وبما أن والده كان يعمل موظفا في الطيران المدني فقد جابوا عدة مدن ومطارات في السودان بحكم العمل منها ملكال والفاشر والخرطوم بحري وأخيرا حلفاية الملوك التي كانت مستقرهم الدائم.
المرحلة الثانية بدأت حينما سافر أمير مهاجرا إلى بريطانيا عام 1979 وهو في سن سبعة عشر عاما ليعمل هناك فترة وعودته إلى السودان بعد سنوات من العمل والكفاح ليلتحق بجامعة القاهرة فرع الخرطوم ويتخرج منها بدرجة ليسانس في القانون. وفي عام 1989 أصر على العودة إلى بريطانيا مرة أخري لكن هذه المرة كان مسلحا بشهادة جامعية ليحسن من وضعه المهني وقد كان.
في هذه الأثناء كنت ألتقيه كثيرا بين الفينة والأخرى في زيارات العمل إلى لندن وأحيانا أقيم عنده بعد انتهاء أيام العمل. كنت أراه بجانب مهنته في القانون يقوم بأعمال أخرى أكثر مشقة وسهرا ليحسن من وضعه المادي ويرعى والديه في السودان.. تلك هي الفترة التي جمعته وعرفته بعدد كبير من الشباب الأطباء الذين بعثوا إلى لندن لمواصلة دراسة الطب وصاروا أصدقاءه ورفاقه في السكن. أذكر منهم الآن دكتور عوض عبد الله استشاري القلب و د. ماجد صلاح و د. عبادة و د. زهير وأصدقاء كثر آخرون لم ينقطعوا عنه حتى اللحظات الاخيرة أذكر منهم الأخ عزالدين ميرغني وأسرته.
كانت تلك فترة عنفوان الشباب صالوا وجالوا فيها في بريطانيا وخارجها واستمرت تلك الصداقات بنفس مستوى المودة والوفاء حتى رحيله حيث كانت حتى سفراتهم إلى أمريكا والسودان وفرنسا وباقي دول أوربا في رحلات جماعية مع بعض. لاحظت أن أمير كان هو رأس الرمح لمجموعة الأصدقاء بأفكاره وخططه وشخصيته القيادية الطريفة اللماحة وذاكرته الفتوغرافية وكانت شقته هي ملتقي الجميع آنذاك.
المرحلة الثالثة هي المرحلة الاسرية التي بدأت في عام 1993 حين اقترن أمير بزوجته الست "سميرة راجح خضر علي" في لندن في الحادي والثلاثين من شهر يوليو من العام نفسه. الست سميرة هي سليلة أسرة يمنية محافظة مهاجرة ومقيمة في بريطانيا منذ عصور. أود أن أذكر هنا كان لزوجته سميرة دور عظيم في حياته بعلمها وتدبيرها وعقلها الراجح وحقيقة كان يعتمد عليها كثيرا في كل شؤون الحياة الصغيرة والكبيرة وتربية وتعليم الأبناء، وحقا خلف كل عظيم امرأة. وفي زيارتي تلك تعرفت على أسرتها ووالدتها وإخوانها وحبوباتها في لندن وأيضا خيلانها في مدينة القضارف، فكانت نعم المعرفة والعلاقة التي امتدت إلى كل أسرنا في السودان والمهاجر.
المرحلة الرابعة الاغتراب إلى دولة قطر. في زيارتي له كان يسألني عن قطر والحياة فيها وماذا يدور هناك فكنت دائما أشجعه على الزيارة أولا ثم الحضور للعمل فيها ليكون معنا وبجانب شقيقه الأكبر وشقيقته. راقت له الفكرة وفي عام 2004، وبعد حصوله على درجة الماجستير، انتقل أمير إلى دولة قطر والتحق بمؤسسة قطر للبترول في وظيفة مستشار قانوني. وتلك كانت فترة نضوج كامل شهدت أحداثا كثيرة ومختلفة أولها انضمام أسرته إليه والتحاق أبنائه محمد وتسنيم ويزن بمدارس الدوحة والاستقرار التام في قطر. وهنا يجب أن أذكر أن أمير كان سهل التعامل مع أبناءه وعطوفا، وكان يمنحهم مساحة من الحرية والاعتماد على النفس، لكنه كان حريصا على تعليمهم ليصلوا إلي أعلي مراحل التعليم.
في قطر انتقل أمير إلى العمل في عدة شركات بترولية وأخيرا استقر به العمل في "اللجنة العليا للمشاريع والإرث" الكيان الحكومي المسؤول عن تنفيذ مشاريع البنية التحتية استعدادا لبطولة كأس العالم 2022. وفي هذا المكان أتيح لأمير أن يزور عدد من الدول في العالم ليطلعوا على تجارب تلك الدول في الناحية الأمنية عند تنظيم بطولات كاس العالم للسنوات السابقة.
هناك أحداث كثيرة مرت على أمير كان لها تأثير كبير في حياته منها وفاة والده ثم وفاة والدته من بعده وقد كان بارا بهما في حياتهما وعند موتهما، وقد سافر اليهما أكثر من مرة للممارضة والاطمئنان. كما رتب لهما زيارات للعلاج في قطر. وعندما صار أمر الله أصر على السفر من قطر في الحالتين لحضور مراسم التشييع والدفن بنفسه في السودان وقد كان. وكذلك وفاة شقيقته الكبري في الدوحة التي كان قد يسر لها أمر حضورها إلى الدوحة لمتابعة العلاج.
في السودان يقولون للشخص المعطي "الله لا جاب يوم شكرك" وهو الموت، بمعني أنه لا يجوز شكر الإنسان لعطائه إلا بعد أن يرحل من الدنيا ولذلك نجد بين المشيعين الخطباء حول المقبرة يتنافسون في الخطب تمجيدا لدور الميت في الحياة وكذلك نفس الحديث الطيب عن المتوفي يتكرر في سرادق العزاء. ويقولون أيضا "اذكروا محاسن موتاكم"، وماذا عن محاسن الأحياء؟ وحقيقة الناس في بلادي يرفعون الغطاء عن محاسن الإنسان وأعماله الجليلة بعد أن ينتقل إلى رحاب الله. لكن من الصحيح والإنصاف أن نعطي كل إنسان قدره من الثناء والتقدير وهو حي يرزق.
ولذلك أشهد أن أمير كانت يده ممدودة بسخاء وأشهد أنه تحمل بمفرده علاج عدد من المرضى وساهم أيضا في علاج آخرين نعرفهم. نشهد له أنه كان لا يتأخر في الاستجابة لطلبات المحتاجين. لم يقف عند المرض بل كان يبادر بالمساهمة المادية والمعنوية في كل مناسبات أفراح الأهل والأصدقاء بل أكثر من ذلك كان يحرص على تحمل مشقة السفر وحضور المناسبات مجاملا.
وكان أمير منذ صغره شخصية طموحة وشخصية متفائلة بقدراته ولذلك فكر ودبر ثم هاجر إلى بريطانيا في سن صغيرة جدا ليدرس أو يعمل هناك ثم أدرك بنفسه دون وصية من أحد أن العمل المجزي يحتاج إلى شهادة جامعية، ولذلك عاد إلى السودان ودرس الجامعة وتحصل على الشهادة الجامعية وفكر ثم عاد مرة أخري إلى بريطانيا. وفي لندن لم يعجبه وضعه المادي والاجتماعي آنذاك ولذلك تحصل على شهادة الماجستير لعلها تعينه، ولما لم يجد ضالته في العمل قرر أن يجرب الاغتراب في دولة قطر فكان له ما أراد وعاش فيها مع أسرته في استقرار تام.
ومن معاشرتي لأمير أرى أن المعيشة والاستقرار في قطر أضافتا لشخصيته ولأسرته الكثير المفيد. فقد خلقوا عدة صداقات وبرامج في الدوحة وعرفوا الأهل وصاروا أكثر قربا للسودان والأهل والمعارف وكثرت زياراته للسودان ولوالديه وأحضر والديه في زيارة إلى قطر أكثر من مرة، ووجد الفرصة لمعرفة أحوال الناس عن قرب والمجاملات كما أن القرب جعله يفكر في الاستقرار في السودان. وقد فكر في عدة مشاريع مستقبلية.. وفي السنة الأخيرة أنشأ مكتب محاماه في الخرطوم متخصص في قوانين الرياضة وتنظيم الفعاليات الرياضية العالمية، وتلك تجربة اكتسبها من عمله في فعاليات كأس العالم 2022 في قطر أراد أن يطبقها في السودان. وكان من ضمن ذلك مهتماً أيضاً بالقوانين المتعلقة بالمسؤولية القانونية عن الأخطاء الطبية. ولكن قامت الحرب اللعينة ودمرت كل شيء. ولذلك صرف النظر عن السودان واستدار فكره نحو بريطانيا من مرة أخري.
والمرحلة الخامسة بدأت بعد أن انتهت فعاليات كأس العالم 2022 في قطر وانتهت مهمة "لجنة المشاريع والإرث". وعادت أسرته إلى لندن أولا لتلتحق زوجته سميرة بعملها والأبناء التحقوا بالجامعات حتى يزن الصغير. وتحت هذه الظروف قرر أمير أيضا اللحاق بأسرته في لندن في سبتمبر 2023 بعد أن قضى في الدوحة حوالي عشرين عاما. لكنه سرعان ما اشتاق إلى الدوحة بأهلها وأصحابها والعمل فيها خاصة وأن لندن ما عادت لندن التي عرفها والأصحاب ما هم نفس الأصحاب، كما أن الآم الساقين حد من حركته وقلل من مشيته. ولذلك كان دائما ينتابه الشعور بالقلق والسأم ويشكي الحال لعدم وجود عمل يشغل وقته، فدعوناه لزيارة قطر إلا أنه آثر السفر إلى قاهرة المعز في 13 سبتمبر 2024 لزيارة الإخوان والأهل هناك والسمر معهم وإجراء بعض الفحوصات الطبية ويعود بعدها إلى لندن للاستقرار هناك.
أما المرحلة السادسة والأخيرة من حياته العامرة والذاخرة فقد بدأت عندما هبط أرض مصر وسكن بالقرب من الإخوة والأخوات والأهل المهاجرين من السودان في حي فيصل بالقاهرة. كان في قمة السعادة بالتغيير المكاني ووجود الأهل بجانبه في ذلك الحي الصاخب بل سكن معه في الشقة عدد من الشباب لمساعدته وقضاء حاجاته، لكن للأسف هذه الفتر ة لم تطل أكثر من ليلتين حينما اشتد عليه المرض فجأة بليل لسويعات ثم أسلم الروح إلى بارئها في هدوء مع وجوم الأهل من حوله...ولا غالب إلا الله.
وحضرت زوجته ووالدتها وأبناؤه وشقيقها من بريطانيا إلى القاهرة، يعصرهم الألم ويكسوهم الحزن، لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليه وحضروا مع الأهل في القاهرة وجمع غفير من المصلين مراسم الغسل والتكفين والصلاة ووري جثمانه الطاهر الثرى بعد صلاة المغرب مساء الأحد 22 سبتمبر (الموافق 19 ربيع الأول 1446هـ) في مثواه الأخير في مقابر عين شمس بالقاهرة بحضور جمع غفير من المشيعين. وأقيم له العزاء بمسجد الشيخ الحصري في مدينة 6 أكتوبر بالقاهرة كما أقيمت الكرامة صدقة مقبولة على روح المتوفى إن شاء الله. وهنا لا بد من تقديم اسمي آيات الشكر والتقدير لجميع الأهل والأحباب خاصة لأبنائنا الشباب الذين قاموا بالواجب تجاه هذا الخطب وتجاه أسرة المرحوم جعله الله في ميزان حسناتهم وردهم إلى ديارهم سالمين.
وبانتهاء هذه المرحلة الأخيرة انتهت حياة أمير في دنيانا وفارقنا بعد حياة حافلة زينها بطموحاته ونجاحاته وحبه وعطفه وبسؤاله الذي لم ينقطع عن الناس لينتقل إلى دار الخلود خالدا مخلدا فيها أبدا بإذن ربه.
لك الرحمة والغفران والسكنى في أعلى الجنان يا أمير وجعل الله تعالى كل ما قدمته من جلائل الأعمال ورأفة بالمرضي والمحتاجين في ميزان حسناتك بأضعاف أضعافه.
وأخيرا لا أملك إلا أن أعزي نفسي وزوجته المكلومة وأبناءه محمد وتسنيم ويزن وإخوانه طلعت وفيصل وكمال وشقيقاته وكافة أهله وأهل زوجته كما أعزي أصدقاءه وزملاءه في كل مكان.
إنا لله وإنا إليه راجعون لله ما أخذ وله ما أعطي وكل شيء عنده إلى أجل مسمي.
شوقي أبوالريش
الدوحة، 30 سبتمبر 2024

reeshs@hotmail.com

 

آراء