وداعاً سعدية الصلحي

 


 

حسن الجزولي
3 October, 2022

 

(نعى الناعي رحيل الأستاذة سعدية الصلحي التشكيلية البارزة وسادنة الفلكلور السوداني والتراث الشعبي وحافظته التي اشتغلت فيه ووهبته جلً سنوات عمرها، فسجلت ضمن تشكيليات أخريات وسط نساء السودان ريادتهن في هذا الحقل. تنعيها هيئة تحرير صحيفة الميدان وكافة العاملين بها حيث كانت لسعدية مواقفها المشرفة على المستوى الوطني مدافعة عن قضايا شعبها ونضاله من أجل الديمقراطية والحريات العامة ونافحت من أجل حقوق المرأة السودانية على كافة الأصعدة، وما هو ملفت للنظر أن رحيلها صادف زمن زيارتي لهما وكذا زمن مولد الرسول الكريم! العزاء موصول لشقيقها إبراهيم الصلحي أستاذ الأجيال وشيخ التشكيليين السودانيين ولعموم أهلها بالعباسية وعارفي فضلها، لها الرحمة والمغفرة).
***
مع سعدية وإبراهيم الصلحي ،، في يوم الزفة وافتتاح سوق الزلعة!
حسن الجزولي
زرت شيخنا إبراهيم الصلحي تمام الثامنة صباحاً نهايات شهر ديسمبر 2015 والبلاد تدلف رويداً لعامها الجديد، زرته بمنزلهم العتيق الكائن في طرف خور أبعنجة الأشهر بنواحي العباسية بأمدرمان، عاودته لمواساته في رحيل شقيقتهما الكبرى هو والأستاذة التشكيلية البارزة سعدية الصلحي، دلفت لصحن الدار ببابها الأم درماني الفاتح على مجموعة شوارع وقلوب معاً، استقبلني الصلحي ببشاشته المعهودة التي ترد لك روح الصفاء وإن كان بك كدر سابق، ويسوقك للفيراندا العتيقة بوسط المنزل، فتهل عليك سعدية شقيقته بسمتها الهاش الباش، وبروحها المرحة خفيفة الظل والتي خبرها لفيف من المقربين لها، أجلساني في مقعد عتيق - وكل البيت وجنباته ضارب في أعماق التاريخ يحكي عظمة زمان ومكان بكافة تفاصيله – وجدت أمامي "طبلية عتيقة صُفت عليها أوني للشاي، شاي سادة وشاي بأنواع مختلفة من اللبن، من ناحيتي فضلت الشاي بلبن الصباح المقنن، فصبت لي الخالة سعدية في إنائي ومدت لي صحوناً من الكعك والبسكويت والكيك بجميع أصنافه، فاخترت أنا كيس النايلون الممتليئ بقرقوش الرغيف الناشف، ضحك الصلحي وضحكت شقيقته التي قالت لي: أها أكان عرفت فطورنا ما حتقول إنك فاطر.
قال لي لي الصلحي بفرح طفولي: الليلة الزفة!، وبالفعل كانت زيارتي لهما يوم زفة المولد نهار إفتتاحه بحوش الخليفة، وهي الشعيرة الشعبية التي يحرص شيخنا الصلحي على حضورها سنوياً من مقر إقامته بأكسفورد، حيث يقطع الفيافي تاركاً خلفه كل بقايا تصاويره ومشغولياته سواء أكانت في المرسم أم في الذهن، ويأتي خصيصاً لخاطر الزفة، والزفة عند الصلحي تعد ضمن طقوس الأمس والحاضر التي من المهم مراعاة الاعتناء بها، وهي قطعاً موروث شعبي فاره عني به فناننا العالمي واشتغل عليه في كثير من لوحاته وأبرز خصاله وقدمه معرفاً به الآخرين، والزفة ممارسة سودانية شعبية خالصة لوجه الله تعالى تحبباً في سيرة رسول البشرية محمد وتقرباً له كأستاذ ومعلم أخرج المسلمين لنور الانسانية الوضاء وعلمهم كيف يحابون خالقهم وبعضهم بعضاً لو كانوا يفقهون!، فتغلغلت ذكرى مولده في حياة السودانيين، حيث قلً أن تجد مدينة أو قرية لا تتمظهر فيها رايات الزفة وضربات نوباتها، وهي التي دفعت بقرائح شعراء السودان لكي تلهج ألسنتهم بالثناء والتبجيل لمناسبة مقدمها كفاتحة لمولد الرسول الكريم، وهو ما حدى بشيخ شعراء شعبنا المغفور له محمد المهدي المجذوب لكي ينشد بصوت المطرب الكابلي:-
(وهنا حلقةُ شيخِ يرجحِـنُّ
يضرب النوبة ضرباً فتئـنُّ
وتـرنُّ
ثم ترفضُّ هديـراً أو تـُجـَنُّ
وحوا ليـها طبولُ صارخاتِ
في الغـُبارِ
حولها الحلقة ماجت
في مـدارِ
نفـذت ملأ الليالي
تحت راياتِ طوالِ
كسـفينِ ذي سـواري
في عبابِ كالجبالِ
ليلة المولد يا سر الليالي
والجمال).
وقد كانت ذكرى مولده عليه الصلاة والسلام فترة الاستعمار، مناسبة لكي يلقي فيها شعراء الشعب قصائد في تبجيله، يمررون خلالها وبين قافية قصائدهم في حبهم له مهاجمة الاستعمار، محرضين على مقاومته وطرده من البلاد!، والزفة طقس شعبي لها عندنا في أم درمان مذاق أقرب لحلاوة المولد نفسها بكافة أنواعها وأشكالها وألوانها، زفة تتلاقح فيها كافة سحنات وملل ونحل شعبنا وأطيافه، من أقصى البلاد لأدناها، شوايقة وبرنو وفور وجعليين، دينكا ونوير وفلاتة وعركيين، بديرية ودهمشية ورباطاب ومحس ودناقلة وغرابة وشلك وأم درمانيين، كواهلة وكبابيش ونوير وزغاوة، عبابدة وأقباط وفونج، شيوعيون واتحاديون وأنصار أمة، مريخاب وهلالاب وقراقير موردة، برهانية، عركيين، كباشية والشيخ قريب الله، أولاد شيخ اللمين المحايتو بيبسي وحيرانو جيكسي، حتى أولاد الراحل عبد القادر توتو الترزي بسوق الموردة والفقير لله، أسياد الدافنة برفقة ناس أحمد داؤود وحسن شمت، أهل بيت البكا وتجهيز التربة والكفن والحنوط ومواراة الميت في مقابر البكري وفاروق وأحمد شرفي وحمد النيل وبري، وغيرها من مقابر العاصمة، وفي أيام المولد يحلو لصبية وصبايا المدينة زيارة سوق الزلعة بطرف حوش الخليفة في الناحية الجنوبية الشرقية من السور، المكان الآسر لديهم في كل طقس المولد، وهو سوق كان رائجاً خمسينات وستينات وحتى منتصف سبعينات القرن الماضي، يزخر بأكلات شعبية كان لها مذاق شهي، ولكن اختفى ذاك السوق واندثر الآن وحلت محله الأكلات العصرية الأخرى من بيتزا وهمبورقر و(هوت دووق)!، كان سوق الزلعة يبيع التبش بالشطة والليمون والدكوة، العونكوليب، راس النيفة، الكوارع، الدقة، أم فتفت، دوم وقنقليز وقراصة نبق وعيش ريف، حلاوة قطن وحلاوة عجوة وحلاوة داندرمة وجكسا وسكينة وكريكاب وريا ودريبس، شختك بختك الطوخي والمرجيحة، العصائر بأنواعها، سلطات الروب والأسود والطماطم وسندوتشات الطعمية والفول، اللقيمات والمشبك والمطبق، كلهم في زفة المولد، هذه هي الزفة إذن. وتشير سعدية - التشكيلية المتخصصة في الزي السوداني – إلى أزياء الزفة والمولد، موضحة كيفية تطور أزياء المتصوفة السودانيين منذ حقبة السلطنة الزرقاء، وتهرع لخزانتها فتجلب لي منها جبة خاطتها أياديها البارعة لعهد السلطنة الزرقاء، موضحة كيف أن المهدويين إستفادوا من ذلك العهد السابق لهم واشتغل نولهم على هدى وخطوط السلطنة، مشيرة لاضافاتهم التي ميزتهم عن الحقبة السابقة، حيث كان الزي في فترة حياة المهدي هو (الكرابة) وعلى الجلباب الزيق الأسود بأكمام قصيرة وقصر الجبة نفسها، دلالة على قدرة الركض وعدم الاعاقة ساعات الدواس مع العدو!، وأن المهدي لم يرتدي مطلقاً البجبة المرقعة لأنها لم تكن سائدة طيلة فترة حياته!،ولكن بعد وفاته تطور الزي المهدوي فترة سيادة الخليفة عبد الله، وما يدهش حقاً هو إشارتها لمساهمات الخليفة نفسه في ذلك، حيث كان مصمماً صميماً لأزياء جيشه، فقد صمم بأياديه أزياء أمراءه وجنوده، فهو الذي استنبط الجبة المرقعة ورايات المهدية بألوانها ودلالاتها، وهو الذي وضع علامات الجيش، كرأس المية وخلافه، بحيث أن كل مجموعة من الجنود المقاتلين تتبع لقائدها داخل حلبة المعركة بعد أن تتعرف عليه من خلال لون رايته وزيه!. ياترى لماذا لم تتم الاشارة لهذه المعلومة المتعلقة بالخليفة عبد الله من قبل؟!، ففي هذا الصدد أشارت الباحثة اليابانية د. يوشيكو كوريتا في بحثها القيم حول مصادر الثورة السودانية وهي تنقب عن حقبة ثورة 1924 بأن علي عبد اللطيف كان أيضاً من هواة مهنة الخياطة التي تعلمها وأجادها حينما كان يلازم خاله ريحان الترزي بدكانه في إجازات المدرسة، فنشأ محباً للمهنة، وهناك إشارات بأنه هو من صمم وخاط علم اللواء الأبيض الشهير!، فما علاقة القادة العسكريين بالخياطة وهواية التطريز عندهم يا ترى؟ فقد قرأت عن منافسة كانت تتم بين كل من فيديل كاسترو الزعيم الثوري لدولة كوبا مع أحد أصدقائه من القساوسة الذين قادوا ظاهرة لاهوت التحرير في داخل كنائس أمريكا اللاتينية، وكيف أن الزعيمين الثوريين كانا يتنافسان في هواية الطبخ وتطريز الملابس، الزعيم الكوبي بالنسبة لأزياء جنوده العسكرية والقس الثائر بالنسبة لأزياء كنيسته وأحباره!. وفي نفس المنحى أشارت لي طبيبة نسائية شهيرة في أمراض النساء والولادة، بأن تلقيها لحصص التطريز والخياطة سنوات دراستها وهي طفلة في المرحلة الأولية بكلية المعلمات بأم درمان أفادها كثيراً في مهنة الطب، حيث هي الآن ضمن أكثر الأطباء براعة في الخياطة عند الولادة القيصرية في غرف العمليات!.
تواصل الخالة سعدية حديثها عن أزياء المتصوفة فتوضح دلالات غطاء الرأس لكافة شعوب السودان، مشيرة لدراسة قيد النشر أعدتها الباحثة أماني عبد الجليل وتعكف سعدية على وضع مقدمة لتلك المخطوطة التي تناولت موضوع غطاء الرأس في السودان ودلالاته لدى جميع السكان والمجموعات والأشخاص رجالاً ونساءاً وأطفالاً، وحول جزئية أزياء المتصوفة أبانت سعدية من مواقع تخصصها، مساهمتها في استنساخ أزياء فترة المهدية من المقتنيات المحفوظة في متحف بيت الخليفة، والتي نجحت في إنجاز تصميمها خوفاً عليها من الضياع، والتي ضاع بعضها بالفعل من بين تلك المقتنيات ببيت الخليفة! وفي هذا الشأن تناولت دردشتنا ما لحق متحف البيت نفسه من إهمال وضياع كثير من مقتنياته، فقد شهدت فترتي الحكم في كل من مايو ويونيو ضرراً بليغاً لحق بالكثير من القطع الأثرية النادرة، حيث تتناول أحاديث المدينة التي لا تعرف الأسرار، توزيع كثير من تلك المقتنيات كهدايا لأمراء وشيوخ الخليج فضلاً عن ضيوف البلاد المتعددين!، وقد أشار لنا شيخنا الصلحي بتهكم مرير ما كان شاهد عيان عليه إبان فترة تبوءه لمنصب وكيل وزارة الثقافة والاعلام سنوات مايو، حيث علم بتوجيه صادر لإهداء الرئيس اليوغندي الأسبق عيدي أمين بعضاً من قطع أثرية نادرة من مقتنيات متحف السودان، فأوقف الصلحي الاجراء ووجه بإعادة المقتنيات إلى مكانها، ولكن توجيهاً آخر صدر من عمر الحاج موسى وزير الثقافة وقتها بنسخ توجيه الوكيل ومنح الرئيس اليوغندي تلك القطع الأثرية، دون أي مسوق يسمح بذلك، وفي الشأن استحضرت لهم تلك المعلومات التي أوردتها مجلة روز اليوسف المصرية في بدايات إنقلاب الانقاذ، حيث اعتقلت السلطات المصرية أحد المطلوبين من الجماعات الاسلامية في الحدود بين السودان ومصر التي وصلها متسللاً، وكان في معية (سيادته) كمية من بدرة الهيروين إضافة لبندقية أثرية نادرة الطراز أشارت المجلة إلى أنها ربما كانت ضمن مقتنيات أحد المتاحف الأثرية في السودان!.
في تلك الجلسة الصباحية التي زرت فيها الصلحي وسعدية شقيقته، تفرعت فيها الونسة والدردشة حتى أنستني مواعيدي اللاحقة، عرفتني الخالة سعدية بتاريخ المنزل والغرف التي شهدت ولادة الأشقاء والشقيقات، وخلوة والدها التي أقامها بركن من المنزل وما تزال بقاياها موجودة، وتحدث الصلحي بمسرة عن الأسرة وعن جدهم حمد حامد جبر الله والد أمهم الذي أشار إلى أنه هو من ساهم في الدعم المعيشي لجيش المهدي بمؤونة الذرة طيلة فترة حروبه واستقراره بأم درمان بعد انتصاره وقبل مماته، وهي المعلومة التي قال الصلحي أنه لم يشر إليها أي من كتبة التأريخ عدا عصمت زلفو في كتابه الشهير (كرري) ونعوم شقير في كتابه عن جغرافية وتأريخ السودان والموسوم بالغرض والتشويه من قبل البعض، خلافاً لوجهة نظر كل من الصلحي وشقيقته بأن شقيراً كان الأكثر أمانة، إذا ما قورن بمن حاولو ويحاولون (من بين الوطنيين السودانيين) – وما يزالون – تشويه معالم تأريخ البلاد!. تقول سعدية أن جدهم هذا كان قد سكن منطقة الفتيحاب القديمة ناحية البحر، جدوده هما كل من الشيخين حمد وخوجلي بمنطقة الخرطوم بحري الحالية، وله من الأبناء 17 ولداً و22 بنتاً، رحلوا جميعهم ولم يتبق منهم سوى بنت واحدة تسكن حالياً منطقة الفتيحاب مع أبنائها وبناتها، ومن أبنائه أيضاً عابدين الذي سميت عليه محطة عابدين الحالية بشارع الأربعين!.
وهكذا رصدت جلستنا تلك كثيراً من مظاهر الإهمال الذي لحق بالكثير من إرث البلاد وآثارها، رصدنا مثلاً إختفاء كثير من اللوحات التي تصور معركة كرري داخل متحف بيت الخليفة، ومظاهر الإهمال التي حولت البيت طيلة أيام المولد لثكنة عسكرية لدوريات الشرطة المنظمة لأيام المولد!، بدلاً عن الإستفادة من سانحة أيام المولد وتكاثر رواده لفتح المتحف ليلاً في سبيل تنشيط ثقافة زيارة المتاحف وحض الناس عليها!، ومن مظاهر الإهمال والتعدي الأخرى على المباني والآثار التأريخية، تلك الفظاظة التي تم بها إنتهاك صريح لقوانين مصلحة الآثار – حتى دولياً – والقاضية بمنع مس أي مرفق تأريخي تجاوز عمره المائة عام، حيث قامت جرارات الأشغال العامة سنوات النميري ومايو ودون أي سبب أو مسوق موضوعي بهدم السور التأريخي العتيق لحوش الخليفة كأكبر جامع في أفريقيا، ولم يتبق من أثره الخالد سوى عبقرية المهندس القدير عثمان الخير الذي تحايل على السلطات وقتها وبما له من بعض مسؤوليات في الاشراف على الهدم، والتي إستطاع أن ينقذ بها الجانب الجنوبي من سور الجامع فقط!، فضلاً عن التهديد المستمر من قبل تجار الرأسمالية الطفيلية المتأسلمة ومحاولاتهم للإستثمار في الحوش بواسطة الإستحواز على أرض الجامع إن وجدوا إلى ذلك طريقاً، في سبيل الإستفادة منها كعقارات وعمارات و(مولات) وخلافه!، ومن مظاهر التشويه الأخرى الفتك الذي لحق بمعالم أم درمان كمدينة تأريخية، حين إمتدت أيادي التخريب لتلحق بأحد أسواقها التأريخية القديمة في نواحي حي الشجرة، عندما تفتقت عبقرية أحدهم لتحويل سوق حي الشجرة العتيق إلى (موول) وحدث بلا حرج!، كما لحق التشويه معالم زنكي سوق النساء بسوق أم درمان والمشيد منذ ما بعد الفترة المهدية بقليل في محاولة من السلطات الاستعمارية لاتاحة الفرصة للنساء لتوفير سبل كسب عيشهم لأسرهم في أعقاب كارثة الإبادة البشرية التي لحقت بالثوار المهدويين في كرري وتضاؤل النسبة المئوية للرجال في مقابل نسبة عدد النساء في تلك الحقبة!. كما وطال التخريب أيضاً مسجد أم درمان العتيق، ذلك الأثر التاريخي الذي ضم المعهد العلمي ودرس به فحول العلماء والمشائخ الذين كان أبرزهم الشاعر الكبير التيجاني يوسف بشير، فلم يتركوا ولو معلم صغير يدلل على تاريخية ذلك المسجد، فأقاموا في مكانه صرحاً آخر يحمل ملامح العمارة الايرانية بأكثر منه مبنى يحمل عبق المدينة الوطنية التاريخية. وبذا دكوا عبق التاريخ وهدموا صرح ماضي المسجد التليد، وصادروا حتى صوت المنشد الديني البديع السماني أحمد عالم فيه، والذي كانت الريح تحمل صدى إنشاده المتردد:-
يا راحلين إلى منى هيجتمو بالرحيل … فؤادي!.
يا ترى هل يدخل ذلك ضمن المحاولات الخبيثة لتدمير الذاكرة الجمعية والتاريخية لمعالم مدينة أم درمان؟!، نسوق الاتهام للاحساس بمدى مقت بعض من هؤلاء للمدينة العريقة وكراهيتهم لها، عندما فضحتهم مباهاتهم التي صرحوا فيها معلنين مرة بفرحة، أن النظام الحالي لا يضم في قيادته أي أحد من أبناء أو بنات أم درمان!. فهل تجنينا على أحد ونحن نشير بأصابع الاتهام إلى أن أم درمان مستهدفة عند هؤلاء الذين لا يعلم الناس بحق وحقيقة من أين جاؤوا؟!.
وضمن مظاهر الاهمال الأخرى لآثار البلاد تجدها في عدم العناية بالجهود المبذولة في جمع التراث وتوثيقه، حيث أن جهداً مخلصاً من قبل الممثل المسرحي القدير إبراهيم حجازي الجامع لتراث أم درمان الشعبي بجهد يفوق جهد الوزارات ومؤسسات التوثيق، تراه يشتكي لطوب الأرض من أجل أن يُمنح ولو مقر صغير بطرف أي من المقار الحكومية، فيدفعونه لكي يتملق المسؤولين حتى يستعطفوا عليه ويمنحونه مكاناً لعرض مقتنياته الشعبية التي جمعها ليوثق للثقافة الشعبية وتراث مدينة أم درمان!”.
بينما أنا أتجاذب أطراف الحديث في ذك البيت العتيق مع سعدية وشقيقها، وقع نظري على سيف عجيب كان معلقاً على الحائط في الغرفة العتيقة، لم يكن السيف هو الوحيد البارز في تلك الغرفة، كانت بجانبه لوحات تشكيلية بديعة لهما معاً – الصلحي وسعدية – إلى جانب شهادات تقديرية إضافة لأخريات من بيئة الموروث الشعبي السوداني، ولكن كان ذك السيف العجيب هو أكثر ما أثار انتباهي لفرادته، عندما لاحظت سعدية انبهاري به، أوضحت تقول لي أنها تحصلت عليه من أحد المحال التجارية التي تبيع (التاريخ) بسوق أم درمان وقد تحصلت عليه بشق الأنفس نتيجة لغلاء ثمنه وطمع بائعه.
أبانت سعدية بأن للسيف خاصية الانثناء من مفصل المقبض وحتى لسانه اللاسع، تماماً كالعرجون، أو قل كالفتاة اللدنة في رقصها البديع بالسباتة!، وللسيف ملحقات على جنباته هي عبارة عن جفائر لأكثر من سكين وشوتال، والسيف المصقول نفسه يحفظ في جلد سميك نسيت أن أسأل سعدية عن نوعيته، ربما نوع نادر من جلد حيوان ما يتميز بخاصية الحفاظ على متانته ومظهره معاً!، تصمت الخالة سعدية لبرهة ثم لا تلبث وأن ترفع رأسها رويداً لتفصح لي – وهي ترصد وقع المفاجأة على وجهي – عن إسم مالك السيف، قالت أنه يعود في الأصل للمك عدلان، الابن الأكبر للمك نمر!، ودليلها لدحض أي حجة هي تلك القصيدة المنقوشة على أحد أطرافه، والتي تشير لمالكة الذي ضربه الجدري وكان سبباً في مماتة، وتعود القصيدة الشهيرة لشقيقته بنونة بت المك في رثائها له عندما ناحت تقول”
ماهو الفافنوس ماهو الغليد البوص
ود المك عريس خيلا بجن عركوس
أحيّ علي سيفه البحد الروس
ما دايرالك الميته أم رمادا شح
دايراك يوم لقى بدميك تتوشّح
الميت مسولب والعجاج يكتح
أحيّ علي سيفه البسوي التح ،،،”!.
والرماد الشح هو ذاك النوع الذي ينثر على التقرحات التي تنجم من جروح مرض الجدري لتبرأ!. وأوردت الأخبار بأن المك عدلان الابن الأكبر لمك الجعليين كان بالفعل قد أصيب بمرض الجدري أخطر أمراض ذلك الزمان، وكان سبباً أساسياً في الفتك بحياة ذاك الفارس المغوار الذي تمنت شقيقته بنونة له الموت في ساحات الوغى بدلاً عن ميتة الجدري ذات القروح المتعفنة!.
قالت سعدية أن شيخاً خليجياً رأي السيف معروضاً ضمن معرض شعبي سوداني شاركت به في إحدى تلك الدول، فقبع يساومها من أجل أن تبيعه له وهو يقول لها كلما التقاها في ردهات المعرض أو توقف مرة وإثنتين أمام ذاك السيف العجيب ” كم تبغين يا حرمة”، وتوضح كيف ضاقت به ذرعاً فقالت له ” أبغي 2 ميليار دولار ،، يا رجال ” فغاب عن وجهها!.
التفت سائلاً الصلحي عن انطباعات القراء حول مذكراته القيمة والتي صدرت في كتاب بعنوان (قبضة تراب)، فقال لي بطريقته المتواضعة المحببة ،أن وصيته لناس دال كطابعين وناشرين للكتاب:- ( قدر ما تقدروا وفروا الكتاب حقي للناس لأنو كتيرين والله البسألوني عنو)!.
حلفاني ثم خصماني أثناء تقديمهما لي حتى باب الحوش بالمكوث لتناول الافطار معهما، إلا أني اعتذرت بلطف، نسبة لمواعيد سابقة في انتظاري، ولكن وبينما أنا خارج باب المنزل أهم بالمغادرة، فإذا بي أسمع سعدية من خلفي تصرح:- (غايتو زي ما قلت ليك قبيل ،فطورنا على أية حال عبارة عن ملاح شرموط أبيض بسمنة بلدية مع كوًل وكسرة بايتة)! ،، وإن هي إلا دقائق معدودات حتى عدت أدراجي أثنائها من الشارع مسرعاً، ودون تردد دلفت لبيت الجاك!.

hassanelgizuli45@gmail.com

 

آراء