كان الخبر فاجعة وأنا أتصفح هذا الوسيط اللعين "الواتساب"، إذ وقعت عيني على رسالة من الأخت آمال طلسم، تُعزيني فيها في وفاة صديق العمر المشترك الفنان يحيى الحاج إبراهيم، فضاقت بي الدنيا وسرى صقيع كندا في عروقي. لم أسمع صوته الخافت منذ أكثر من شهرين، وفي فجر الأربعاء، 12 ديسمبر 2018، قبل أن تزف إلى امال بساعات نبأ رحيله، وما أن وضعت راسي على الوسادة، استعداد لنوم بطبعه متقطع، وإلا أن خطر ببالي بقوة وتبدّى في طيف خيالي صديق عمري يحيى الحاج إبراهيم فوبخت نفسي وتمتمت عازماً على الاتصال به بعد الظهر، وما كنت ادري أنه حينها قد فارق دنيانا.
فاضت عيناي بغزارة وانقطعت انفاسي لبرهة وكدت أشرق من الدموع المتدفقة، عاجزا عن حبسها. وجدت نفسي في نوبة بكاء حار متشنج وأنا أردد بصوت مرتفع، وأنا لوحدي بالمنزل، "سوي الجبنة يا بنية..في ضل الدهوية..جبنة الرايقة". أغنية آدم شاش هذه، رحمه الله، التي كانت شعاراً ليحيى الحاج ومادته المفضلة التي كان يرددها علينا نحن المستمعون المتحلقون حوله من أصدقاء وصديقات الزمن الجميل ونحن في عمر الشباب . كنا "نتّريق" عليه، كما يقول المصريون، بأن يبدأ بها الجلسة طالما هي لا ريب آتية. كان يحيى يؤدي الأغنية بإحساس عالٍ ننجذب إليها كالمتصوفين، وربما كنا كذلك، قبل أكثر من أربعين عاما مضت! وكان يحيى يؤدِّي الأغنية على طريقته ولا يقلد الفنان شاش، برغم مهارته المعروفة في التقليد لكل الفنانين والشخصيات العامة، وكان يستهوينا عرضه الكوميدي الممزوج بالدراما. فكنا لا نطرب فحسب، بل نحسب أنفسنا في مسرح يعتلي يحيى خشبته فيمتلك دواخلنا ويتملّكنا الضحك ويشيع الفرح والبهجة وسط الحضور
تعرفت على يحيى في منتصف السبعينات من القرن الماضي، أثناء عملي المؤقت بمصلحة الثقافة قبل تعييني مساعداً للتدريس بكلية الدراسات الإقتصادية والاجتماعية بجامعة الخرطوم، وأنا أعد للسفر إلى إنجلترا لتحضير درجة الدكتوراة في علم الاجتماع، مبعوثا من الجامعة تزامن ذلك مع مغادرة يحي إلى المملكة المتحدة، في بعثة حكومية، من وزارة الإعلام والثقافة، للدراسات العليا في المسرح بأكاديمية "يست ففتين" في لندن. ومنذ ذلك الحين عشق يحيى لندن وذاب في غرامها، ولم ينقطع عنها أبدا، حتى بعد إكمال دراسته وعودته السودان في 1978, فكان يزورها كل ما وفّر مبلغاً يغطي تكاليف الرحلة، ولو لإسبوع واحد. لن أنسى أول احتفال برأس السنة الميلادية نشهده في "ترافلقر سكوير" المكان المشهور باحتضان هذا الحفل المحتشد بالآلاف من كل صنف ونوع من البشر. كنت في معيّة يحيى والصديق النسيب هاشم صديق، حتى منتصف الليل، وحينما أطفئت أنوار الميدان، وأسدل الستار على عام انقضى، اختلط الحابل بالنابل فرحاً وأملاً في سنة قادمة احلى وانعم! وما إن عادت الإضاءة وإذ بيحيى يرقص فرحا ويكاد يطير من الفرح، وأنا وهاشم في دائرة جاذبيته وهو ممسك بأيدينا، ويردِّد مقاطع من أغنية للكاشف كان مغرماً بها، وبأعلى صوته، حيث لم يكترث له أحد في الميدان المشحون بحب الحياة في تلك اللحظات الفاصلة بين عام مضى وآخر يطل. كان يحيى يغني على مزاجه.. ونحن جلسنا مكان نزلنا...وقولنا بمن عزلنا...نحنا هنا انعزلنا. ونعود أدراجنا لمكان إقامتنا. مستدعيا ذاكرته، قال لي هاشم صديق، عندما التقيته في الدوحة بعد قرابة الأربعة عقود من ذلك التاريخ، سبتمبر 2012, أن "ما قمتما به انت ويحيى في عشية رأس السنة تلك لم يسبقكما عليه أحد!"
كنت انا وصديق عمري المرحوم عاطف صغيرون وهو إبن عمتي، نحضر عادة إلى لندن في نهاية عطلة الأسبوع، من مدينتي "هلْ" و "كاردف" على التوالي، وكان يحضر معنا معاوية حامد شداد، لزيارة المرحوم محمود ابراهيم (ساتي) الذي كان قد جاء إلى لندن لعملية زراعة الكلى، وفي معيته نفر من أسرته وأهله. وكان يحيى قد تعرّف بهم، فأحبوه واحبهم من أول لحظة. كان ساخراً بطبعه، لماحاً وسريع البديهة والنكتة حاضرة على لسانه. كان المرحوم عاطف صغيرون، الذي لا يفارق الغليون فمه، ودائما في قمة الأناقة ببدلته الكاملة وقوامه الضخم، يحكي لنا كيف أنه يدخل المستشفى، ولو مخالفا لمواعيد الزيارة المحددة ولا يجرؤ أحد على توقيفه. رد يحيى سريعا "طبعا يا عاطف عشان هيئتك وهيبتك وكمان شكلك مقنع"، فابتسم عاطف ابتسامة عريضة، كاد معها الكدوس أن يفلت من فمه. ولكن يحيى لم يدع له فرصة لاستدامة سروره من الإطراء، فتمتم بصوت مسموع "اقصد مُضَلِّلٌ يا عاطف"، فاضطر عاطف لإمساك الكدوس بيده ليضحك دون قيود، فكدنا كلنا أن نموت من الضحك، ومن ثم لم نقف عن رواية النكتة لكل الأصدقاء والصحاب، فانتشرت القصة وسط الأصدقاء بدون فيس بوك أو واتساب! كانت الوفود تترى من الخرطوم ولا يمر أسبوع حتى ويأتي فوج من الأقارب والأصدقاء. وكل ما نأتي نكتشف أن يحيى قد كثف علاقاته مع جميع أفراد آل ساتي وأسرهم، خاصة وهو يعيش في شرق لندن ويمكنه أن يزورهم مرات أكثر. فتوثقت علاقات يحيى مع الجميع، كبيرهم وصغيرهم، ووسّع دائرة معارفه، وأكاد أجزم أن يحيى استمر في صلاته بهم مهنئاً ومعزياً، كما تُملي المناسبة، حتى خلال فترة اغترابه الطويلة.
كانت ليحيى ذاكرة فوتوغرافية، يحفظ الأحداث بتفاصيلها الدقيقة، كما أن قلبه كبير لا يسقط أحد في الطريق، أو يكسر بخاطر. وبالرغم من اغترابه الطويل لاحقاً إلا أنه كان دائما حاضر لا يغيب عن مشهد فرح أو كره إن جاء زائرا إلى البلاد، وهو الذي يحتفظ بنوتة صغيرة الحجم يسجل فيها، بخط تصعب قراءته خاصة إن تبللت الأوراق بعرق أو ماء، أرقام تلفونات معارفه وأهله وأصدقائه ويتصل بهم مباركاً أو معزياً أو مواسياً. فلم يكن الانقطاع عن الصحاب والأهل وارداً في قاموس يحيى الحاج.
ويحيى في غرامه بلندن، جاءت الاخبار من الخرطوم بما لا تشتهي سفنه. فلم يكد عامه الثاني ينقضي، من جملة ثلاث سنوات، حتى قرر نظام نميري إيقاف البعثات الحكومية، مطالباً المبتعثين بالعودة الى البلاد. غضب يحيى وجزع وأوجعه القرار الظالم في حقه هو الذي لم يعرف عنه التحزُّب أو الإنشغال بأمور السياسة. لم أرَ يحيى، طوال عشرتي الطويلة معه، مقهوراً وبهذه الكآبة والغبن والحزن العميق. لم نتركه وحيداً بل وقف بجانبه كل الأصدقاء، القريب منهم والبعيد، وتضامنت معه الأكاديمية ودعمه زملاؤه. استعاد يحيى تماسكه وقرر الإقامة في لندن حتى يكمل دراسته، فانخرط في أشغال شاقه متعددة، أذكر منها العمل المنتظم في نظافة مستشفى من سبعة طوابق في شرق لندن. وهذا هدف أفلح يحيى بعزيمة وشكيمة في تحقيقه، فحصل على الشهادة المطلوبة بتقدير عالٍ. كنا كما يقول السودانيون "نفلق ونداوي"، تارة نتهكّم من جزعه واحباطه، وتارة أخرى نشجعه ونرفع من معنوياته فنستدعي أغنية "بوب مارلي" الذائعة في ذلك الحين "ستاند أب فور يور رايتس..قت أب دونت قف أب ذا فايت"، حتى استعاد يحيى توازنه فتخطى خوف الوجع وبقي الصمود!
عاد يحيى الى الخرطوم في منتصف عام 1978, وكانت قد تبقّت لي بضع شهور من العودة إلى إنجلترا بعد أن أكملت العمل الميداني أحد مطلوبات نيل الدكتوراه. كانت لنا "شلّة" من الأصدقاء والصديقات من المنتسبين لمعهد الموسيقى والمسرح، الكائن آنذاك بشارع 59 امتداد العمارات. على رأسهم الشقيقات هادية وآمال وحياة طلسم، الدرديري محمد الشيخ، زينب الحويرص، سمية عبد اللطيف، والمرحومة عفاف الصادق وزوجة يحي فيما بعد المرحومة منى عبد اللطيفوعثمان جمال الدين وحسين جمال وآخرين. كنا نخرج في رحلات نهارية على ضفة النيل الأزرق ، ونجلس تحت ظلال الأشجار الوريفة يتوسطنا يحيى الذي كان يقود دفة الحديث، ونحن نطلب منه أن يروي لنا نكاته وقصصه الطريفة واسكتشاته المسرحية المدرِّرة للضحك! وفي مرة، دعانا يحي إلى وليمة سمك بلطي وعد بجلبه بنفسه من محلات "السبكي" المعروفة في سوق الموردة بامدرمان. أوفي يحي بوعده وفي مواعيده وعاد لنا بعدد وافر من البلطي وبروح مسرحية كوميدية روي لنا ما دار بينه وبين بائع السمك. فقد ارتفع ثمن قطعة البلطي متوسطة الحجم حينئذ إلي جنيه كامل (تخيل المنظر مقارنة بسعر السمكة الآن، كم بلغ سعرها يا ترى!)، فلم يتعثر يحيى، في إيجاد الرد المناسب، فقال له "انتو السمك ده بتشتروا ليه علِّيقة؟". والعلِّيقة هي ما يقدم للدابة من طعام وغذاء للحصول على إنتاج في شكل عمل أو لحم أو بيض أو حليب، مما لا ينطبق على السمك السابح في الماء!
وفي غضون تلك الأيام طرأ تغييران جوهريان وانتقالان أساسيان في حياة يحيى الحاج. أول التحولات أن يحيى أضحى يمتلك عربة موريس برتقالية اللون، موديل 1970، اللون بلغ عمرها حينئذ ثمان سنوات. ليس ذلك فحسب، بل تعلّم فيها قيادة السيارة فيحيى لم يمسك ب "دركسون" في حياته قبل امتلاكه لتلك المورس سيئة السمعة، التي ألحقها بها يحيى من جراء حوادثه الكثيرة، وخبطه للثابت والمتحرك. فما كان العربة من مفر غير التنقل طوال الأسبوع من صديق يحيى إسحق المكانيكي بسوق نمرة 2 إلى عبد الرحمن يونس الكهربجي، صديقي أنا، في المنطقة الصناعية المجاورة لحي باريس. حقا، كانت "موريس" يحيى مشهورة في المنطقة فهي دوما تعاني من الاعطال ونعاني نحن معها. في مرة طلب يحي من عبد الرحمن أن يغير له زيت العربة، بعد أن اشتراه من عم يونس، فقال له عبد الرحمن "يا استاذ يحيى عربيتك دي مش عاوزة تغيير زيت دي عايزة تغيير مكنة"! وللمفارقة، فمن حرص يحيى الشديد ودقته في ترتيب الامور، اشترى طوقاً حديدياً يربط به عجلة القيادة مع دواسة الفرامل، مبرراً ذلك بالخوف من السرقة، بالرغم من أنه احتمال ضعيف التحقق، إن لم يكن مستحيلاً، أن يورط "حرامي" سياراتنفسه بسرقة عربة لها مثل تلك الشهرة، والتى حتماً ستقوده سائقها الى الميكانيكي اسحق أو عبد الرحمن فينكشف أمره في الحاتين!
أما الإنتقال النوعي الثاني في حياة يحيى، تمثّل في وقوعه في شراك الحب الطاهر النبيل، وتعلقه الشديد بالممثلة منى عبد اللطيف. ولاشك عندي أن حب يحيى الصادق لها لا يقل عن حب قيس إن لم يتفوق عليه! كل "الشلة" شهود على رقة قلبه وقرب الدمع لعينه. وقد وافقت "منى" على الزواج من يحي بعد ممانعة طال أمدها، بسبب أنه كانت له زوجة أخرى، وكان زواجهما ميموناً في عام 1979 وقد أثمر محمد واسراء، وكانت لهما أسرة متماسكة تحفها المحبة وتحيطها المودة.. وكنت حينها قد عدت إلى إنجلترا لتكملة الدراسة ولم أحضر حفل الزفاف. ومع ذلك، تشرّفت بلقاء العرسان في مدينة "هلْ" جنوب شرق انجلترا، بمنزلي المشترك مع أسرة ماليزية. وللمفارقة، كان المنزل يقع قبالة حديقة "سبرنق بانك ويست" التى كانت مسرحاً لاغتصاب سوداني مهاجر لفتاة قبل أشهر خلت من ذلك التاريخ. ففي ليلة من ليالي يونيو 1979, فوجئت بسماع نقر على شباك غرفتي المقابلة للشارع الرئيس في وقت متأخر من الليل، فقد كان يحيى على علم بموقع مسكني، ففتحت الباب ورأيت عربتين من تاكسي إنجلترا الاسود يقفان على جانب الطريق. وفوجئت أكثر بعد اكتشافي أن القادمين بالتكاسي من محطة القطار هم: العريس يحيى والعروس منى، وفي صحبتهما هادية وآمال وحياة طلسم، والدرديري محمد الشيخ، عازف البيز جيتار البارع حينها. كانت لمّة ما منظور مثيلها. وكانت زينب البكري - زوجتي لاحقاً -من المضيفين ولأول مرة تلتقي يحيى الحاج ومن بعد لم ينقطع يحيى الحاج عن أسرتي في الخرطوم والقاهرة والشارقة. ساعة خبر الوفاة كانت زينب في طريقها من المطار إلى البيت، فبكينا سويا بمرارة على الهاتف وحين وصولها البيت، كما لم نبك في حياتنا!
قضى يحيى ومنى اياماً جميلة فى رحلة شهر العسل في انجلترا، اضحكنا شريكا الزواج الجدد حتى بانت نواجذنا في مشاكسات درامية-كوميدية عديدة كانت تدور بينهما. فعلى سبيل المثال، كان لهما "باسبورت" مشترك إذ أضاف يحيى زوجته منى إلى جواز سفره. فكانت زوجته تداعبه وتقول "يا يحيى من فضلك ما تقول جوازي، قول جوازنا". وكان يحيى يجاريها على نفس طول الموجة، فيمازحها بصوت خفيض، مثلا، "بدلتتا وين وقميصنا وين وجزلانا وين!"
كان يحيى الإنسان يحب الناس،، وللأطفال، على وجه الخصوص في قلبه مكانة محجوزة. لم يكن ليحيى في حاجة للتصنُّع في معاملاته مع الأطفال، فيحيى يحمل قلب طفل ولو طفل كبير السن والمقام. ومن ذلك أذكر أنه في عام 2003، جاء يحيى إلى القاهرة لزيارتي أنا والأسرة، وبحضور المرحوم بشير البكري والمرحومة عواطف ابو العلا وبناتهما واحفادهما بما فيهم ابني محمد وبنتي راوية، كان الجميع يتطلع إلى حضوره فيحتفوا به ويستمعوا إلى حكاويه ورواياته. دعا الأولاد والبنات إلى وليمة غداء فى مطعم للمأكولات البحرية، ودعا معهم *الأطرش* الذي كان يعمل "سايس" يوفر مكان الانتظار لسائقي العربات في شارع 9 المعادي. الأطرش رجل فاضل وخدوم وذو همة عاليه، احبه كل أفراد الأسرة، خاصة الأطفال. دخل الأطرش قلب يحيى فأحبه أيضا واضحى يذهب للتحية والسلام عليه كلما جاءت به الأقدار إلى القاهرة، وآخرها في مايو 2018. كاد "الأطرش" أن ينطق من سعادة غمرته في لحظات هنية قد لا تتوفر له وهو يكابد ضنك الحياة. الآن راوية ومحمد في سن الشباب ولكن ما زال يحيى عالق في ذاكرتهما فقد حزنا على فراقه وعزيّاني بحرارة.
بعد أن أرهقته العربة "الموريس" وأعيته ظروف العيش القاسية وهو في بداية حياة جديدة، ويسكن بالإيجار في منزل من غرفة واحدة، وقد زادت أعباؤه الأسرية، قرر يحي السفر بحثا عن الرزق في الإمارات العربية المتحدة. كان ذلك في أواخر النصف الثاني من عام 1980، بينما عدت أنا من إنجلترا في يوليو من نفس العام، فالتقينا لبضعة أشهر. ومع ذلك دام تواصلنا إذ كان يحيى يأتي للسودان بانتظام حتى مغادرتي البلاد في النصف الأول من عام 1990، متنقلا بين القاهرة وأديس أبابا. وبعد استقرارنا في أبيدجان، كوت دي فوار، في 1991 اقتصر تواصلنا على الاتصال بالهاتف.
ومن حسن الطالع، شاءت الأقدار أن أسافر من القاهرة إلى أبوظبي في النصف الأخير من عام 1998 في مهمة رسمية وفي استضافة الصديق العزيز الهادي الرشيد دياب، انتهزت الفرصة وطلبت منه، وكنت قد رتبت أمر اللقاء مع يحيى في دبي، أن يقلّني اليه، وقد حدث والتقيت بيحيى بعد طول سنين. وكعادته، عرفته بالهادي فواصل معه علاقة الصحبة السمحة ومن بعد ذلك تواصلت لقاءاتنا في الشارقة وفي القاهرة بين 2002 و2018.
بعد فقد يحي لشريكة حياته ورفيقة دربه لأكثر من أربعة عقود منى عبداللطيف، في أواخر عام 2016, الحيت عليه بإصرار أن يأتي إلينا في القاهرة، التي التقي فيها سنويا بالأهل والأصدقاء والصحاب. وسعدت عندما وافق يحيى على الحضور من دبي ليقضي معنا اسبوعاً في أبريل 2017. وقد كانت الزيارة و"اللمّة" مع أناس عزاز، ممن تعرف يحيى على اغلبهم خلال فترة صداقتنا الممتدة، بمثابة ترياق مضاد لاحزان الفراق والفقد. ثم عاود يحيى زيارته القصيرة لنا في القاهرة في مطلع مايو 2018، لمدة خمسة أيام فقط، وكان ذلك آخر لقاء لنا. وبالرغم من أن يحيى كان يبدو مرهقاً، بسبب مضاعفات السكر وكان يعاني من ضعف في عضلة القلب، إلا أنه أمتع الحضور بمحاكاته واسكتشاته الكوميدية المنتقاة من أعماله المسرحية، خاصة دوره في تمثيل شخصية "آدم" في مسرحية خطوبة سهير للكاتب حمدناالله عبدالقادر أمام الممثل القدير مكي سنادة. فضحكنا كما لم نضحك من قبل، وكادت ان "تتقطع المصارين". هكذا ودعنا يحيى وكان العشم أن نلتقي في نفس المواعيد والمكان في 2019، ولكن أقدار الله لا ترد، ولا ندري من يلتقي من في الموعد المضروب.
وقبل ساعات من مغادرته القاهرة إلى دبي، في 6 مايو الماضي، ودّعني يحيى بكلمات معدودات، ولو أنه استغرق زمنا مقدرا في كتابتها، كعادته في التدقيق والدقة، كتب يقول: " العزيز الغالي دكتور الواثق كمير، شكراً على اعدادك الممتاز والرصين للامسيات الجميلة ومحبتك لنا وانت تجمعنا في دارك العامرة. لك حبي وتقديري. اخوك/يحيى الحاج إبراهيم، القاهرة في 6/5/2018". كان هذا اهداء يحيى لكتابه الذي صدر في صدر عام 2018 تحت عنوان (الفن المسرحي من البدايات للنهايات، دراسات مسرحية، إصدارات دائرة الثقافة، حكومة الشارقة). هكذا كان يحيى الإنسان مكتمل الأركان، يجري الفن في عروقه. فقد ولد ليكون مبدعا وموهوبا فذّاً. فقد كان بفطرته وطبيعته درامي ("خِلقِي" كما يقول اهلنا الشوايقة) من الطراز الأول في حياته اليومية، وكذاك في مجال عمله المهني كممثل ومخرج مسرحي وإذاعي، وكأستاذ في التمثيل والإخراج، ومدرب للطلاب ومشرفا على الورش والبرامج التأهيلية المسرحية. كان يحيى خير معلم لأجيال من المسرحيين الخليجيين، وقدم يحيى العديد من الوجوه التمثيلية والإخراجية التي باتت من الأسماء المهمة اليوم. كان يحيى نجماً وعلماً وسط اقرانه في محيط المسرح والدراما وتاريخ الفنون في كل أنحاء العالم العربي. تم تكريم يحيى من قبل العديد من الجهات الحكومية والشعبية، وتوج لشخصية العام 2011 في مهرجان دبي لمسرح الشباب تقديراً لمساهماته الاستثنائية في تطوير الحركة المسرحية العربية واهتمامه بتدريب المواهب الشابة. وسيرته في هذا المضمار مبذولة على الإنترنت.
وفاء لما قدمه يحيى في مجال المسرح في دولة الإمارات، وتقديرا لإبداعه وتفوقه، وجه الشيخ سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، بتجديد عقد العمل الخاص به بعد أن بلغ الستين من العمر، ثم جدد مرة اخرى بعد أن وصل الخامسة والستين. وأخيرا، قبل شهرين فقط من الوفاة صمم له عقد عمل مفتوح بترتيبات تناسب سنه. لندع التكريم جانبا، فقد يكون مكلفا لمن لا يقدر إبداع يحيى الحاح، فنحن قوم نكرم زيد أو عبيد بمواصفات أخرى. ولكن، ما يفطر القلب ويبعث الغم والكآبة أن لا نسمع حتى نعيا رسميا من وزارة الإعلام والجهات المعنية بالمسرح والفنون والثقافة، إتحادية كانت أم ولائية، سوى كلمات مقتضبة من مسرح البقعة! حقيقة، أشعر بالخجل والحسرة!
العزاء لإسراء ومحمد، ولأخيه عيسى، ولأولاده وبناته الكبار ووالدتهم وكافة أهله بقرية الشريف يعقوب، شرق النيل الأزرق. فقد كان يحيى بارا بهم ولم ينقطع عنهم بسبب الاغتراب طويل الأجل بل كان حاضرا بينهم في أفراحهم وأتراحهم. والعزاء موصول لجميع أصدقاء يحيى ومعارفه وزملائه الأساتذة في السودان وفي الإمارات العربية المتحدة، وإلى طلابه وكل مبدع تدرب على يديه.
رحلت عنا يا يحيى، أيها الإنسان كامل الدسم الامين الصدوق الصديق الوفي الكريم المعطاء طيب المعشر. وداعا أخي وصديق عمري، رغم أنك تعيش فينا وبيننا، بسيرتك الحلوة العطرة، وأثرك الملحوظ على دنيانا وحياة كل من تلقى العلم والكلمة الجميلة منك، وسوي الجبنة يا بنية في ضل الدهوية..جبنة الرايقة!