يا طالع الشجرة … بقلم: زيغمار هيلِّيلسون .. ترجمة: د. مبارك مجذوب الشريف

 


 

 

 


نشر هذا المقال بعنوان ( اغاني الأطفال العربية)، في العدد الأول من مجلة السودان في رسائل ومدونات الصادر في عام 1918, وسنقدم اولا تعريفاً بكاتب المقال يليه ترجمة كاملة للنص، وأخيراً تعليق المترجم.
الكاتب
هو زيغمار هيلِّيلسون من أصل يهودي، وولد في برلين المانيا عام 1883، واصبح مواطناً بريطانياً عام 1908، وتوفي في العام 1960م. وكان واحدا من أميز موظفي الإدارة المدنية البريطانية في السودان من عام 1911 -1933 ومعظم مساهماته في مجالي التعليم والإدارة، ويمكن وصفه بكونه مستعرب ولغوي ومحاضر، وضابط مخابرات، ومذيع، وإداري وكاتب( )،وكان من المؤسسين لمجلة السودان في رسائل ومدونات ومن اول اعدادها في عام 1918، وعقب انتهاء خدمته في السودان عمل في القسم العربي للإذاعة البريطانية.
المقال
في الصفحات التالية نماذج للمأثورات الشعبية الخاصة بأغاني الاطفال في فترة عمرية مبكرة، ولا تحتاج هذه النماذج الا لكلمات تقديم وتعليق قليلة، وقد تم الحصول عليها من تلاميذ كلية غوردون، وهذه الترنيمات معروفة لكل شخص في هذا الجزء من القطر، واشعارها كما هو متوقع، ليست موحدة باي حال من الاحوال، فهي تأتي بعدة روايات، وليس من المجدي في هذه السانحة رصد الاختلافات بينها.
المادة المعروضة هنا غير وافية لحد كبير، وللحصول على تفاصيل اوفر بصورة افضل عن حياة الاطفال وعادات وتقاليد التنشئة كان يجب الوصول للعنصر النسائي باعتباره المرجع في هذا الشأن، وهو مرجع لن يكون متاحاً بسهولة لموظف حكومي محب للاستطلاع، وربما تجذب النماذج المقدمة في هذه الورقة انتباه مشاركين آخرين ليدلوا بدلوهم والقيام برفد الموضوع بنماذج اضافية من اجزاء القطر الأخرى.
يعرف طلاب الفولكور (المأثورات الشعبية) انه لا يوجد شيء يماثل في الانتشار ترنيمات الطفولة البسيطة والموزعة بصورة عالمية على نطاق الجنس البشري. ولا احد يدرى ان كان المصدر الاساسي لهذه الترنيمات هو الإرث المشترك بين الحضارات، او ان هذه القصص كانت تنتقل من قبيلة لأخرى، ولو كان الامر كذلك فالسؤال هو بأي وسيلة كانت تنتقل؟ ولكن الاجابة ليس شيئاً من السهل العثور عليه.
ويكفي القاء نظرة على النصوص العربية (السودانية) لهذه الترنيمات لنتبين انها ايضا منحدرة من الارث الحضاري المشترك، وهذه الترنيمات، مع وجود ظلال البيئة المحلية في الصورة، قريبة الشبه لحد كبير مع الترنيمات السائدة في اوروبا، والترنيمة الثالثة والرابعة بلا شك تنتمي لأكثر المجموعات اشتراكاً حيث أن النصوص الانجليزية المقابلة لها معروفة للجميع
ومن الجدير ذكره ان واحداً من اقدم النصوص المعروفة في هذا المجال جاء من الحضارات السامية في بلاد الشرق؛ ومن الآرامية تحديداً وهو قصة العنزة (خاد جدية)، والتي نجد صدى لها في طقوس عيد الفصح عند اليهود.
الترنيمة الأولى:
يا طالع الشجرة، هات لي معاك بقرة ، حلابة العشرة،
تحلب تعشيني، في معلقة صيني، المعلقة انكسرت، مين بعشيني،
روحت بيت الله، لقيت حبيب الله،
قاعدلو فوق بمبر، قدامو حمام اخضر، يطعملو في سكر
يا ريتني كان ضقتو، حتى النبي زرتو.
وهناك نص آخر للترنيمة هو:
قمرية (يا) دباسة، ام حلقن مواسا،
قال ليك الخليفة، صفي المريسة
في قرعة نضيفة، نشرب نقوقي
في حلة سلوقي
الترنيمة الثانية
الطير الخداري، اب ريشن بيراري
أفرَّك واطويكا، اشوف شبابي فيكا
شبابي نور الوادي، الاحمر وباضي
زغاوة حاربونا، وشدوا جمالن جونا
ضبحنا ليهم زرزور، زرزور ما كفاهم
كفاهم جودة الله، جودة الله يا اب قطية
حمارك يا رقية، رقية بت اهلنا
ام شعرنا متنى.
الترنيمة الثالثة.. لولابي.
دوهة يا دوهة
دوهة شال بيت مكة
جاب لي معاهو كعكة، الكعكة في المخزن
المخزن عايز مفتاح، المفتاح عند النجار
النجار عايز قدوم، القدوم عند الحداد
الحداد عاوز فلوس، الفلوس عند السلطان
السلطان عاوز عروس، العروس عايزة منديل
المنديل عند الجهال، الجهال عاوزين لبن
اللبن تحت البقرة، البقرة عايزة حشيش
الحشيش تحت الجبل، الجبل عايز مطر
يا رب تجيب المطر.
الترنيمة الرابعة
العنز التي رفضت العودة لبيتها
كان في غنمايتين، الصغيرة اسمها كريت
الكبيرة تمرق تأكل القش السمح وتخلي اختها ترمرم في الوساخات، بعدين كريت قالت لأختها الا تخليني امرق معاك، وقت مرقت ولقت الخدار السمح ابت ما ترجع البيت.
1. بعدين اختها كوركت: يا مرفعين يا مرفعين تعال اكل كريت، كريت مالها؟ ابت تنزل البيت. ابيت ما بأكل كريت
2. يا كلاب تعالوا انبحوا في المرفعين، المرفعين شن سوَ؟ ابى يأكل كريت، كريت شن سوت؟ ابت تمشي البيت
3. يا العصايا تعالي دقي الكلاب، الكلاب شن سوتَ؟ أبن يعضن المرفعين، المرفعين شن سوَ؟ ابي ياكل كريت، كريت شن سوت؟ ابت تشيل البيت.
4. النار تعالي اكلي العصايا، العصاية شن سوت؟ ابت ما تدق الكلاب ...الخ
5. الموية تعالي طفي النار، النار شن سوت؟ ابت تاكل العصايا.
6. الجمل تعال جرب الموية، الموية شن سوت؟ ابت تطفي النار.
7. الشوال تعال تقل الجمل، الجمل شن سوَ؟ ابى ما يشرب الموية.
8. الفار تعال قد الشوال، الشوال شن سوَ؟ ابى ما يحمل الجمل.
9. الكديس تعال اكل الفار.
الكديس قال بيأكل الفر.
الفار قال بيقد الشوال.
الشوال قال بيحمل الجمل.
الجمل قال بيشرب الموية.
الموية قالت بطفي النار.
النار قالت بأكل العصاية.
العصاية قالت بدق الكلاب.
الكلاب قالوا بينبحوا في المرفعين.
المرفعين قال بياكل كريت.
كريت رجعت البيت.
تعليق المترجم:
يبدو موضوع (ترنيمات الأطفال) وكأنه موضوع هامشي، ولكن تناوله من جانب النخبة البريطانية يدل على الحرفية العالية التي تميز بها هؤلاء الموظفون البريطانيون والذين كان اختيارهم للعمل في السودان يخضع لمعايير صارمة، وكانت النتائج هي رصدهم للشاردات والواردات كبيرها وصغيرها في مجالات مختلفة لأوجه الحياة في السودان، فسجلوا كثيراً من الملاحظات الدقيقة كانت ستضيع لولا جهدهم ومثابرتهم، فظهرت في كتبهم ومذكراتهم واستأثرت مجلة السودان في رسائل ومدونات بنصيب الاسد من هذه الملاحظات.
يفتح موضوع ترانيم الأطفال نافذة على منظر منسي، يمثل الينابيع الأولى التي تتكون منها شخصية الفرد وهو لا يزال في حضن أمه؛ وهي تغذيه ليس بحليبها فقط؛ ولكن بكلمات والحان عذبة تجعله يسافر بكل لطف لعالم الأحلام السعيدة فينام في اطمئنان.
قد لا يستوعب الصغير معنى ما تردده أمه وهو في تلك السن لكن الحانها وانغامها وكلماتها تسقط في اعماق عقله الباطن بصورة أو أخرى، فتصبح أرضاً خصبة لما سينغرس في ذهنه من افكار في المستقبل.
سجل هيلِّيلسون في مقاله ترنيمات لفئتين عمريتين، أحدهما صغيرة ترسل لها هذه الترانيم إشارات متفرقة. وسجل ترنيمات أخرى لفئة عمرية اكبر قليلا وصلت لمرحلة استيعاب معاني بعض الاشياء.
في الفئة الأولى تؤدى هذه الترنيمات مع الهدهدة وهي كما ذكر الخليل بن احمد في معجم العين: تحريكُ الأمّ ولدَها لينامَ، أما الفئة الثانية فلا شك انها تُنقل لها في شكل حكايات، لقد كتب هيلِّيلسون مقاله هذا عام 1918 أي قبل اكثر من مائة عام، ولا شك ان هذه الترنيمات التي رصدها كانت موجودة قبله بزمن لا احد يدري ما طوله، ويمكن ملاحظة ان أفكار أغاني الهدهدة؛ إن احتفظنا لها بالسبق التاريخي؛ كانت تتفهم نفسية الطفل، ربما قبل ظهور مناهج علم النفس الحديثة، وتتعمد عدم اغراقها بالتفاصيل، فهي كما ذكرنا تعطي اشارات متفرقة لمواضيع لا رابط بينها، وتحافظ بهذه الإشارات المتفرقة على اللحن، وهو الجزء المهم في الهدهدة خصوصاً حينما يكون صادراً من فم الأم.
في الترنيمة الأولى يا طالع الشجرة فسر هيلِّيلسون طلوع الشجرة بأنه يعنى الذهاب للغابة، وهو التفسير الذي يمكن ان يقدم للكبار بعيدا عن فكرة تسلق الشجرة ووجود بقرة فوقها. لكن من ناحية أخرى فإن فكرة وجود بقرة فوق شجرة بالنسبة للأطفال وعالمهم الخيالي لا تبدو فكرة سيئة، وهو ما نجده في افلام الكرتون الحديثة.
يمكن استنتاج البيئة المحلية التي عاشت في كنفها هذه الترنيمة من وجود بقر وغابة وهذا يشير إلى أنها ربما كانت في مناطق السافنا الغنية في كردفان وجنوبها. وتقدم باقي كلمات الترنيمة معضلة تجعل مسألة الركون إلى هذا الاستنتاج أمراً صعباً، فقد ورد فيها ذكر للملعقة وهذا يشير الى انها قد تكون جاءت من مصر، لأن الاكل بالملاعق في ذلك الوقت وتناول العشاء بالملعقة لم يكن ثقافة سودانية، بينما تُشير (لقيت حبيب الله قاعدلو فوق بمبر) إلى ثقافة سودانية، إذ لا يخلو بيت سوداني في ذلك الوقت بل والى وقت قريب من بمبر، ولا يبقى إلا افتراض أن للترنيمة هيكل لحني ثابت، ومحتوى لفظي متغير يتغير بحسب التطورات الاجتماعية، وبالتالي يجري تبديل الكلمات من حين لآخر لتستوعب المتغيرات. كما أن ذكر الملعقة ربما يُفسر من ناحية أخرى بكونه من باب الفأل الحسن للطفل أن ينو ويكبر ويصبح من الذين يتناولون طعامهم باستخدام الملاعق.
وفي الرواية الثانية لنص الترنيمة الاولى وهي قمرية (يا) دباسة، رصد لتلك الفترة التي كان فيها شرب المريسة من جانب الشيوخ ورجال الدين لا يُعد عيباً ولا من المنكرات،ً وفي الترنيمة أمر موجه للقمرية من الخليفة بأن تصفي المريسة. وان تختار قرعة نظيفة لكي تسود حالة من الانبساط والمرح في قرية سلوقي. وربما كان اسم هذه القرية مخترعاً املته القافية وأملته كلمة نقوقي وكان وجوده ضروري للتعبير عن الفكرة.
وفي الترنيمة الثانية يظهر الطير الخداري؛ وهو طائر اقرب للغراب في الشكل ولا علاقة لاسمه بلونه فهو متعدد الألوان، وهو طائر افتتن به السودانيون ويحتاج سر هذا الافتتان للتقصي، فبالإضافة لظهوره في هذه الهدهدة القديمة؛ استمر طائرنا في الظهور في اشعار اجيال من الشعراء على مدى عقود، ومن ذلك ما كتبه عبد الرحمن الريح:
متين يزورني حبي ومحياه يضوي داري ... أقول جلست مرة مع الطير الخداري
واسحق الحلنقي:
قول ليهو يا الطير الخداري
قول ليهو وحياة حبنا.
تظهر في هذه الترنيمة اشارة لقبيلة الزغاوة، ويبدو انها كانت في ذلك الوقت تخوض حرباً مع إحدى القبائل التي جاءت هذه الترنيمة من مناطقها فدخلت ضمن مفردات الترنيمة. والزرزور طائر معروف، اما جودة الله الذي ورد ذكره فهو طائر يسمى جودة الله ابو طاقية، وله منقار طويل يصطاد به السمك.
يُشير هيلِّيلسون إلى أن اصل الترنيمة الثالثة مصري وانها رغم ذلك معروفة بصورة جيدة في السودان، تبدو هذه الترنيمة اكثر منطقية في احداثها، ويبدو انها موجهة لأطفال تخطوا مرحلة المهد، فهي تشير لسلسلة من الاسباب والنتائج المترابطة منطقيا، وكل سبب يتحول لنتيجة ثم تتحول النتيجة لسبب وهكذا، وفي هذه الترنيمة صورة لمجتمع اكثر تطوراً ينتج الكعك وبه نجارين وحدادين وعملة ودولاب ومناديل. وتُختتم الهدهدة بالدعاء لله منزل الغيث والذي هو بيده الحل لكل مشاكل هذه السلسلة.
تنحو الترنيمة الرابعة نفس منحى الترنيمة السابقة في كونها موجهة لفئة عمرية اكبر وبها فكرة سلسلة الاسباب نفسها، فهي تتحدث عن العنز كريت التي رفضت العودة للبيت، فاستعانت اختها بالمرفعين لإجبارها على العودة، ولكنه رفض ان يأكلها، فطلبت من الكلاب ان تنبح في المرفعين فرفضت، وطلبت من العصا ان تضرب الكلاب فرضت، وطلبت من النار ان تأكل العصا فرفضت....الخ ووصلت الدراما الى قمتها برفض متتابع، ثم بدأت مرحلة الحل حين وافق الكديس على اكل الفار، مما أضطر الفأر لتهديد الشوال بقرضه، وانتهى الامر بعودة كريت لمنزلها.
هذه الترنيمة تبدو سودانية خالصة ففيها كريت اسم الماعز والكديس والمرفعين، وهي كلمات لا توجد في عامية عربية أخرى.

nakhla@hotmail.com

 

آراء