يظل حمدوك أقرب للعب دور الشخصية التاريخية

 


 

طاهر عمر
18 November, 2023

 

لفت إنتباهي خوف النخب السودانية من فكرة عقلنة الفكر و علمنة المجتمع و تجدها في كتابات أغلب النخب السودانية و هي تتحاشى الحديث عنهما بشتى الطرق لدرجة تحس فيها أن الكاتب يقر في دخيلة نفسه بالعلمانية إلا أنه يتحاشى إعلانها كلافتة تحتوي عمق كتاباته و يتفادى حتى الإعتراف بأن عقلنة الفكر و علمنة المجتمع قد أصبحت ممر إلزامي لمن يريد العبور الى عتبات الدولة الحديثة و إزدهارها المادي.
الغريب أن النخب السودانية تتوارث هذا الخوف اللا شعوري من فكرة عقلنة الفكر و علمنة المجتمع جيل بعد جيل و هذا هو سبب سقوطهم أمام الفكرة صف تلو الصف و لا يشابهه إلا سقوط ضحايا معركة كرري صف بعد صف و ما زال نداء النخب الفاشلة سد الفرقة يكرر نداء الأنصار لبعضهم بعض عندما يسقط منهم من أصابه الرصاص أي أحرص على الممانعة بعدم القبول بفكرة علقنة الفكر و علمنة المجتمع.
مثلا نجد أول حصون الممانعين لعقلنة الفكر و علمنة المجتمع هم الواقفون خلف علمانية محمد ابراهيم نقد المحابية للأديان و هي تكشف روح المجاورة و المساكنة و المصادقة على الفكر الديني وسط الشيوعيين السودانيين و بسببها يعجز الشيوعي السوداني عن إدراك أن ظاهرة المجتمع البشري في نزعتها الانسانية قد تجاوزت فكرة دولة الإرادة الإلهية.
وقوف الشيوعي السوداني في علمانية محمد ابراهيم نقد المحابية للأديان سببها سيطرة إلتباس كثير من المفاهيم في نظر الشيوعي السوداني و عجزه عن تجاوز الشيوعية التقليدية و عدم قدرته على إعادة إكتشاف غرامشي و أفكاره التي قد إستفادت منها الأحزاب الشيوعية في الغرب و كذلك الأحزاب الإشتراكية في الغرب و بالتالي لم يعد ماركس طليقا كما هو طليقا و مبجل عند الشيوعي السوداني.
مثلا ماركس في حقول رؤية عالم الاجتماع الفلسطيني هشام شرابي لم يكن هو ماركس في النسخة الشيوعية السودانية و من هنا تأتي طلاقة لسان هشام شرابي و إعلانه عن فكرة عقلنة الفكر و علمنة المجتمع التي لا يستطيع القول بها حتى الشيوعي السوداني المقيّد بغائية و لاهوتية الهيغلية و الماركسية و المنتظر لنهاية الصراع الطبقي و نهاية التاريخ.
هشام شرابي عالم اجتماع و مؤرخ مهتم بتاريخ الحضارة الغربية و قد حصر إهتمامه بها منذ عام 1870 و كانت كل جهوده الفكرية منذ ذلك التاريخ و صاعدا و يمكنك أن تلاحظ أفكاره و إختلافها عن أفكار النخب السودانية في أنها أفكار ترتكز على قدرته على التمييز بين مفاصل الحقب التاريخية.
مثلا أن هشام شرابي يدرك جيدا عن الحقبة التي بداء منها أي عام 1870 كانت بوادر نهاية الليبرالية التقليدية و بوادر لنهاية فلسفة التاريخ التقليدية و فيها أي بين خروج حقبة الليبرالية التقليدية و ميلاد الليبرالية الحديثة و فلسفة التاريخ الحديثة كانت حالة الفكر تشهد على فوضى عارمة حتى في الدول الغربية و إستمرت لزمن قارب الخمسة عقود و فيها كفترة فوضى ظهرت أفكار في نظر الفلاسفة أنها عابرة و ليست ذات جذور و لا تمثل نزعة انسانية و هي الفاشية و النازية و الشيوعية.
المضحك المبكي أن النخب السودانية لم تتمسك إلا بالفكر العابر و مؤقت كالشيوعية التي تحدث عنها الفلاسفة و المؤرخون و علماء الاجتماع بأنها نتاج لحظة الإهتزاز و لحظات الطلق التي تمخضت عنها الليبرالية الحديثة و فلسفة التاريخ الحديثة و أعلنت عن نهاية الليبرالية التقليدية و فلسفة التاريخ التقليدية نتاج فكر فلاسفة و اقتصاديين و علماء اجتماع غطى فكرهم مدى القرنيين الأخيرين و أقصد بداء مع ديمقراطية توكفيل.
لهذا فإن حال النخب السودانية و هي تتمسك بالفكر العابر كمن قتل الجنين أي المولود و إحتفظ بالمشيمة و إذا بالمشيمة نسخة شيوعية سودانية متكلسة. لهذا السبب يظل الشيوعي السوداني منذ خمسة عقود متأهب للخروج من التاريخ و ظلت كل جهودهم الفكرية لا تنتصر إلا للخواء كما رأينا موقفهم المخزئ من حكومة الفترة الإنتقالية و وقوفهم كتف بكتف مع الكيزان لإسقاط حكومة حمدوك و هذا سببه لوثة عقل الشيوعي السوداني بفكر شيوعية تجاوزها فكر فلسفة التاريخ الحديثة.
لهذا نقول أن مسألة عودة الشيوعي السوداني الى صف يجمع و يوحد الجهود الرامية للخروج من مأزق النخب السودانية غير منتظرة. و فشلهم في إنزال شعار ثورة ديسمبر و هو حرية سلام و عدالة أكيد و هو شعار ليبرالي يرنو الى مستقبل السودان و يخاطب مستقبل السودان البعيد و لا يحققه إلا فكر ليبرالي لأنه الوحيد القادر على الحديث مع مستقبلنا السوداني أما الحزب الشيوعي السوداني هو و فكره لم يكونا غير قيود ماضينا الذي نريد جميعا مغادرتها و مغادرتها لم تكن بغير إطلاعنا على فكر في حده الأدنى يستطيع إلحاقنا بمواكب البشرية كما نجده في فكر هشام شرابي المختلف بالكلية عن فكر عبد الخالق محجوب الباحث لدور للدين في السياسة.
و إختلاف هشام شرابي عن عبد الخالق محجوب لأن هشام شرابي إنتبه لظاهرة المجتمع البشري و بالتالي تخلص من فكرة العداء الأبدي للغرب و تخلص من فكر النهضة في العالم العربي و الاسلامي و هو فكر جمال الدين الافغاني و تلميذه محمد عبده و هو فكر قد أسس لفكرة أن أي فكر جديد يدخل العالم العربي و الاسلامي يجب أن يصادق و يجاور و يساكن و لا يتجاوز الخطاب الديني و هنا تنام مشكلة المفكر السوداني و لذلك تجده في عداء دائم للغرب و الغرب هو العدو الأبدي و بالتالي تجد الشيوعي السوداني يتحدث عن الرأسمالية و كأنها الشيطان الأكبر لا فرق بين الشيوعي السوداني و أتباع الخمينية. و من فكر النهضة أي فكر محمد عبدو و الافغاني جاءت محاولات عبد الخالق محجوب للبحث لدور للدين في السياسة و ليس عبد الخالق وحده لمن يريد أن يعرف أكثر عليه الإطلاع على كتاب هشام شرابي المثقفون العرب و الغرب.
و من عبد الخالق محجوب في منتصف الستينيات و بحثه لدور للدين في السياسة و تتسلسل الصفوف حيث نجد مساومة الشفيع خضر و مؤالفة النور حمد و مهادنة الحاج وراق و لاهوت تحرير حيدر ابراهيم علي و علمانية محمد ابراهيم نقد و تجدهم جميعا لا يخفون عداءهم للفكر الليبرالي و هو سليل الأنساق الثقافية المضمرة في فكر محمد عبده و جمال الدين الافغاني و رغما ذا يتحدثون عن تحول ديمقراطي على طريقة كورتنا السودانية.
و من هنا نقول لهم لا يمكن أن تتحدث عن تحول ديمقراطي و أنت ممتلئ بعداء أبدي للغرب مختصر تاريخ البشرية و المتفوق على الثقافات التقليدية و من ضمنها الثقافة العربية الاسلامية التقليدية و السودان في تخومها.
و الغريب أن نجد مفكريين غربيين يتحدثون عن أن مسألة أن يلحق العالم العربي و الاسلامي بالغرب مسألة وقت و هي نتاج أي زمن يلتفت فيه العالم العربي و الاسلامي لقطيعته مع نزعته الانسانية و قطيعته مع الحداثة و فكر عقل الانوار و هذا ما نجده يتوافق مع فكر محمد اركون بجهده المتفوق على جهد نخبنا السودانية قد وصل لما وصل له مفكري الغرب أي أن زمن لحاق العالم العربي و الاسلامي آتي لا ريب فيه.
و أخيرا نقول للنخب السودانية أن التحول الديمقراطي يحتاج منكم للقطيعة مع التراث القريب منه قبل البعيد كما يقول عالم الاجتماع التونسي الطاهر لبيب و هذا يجعلنا نكرر الدعوة و نقول بوجوب القطيعة مع فكر عبد الخالق و نقد و القطيعة مع مؤالفة النور حمد بين العلمانية و الدين و القطيعة مع مساومة الشفيع خضر و كذلك مع لاهوت تحرير حيدر و مهادنة الحاج وراق.
و عندما يتم إعمال القطيعة مع التراث حينها تدرك النخب السودانية بعد أن يرتفع مستوى وعيها أن الديمقراطية قد أصبحت بديلا للفكر الديني وهي أي الديمقراطية نتاج مجد العقلانية و إبداع العقل البشري في تفسير ظاهرة المجتمع البشري و حينها نجد الفكر في السودان يدور داخل مثلث الفرد و العقل و الحرية و هو ينبع بأقانيمه الثلاثة التي تمثل الفرد و المجتمع و الإنسانية تسوقه معادلة الحرية و العدالة القلب النابض للفكر الليبرالي حيث تحاول النخب في المجتمعات الحية خلق نقطة التوازن بين الحرية و العدالة.
و حيث زادت العدالة تقل الحرية و متى ما زادت الحرية قلت العدالة أي أن علاقة الحرية و العدالة علاقة عكسية و هنا يكمن سر قوة الفكر الليبرالي و عليه ننبه من يغالط بأن شعار ثورة ديسمبر شعار شيوعي نقول له هذا محض جهل بالفكر الليبرالي الذي يتمحور حول معادلة الحرية و العدالة أي أنك تضع إفتراض أن القارئ جاهل بأدبيات الفكر الليبرالي لذلك تحاول تسويق أن شعار ثورة ديسمبر شعار شيوعي و هذا لا ينطلي إلا على من يجهل أدب النظريات الإقتصادية و تاريخ الفكر الاقتصادي.
و ننبه كذلك القارئ على إستهبال أتباع الشيوعية المقنّعة و خاصة في السودان حيث ما زالت فكرتهم ملتبسة عن مفهوم الدولة من الأساس أما ممارسة السلطة بمفهومها الحديث فلا يمكن لأتباع الشيوعية السودانية الحديث عن ديمقراطية ليبرالية في ظل طرح حزب كل المؤشرات تدلنا على أنه لا يقصد غير تجسيد نظام شمولي بغيض بنسخة شيوعية سودانية متحجرة و ما زال يجهل التحول في المفاهيم فيما يتعلق بمفهوم الدولة الحديثة و ممارسة السلطة في مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية.
على أي حال الطريق المؤدي للتحول الديمقراطي في السودان طويل جدا و للأسف لم يظهر في الأفق رجل المرحلة رغم ظهور حمدوك و تقدم كنتاج لإجتماع القوة السياسية في أديس أبابا. حمدوك عندما يجلس علي كرسي رئيس الوزراء يصبح أخرس تماما و ثورة ديسمبر تحتاج لشخصية تاريخية عقلها نقطة تقاطع الفلسفة السياسية و الاقتصاد و علم الاجتماع صحيح أقرب لها حمدوك لأنه مشبع على الأقل بأدبيات النظريات الإقتصادية و تاريخ الفكر الإقتصادي و نظريات إقتصاديات التنمية.
إلا أن حمدوك لا يريد أن يبادر بخلق خطاب بديل للخطاب الديني و عبره يستطيع أن يفك إشتباك نخب لا يشغلها غير هم المحاصصة على السلطة و ليس ممارسة السلطة بمعناها الحديث. إذا أقنع حمدوك المتشاكسين و أبعدوا الجيش و كل المليشيات من ممارسة السياسة و الاقتصاد و أصبحت الدولة مسيطرة على المال العام عبر وزارة المالية و أصبح البنك المركزي مستقل و أصبحت فكرة علاقة الفرد بالدولة مباشرة و ليست مشكلة المركز و الهامش حينها يستطيع حمدوك تكوين حكومة لا تحتاج لمؤتمر دستوري عبره يتسلل القانونيين السودانيين عبدة النصوص و هم أضعف الحلقات في سلسلة النخب السودانية الفاشلة و يشتركون مع الكيزان في لقبهم المحبب مولانا.
و حينها يستطيع حمدوك أن يقوم بدور مثل دور روزفلت في زمن الكساد الاقتصادي العظيم في أمريكا حيث أحاط نفسه بمشرّعيين و قاموا بتشريعات كبرى كانت ضد مصالح طبقته و لكنها تنتقل بالمجتمع الأمريكي من مرحلة نهاية الليبرالية التقليدية و تدخل به الى بداية الليبرالية الحديثة. و هذا هو دور حمدوك إذا أراد أن يؤسس لخروج المجتمع السوداني من حيز ثقافته التقليدية و نقله لحيز المجتمعات الحديث و يكسر فشل النخب السياسية و هي في حيرة عقلها عقل الحيرة و الإستحالة.
و هذا يتطلب من حمدوك أن يكون قادر على طرح نفسه كشخصية تاريخ للشعب السوداني و ضامن لعلاقة الفرد بالدولة و هذا يتطلب منه تقديم خطاب سياسي واضح يقنع به أتباع أحزاب الطائفية و يباغتهم بأنه هو رجل المرحلة و ليس لاعب لدور ريّسه و تيّسه أي أن يحللوا به طلاق الحكومة بعد الطلقة الأخيرة و لا حل لهم غير أن يأتوا بحمدوك كتيس يحلل لهم طليقتهم و يعودوا لصراعهم على السلطة و ليس ممارسة السلطة.
على حمدوك أن يدرك أن من أتوا به و هم مجموعة قحت أثبتت الأيام في زمن حكمه أنهم جميعا كانوا يعتقدون أن ما تركته الإنقاذ من ركام هو دولة و بالتالي تجاهلوا حل الجهاز القضائي الكيزاني كما فعل التوانسة و لم يطرحوا أي طرح اقتصادي تظهر فيه مسألة عمل البنك المركزي و سيطرة وزارة المالية على المال العام و لم تظهر أي علامات تقول لنا عن كيف يتم خلق الثروة و ما فلسفة إعادة توزيعها و كذلك ترك حمدوك وزارة الخارجية كعش دبابير للكيزان و كله يدل على أن حمدوك مطلوب منه إعتذار في فشله في الفترة الإنتقالية و أنه كان أقصر قامة من أن يلعب دور شخصية تاريخية و رجل مرحلة من مراحل تنزيل شعار ثورة ديسمبر.
و للمرة الثانية نقول لحمدوك يجب أن ترفع رأسك قليلا قد مضى زمن الكيزان و أخرج على الناس بخطاب يدل على أنك رجل مرحلة و تكون ضامن لعلاقة الفرد بالدولة و هذا لا يكون بغير تقديم خطاب محترم يرفعك الى مستوى إحترام أهل جنوب أفريقيا لمانديلا أو يجعلك في التاريخ البعيد أنك روزفلت السودان و أخيرا نقولها لك للمرة الألف أتباع قحت أتوا بك لأنهم عارفين أنهم لا يعرفون ما تعرف.
و نقول لك أنت كاقتصادي تكون الأقرب لإنقاذ السودان من فشل نخبه و رغم فشلك في زمن حكومتك الإنتقالية إلا أنك حتى اللحظة أنت الأقرب أن تكون شخصية تاريخية و لهذا أترك صمتك و تحدث للناس عن آمالهم في إنزال شعار ثورة ديسمبر ونطلب منك لمرة واحدة تحدث للناس لمدة ساعة بدلا من خطاباتك التي لا تقطع غير ثلاثة دقائق من الزمن.

taheromer86@yahoo.com

 

آراء