يوسف عزت: الكتابة بدم بارد.. أن تقول الكثير دون أن تقول أي شيء
محمد سليمان عبدالرحيم
13 June, 2023
13 June, 2023
افتتح السيد يوسف عزت، مستشار قائد الدعم السريع، مقاله الموسوم "بين الثورة والسكين جنجويد" بقوله "رغم شح الوقت نسبة للظروف الراهنة.." إلخ، ولكن رغم "شح وقت" السيد المستشار في ظروف الحرب هذه كما قال، فقد وجد الوقت ليدبج مقالاً من 5345 كلمة، ليس ذلك فحسب، وإنما 5345 كلمة دون أن يقول شيئاً ذا بال. ينسب إلى عالم الرياضيات والفيلسوف الفرنسي باسكال قوله معتذراً في رسالة طويلة كتبها لأحد أصدقائه “كنت سأكتب رسالة قصيرة، لو كان لدي الوقت". ومن المأثور عن الشيخ النفري قوله "كلما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة"، ومقال السيد عزت المذكور هو مثال للوجه الآخر لتلك المقولة، أي كلما ضاقت (أو انعدمت) الرؤية، كلما تشوشت وترهلت وارتبكت وانبهمت العبارة.
ليس من أغراضي هنا الرد التفصيلي على مقال كتبه صاحبه كي لا يقرأ، وإنما ل "يشتت به الكورة" ويغطي به على الحقائق الأساسية. الرد الصحيح في هذه الحالة يكون بالنفاذ إلى تلك الحقائق التي حاول الأستاذ عزت تجاهلها وبطرح العديد من الأسئلة التي حاول القفز من فوقها. أول ما يتبادر إلى الذهن من الأسئلة، هو هل ما كتبه الأستاذ عزت في ذلك المقال يعبر عن آرائه الشخصية، أم يعبر عن الجهة التي يعمل مستشاراً لديها؟ إن كان يمثل آرائه الشخصية فنحن أمام حالة فصام حاد بين القناعات النظرية والممارسة العملية وهو أس ما ينعاه الأستاذ عزت على "النخبة" وعلى عدد من الكتاب والمثقفين أشار إليهم في مقاله بالإسم. أما إن كان ما كتبه يعبر عن رؤية وموقف قوات الدعم السريع، فسيكون مفيداً لو أفادنا الكاتب بأي وثائق أو برامج توجيه معنوي مكتوبة (أو شفوية) تضمنت تلك الرؤية ومتى صدرت. هنا نأخذ في الاعتبار أيضاً أن المستشارين في منظمات مثل الدعم السريع لا يتسنمون مناصبهم بالانتخاب أو الترقي الوظيفي، وإنما يعينهم القائد أو الرئيس كما يشاء ويفصلهم أيضاً متى وكيفما يشاء ويذهبون حاملين معهم معتقداتهم وآرائهم، دون أن يتأثر التنظيم ذاته بشيء.
ينطلق السيد يوسف عزت من مقولة الدولة الاستعمارية أو الدولة التي خلفها الاستعمار، وهي مقولة أصبحت مستهلكة تماماً من كثرة ما يبتدر بها "المثقفون" أحاديثهم وكتاباتهم. هذه المقولة صحيحة ولكنها ليست كافية لتفسير كل تاريخ السودان بعد الاستقلال، فهناك من رزايا "دولة" ما قبل الاستعمار، ومن المصائب التي صنعناها بأيدينا بعد وبعيداً عن الاستعمار ما يفوق إرث الدولة الاستعمارية بأضعاف، ولكن دولة ما بعد الاستعمار تظل دائماً مشجباً مريحاً لنعلق عليه كل أزماتنا وخيباتنا. يعدد السيد المستشار أزمات ومثالب دولة ما بعد الاستعمار فلا يترك شيئاً من حرب الجنوب ابتداء بعمال البناء في عمارات الخرطوم انتهاء بانفصال الجنوب، وحرب دارفور ابتداء بتآمر الجبهة القومية الإسلامية انتهاء بسطحية تناول سليمان حامد والمرحوم التجاني الطيب، وحروب النيل الأزرق وجبال النوبة والشرق، وتكوين وانقلابات الجيش وانتهازية المثقفين .. إلخ، مما هو معروف بالكامل ومفروغ منه. لقد أصبح تاريخ السودان الحديث أشبه ما يكون بحبل غسيل طويل منشورة و(مشرورة) عليه كل أزماتنا الوطنية، من المركز والهامش، وإدارة التنوع، وصراع الطبقات، والأفريقانية والعربسلامية، وقسمة السلطة والثروة، وغيره، جاهزة للارتداء وفي متناول كل عابر سبيل من المناضلين الأشاوس، يلفح منها و(يلتق) برنامجه كما يشاء، وهكذا فعل السيد عزت.
إذا كان لي أن ألخص مقال الأستاذ عزت في جملة واحدة، فسأكتفي بالقول بأن المقدمات الصحيحة لا تقود بالضرورة إلى نتائج صحيحة. الكثير مما أورده الأستاذ عزت عن الإرث المقيت للدولة الاستعمارية، وعن الحرب الأهلية في الجنوب وفي دارفور وجبال النوبا والنيل الأزرق، وعن خيبة النخبة والمثقفين السودانيين، وغير ذلك صحيح ولا خلاف عليه، وهو قد يساعد في تفسير الحرب الحالية، ولكن لا يمكن على الإطلاق البناء عليه أو الانطلاق منه لتبرير هذه الحرب. صحيح أن هذه الحرب نشبت في سياق انهيار دولة ما بعد الاستعمار، وقد تكون هي المظهر الأخير من مظاهر انهيار هذه الدولة، ولكنها لم تنشب لهزيمة أو "تحطيم" تلك الدولة، كما يزعم الأستاذ عزت، وإنما لتوطيدها بفرض السيطرة التامة على السلطة والموارد لأحد الشريكين المتقاتلين.
الحقيقة التي لم يتمكن الأستاذ عزت من إخفائها ب 5345 كلمة هي أن "الموصوفين بالجنجويد هم الذين قاتلوا نيابة عن السلطة والدولة المزعومة .... منذ الاستقلال وحتى اليوم هم وقود الحروب جميعها منذ قوات السلام التي كانت رئاستها في واو وحتى قوات المراحيل التي قاتلت النوبة وحتى آخر أداة تم ويتم استخدامها في حروب هذه الدولة التي لا تنتهي" ولكن الفرق هذه المرة، كما يستطرد الأستاذ عزت، يكمن في أن "قيادة هذه القوات تعي إن الدولة المعنية تريد استخدامها كأداة ومتى ما استقرت الاحوال يتم كسر الأداة والتخلص منها" هذا هو سبب الحرب الحقيقي، وليس الدفاع عن المهمشين أو حقوق الضحايا الذين أبيدوا وأحرقت قراهم على يد الجنجويد. دولة ما بعد الاستعمار ليست هي المواطنين العزل الأبرياء الذين قتلوا أمام أطفالهم بدم بارد وسلبت كل ممتلكاتهم وطردوا من منازلهم التي استولت عليها قوات الدعم السريع، وهي ليست المستشفيات والمعامل التي خربت، ولا المصانع التي دمرت، ولا المكتبات التي أحرقت. دولة ما بعد الاستعمار هي من يفعلون ذلك، ويفعلونه الآن في الخرطوم، كما فعلوه في دارفور من قبل.
لفت انتباهي في مقال الأستاذ عزت إشارته المتكررة إلى ضرورة "النقد" فهو يقول "وطن تمزقت اطرافه لكن نستطيع مماسكة ما تبقى منه فقط بالنقد"، ويقول "لم اقرأ حتى اليوم رؤى نقدية لما جرى في 2011 واختيار الجنوبيين للاستقلال"، وكذلك "وكنت من المنتظرين للنقد الذي سيقوم به مثقفي الصفوة لتجربة الجنوب" وأيضاً "حقيقة نحتاج لنقد حقيقي لموروث دولة ما بعد الاستقلال". هذا الانشغال الشديد من جانب الأستاذ عزت بمسألة قيام الآخرين بنقد تجاربهم ومواقفهم، لا يقابله، للأسف، أي اهتمام على الإطلاق من جانب الأستاذ عزت بنقد مواقفه وتجربته السياسية. لقد تنقل الأستاذ عزت بين العديد من القوى السياسية، وفي رحلته هذه انتقل من مشروع محارب في صفوف التجمع الوطني الديمقراطي إلى مستشار لقائد الدعم السريع وبينهما عمل في حركات دارفور مع التجاني السيسي وكان عضواً في وفده المفاوض في الدوحة. من الممكن للناس، ولأسباب كثيرة ليس هذا مجال الخوض فيها، أن يغيروا قناعاتهم وأفكارهم وتنظيماتهم السياسية وغيرها، ولكن لا يمكنهم أن يفعلوا ذلك دون الإجابة على سؤال "لماذا؟". لابد لهم أولاً أن يقدموا نقداً شفافاً وكاشفاً لتجربتهم السابقة وأن يشرحوا بصورة وافية لماذا تخلوا عن قناعاتهم أو تنظيماتهم السابقة قبل أن يتبنوا موقفاً جديداً. مثل هذا النقد ضروري ليس فقط لإثراء التجربة السياسية، وإنما لحماية الشخص نفسه من تكرار التجارب الفاشلة، ولعل هذا هو ما يحتاجه الأستاذ عزت.
abuhisham51@outlook.com
ليس من أغراضي هنا الرد التفصيلي على مقال كتبه صاحبه كي لا يقرأ، وإنما ل "يشتت به الكورة" ويغطي به على الحقائق الأساسية. الرد الصحيح في هذه الحالة يكون بالنفاذ إلى تلك الحقائق التي حاول الأستاذ عزت تجاهلها وبطرح العديد من الأسئلة التي حاول القفز من فوقها. أول ما يتبادر إلى الذهن من الأسئلة، هو هل ما كتبه الأستاذ عزت في ذلك المقال يعبر عن آرائه الشخصية، أم يعبر عن الجهة التي يعمل مستشاراً لديها؟ إن كان يمثل آرائه الشخصية فنحن أمام حالة فصام حاد بين القناعات النظرية والممارسة العملية وهو أس ما ينعاه الأستاذ عزت على "النخبة" وعلى عدد من الكتاب والمثقفين أشار إليهم في مقاله بالإسم. أما إن كان ما كتبه يعبر عن رؤية وموقف قوات الدعم السريع، فسيكون مفيداً لو أفادنا الكاتب بأي وثائق أو برامج توجيه معنوي مكتوبة (أو شفوية) تضمنت تلك الرؤية ومتى صدرت. هنا نأخذ في الاعتبار أيضاً أن المستشارين في منظمات مثل الدعم السريع لا يتسنمون مناصبهم بالانتخاب أو الترقي الوظيفي، وإنما يعينهم القائد أو الرئيس كما يشاء ويفصلهم أيضاً متى وكيفما يشاء ويذهبون حاملين معهم معتقداتهم وآرائهم، دون أن يتأثر التنظيم ذاته بشيء.
ينطلق السيد يوسف عزت من مقولة الدولة الاستعمارية أو الدولة التي خلفها الاستعمار، وهي مقولة أصبحت مستهلكة تماماً من كثرة ما يبتدر بها "المثقفون" أحاديثهم وكتاباتهم. هذه المقولة صحيحة ولكنها ليست كافية لتفسير كل تاريخ السودان بعد الاستقلال، فهناك من رزايا "دولة" ما قبل الاستعمار، ومن المصائب التي صنعناها بأيدينا بعد وبعيداً عن الاستعمار ما يفوق إرث الدولة الاستعمارية بأضعاف، ولكن دولة ما بعد الاستعمار تظل دائماً مشجباً مريحاً لنعلق عليه كل أزماتنا وخيباتنا. يعدد السيد المستشار أزمات ومثالب دولة ما بعد الاستعمار فلا يترك شيئاً من حرب الجنوب ابتداء بعمال البناء في عمارات الخرطوم انتهاء بانفصال الجنوب، وحرب دارفور ابتداء بتآمر الجبهة القومية الإسلامية انتهاء بسطحية تناول سليمان حامد والمرحوم التجاني الطيب، وحروب النيل الأزرق وجبال النوبة والشرق، وتكوين وانقلابات الجيش وانتهازية المثقفين .. إلخ، مما هو معروف بالكامل ومفروغ منه. لقد أصبح تاريخ السودان الحديث أشبه ما يكون بحبل غسيل طويل منشورة و(مشرورة) عليه كل أزماتنا الوطنية، من المركز والهامش، وإدارة التنوع، وصراع الطبقات، والأفريقانية والعربسلامية، وقسمة السلطة والثروة، وغيره، جاهزة للارتداء وفي متناول كل عابر سبيل من المناضلين الأشاوس، يلفح منها و(يلتق) برنامجه كما يشاء، وهكذا فعل السيد عزت.
إذا كان لي أن ألخص مقال الأستاذ عزت في جملة واحدة، فسأكتفي بالقول بأن المقدمات الصحيحة لا تقود بالضرورة إلى نتائج صحيحة. الكثير مما أورده الأستاذ عزت عن الإرث المقيت للدولة الاستعمارية، وعن الحرب الأهلية في الجنوب وفي دارفور وجبال النوبا والنيل الأزرق، وعن خيبة النخبة والمثقفين السودانيين، وغير ذلك صحيح ولا خلاف عليه، وهو قد يساعد في تفسير الحرب الحالية، ولكن لا يمكن على الإطلاق البناء عليه أو الانطلاق منه لتبرير هذه الحرب. صحيح أن هذه الحرب نشبت في سياق انهيار دولة ما بعد الاستعمار، وقد تكون هي المظهر الأخير من مظاهر انهيار هذه الدولة، ولكنها لم تنشب لهزيمة أو "تحطيم" تلك الدولة، كما يزعم الأستاذ عزت، وإنما لتوطيدها بفرض السيطرة التامة على السلطة والموارد لأحد الشريكين المتقاتلين.
الحقيقة التي لم يتمكن الأستاذ عزت من إخفائها ب 5345 كلمة هي أن "الموصوفين بالجنجويد هم الذين قاتلوا نيابة عن السلطة والدولة المزعومة .... منذ الاستقلال وحتى اليوم هم وقود الحروب جميعها منذ قوات السلام التي كانت رئاستها في واو وحتى قوات المراحيل التي قاتلت النوبة وحتى آخر أداة تم ويتم استخدامها في حروب هذه الدولة التي لا تنتهي" ولكن الفرق هذه المرة، كما يستطرد الأستاذ عزت، يكمن في أن "قيادة هذه القوات تعي إن الدولة المعنية تريد استخدامها كأداة ومتى ما استقرت الاحوال يتم كسر الأداة والتخلص منها" هذا هو سبب الحرب الحقيقي، وليس الدفاع عن المهمشين أو حقوق الضحايا الذين أبيدوا وأحرقت قراهم على يد الجنجويد. دولة ما بعد الاستعمار ليست هي المواطنين العزل الأبرياء الذين قتلوا أمام أطفالهم بدم بارد وسلبت كل ممتلكاتهم وطردوا من منازلهم التي استولت عليها قوات الدعم السريع، وهي ليست المستشفيات والمعامل التي خربت، ولا المصانع التي دمرت، ولا المكتبات التي أحرقت. دولة ما بعد الاستعمار هي من يفعلون ذلك، ويفعلونه الآن في الخرطوم، كما فعلوه في دارفور من قبل.
لفت انتباهي في مقال الأستاذ عزت إشارته المتكررة إلى ضرورة "النقد" فهو يقول "وطن تمزقت اطرافه لكن نستطيع مماسكة ما تبقى منه فقط بالنقد"، ويقول "لم اقرأ حتى اليوم رؤى نقدية لما جرى في 2011 واختيار الجنوبيين للاستقلال"، وكذلك "وكنت من المنتظرين للنقد الذي سيقوم به مثقفي الصفوة لتجربة الجنوب" وأيضاً "حقيقة نحتاج لنقد حقيقي لموروث دولة ما بعد الاستقلال". هذا الانشغال الشديد من جانب الأستاذ عزت بمسألة قيام الآخرين بنقد تجاربهم ومواقفهم، لا يقابله، للأسف، أي اهتمام على الإطلاق من جانب الأستاذ عزت بنقد مواقفه وتجربته السياسية. لقد تنقل الأستاذ عزت بين العديد من القوى السياسية، وفي رحلته هذه انتقل من مشروع محارب في صفوف التجمع الوطني الديمقراطي إلى مستشار لقائد الدعم السريع وبينهما عمل في حركات دارفور مع التجاني السيسي وكان عضواً في وفده المفاوض في الدوحة. من الممكن للناس، ولأسباب كثيرة ليس هذا مجال الخوض فيها، أن يغيروا قناعاتهم وأفكارهم وتنظيماتهم السياسية وغيرها، ولكن لا يمكنهم أن يفعلوا ذلك دون الإجابة على سؤال "لماذا؟". لابد لهم أولاً أن يقدموا نقداً شفافاً وكاشفاً لتجربتهم السابقة وأن يشرحوا بصورة وافية لماذا تخلوا عن قناعاتهم أو تنظيماتهم السابقة قبل أن يتبنوا موقفاً جديداً. مثل هذا النقد ضروري ليس فقط لإثراء التجربة السياسية، وإنما لحماية الشخص نفسه من تكرار التجارب الفاشلة، ولعل هذا هو ما يحتاجه الأستاذ عزت.
abuhisham51@outlook.com