الخيار الدستوري للعمل المعارض
"الضمانات الدستورية وضعت لضمان تبادل غير مقيد للأفكار بغرض إحداث التغييرات الإجتماعية والسياسية التي يرغب فيها الشعب. ان المحافظة على فرص النقاش السياسي الحر الذي يُمكن الحكومة من التجاوب مع إرادة الشعب بحيث يتم التغيير بوسائل قانونية، هو امر مهم لأمن الجمهورية، ومبدأ اساسى في نظامنا الدستوري" المحكمة العليا الأمريكية في روث ضد الولايات المتحدة الامريكية
المعارضة القانونية تعني ببساطة معارضة الحكومة القائمة بطريقة لا تخرق القانون. وقدرة المعارضة أو فعاليتها في ادائها لدورها تقوم في هذه الحالة على ما تسمح به القوانين لها من حرية التعبير والتنظيم . أما المعارضة غير المشروعة فإنها تقوم على العمل في الخفاء لقلب نظام الحكم عن طريق إنتزاع السلطة بالقوة. والقوة هنا لا تعني العنف فحسب، بل تشمل أيضا الإستيلاء على مصادر القوة في الدولة، إما بشكل مفاجئ، أو بتحريض ثوري يصل إلي درجة يجعل مصادر القوة الحاملة للسلاح في الدولة، خاضعة لقيادة المعارضة.
الخيار هنا ليس خيار المعارضة وحدها، بل هو أيضا خيار تؤثر على إحتمالاته بشكل أساسي الحكومة، بقبولها أو إنتهاكها لقواعد اللعبة الديمقراطية. ولقد نقلنا مراراً وتكراراً عن بوبر قوله بأن النظام الديموقراطي هو نظام يسمح بتبادل السلطة دون اللجوء إلى العنف.
لماذا المعارضة الدستورية
والسؤال هو أي الخيارين يتوجب علي المعارضة أن تاخذه ؟ في رأيي أنه بعيداً عن الشعارات الجوفاء التي يطلقها من هم في موقع يسمح لهم بعدم سداد ثمن تلك الشعارات، فإن الخيار الأفضل الآن للمعارضة هو سبيل المعارضة الدستورية التي ترتكز علي الدستور القائم، والتي تعني بشكل أساسي احداث التغيير بوسائل دستورية.
السبب في ذلك هو أن للقوة منطقها واللجوء إليها غير مأمون الجانب، وتاريخنا الذي يزخر بالعبر، وإن كان يشح فيه الإعتبار، يشير لأن العمل الإنقلابي رغم أنه يوفر مركباً ساهلا للوصول إلى السلطة، إلا أنه غير قادر على إحداث تغيير حقيقي في نمط الحكم.
وما قلناه عن العمل الإنقلابي ينطبق أيضاً علي العمل الثوري العنيف والذي يواجه صعوبات وخطورات خاصة به، يفرضها واقع السودان المتعدد الثقافات والإثنيات. فالعمل الثوري العنيف يستوجب تكوين مجموعة مسلحة ومنظمة قادرة علي الإنتصار علي القوات المسلحة، وهذا لا يتم إلا في مناطق نائية وفي بيئة تفرض برامج ذات صبغة محلية خاصة بتلك المناطق، وهو في حد ذاته يعزلها عن مجموع السكان في المناطق الأخرى، ويوجد داخلها النزعات الإنفصالية حين تتبين صعوبة ان تلعب دوراً قوميا من مواقعها الغارقة في المحلية. هذا كله بالإضافة لما تؤدي إليه الحروب الأهلية من تخريب في النسيج القومي، و إهدار في الموارد الإقتصادية، ومزيد من استبدادية المركز بما تفرضه الحرب من تضييق في الحريات العامة.
الرضوخ للدستور والرضوخ للقانون
وفقاً لكل ذلك فإن المعارضة بالفعل قد إختارت العمل السياسي الدستوري في عام 2005 حيث حلت تشكيلاتها العسكرية وقبلت الدستور الذى تم الوصول إليه بين قسم منها وبين الحكومة القائمة، وأسست عملها على المنافسة على السلطة وفقا لأحكام الدستور.
حان الوقت الآن لنسأل أنفسنا كمعارضين هل نقبل النظام الدستوري بالأسس التي يقوم عليها؟ أساس الدستور الحالي يشمل قبول التعددية الحزبية، وحق المواطنة، و التبادل السلمي للسلطة، ويعترف بحقوق الإنسان كما جاءت في المواثيق الثلاثة، ونعني بها الإعلان الدولى لحقوق الانسان والعهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولى للحقوق الإقتصادية والثقافية، فهل نقبل بذلك؟ أجابت على ذلك السؤال كافة مكونات المعارضة المدنية السياسية بالإيجاب حين قبلت جميع الأحزاب السياسية أن تمارس نشاطها بشكل قانوني مشروع تحت مظلة قانون تسجيل الأحزاب السياسية، وأقاموا الدور و أنشاوا الصحف لمن إستطاع لذلك سبيلا، وهم يعملون علنا و بالتالي فكل هذا يقطع بقبولهم للمسار الدستوري
وعلينا هنا أن نسأل أنفسنا هل القوانين القائمة تمنح المعارضة الحريات التي تتمتع بها أي معارضة دستورية في مجتمع ديمقراطي ؟
الإجابة عندي بالنفي، فما زالت الدولة حتى يومنا هذا تستقبل من حين لآخر خبير مستقل عينه المجتمع الدولي لمساعدتها في مسائل حقوق الإنسان. ومازال الخبير المستقل يشير بلغة واضحة لا تحتاج للشرح، إلى المسائل التي تدعو إلى القلق في سلوك الحكومة فيما يتعلق بتلك الحقوق. وآخر تصريح للخبير المستقل يحمل ذلك المعنى لم يمض عليه شهر واحد بعد.
إذا فرغم قبول الأحزاب السياسية والتجمعات المهنية والنقابية والمجتمع المدنى بشكل عام بالدستور، ورغبتها في أن تحقق مطالبها عن طريق العمل القانوني المشروع، إلا أن القوانين السائدة مازالت تعرقل مسعاها، بشكل لا يمكن إنكاره. فهل قبول المعارضة للعمل العلني الشرعي يفرض عليها الرضوخ لتلك القوانين ؟ الإجابة عندى بالنفى ولا أعتقد أن عاقل يدعو لذلك
إن العمل القانوني لا يعني الرضوخ لقوانين مخالفة للدستور، لأن القانون المخالف للدستور كما تصفه المحكمة العليا الأمريكية، ليس بقانون. هذا أمرشديد الوضوح لأن السلطة التشريعية تستمد سلطتها من الدستور، وهي سلطة ممنوحة لها داخل حدود معينة لا تستطيع أن تشرع خارجها فإن فعلت يفقد تشريعها الذي أصدرته على ذلك النحو مشروعيته، ويصبح كأن لم يكن .
إذا فمقاومة تلك التشريعات لا تعني الخروج عن الشرعية، بل هو تمسك بها، مما يعني أن السبيل لمقاومة تلك التشريعات يجب أن يكون سبيلا دستوريا وهذا يعني طرق كل ما يتيحه الدستور من سبل، إبتداء من جمع التوقيعات، وتقديم العرائض، وعقد الندوات، والكتابة في الصحف، وتسيير المسيرات السلمية، حتى رفع الدعاوى للمحاكم المختصة دفاعا عن الحقوق التي إنتهكتها تلك القوانين
هذا ما عنينا حين قلنا أنه يتوجب على المعارضة أن تبني حركة مدنية قوية، تطالب بحقوق معينة تقوم بتنظيم حملات مناصرة لحشد القوى الشعبية حولها وممارسة كافة الضغوط الشعبية للإطاحة بتلك القوانين التي تنتهك حقوقها.
هذه الحملات هي حملات مستمرة لا تنتهي حتى الحصول على كافة الحقوق التي إنطلقت للحصول عليها، ولكنها تلعب دوراً إضافيا خلاف ذلك وهو أنها تقوي الأحزاب المعارضة، وتجعلها أكثر إلتصاقا بجماهيرها، وبالجماهير بشكل عام، وتمنحها الفاعلية المطلوبة لإحداث التغيير. أما مجرد الحديث من المنازل عن إسقاط النظام فلن يفعل شئياً
الإنتخابات والشرعية
من أكثر الإعتراضات التي تتردد في الأسافير رداً على الدعوة لخوض الإنتخابات هو الإعتراض الذي يقول أن خوض الإنتخابات من شأنه أن يمنح النظام القائم شرعية. وهو إعتراض يبدو في مظهره يتماهى مع الموقف المعارض للنظام بمزايدة تتمثل في إدعاء رافض للنظام بشكل وجودي فلسفي، يمنح قائله مسحة بطولية. ولكنه في واقع الأمر لا يعدو أن يكون سفسطة لا يجرؤ عليها إلا ثوريو الكراسي الوثيرة حسب تعبير القرن التاسع عشر أو ثوري مفاتيح الطابعة (الكي بورد) حسب تعبير القرن الحادي والعشرين لنتبين مدى سخف هذا الإعتراض، فلننظر إلى ما تقوم به الأحزاب المعارضة من نشاط. هل تسجيل الحزب السياسي وفق قوانين النظام يمنح النظام شرعية؟ هل طلب التصديق باقامة ندوة أو إجتماعجماهيري، أو موكب يمنح النظام شرعية؟ هل رفع عريضة إلى الحكومة إعتراضا على سياسة إقتصادية معينة يمنح النظام شرعية ؟
إذا كانت الإجابة على كل هذه الإسئلة بالإيجاب فماذا يبقى للأحزاب لتفعله؟ وإذا كانت بالنفي فلماذا يكون خوض الإنتخابات له أثر مختلف عن كافة تلك الإنشطة؟ إذا كان ما يقصده المعترضون هو أن خوض الإنتخابات مع العلم مسبقاً بتزويرها يمنح الفائزون بالإنتخابات المعطوبة مظهراً مضللاً أمام العالم الخارجى، فإن الرد على ذلك أبسط مما يجب، لأن عدم خوض الإنتخابات يعني منح صورة أكثر تضليلاً للإنتخابات، لأنها ستجرى فى شكل يسهل أن يبدو وكأنه يعكس إرادة الناخبين
ولكن لماذا يوضع الخيار بهذا الشكل؟ أي إما أن تشارك في إنتخابات سيتم تزويرها، أو تقاطع تلك الإنتخابات ؟ لماذا لا يوضع الخيار بالشكل الذي يمنح المعارضة فرصة في الوصول إلى جماهيرها والتفاعل معها؟ أي إما أن تسمح المعارضة بتزوير الإنتخابات، أم لا تسمح بذلك ؟
هذا هو الخيار الواضح و المتوجب إتخاذ قرار بشأنه. تزوير الإنتخابات ليس بالمسألة البسيطة، والتى يسهل عملها، إلا في ظل إنتخابات تجري دون إتباع لقواعد الشفافية والنزاهة، وهو أمر لا يسهل القيام به إلا حين يتقاعس المعارضون عن مقاومته.
نسارع أولاً ونقول أن خيار المشاركة في الإنتخابات غير مطروح حالاً، ماهو مطروح حالاُ هو إصلاح قانونى وسياسى يسمح بإجراء إنتخابات نزيهة.
الإنتخابات كسبيل للتغيير
دخول الإنتخابات هو احد السبل التي تقرب الأحزاب من جماهيرها، ونحن لا نتحدث عن الإنتخابات العامة في 2020 فحسب، بل عن الإنتخابات عموما وفي كافة المجالات. الإنتخابات الخاصة بالسلطة تبدأ بإنتخابات المجالس المحلية، واللجان الشعبية، يجب على المعارضة أن تخوضها بجدية تامة وذلك بطرح برامج محددة تلبي حاجة الجماهير. الدولة اساسا هي تنظيم تقيمه المجتمعات لتقديم ما تحتاجه من خدمات. والجماهير لا تتحرك عن طريق الأطروحات السياسية المباشرة بل عن طريق البرامج التي تدعو إلى ما تحتاجه من الدولة. إلخدمات تقدمها الدولة أولا في المستوى المحلي وثانيا في المستوى الولائي وثالثا في المستوى القومي
يجب على الحزب السياسي أن يكون دائما متواجداً في المستويات الثلاث وهذا يعني أن يكون تنظيمه في المستوى المحلي معنيا بمتابعة مدى توفر الخدمات المقدمة بالنسبة للخدمات المطلوبة، ومدى العبء المالي المفروض على المواطنين في ذلك المستوى، وماهي مطالبهم فيما يتعلق بكل ذلك. هذا هو ما يجب ان يكون الشغل الشاغل للأحزاب السياسية في المستوى المحلي، وواجبه الرئيسي في ذلك هو طرح البرامج المتصلة بمطالب الجماهير الملحة وأيضا مطالبها على المدى المتوسط . هذه الأطروحات لا يجب أن تهبط على المستوى المحلي للأحزاب من قيادتها، بل على القيادات المحلية أن ترفد القيادات بتلك البرامج. وخوض الإنتخابات في ذلك المستوى يعنى إهتمام الحزب المعني بما يشغل الجماهير المحلية، ومايؤثر علي مستواهم المعيشي، وهو الأساس في إضفاء المقدرة والفاعلية على الحزب المعني.
صعوبات خوض الإنتخابات
لا يجب أن نتصور أن خوض الإنتخابات يخلو من الصعوبات بل على العكس من ذلك هو سبيل ملئ بالصعوبات وهذه الصعوبات تفرضها ظروف موضوعية وأخرى ذاتية
فمن حيث الظروف الذاتية فإن الإنتخابات تتطلب امولاً، وبعد الأحزاب السياسية كل هذه السنين عن السلطة، وعن العمل السياسي على المستوى القاعدي، ابعدها عن التاثير على الجماهير، وأفقدها القدرة على إستقطاب الأموال من تلك الجماهير والتي تشكل مصدرها الرئيسي للتمويل. ولكن هذه الصعوبات يسهل التغلب عليها لأنها صعوبات سببتها الأحزاب لنفسها. حملات المناصرة والتي تهدف لتحقيق مطالب الجماهير الإقتصادية والسياسية، اللازمة للإعداد لدخول الإنتخابات في كافة مستوياتها، تؤدي إلى زيادة تأثير الأحزاب على الجماهير. ولما كان جمع المال هو في حد ذاته عمل سياسي، فإن الحملات يمكن بل يجب أن تتخللها حملات لجمع المال. إختيار الشعارات المناسبة لجمع المال، تؤدي من جهة إلى حملات ناجحة لإصلاح سياسي وقانوني تحسين مالية الحزب في نفس الوقت، فالتبرع للحملة لا تقتصر أهميته على ما يوفره من مال بل هو هو أيضا مظهر مهم للإلتزام بأهداف الحملة وتقوية للرابطة بين الحزب وجماهيره. هذا هو عصب العمل السياسي، فالمسالة في النهاية لا تتعلق بالخطب الرنانة، ولابالبلاغة اللفظية، والتي تفقد تأثيرها سريعا، وإنما هي بتلمس حاجات الجماهير وإيجاد الحلول لها وطرحها عليهم مرة أخرى كبرنامج عمل يحتاج إلى دعم منهم لتحقيقه
كذلك فإن خوض الإنتخابات في المستويات القاعدية يساعد الحزب في إعادة تنظيم عضويته بعد تلك السنين الطويلة التى ضعف فيها التنظيم نتيجة للقوانين القهرية. فالدخول في المعارك الإنتخابية يعيد تجميع العضوية بما يوفره من مجال عمل مشترك ويرسخ روح التضامن بين العضوية ويرفع تمسكها ببرامج الحزب
من حيث الموضوع فإن القوانين المقيدة للحريات تشكل عائقاً في وجه الأحزاب فى طرح برامجها وتجميع الجماهير حولها ولقد تحدثنا عن الحملات التي يجب أن تنظمها الأحزاب في مواجهة تلك القوانين، وهذه مسألة طويلة المدى ولن تأتى أكلها في أسابيع أو شهور، ولكن خوض الإنتخابات في حد ذاته، يمنح الأحزاب فرصة الإستفادة من كافة حقوقها الدستورية، لأنه بمجرد بدء الحملة الإنتخابية فإنه يصعب على الحكومة أن تُفعِّل قوانينها وممارساتها المنتهكة للحقوق الدستورية، لأن مايدفعها في الأساس للإنتخابات، هو رغبتها في أن تبدو للرأي العام، في الداخل والخارج، كحكومة دموقراطية تحمل تفويضاً إنتخابيا من شعبها، وهذا يلزمها بالتقيد بما تطلبه الإنتخابات المنصفة والنزيهة من شروط، منها منعه من إستخدام أموال الدولة في حملته الإنتخابية . حتى ولو لم تتمكن الأحزاب المعاضة من الفوز بالإنتخابات في المرة الأولى فإنها قطعا ستفلح في تغيير الصورة السياسية العامة لصالح التطور الديمقراطي، لأنها بالقطع ستتمكن من أن تحرز وجود فاعل في المجالس التشريعية والقومية و الولائية. وذلك في حد ذاته يؤدي إلى توسيع الحريات الديمقراطية، بما يوفره من منابر لطرح البرامج المعارضة.
بقيت كلمة أخيرة، على الحكومة أن تعي أن الزمن ليس في صالحها، وأنها إذا لم تسعى لمقابلة المعارضة المتمسكة بالدستور في منتصف الطريق، فإن الأحداث لن تنتظر أحداً، والتاريخ لا يعرف سيناريو واحد يسير وفقا له.
نبيل أديب عبدالله
المحامي
nabiladib@hotmail.com