الخطوط العريضة لمتطلبات صناعة الدستور
أعلن السيد رئيس الجمهورية منذ أسبوعين أن الأيام المقبلة ستشهد تشكيل اللجنة القومية للشروع في إعداد دستور دائم للبلاد، تحت إشراف رئاسة الجمهورية. والسؤال الذى يتبادر إلي الذهن في هذا الصدد لماذا الآن؟
الواضح هو أن الدستور الحالى هو دستور مؤقت، وأنه أعد بصفة رئيسية لحكم السودان في الفترة الإنتقالية التي إنتهت في 2011 . ولكن هذا في حد ذاته لا يحمل رداً شافياً على السؤال، فقد ظل الدستور سارياً طوال الفترة التي أعقبت الفترة الإنتقالية، وسيظل سارياً لحين إصدار الدستور الدائم، بموجب حكم الفقرة (9) من المادة 226 . فما الذي جد الآن؟ إذا كان الغرض هو مواجهة مسألة لا تعالجها أحكام الدستور الحالي، أو يستحسن تفادي أحكام الدستور الحالي لعلاجها، فالحل هو تعديل الدستور وليس إصدار دستور جديد.
في رأيي أن إصدار الدستور الدائم هو مهمة ملقاة على هذا الشعب يجب عليه أن يقوم بها، ولكنها ليست مهمة عاجلة. يجب أن تؤخذ المسألة كلها بإعتبارها كذلك، وتعالج بما تتطلبه من شروط.
الدستور هو مجموعة الأحكام التى تُحكم بموجبها دولة ما. فالدستور هو وثيقة الغرض منها إدارة الصراع السياسى فى الدولة، وهو يقوم بذلك بتحديد السلطات العامة فى الدولة، وكيفية توليها وممارستها. والدستور إذ يوزع الإختصاصات بين السلطات العامة فى الدولة، يحدد درجة الفصل والتداخل بين تلك السلطات، ويؤطر الرقابة المتبادلة بينها. ولكنه أيضاً وعلى وجه الخصوص يقوم بشكل أساسى بتحديد سلطات الدولة فى مواجهة الأفراد. عملية صناعة الدستور هى عملية تهدف لإنتاج مسودة دستور جديد، قادر على البقاء لفترة معقولة من الزمان يتم من خلاله إدارة الصراع السياسى فى الدولة، دون الإنزلاق للعنف. وهو أمر يجب التحسب له ليس فقط للأسباب العامة المتعلقة بصناعة أي دستور، ولكن أيضا لأن تاريخنا يكشف ببساطة عن فشل متكرر في التوصل لدستور لديه قدرة على البقاء لفترة معقولة.
فذلكة تاريخية
ولعله من المناسب أن نقول أن تاريخنا الدستوري لا يكشف عن أي إتفاق ضم القوى السياسية الرئيسية على صياغة دستور دائم، وإن كان الإتفاق قد إنعقد مرتان على الأقل على دستور مؤقت، وفي المرتين كان محل الإتفاق هو دستور 1956 مع تعديلات طفيفة، رغم أنه دستور لم يكن للسودانيين في صياغته دور كبير، حيث أنه لا يحوي إلا على تعديل طفيف على أحكام قانون الحكم الذاتي، والذي تمت صياغته بواسطة الحكم البريطاني بالإستناد الي أحكام إتفاقية 1953 وتقرير لجنة ستانلي بيكر. وقد أدخلت عليه تعديلات بسيطة مثل تكوين مجلس السيادة بدلا عن الحاكم العام ومجلسه الإستشاري، ليحكم السودان عقب إعلان الإستقلال بقرار من البرلمان.
والسبب الرئيسي لإختيار ذلك الدستور، في رأيي، يعود لكونه دستور ديمقراطي يخضع الحكام لإرادة الحاكم، وبالتالي لم تجد القوى السياسية خيرا من الإحتكام إليه كدستور مؤقت، لحين التوصل لدستور يتم التوافق عليه، وهو أمر لم تفلح القوى السياسية في إنجازه في المرتين.
وعليه فإنه يمكننا أن نقول أن هنالك دستورين فقط تمت صياغتهما كعمل نهائي وهما دستور 1973 المسمى دستور السودان الدائم ودستور 1998 و لم يحمل أيا من الدستورين عناصر توفر له أسباب البقاء لمدة معقولة. فسقط الأول بعد إثني عشر عاما والثاني سنوات سبع. مما يجعلنا ننظر في الأسباب التي توفر للدستور عنصر البقاء
الشروط الأولية للقيام بصياغة مسودة الدستور من حيث الشكل
تكوين المفوضية الدستورية
الذي لا يستطيع أن يماري فيه أحد، هو أن الدستورين، 73 و98 ، كانا تعبيراً عن إرادة جناح واحد من الأجنحة السياسية المشكل منها المجتمع السياسي السوداني. فقد صاغ دستور 73 أنصار الإنقلاب المايوى من الإتجاه اليميني الذين كُتِب له الغلبة حين فشل إنقلاب 19 يوليو. أما دستور 1998 فقد قام بالصياغة النهائية له أحد أجنحة الإسلاميين. وبالتالى فإن أول المحاذير التي يتوجب عدم الوقوع فيها اذا أردنا أن نقوم بصياغة دستور يتوفر له القدرة على البقاء لزمن معقول، هو أن تتم صياغة المسودة بواسطة مفوضية دستورية تضم جميع القوى الفاعلة في المجتمع السوداني. وهذا يشمل الأحزاب السياسية، والنقابات المهنية، و العمالية، ومنظمات المجتمع المدني، كما يشمل التيارات المجتمعية المؤثرة، وأن يراعى في التمثيل داخل اللجنة أو الهيئة التنوع الإثنى والثقافي والديني داخل المجتمع السوداني وكذلك بصفة خاصة التمثيل الجندري الفاعل. كذلك فإنه يجب أن يترك لهم الزمن الكافي حتى تأتى المسودة كنتاج لعملية حوار مستمر تستقطب المكونات الفاعلة فى المجتمع، للتوصل لإطار مقبول لإدارة الصراع السياسى بينها.
تكوين المفوضية التي تباشر الصياغة على النحو المذكور يحتاج لعدد كبير من الأعضاء، وهو ما يُصعِّب عملها، ما لم تضم هيئة داخلية مكونة من مجموعة مصغرة تمثل التيارات السياسية الرئيسة، يتم في داخلها الإتفاق على المبادئ الرئيسية للدستور، في شكل إقتراحات لإجازتها بواسطة الهيئة العامة. كذلك فيجب أن تدعم المفوضية بلجنة فنية موازية تستوعب أصحاب الخبرات الفنية في الصياغة، والمعرفة بالمبادئ الدستورية المختلفة، وهو ما يمكن أن نطلق عليه مستودع الأفكار أو ال think tank. وتتكون من مجموعة مصغرة تضم علماء دستوريين ومفكرين يمثلون الإتجاهات السياسية المختلفة ليقوموا بدور ذي طبيعة مزدوجة: الأول هو المساعدة في التوصل لحلول فيما يتعلق بالأفكار المتعارضة داخل الهيئة المصغرة، وذلك على ضوء إستدعاء خبرات الأمم المختلفة. والثاني صياغة المبادئ الرئسية في المسودة لعرضها على الهيئة الكبيرة لإجازتها إجازة نهائية.
تبدأ المفوضية عملها بإجازة المبادئ التي يجب أن يتضمنها الدستور والتي نطلق عليها المبادئ فوق الدستورية، والتي سنتعرض لها تفصيلاً لاحقا، وسيساعدها في إستنباطها اللجنة الفنية. وهى بشكل عام خضوع الحكومة للمحاسبة الشعبية، والتبادل السلمى للسلطة، وإستقلال الاجهزة الدائمة للدولة، عن كل التكوينات الحزبية والسياسية، والفصل بين السلطات فى حدود التوازن، والمراقبة المتبادلة، وضمان إستقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية، والتكوينات السياسية، وقبول ضرورة أن يتضمن الدستور وثيقة الحقوق على نسق الوثائق الدولية المقبولة.
تقوم المفوضية بعد ذلك بمناقشة المسودات الدستورية التى تقدم لها من الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، ومن عموم الشعب، لمناقشتها فى جلسات مفتوحة، وذلك بغرض التوصل لمسودة واحدة يتم صياغتها وعرض أبوابها الرئيسية على الشعب فى إجتماعات على كافة المستويات، في الولايات المختلفة بنقاشها داخل ورش عمل تُعقد خصيصا لنقاش تلك الأبواب المجازة بشكل أولي من الهيئة العامة. على أن تتم تلك الورش في مختلف المراكز داخل الولاية المعينة بحيث يتم تحسس مدى قبول المسودة داخل الولاية . وهذا يقتضي زمنا طويلاً ولكنها عملية مفيدة جداً في التوصل لرغبات الشعب، وحتى يتمتع الشعب بإختيار مدرك حين يحدد رأيا حولها. عقب ذلك تقوم المفوضية بإقتراح مسودة موحدة يتم عرضها على آلية يتم تكوينها خصيصا للتيقن من أن المسودة تحتوى على المبادئ فوق الدستورية، لتتم بعد ذلك إجازتها بواسطة جمعية تأسيسية منتخبة، ومن ثم عرضها على الشعب لإجازتها بإستفتاء
تهيئة الجو لصياغة الدستور
لا يمكن أن يتم التوصل لدستور توافقى فى ظل حكم حزب واحد، كما ولا يصح للحزب الحاكم أن يتمسك بالإنفراد بالحكم، إذا كان صادقا في رغبته في صياغة دستور دائم. لا بد من تبنى وضعا يوفر حريات ديمقراطية واسعة تمكن من إجراء نقاش مفتوح وعميق ،حتى تتم صناعة دستور ديمقراطي. ما نقترحه فى هذا الصدد هو الإتفاق على إعلان دستوري لتهيئة الجو للمفوضية لتقوم بمهامها. وفقا لذلك فإنني أقترح إصدار إعلان دستوري يحكم فترة إنتقالية جديدة يتم فيه تبنى أحكام الدستور الإنتقالي الحالي، فيما يتعلق بوثيقة الحقوق والنظام الرئاسي، والفيدرالي، والأحكام الموجهة المتعلقة بالتعدد، وإستخدام اللغات المحلية. ويتم بموجبه تكوين مفوضية الدستور على النحو السابق الإشارة له، لتتولى صياغة مسودة الدستور. وحتى تقوم هذه المفوضية بدورها على الوجه المطلوب أقترح تكوين حكومة من شخصيات قومية ومهنية مكلفة بإطلاق الحريات العامة، وتوفير إستقلال جهاز الدولة عن أي تأثيرات حزبية، وإنهاء الحرب الدائرة في دارفور والمنطقتين، وإصدار قانون يتم بموجبه تكوين آلية، عقب وقف الحرب، لإنهاء المرارات عن طريق ما هو معروف بالحقيقة والمصالحة، حيث يتم العفو مقابل الإعتراف العلني بالجرائم مما يوفر مصالحة بين المكونات المختلفة للجهات المتنازعة، ويحافظ على النسيج الإجتماعي. كما وتقوم الحكومة برفع الأمر للمجتمع الدولي، لتبني قرار يتم فيه حل كل المسائل المتعلقة بالإنتهاكات التي وقعت أثناء الحرب الأهلية في مناطق النزاع، من خلال آلية الحقيقة والمصالحة، وشطب الدعاوى المتصلة أمام المحكمة الجنائية الدولية.
الشروط الأولية للقيام بصياغة مسودة الدستور من حيث الموضوع
دستور ديمقراطي
الدستور القادر على البقاء لفترة معقولة من الزمان، هو بالضرورة دستور ديمقراطي. والدستور الديمقراطي ليس نمطاً واحداً، فقد يكون دستوراً لدولة متحدة، أو فيدرالية، كما وقد يكون دستوراً يقيم نظاماً جمهورياً، أو ملكياً. والنظام الجمهوري، قد يكون برلمانيا أو رئاسياً، أو خليط بين الإثنين. وبعض الدساتير أشد تمسكاً بالفصل بين السلطات من غيرها. فى حين يعتمد البعض على مراقبة السلطات لبعضها البعض. وكل هذه الأشكال الدستورية من الممكن أن تكون ديمقراطية أو إستبدادية، والفرق بينها أشار له بوبر حين عرفها في كتابه "المجتمع المفتوح وأعداؤه" بأنها " النظام الذي يسمح بإزاحة الحكام دون اللجوء الي القوة ". وهذا يعنى خضوع الحكام لمحاسبة الشعب للمدى الذى يسمح للشعب بتغيير حكامه بإستخدام الآليات التى يوفرها الدستور. ديمقراطية الدستور فى تقديرنا تبدأ وتنتهى فى وثيقة الحقوق. أساس وثيقة الحقوق حدده ماديسون فى خطابه للمؤتمر الذى أقر التعديلات العشر الأوائل فى الدستور الأمريكى المعروفة بوثيقة الحقوق بقوله" أساس وثيقة الحقوق هو أن تقوم بتحديد سلطات الحكومة، وتؤطرها، بأن تخرج من نطاق تلك السلطات تلك الحالات التى يمتنع فيها على الحكومة أن تفعل شيئاً، أو أن تفعل ذلك الشئ فقط بطريقة معينة. "
الديمقراطية في جوهرها تقوم على قبول التعددية السياسية، والإثنية، والثقافية، والدينية، بما تفرضه من مشاركة في إتخاذ القرار. وهذا القبول ليس تفضلا من أحد، بل هو ضرورة لتفادي العنف. لأن التعددية لم تنشأ نتيجة قرار أخذته السلطة بحيث يجوز لها أن تتراجع عنه، بل هو واقع فرض نفسه على تكوين البلد، بفعل عوامل متعددة ليس هنا مجال بحثها، ولكن يكفي أن نقول أن البديل للقبول بها هو الحرب الأهلية التي إكتوينا بنارها على مدى تاريخنا كبلد مستقل.
لكي يتمتع الدستور بقدر مقبول من القدرة على البقاء لفترة معقولة يجب أن يلبي الأشواق المشروعة للأغلبية، بشرط أن يتفادى بشكل لا شبهة فيه، المخاوف المشروعة أيضا للأقلية.
وهذا يتم عن طريق تفادي طغيان الأغلبية وهو أمر لا يتم التوصل إليه إلا عبر الضمانات التي توفرها المبادئ فوق الدستورية
المبادئ فوق الدستورية والأساس الديمقراطى
المبادئ فوق الدستورية هي مبادئ تلزم واضعي الدستور بأن يضمنوه أحكاماً معينة من جهة، كما وتلزمهم بالإمتناع عن أحكام أخرى من جهة ثانية. وهذا يعني أن هنالك أحكاماً لا يمكن لأى أغلبية إستبعادها من الدستور القادم، وأخرى لا يجوز لأى أغلبية تبنيها. قد يبدو هذا النظر للنظرة المتعجلة مخالفاً للأساس الديمقراطي وهو، كما ذكرنا، الأساس الوحيد القادر على منحنا دستور يمكن له البقاء لمدى زمنى معقول. ولكن هذا ليس صحيحا، إذ أنه وإن صح أنه يتعارض مع مبدأ سيادة رأى الأغلبية بشكل مطلق، إلا أنه لا تعارض بينه وبين الديمقراطية الحقيقية. واقع الأمر هو أن مبدأ سيادة رأى الأغلبية بشكل مطلق، يؤدي إلى طغيان الأغلبية والذي يتعارض مع الديمقراطية الحقيقية . فمن جهة، فإنه من المؤكد أن النظام الديمقراطي لا يقوم على قرار الأغلبية فحسب، بل يتطلب بالضرورة الحفاظ على حقوق الأقلية، ومن جهة أخرى فإنه مهما توفر للمبادئ المنافية للأحكام فوق الدستورية من أغلبية، فإنها تفتقد التفويض اللازم لتبنى أحكام معينة فى الدستور. وذلك لأن الدستور هو القانون الأعلى للبلاد، وهو التعبير عن الإرادة الشعبية عن كيف يتم حكم البلاد، إلا أن هنالك صعوبات لا يمكن أن تخفى على أحد متصلة بأن الأغلبية الحالية لا تملك سلطة أن تقرر لأجيال لم تولد بعد. التفويض هو أصلا يمنحه من يملك القرار، وليس هنالك سلطة للأغلبية الحالية بإلزام الأجيال المستقبلة بما ترى من أحكام. ولا يجوز هنا قياس التفويض للسلطة التأسيسية على تفويض الشعب للسلطة التشريعية، إذ أنه قياس مع الفارق. فتفويض الشعب للسلطة التشريعية محدود من حيث الزمان والسلطات، فهو محدود من حيث الزمان بفترة محددة زمنيا، يسترد بعدها الشعب تفويضه، وما يشرعه البرلمان من قوانين وفقا لذلك التشريع لا يسبب إلغاءه بواسطة البرلمان الخلف معضلة، ولا يؤثر هلى التكوين السياسي للدولة الذي يستحسن ثباته. وهو إضافة لذلك محدد من حيث السلطات بحدود عدم تجاوز الحدود الدستورية للتشريع. والسؤال هو ما هى حدود التفويض بتشريع الدستور، فالدستور رغم أن شرعيته تقوم على رضا المحكومين فإن التفويض الشعبي بإصداره يثير صعوبة تتعلق بشرعية تفويض صادر من الشعب فى لحظة زمنية معينة، بالنسبة لدستور يراد له أن يحكم الأجيال القادمة، التى لم تفوض أحداً لإصداره.
هذه المبادئ فوق الدستورية بعضها قائم بشكل لا يقبل التعديل ولا التغيير ودور الجهة التي تصيغ الدستور لا يعدو إستنباطه، لأنه أصلا يمثل حقوق في مواجهة السلطة تتمتع بالديمومة لأنها مقررة في مواجهة أي سلطة. السلطة هى قدرة قانونية على إجبار الآخرين، على فعل شئ أو الإمتناع عن فعله، وأساسها القانونى هو القبول الطوعى لمن تُمارس عليه، والقبول الطوعى أساسه التنازل عن القدر اللازم من الحرية الذى يتطلبه العيش فى الجماعة. وثيقة الحقوق هى قائمة تحتوى على ما لم يتم التنازل عنه من حريات. معنى هذا أن مشروعية وضعها في الدستور لم تأتي من الأغلبية التي تقررها ، أوحتى الإجماع عليها، من داخل الهيئة المنوط بها صياغة الدستور أو إجازته، بل مصدرها الحق الأصيل للشعب في مواجهة السلطات التي كونها الشعب وفوضها سلطات لخدمته، لم تكن ضمنها تلك الحقوق المضمنة في القانون الدولي لحقوق الإنسان. وحقوق الإنسان بالنسبة للمجتمع الدولي تعني كل ما ورد في الوثائق الثلاثة التي أصبح يُطلق عليها تعبير القانون الدولي لحقوق الإنسان وهي: 1) الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، و2) العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، و3) العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والإجتماعية.
لذلك فإنه لابد للهيئة التى ستضع مسودة الدستور الدائم، من تضمين كافة الحقوق المضمنة في القانون الدولي لحقوق الإنسان، لأنها حقوق لا يجوز تجاوزها بالنسبة لأن الأغلبية الشعبية نفسها لا تمتلك سلطة تجاوزها. وهذه المبادئ الدستورية التى لا يجوز تجاوزها تتصل بالحريات العامة، التى لم يتنازل الشعب عنها حينما قرر إقامة سلطة يخضع لها فى حدود القانون، فهو قد إشترط بالضرورة عدد من الشروط منها خضوع السلطة للقانون، وخضوعها لمحاسبة الشعب على أسس دورية . الغرض الرئيسي من تبنى الدستور هو بدون شك تفادي كل أشكال الطغيان سواء أكان مصدره السلطات العامة أم الأغلبية الشعبية، وذلك بفرض حدود على قدراتها التشريعية، بالنسبة للدستور وبالنسبة للقانون. هذه المسألة مهمة لكل المجتمعات، من حيث تحديد الحدود التى يتم تنازل الفرد والمجموعات المختلفة عن حريته وحرياتهم، لقاء ما توفره الدولة لهم من أمان، فأى تشريع يتيح للدولة أكثر مما هو مطلوب من الفرد أن يتنازل عنه من حرية، يؤدى بالضرورة لطغيان السلطات العامة، ويفقد الشعب حرياته الاساسية. ومع ذلك فإن هذه المبادئ تبدو أكثر أهمية بالنسبة للمجتمعات الحديثة العهد بالديمقراطية، بسبب نزوع سلطاتها نحو الطغيان المتجذر في تاريخها من جهة، وبسبب عدم قبول الإختلاف لدى شعوبها من جهة أخرى. وهو ما يجعل التمسك بحقوق الإنسان لمنع الطغيان من الجهتين ضرورة لبناء مجتمع ديمقراطي.
طغيان الأغلبية
الحق فى المساواة يمنع طغيان السلطة بإخضاعها لأرادة الأغلبية، ومنه ينبع الحق في المشاركة في شؤون البلاد بواسطة الجميع على قدم المساواة، والذي يخضع القرار للأغلبية عن طريق الإنتخابات الحرة النزيهة. الإنتخابات تسلم مقاليد الأمور للأغلبية ولكن ذلك لا يمنحها حقا مطلقاً في إدارة الشؤون العامة لأن الحق فى الحرية يُخضِع إرادة الأغلبية لحقوق الأقلية. إذ أن سلطة الأغلبية لايجوز أن تكون مطلقة وإلا قادت للطغيان. والطغيان مرفوض حتى ولو مارسته الأغلبية. السلطة المطلقة هي عنصر غريب على الديمقراطية حتي لو كانت سلطة غالبية الشعب، فكما أن السلطة العامة لا يجوز أن تكون سلطة مطلقة بل تخضع للحدود المقبولة للنظام الديمقراطي، فإن سلطة الأغلبية أيضاً يجب أن تخضع للحدود المقبولة للنظام الديمقراطي، وهذه الحدود هي عدم إنتهاك حقوق الأقلية. ليس في الإمكان وضع حدود قاطعة بين الحق في المساواة الذي يقود الي وضع القرار في يد الأغلبية، والحق في الحرية الذي يمنع طغيان الأغلبية، فالحريات العامة غالباً ما توفر الحقين. إذا نظرنا مثلاً للحريات العامة الأكثر أهمية، كحرية التجمع والتنظيم، وحرية الرأي والتعبير، وحرية الصحافة، نجد أنها حريات لا يجوز للأغلبية إنتهاكها، وهي بالتالي تشكل قيوداً علي سلطة الأغلبية لصالح حقوق الأقليات. ولكنها أيضاً من الناحية الثانية تشكل ضماناً للحق في المساواة، لأن تلك الحريات تساعد في ان يكون للمواطن إختياراً مدركاً Informed decision وبدون هذا الإختيار المدرك، يمكن للأقلية المالكة لزمام الأمور أن تخفي الحقائق عن الأغلبية المُغيّبة، فلا يكون القرار في يدها لأنها لن تتمكن من التوصل للقرار المتوافق مع مصالحها. لذلك فإن حرية التجمع والتنظيم، وحرية الرأي والتعبير، وحرية الصحافة، بما توفره للشعب من معلومات وما تتيحه من نقاش، تسمح للأغلبية بإتخاذ قرار مدرك. من الجانب الآخر فإن طغيان الأغلبية السياسية يؤدي الي إفساد الحق فى المساواة، فمبدأ المساواة يفرض إقامة العملية الإنتخابية علي أساس صوت واحد للشخص الواحد، ولكن طغيان الأغلبية يمنع ذلك. لأنه إذا سمح للأغلبية بأن تقمع حقوق الأقلية في التنظيم والتعبير وتلقي المعلومات، فإن ذلك يمنع حق الأقلية في أن تحول نفسها لأغلبية. فحق الشعب فى أن يقرر يتضمن بالضرورة حقة في أن يغير قراره. وهذا الحق يعبر عن نفسه بصيانة حقوق الأقلية ولكن إذا سمح للأغلبية التي فازت فى الإنتخابات بأن تحول نفسها لأغلبية دائمة، عن طريق قهر حقوق الأقلية، فإن الديمقراطية كحكم للشعب تتحول الي ديكتاتورية. إذاً فإن وضع السلطة المطلقة في يد الأغلبية يخل بأساسي المجتمع الديقراطى وهما الحرية والمساواة.
الخطورة الرئيسية تأتي من المجموعات السياسية المستنده على نظريات دينية، أو علمانية تقوم على فلسفات توحى لمن يتبنوها بأنهم يحتكرون الحقيقة، وانهم بهذا لهم حق الوصاية على الشعب الذى يمنعه الجهل من ان يرى ما يرون. فهؤلاء لديهم مبادئ فوق دستورية مختلفة تماماً عن تلك التى نقول بها يرفضون أن يخرج الدستور عنها، والفرق بين تلك المبادئ، والمبادئ التى ندعو لها، هو أن المبادئ التى نقول بها، هي مبادئ تهدف لمنع الطغيان، بينما تؤدي المبادئ التى يدعون لها إلى تكريس الطغيان، والذى غالباً ما يبدأ بطغيان الأغلبية عند تبنيه، وينتهى بطغيان أقلية مكونة من حلقة صغيرة تمارس حقا فى الحكم، عن طريق إمتلاكها لما تتصور أنه الحقيقة، التى تمنحها تفويض غير محدود، بحكم البلاد كممثل وحيد للحقيقة الدينية، أو للأغلبية التى تحتكر هى دون تفويض تمثيلها
نبيل أديب عبدالله
المحامي
nabiladib@hotmail.com