ما هي “غبينتنا” مع ماركس والماركسية؟! (1)
إذا كنا على شيء من الجدية في البحث عن أفق تنويري يُخرجنا من هذه الوهدة الحضارية، أو – لأكون أكثر صراحة – دعني أقول من هذا الانحطاط الحضاري الذي نخوض في وحله ، متذيلين الأمم في كل شيء، بدءاً من فقرنا وأميتنا وتخلفنا، رغم تاريخنا الضارب في القدم، ومواردنا الطبيعية المتجددة وغير المتجددة، وتوفرنا على موارد بشرية مؤهلة لكل مجالات وأسواق العمل، والتي تشتتّْ في كل أنحاء العالم. فليس من سبيل للخروج من هذا القبو الرطب الخانق إلا بالوعي والتعلم والعمل الجاد المسؤول. وقراءة تاريخ الشعوب والحضارات تؤكد بأن هذا لن يُتاح لأي ناس إلا إذا استقبلوا العالم بعقول مفتوحة على مصراعيها، لا تتهيب المعرفة. وإلا إذا فتحنا أبواب ونوافذ عقولنا نستقبل رياح المعرفة التي تأتي من الخارج، نطلب العلم في مظانه، ونتفحص ما بين يدينا من إرث ثقافي يجري من أحدنا مجرى الدم. نأخذ من الآخرين ما يجدد دمنا ويزيدنا قوة. ونرفض، حين نرفض، عن وعي ودراية وعلم بأسباب رفضنا ومضار ما نرفض، والمعيار في كل ذلك، في تقبلنا وفي رفضنا هو تقدمنا وقوة دولتنا وسعادة الناس ورفاه معاشهم.
(2)
ثمة تناقض في المجتمع السوداني يثير الحيرة أحياناً، والجنون في أغلب الأحيان. فهو يستطيع أن يكون في منتهى الحيوية والانفتاح والقابلية على امتصاص الجديد والمستحدث وتمثله، وفي نفس الوقت يبدو أحياناً أخرى مجتمعاً متخشباً، بل متحجراً و"يحرن" إزاء أشياء هي أقل مساساً بتليد تراثه وثقافته.
على سبيل المثال، خاض السياسيون والكُتَّاب والمثقفون في مصر معارك حامية تحت لافتة السؤال: (الحجاب – وكان يومها اسمه البرقع – أم السفور؟) كان ذلك في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي. ثم خاضوا معركة مشابهة عن السؤال: (القبعة أم الطربوش)، ثم معركة قاسم أمين الأكثر شعبية في تاريخ مصر الاجتماعي عن تحرير المرأة. وكانت بالفعل معارك اجتماعية بين المحافظة والتحديث، أو كما كانوا يطلقون عليها معركة بين القديم والحديث.
بدأت المعركة منذ نهاية القرن التاسع عشر، ناضلت المرأة العربية، ومعها دعاة التنوير، من أجل التحرر من قيود التخلف فاكتسبت في مصر حقها في التعليم والعمل والتصويت، وقد نزعت المرأة المصرية البرقع التركي المفروض عليها في احتفال حضره الزعيم سعد زغلول ألقى فيه كلمة أكد فيها أنه لن تتحرر مصر بغير أن تتحرر المرأة المصرية وفي عام 1933 احتفلت مصر كلها بلطفية النادي أول قائدة طائرة في مصر وافريقيا.
إلا أننا في السودان لم نشهد مثل هذه المعارك الفكرية والاجتماعية. فقد كشفت النساء وجوههن وأزلن (البُلامة) وهي نوع سوداني خالص من البرقع المصري، والنقاب الخليجي بهدوء وكأنه لم يكن، بل وبعد أقل من عقد لبسن (جكسا في خط ستة) وهو فستان ما فوق الركبة بكثير. ولبس الرجال البناطلين بعد أن خلعوا جلاليبهم، وبعضهم ظل يعتمر القبعة وحسر بعضهم رؤوسهم دون أن يثير ذلك ضجة، فلا معارك ومحاكم ومظاهرات ولا يحزنون.
الأمر الذي يشير إلى عمق ثقافة التسامح في المجتمع السوداني، وعدم تطرفه أو تشنجه لتراثه وثقافته، أو بطريقة أخرى يشير إلى انفتاحه وعدم حساسيته في تقبل الآخر، وفي تاريخ السودان الموغل في القِدم تجد هذه الخاصية في التعامل حتى مع عقائد وأديان الآخرين، فهو يتعايش معها، ويُفسح لها مكاناً تتعايش فيه معه بسلام وطمأنينة، فلا صراعات دينية، ولا ومذابح مذهبية وطائفية ولا يحزنون.
(3)
إلا ماركس والماركسية. فقد ظلاَّ من المحظورات التي حوربت بعنف وضراوة لم تواجهها أي فكرة أخرى. فقد أغلقت دونها ابواب ونوافذ الوعي السوداني بشتى الطرق، واستُخدِمت في ذلك طرقاً بلغت حدّ الفجور والانحطاط الأخلاقي. وعايش من سبقونا زمناً كانت تثير فيه كلمتا، أو صفتا (شيوعي) و(بتاع بنقو) أعمق مشاعر الخوف والتوجس، لا تثيرهما أعتى الأمراض المعدية والكوارث المتوقعة، إذ كان يُشاع بين العامة أن الشيوعيين يبيحون زواج الأخ لأخته.
وتستطيع بسهولة أن تحدس متيقناً أن القوى السياسية والاجتماعية التي ظلت تسيطر على السلطة في السودان ونخبها الحاكمة هي التي كانت تقف وراء نشر هذه القناعات بين الناس، وقد ظلت هذه القوى المتمثلة في الطغم العسكرية الانقلابية، والقوى السياسية اليمينية/ المتأسلمة بمختلف تياراتها الطائفية والمحدثة تتداولان السلطة بينهما. ورغم اختلافاتهما وصراعهما السلطوي، إلا أنهما ظلاّ دائماً على وفاق حول هدف واحد، وهو محاربة قوى الحداثة والتنوير المتمثلة في الأحزاب اليسارية، وحزب الوسط، ما لم يجرَّه إسماعيل الأزهري، أو محمد عثمان الميرغني فيما بعد إلى الحظيرة الطائفية. وقد نال الحزب الشيوعي نصيب الأسد من هذه الحرب الشعواء.
لسنا هنا بصدد تقييم الحزب الشيوعي ودوره، فقد تطرقت إلى هذا في أكثر من مقام، وإنما نحن بصدد موقف الوعي السوداني، وقبله الوعي العربي والإسلامي من ماركس والماركسية بوجه عام، سواء بين من يُفترض فيهم الثقافة والوعي، أو بين العامة، حيث يقتسمان الموقف ذاته، كلٌّ حسب مستوى تحصيله الفكري والأكاديمي.
ورغم أن الخطاب هنا موجه للفئتين معاً، إلا أن المستهدف الرئيسي به هو ذلك الشباب الذي يتخبط تائهاً بين خطابات بذيئة في زيفها تتخطفه ذات اليمين وذات الشمال، لا يكاد يعرف له اتجاهاً يتوجهه أو طريقاً يسلكه.
(4)
ولكن مهلاً. فطالما نحن نعيش في مجتمع لا يكاد الشخص فيه يكتفي بما يقرأ ليفهم معنى ما يقال ويُكتب، وإنما يتجاوز ذلك ليقرأ ما يريد أن يؤكد شكه في "نوايا" من يكتب، وفي أغلب الظن أن هذه الآلية في فهم المعنى ومعقوليته وصدقه متوارثة من أصول الفقه في الإسلام، حيث تُرجّح صحة الحديث استنادا إلى شخص الراوي/ السند، وليس إلى متن الحديث ذاته، رغم أن صحة السند وحدها لا تكفي لتأكيد نسبتها إلى الشخص المعين، فكثيرة هي الأحاديث التي صح سندها وبطل متنها.
وحتى لا يجهد أحد ما نفسه في البحث عن نوايا خفية تدفعنا إلى ما نكتب عن ماركس والماركسية، أجدني مضطراً – تخفيفاً عليه – إلى التأكيد بأنني لا ولم أنتم يومياً إلى الحزب الشيوعي السوداني، وأنني لست من أشياع الماركسية، وبالتالي لا يمكن أن أكون داعية شيوعي!. ولكن كارل ماركس واحد من أكبر الفلاسفة الذين أجهدوا فكرهم بحثاً عن صيغة أكثر إنسانية لتحقيق إنسانية الإنسان، ووجَّه سهام نقده لكشف عورة المجتمع الرأسمالي، مبشراً بـ"نظام" اشتراكي بديل يضع أسساً جديدة لتوزيع الثروة بين جميع الناس، بعد أن قام بتقسيمهم إلى طبقات.
يمكنك انطلاقاً من هذا أن تصنِّف ماركس كواحد من الطوباويين الحالمين بعالم أكثر عدالة واستقراراً، ورغم ما في هذا التصور من تجاوز لحقيقة الماركسية، ولكنه يظل الأقرب والأكثر انصافاً، من التصور الزائف الشائع عن "مادية" ماركس وعدائه للنزعة الروحية. وعلى رأي إريك فروم فإن هدف ماركس يتمثل "في الانعتاق الروحي للإنسان، وتحريره من قيود الحتمية الاقتصادية، لإعادة بنائه في كليته الإنسانية، ولتمكينه من إيجاد الوحدة والتوافق مع أقرانه البشر ومع الطبيعة"(1).
هوامش
1) اريك فروم، مفهوم الإنسان عند كارل ماركس، دار الحصاد للنشر والتوزيع، دمشق/ سوريا، الطبعة الأولى 1998 ، ص (18).
izzeddin9@gmail.com