الطريق لحل الأزمة الإقتصادية يمرعبر بوابة إطلاق الحريات العامة
الثابت هو أن الحالة الإقتصادية قد وصلت درجة لم تعد الطبقة الوسطى معها، دعك من الطبقات الأقل في السلم الإجتماعي الإقتصادي، قادرة على توفير حاجاتها الأساسية. وهو وضع أنتج إجتماعيا حالة من الإنهيار الأخلاقي، و إنفلات غير مسبوق في السلوك الإجرامي . كما وأنتج سياسيا حالة من الإحتجاج المكبوت الذي يهدد بإنفجار لا يعلم مداهـ إلا الله.
الحكومة ، مهما كابرت، تشعر بالأزمة، وتحاول أن تجد لها حلولا. ولكنها حتى الآن لا يبدو أنها مستعدة لسداد فاتورة العلاج، أو على الأقل ليست مستعدة لسدادها بالكامل. فأساس المسألة هو إيجاد موارد للتنمية، والسياسات الحكومية في الواقع تساعد على تفاقم الوضع لا علاجه، لأنها مشغولة بمواجهة مصروفاتها هي. وهي تفعل ذلك بشكل أساسي عن طريق الإستدانة من النظام المصرفي، ثم تقوم بصرف ما إستدانت على أجهزتها السياسية والأمنية، مما ينتج عنه إرتفاع في وتيرة التضخم، والتضخم يضغط على الناس بشروره التي لا ترى منها الحكومة إلا إرتفاع قيمة الدولار في مواجهة العملة السودانية، فتحاول معالجة ذلك عن طريق قوانين ولوائح عبثية، كحبس الأموال في المصارف، وتجريم التعامل في النقد الأجنبي، وزيادة العقوبات على ذلك. وكل هذه الإجراءات تفاقم الأزمة الإقتصادية من حيث أنها تُفقد الناس الثقة في الجهاز المصرفي، وتفقد المستثمر الأجنبي الثقة في جدوى الإستثمار.
مطلوبات حل الأزمة
مواجهة الأزمة الإقتصادية بالإجراءات القمعية بالنسبة للإحتجاج السياسي، أو الإجراءات العقابية في الجانب الإقتصادي، والإعلامي، لن يحلها. وعلى الحكومة أن تقوم بخفض المصروفات الحكومية التي لا تذهب إلى إنتاج السلع والخدمات، وهذا في حد ذاته يخفض وتيرة التضخم، بالإضافة لما يوفره من مال يمكن إستخدامه في الإنتاج. كذلك تحتاج الحكومة لإستقطاب رأس المال الخاص نحو ما أصبح معروف بتعبير التنمية المستدامة . معلوم أن الأحوال الإقتصادية لن تنصلح بشكل قابل للإستمرارية، إلا عن طريق زيادة الإنتاج بشكل يسمح بإنتاج يفوق ما يتم إستهلاكه من سلع وخدمات، بغرض إنتاج ثروة يتم توزيعها بشكل منصف على أعضاء المجتمع. وما يعوق الإنتاج في الوقت الراهن، هو حاجة الحكومة للمال للصرف منه على الأجهزة الأمنية، وعلى الجهاز الإداري المتضخم في قمته، نتيجة للتعيينات التي تهدف لإرضاء المحاسيب، أو جلبهم. وهذه المصاريف التي لا تأتي بعائد، يتم جلبها عن طريق فرض الرسوم المختلفة والضرائب على المنتج والمستهلك. وهي وسائل وإن كانت سريعة العائد، وسهلة التحصيل، إلا أنها تؤدي لرفع تكلفة الإنتاج بدرجة تعرقل بيع المنتجات، وفي نهاية الأمر، لإفلاس المؤسسات الإنتاجية، وهرب رؤوس الأموال إلى الإستثمارات الهامشية غير المنتجة، والتي يسهل إبعاد أرباحها عن عيون السلطة. الحل المتاح الآن هو إستقطاب رؤوس الأموال الأجنبية مما يتطلب أمرين: الأول حالة من التوافق مع المجتمع الدولي وبالتحديد مع الدول التي يتوفر لديها الثورة والخبرة في الإستثمار. وإصلاح قانوني يسمح بحرية تصدير الأرباح المحققة، وتعامل مفتوح مع السوق العالمي. والثاني حالة من التوافق مع المجتمع السياسي الداخي لأن تقليل المصروفات الحكومية غير الموجهة للإنتاج، تبدأ بعلاج الإحتقان السياسي. المطلوب هواللجوء إلى سياسات تهدف لتطبيع الوضع السياسي، مما يسمح بتحويل المصروفات المتصلة بالإحتقان السياسي إلى المجالات الإنتاجية من جهة، ومن جهة أخرى فإن الحكومة تحتاج لإستقطاب التعاون مع المجتمع المدني الذي يذخر بالخبرات في مجال تحفيز الإنتاج. كل هذه المسائل المطلوبة بشكل عاجل تتوفر في جملة من كلمتين وهي الحكم الراشد أو الحوكمة الرشيدة لوشئت.
الحكم الراشد
الحوكمة الرشيدة Good Governanceهو مصطلح يتوقف المعنى المقصود منه على السياق الذي يستخدم فيه، إلا أنه يعني بصفة عامة، الطريقة المثلى التي يتوجب على المؤسسة المعنية إتباعها لإدارة شؤونها. المقصود بالحوكمة Governance هو "عملية صنع القرار، والعملية التي من خلالها يتم تنفيذ (أو عدم تنفيذ) القرارات " بعبارة أدق فتعبير الحوكمة الرشيدة ليس معنيا بإتخاذ القرارات "الصحيحة"، ولكن بأفضل عملية ممكنة لاتخاذ تلك القرارات. عندما نتحدث عن الدولة، وهذه المقالة معنية فقط بالحوكمة الخاصة بالدولة، فالأفضل إستخدام تعبير الحكم الراشد. الحكومة هي الهيئة المفوضة بممارسة الحكم، أو إدارة شؤون البلاد. الحكم أو الحوكمة هنا تعني الطريقة التي تستخدم الحكومات بها السلطة لإدارة وتوزيع الموارد الاجتماعية والاقتصادية للبلد. طبيعة وطريقة هذا التوزيع هو ما يفرق بين الحوكمة الرشيدة والحوكمة السيئة. عندما يتم توزيع الموارد لتعزيز عدم المساواة، أو لتحقيق طموحات شخص أو جماعة، فهذا من شأنه أن يهزم جوهر الحوكمة. لذلك، يجب أن يتم توزيع الموارد بطريقة مسؤولة، منصفة وعادلة، حتى يمكن وصف الحكم بأنه رشيد. هذا يقودنا إلى المعيار الذي يمكن أن نصف به طريقة الحكم بأنها جيدة أو سيئة. يشتمل الحكم الراشد على عدد من العناصر حسبما حددها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي PNUD وهي أنه ذلك الحكم القائم على المشاركة، والشفافية، والمساءلة، ودعم سيادة حكم القانون. ويضمن هذا النوع من الحكم وضع الأولويات السياسية والإجتماعية والإقتصادية حسب إحتياجات الأغلبية في المجتمع، كما ويضمن التعبير عن أكثر الأفراد فقرا وضعفا عند إتخاذ القرار حول تخصيص موارد التنمية. وهذه الخصائص تسمح بقبول واسع للسياسات الحكومية، وتؤدي لمحاصرة الفساد وحصره في أضيق نطاق. وهو ما جعل مجلس حقوق الإنسان يرى أن الحكم الراشد وثيق الصلة بحقوق الإنسان، من حيث أنهما يتداخلان ويتكاملان. وترتبط مختلف المواضيع التي تندرج تحت عنوان الحكم الرشيد ارتباطاً وثيقاً بتعزيز حقوق الإنسان وحمايتها. بإتباع السياسات الموصوفة بسياسات الحكم الراشد يتم (أ) تعزيز المؤسسات الديمقراطية، و(ب) تحسين تقديم الخدمات، و(ج) سيادة حكم القانون، و(د) مكافحة الفساد. وعلى وجه الخصوص، تؤدي سياسات الحكم الرشيد، في مجال إتاحة الخدمات الحكومية إلى الناس عامة، إلى النهوض بحقوق الإنسان عندما تُحسن قدرات الدولة على الوفاء بمسؤوليتها في توفير المنافع العامة الأساسية لحماية عدد من حقوق الإنسان، مثل الحق في التعليم والصحة والغذاء" Good Governance Practices for the Protection of Human Rights (United Nations publication, Sales No. E.07.XIV.10), p. 3
أساس كل ذلك هو الحريات العامة التي تتيح نقاشا مفتوحا ومتمتعا بالمعلومات في كافة الشؤون العامة ،مما يتيح للحكومة أن تأخذ القرارات التي يرغب فيها الشعب. والحكم الراشد ليس هو ما يطلبه المجتمع الدولي ومؤسسات التمويل المالية فقط، بل أيضا هو مطلب دستوري تضمنته الفقرة الأولى من المادة الرابعة من الدستور الإنتقالي حين وصفت خصائص الحكم الراشد بإعتبارها الخصائص الأساسية للدستور فذكرت "وتستند وحدة السودان على الإرادة الحرة لشعبه، وسيادة حكم القانون، والحكم الديمقراطي اللامركزي، والمساءلة والمساواة والاحترام والعدالة."
حقوق الانسان
حقوق الإنسان هي الحقوق الأساسية اللصيقة بالإنسان لكونه ببساطة إنسان. وقد تم التعبير عم تلك الحقوق بوثائق متعددة بدءً من اسطوانة سايرس في القرن السادس قبل الميلاد من قبل سايرس العظيم في إيران (576 أو 590 قبل الميلاد - 530 قبل الميلاد) و مروراً بالماجنا كارتا في إنجلترا 1215 والوثائق الأخرى المتضمنة لمبادئ حقوق الإنسان حتى إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789 الذي تبنته الثورة الفرنسية. حقوق الإنسان التي نعرفها اليوم تعني الحقوق الأساسية غير القابلة للإنكار، والتي تمثل قيدا على سلطة الحكومة في مواجهة الفرد، يتوجب عليها ضمان تمتعه بها. وأصبحت حقوق الإنسان من الآن فصاعدا شروط مسبقة ابتدائية للعيش في حياة لائقة بكرامة الإنسان. وضعت الفظائع التي سبقت وعاصرت الحرب العالمية الثانية حدا لوجهة النظر التقليدية لسيادة الدولة، والتي تقوم على مبدأ أن الدولة تقرر وحدها ما تأخذ من قرارات متعلقة بشؤونها الداخلية، وهو المبدأ الذي سمح للدولة أن تعامل مواطنيها كما تشاء، دون رقابة من أي سلطة أخرى. من خلال التوقيع على ميثاق الأمم المتحدة (UN) في 26 يونيو 1945 وافقت جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على حماية حقوق الإنسان، وتعهدت باتخاذ التدابير اللازمة لذلك. اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في باريس في 10 ديسمبر 1948. وقد أصبح هذا اليوم الآن اليوم العالمي لحقوق الإنسان. وقد تم تدعيم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بعد ذلك بعدد كبير من الاتفاقيات الدولية. وأهم هذه الاتفاقيات هي العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وعلى الصعيد الإقليمي تم عقد الاتفاقيات وإعلانات حقوق الإنسان والتي أنشأت المحاكم وغيرها من المؤسسات والتي منحت الاختصاص بمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان في كل دولة طرف. وهو الأمر الذي أخضع الدول لأول مرة للمساءلة القانونية بشأن أوضاع حقوق الإنسان فيها. وقد تم تصنيف حقوق الإنسان على نطاق واسع إلى ثلاث فئات، ويشار إليها باسم "ثلاثة أجيال" لحقوق الإنسان. تشكل الحقوق المدنية والسياسية (الجيل الأول)، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (الجيل الثاني) والحقوق الجماعية (الجيل الثالث).
وبالإضافة لإلتزام الدولة بحقوق الإنسان على المستوى الدولي، فإنها ملتزمة بها على المستوى الدستوري.
ينص الدستور في مادته الأولى بأن السودان دولة ديمقراطية متعددة الثقافات والأعراق، والأديان والأحزاب. وفي الفقرة الثانية على أن "تلتزم الدولة باحترام وترقية الكرامة الإنسانية، وتُؤسس على العدالة والمساواة والارتقاء بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية وتتيح التعددية الحزبية" وتضمنت وثيقة الحقوق في الدستور أغلب الأحكام الواردة في الوثائق الدولية التلاث، وإعتبرت الفقرة الثالثة من المادة 27 كل الحقوق والحريات المضمنة في الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، والمصادق عليها من قبل جمهورية السودان، جزءً لا يتجزأ من وثيقة الحقوق.
ما هو المطلوب الآن من الحكومة
من واقع هذا نرى أن مفتاح حل الأزمة الإقتصادية يتمثل في تطبيق الحكومة لمبادئ هي أصلاً ملزمة بتطبيقها، وذلك وفاء بالتزاماتها الدولية والدستورية، ونتعرض الآن ببعض التفصيل للمطلوبات العاجلة لإصلاح الوضع الإقتصادي
إنهاء الحرب الأهلية
تحقيق السلام في دارفور والمنطقتين هو أولوية بالنسبة لحل الأزمة الإقتصادية، وذلك لأنه يستحيل تحقيق متطلبات التنمية المستدامة في ظل نزاعات أهلية مسلحة، ليس فقط لما تسببه من دمار للثروات، بل أيضاً لأن مطلوبات خفض المصروفات التي لا علاقة لها بالعملية الإنتاجية، والحرص على عدم إهدار الموارد المتاحة، يتطلب تحقيق السلام. وهذا السلام لن يتحقق إلا بتبني مطلوبات الحكم الراشد، وحقوق الإنسان التي تقوم على الإعتراف بتعدد الثقافات والأعراف، والذي يعني تعدد الهويات داخل الهوية السوانية الواحدة. وهذا الإعتراف يجب ان يتعدى الإعتراف اللفظي، الذي طالما كررناه في وثائقنا المختلفة دون أي أثر على الواقع المعاش، إلى القبول الواقعي، وما يفرضه ذلك من مطلوبات أولها التنازل عن السلطة القابضة في المركز، عن طريق تخويل السلطات إلى الولايات والمحليات، لإقامة الحكم اللامركزي الذي تتمتع بموجبه تلك المناطق بسلطة حقيقية. وهذه المسألة يجب أن تُحل في إطار قومي، لأنها مسألة دستورية، لا تملك الحكومة الحالية التفويض اللازم لكي تتخذ قرارا منفردا فيه، كما ولا تملك الحركات المسلحة تفويضا عمن تتحدث بإسمهم، ولكن يجب أن يتم الحل بإتفاق على شكل مؤتمر دستوري مصغر يحضره الجميع، حتى لا ينتكس الإتفاق كسائر الإتفاقات التي أجرتها حكومات قابضة مع حركات مسلحة إقليمية.
رغم أن تعديل الدستور في 2015 يشكل إنتكاسة لنظام الحكم المركزي، إلا أنه يبدو أن المؤتمر الوطني ليس مصرا عليه. وهذا يظهر من أن مشروع قانون الإنتخابات، وهو مشروع قانون من إعداد المؤتمر الوطني منفردا، وضد إرادة جميع الأحزاب الأخرى بما فيها الأحزاب المحاورة، تجاهله. فقد نصت المادة 23(3) منه على أن يتم إنتخاب الولاة بواسطة المجلس التشريعي للولاية المعنية، مع أن التعديل الدستوري لعام 2015 كان قد عدل المادة 158 من الدستور ليجعل سلطة تعيين الولاة لرئيس الجمهورية.
التعيينات السياسية
الإحتقان السياسي وتجاهل أحكام الدستور في التعامل مع الأحزاب المعارضة تطلب إستخدام المناصب التنفيذية والدستورية، بإعتبارها أسلحة لإجتذاب الأنصار من داخل وخارج الحزب الحاكم، وهو ما أدى إلى إرهاق الميزانية، ليس فقط نتيجة لخلق مناصب لا حاجة لها، بل أيضا لتعيين غير الأكفاء في مناصب تحتاج لكفاءة عالية. وهو أمر ستنتفي الحاجة له، حين ينتهي الإحتقان السياسي بإنتهاج سياسات الحكم الراشد وحقوق الإنسان، لأنه لن تكون هنالك حاجة لشراء المواقف بالمناصب، وسيتم إلغاء المناصب التي لا حاجة لها، موارد مهدرة، وسيتم شغل المناصب التي تدعو لها الحاجة، بواسطة الأشخاص الذين يتمتعون بالكفاءة اللازمة لشغلها، فتتوفر بذلك موارد لم تكن موجودة.
ولسنا في حاجة لأن نُذكِّر بما يعلمه الجميع، من أن مبادئ الشفافية ومحاربة الفساد ستوقف النزيف الذي يعاني منه المال العام الآن بسبب الفساد.
إستقطاب التمويل الخارجي
يتطلب إستقطاب التمويل الخارجي والإستثمار عن طريق رؤوس الأموال الأجنبية التطبيق الفعلي للمبادئ التي أجمع عليها المجتمع الدولي، وضمها في الوثائق العديدة للأمم المتحدة، ووكالاتها المتخصصة، والتي تتمثل في مبادئ الحكم الراشد وحقوق الإنسان. وهي ــ كما أسلفنا ــ نفس المبادئ التي تضمها دستورنا، بمعنى أن إستقطاب التمويل الخارجي لا يفرض علينا أكثر مما الزمنا به أنفسنا في دستورنا.
بالنسبة للإستثمار، فإن المسألة لن تنتهي برفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، فإن مسؤولية الدولة تجاه مواطنيها تتطلب منها الإطمئنان على تطبيق مبادئ الحكم الراشد قبل أن تنصحهم بالإستثمار في هذا البلد أو ذاك.
المعارضة و الأجهزة الأمنية
الإحتقان السياسي الذي تعاني منه البلد يحول دون تطبيق مبادئ الحكم الراشد، التي تتطلب خضوع الحكومة للمساءلة، وأن تصغي لإرادة الأغلبية عند إصدار القرار . الإحتقان السياسي هو وضع خلقته الحكومة بإرادتها المنفردة، وهي الآن تعاني منه، لما يسببه من إهدار للموارد وعرقلة لإستقطاب التمويل الخارجي. بعد نفاذ دستور 2005 الذي تبنى الديمقراطية التعددية، لم يعد العمل المعارض للحكومة القائمة مسألة تستدعي تدخل القانون، أو الأجهزة الامنية، بل أصبح جزء من الحياة السياسية العادية. ففي حين تتماهى سلطات الحكومة في الأنظمة السلطوية حتى تبتلع سلطات الدولة وأجهزتها، تظل أجهزة الدولة في النظم الديمقراطية تمارس سلطاتها تحت توجيه الحكومة، ولكن في إستقلال تام عنها، لتحقيق مصالح الدولة.
الحكومة تعنى السلطة السياسية القائمة فى فترة محددة ، في حين تعنى الدولة الأجهزة الدائمة التي تمارس بواسطتها الحكومة القائمة فى زمن معين السيادة على الشعب والإقليم. وهذه الأجهزة الدائمة ـ ومن ضمنها جهاز الأمن ـ يجب أن تتميز بالحياد تجاه الحكومات المتعاقبة من جهة، وتجاه التكوينات السياسية القانونية داخل إقليم الدولة من الجهة الأخرى. وحياد الجهاز تجاه التكوينات السياسية القانونية ضرورى لممارسته لمهامه كجهاز من أجهزة حماية الدولة يتعاون معه الجميع مما يسهل للجهاز أداء مهامه، ويزيل الفهم المغلوط بوجود تعارض بين حماية الأمن الوطنى والحريات العامة. لذلك فإنه لا يوجد عداء بين الاجهزة الأمنية والمعارضين، في الأنظمة الديمقراطية، بل على العكس من ذلك تتم بينهم مشاورات وإجتماعات من حين لآخر، لتبادل المعلومات حول المهددات الأمنية للدولة، وليست الحكومة، خاصة وأن النظام الديمقراطي لايعرف حكومة يخضع لها الأمر أبد الدهر، بل على العكس من ذلك تتحول بشكل طبيعي معارضة اليوم لتصبح حكومة الغد. لذلك فإن الإعتقالات التي تعرض لها قادة المعارضة بواسطة جهاز الأمن تعتبر مخالفة لأسس النظام الديمقراطي الذي يشكل أساسا لا غنى عنه للحكم راشد. يبدأ رفع الإحتقان السياسي برفع يد الأجهزة الأمنية عن نشاط الأحزاب السياسية المعارضة للحكومة، بما في ذلك تسيير المواكب، وعقد الندوات، والإجتماعات العامة، فهو نشاط مشروع، وتدخل تلك الأجهزة في رصده وقمعه لا يوجد له أي مبرر دستوري.
هذه الممارسات وضعت ضغطا على الميزانية، فتم تخصيص موارد لها، كان يجب أن تخصص للخدمات الأساسية المفروضة على الدولة تجاه مواطنيها، كالصحة والتعليم وغير ذلك من الخدمات، التي بالإضافة لأهميتها كوفاء من الدولة بإلتزاماتها، تعتبر من قبيل الإستثمار في القوى البشرية، الذي يسبب زيادة في الثروة .
المطلوب الآن هو القيام بمسألتين في غاية الأهمية لوقف الإحتقان السياسي، الأول هو ما ذكرناه حالاً من وقف إستخدام أجهزة تنفيذ القانون في تعقب النشاط المعارض، والسماح بالحريات العامة. والثاني هو الإصلاح القانوني المتطلب للسماح بإنسياب العملية الإنتاجية دون عوائق من جهة، ولمنع إستمرار الممارسات المخالفة للدستور من جهة أخرى.
العمل المعارض والقانون
إستخدام الحكومة للقانون لقمع العمل المعارض يقودها لإستخدام مواد قانونية هي ملزمة بإلغائها. من ذلك إستخدام المادة (50) من القانون الجنائي في مواجهة قادة المعارضة، لكونها مادة مخالفة للدستور من عدة أوجه. كذلك فإن إستخدام تلك النصوص في قمع المعارضة من شأنه أن يدخل جهازاً حساساً من الأجهزة العدلية، وهو جهاز النيابة العمومية، في الصراعات الحزبية، وهو أمر ستدفع ثمنه البلاد بأسرها، ولا يقتصر مضاره على المعارضة أو النظام .
ولكن المسألة تحتاج لإصلاح قانوني كامل للترسانة القانونية القمعية، والتي تشمل عدد معتبر من القوانين لتجعلها متوائمة مع الدستور، فلا يجوز أصلا إعتقال أي شخص ولا محاكمته دعك من عقابه على ممارسة أيا من حقوقه الدستورية. هذا الإصلاح القانوني هو مفتاح الإصلاح الإقتصادي ليس فقط بما يوفره من أموال تصرف على هذه الإجراءات القمعية، بل بما يحرره من طاقة للعمل الخلاق، وما سيستقطبه من رساميل محلية وأجنبية عندما تطمئن لسيادة حكم القانون.
nabiladib@hotmail.com