ضرورة تحديث الخطاب الإسلامي: تطبيق الشريعة الإسلامية أم الإهتداء بكليات الدين الإسلامي
الدعوة التي وجهها رئيس الجمهورية لوضع مسودة الدستور الدائم تستدعي أن تقوم الحركة الإسلامية بتجديد، أو قُل تحديد، خطابها السياسي لتحدد بموجبها موقف واضح من الدستور. مسألة الدستور لا تحتمل شعارات غامضة، بل تحتاج لأحكام محددة تقوم على طرح واضح. بالنسبة للحركة الإسلامية، فإن الدعوة لتجديد أو تحديد طرحها، أساسه هو أنه بعد مرور ثلاثين عاما من حكم الإسلاميين وبعد أن إنفردوا بإصدار دستور في عام 98 وشاركوا في وضع دستور 2005 مازال الناس في حيرة بالنسبة لطرحهم الدستوري الإسلامي
الدستور الإسلامي
لقد كان طرح الحركة الإسلامية في الفترة الديمقراطية التي أعقبت سقوط الحكم العسكري الأول، هو الدعوة للدستور الإسلامي. وهو طرح ساعد على أن تتجمع الأحزاب حوله، صعود اليسار السوداني بقيادة الحزب الشيوعي لدرجة أصابت الحزبين الكبيرين، المنقسمين آنذاك، بالقلق، ودفعتهما للتخلي عن الديمقراطية الليبرالية التي قاما عليها، ليتبعا حزب الميثاق الإسلامي، كما كان يدعو نفسه آنذاك، في الدعوة لحل الحزب الشيوعي، وطرح ما يسمى بالدستور الإسلامي. بالنسبة للحزبين كان الطرح أساسه التأكيد على حل الحزب الشيوعي، ولكنه لم يذهب لأبعد من ذلك. وهو ما أدى لإسقاط النظام بإكمله في مايو 1969
صعود الحركة الإسلامية المتطرفة
يعتبر العام 79 من القرن الماضي عاماً فارقاً في صعود الحركة الإسلامية المتطرفة التي تهدف لإعلان الدولة الإسلامية. وقد شهد ذلك العام ثلاث أحداث بالغة الأهمية :الأولى وقوع الثورة الإسلامية في إيران على يد الخميني والمؤسسة الدينية الشيعية والتي أقامت ما عُرِف بولاية الفقيه.
والثاني هو أحداث أول محرم 1400 حيث إستولى أكثر من مائتي مسلح بقيادة جهيمان العتيبي على الحرم المكي، مدعين ظهور المهدي المنتظر.
وكان الحدث الثالث هو غزو السوفييت لأفغانستان، وهو الأمر الذي أدى لإرتفاع الحمية الدينية، وتدافع الشباب المسلم للدفاع عن الإسلام في أفغانستان، حيث تم بناء تنظيم القاعدة.
ورغم أنه يصعب أن ننسب الحركة الإسلامية السودانية لتلك الفرق المتطرفة، إلا أنها إستفادت من تزايد في النفوذ الديني بين الشباب، على حساب اليسار بشقيه القومي والأممي، والذي نتج عن تلك الأحداث.
رغم تزايد نفوذ الجبهة الإسلامية السودانية في أواخر الحكم المايوي ، إلا أنها لم يكن لها دور في القوانين التي أصدرها النميري آنذاك. عقب سقوط نميري قادت الجبهة حملة سياسية تحت شعار الإسلام هو الحل، والمحافظة على القوانين الإسلامية التي أُطلِق عليها بشكل متعسف، شرع الله.
الحركة الإسلامية في الحكم
بغض النظر عن الشعارات الإسلامية السياسية، التي تم إطلاقها بشكل كثيف، إلا أن كل ما أحدثته الإنقاذ في التركيبة القانونية، من منظور إسلامي، لم يزد عن القانون الجنائي والنظام الإقتصادي الإسلامي. لم يحدث القانون الجنائي تغييراً ذا بال في الوضع القانوني السوداني، فقد كان قانون العقوبات لعام 83 قد أدخل الحدود والقصاص ضمن القانون الجنائي السوداني، ولكن الحكم الديمقراطي الذي تلى أبريل 1985 أوقف تنفيذها، ما عدا حد الشرب، الذي تعايش معه الشاربون، وهو أمر لم يتغير بعد إصدار القانون الجنائي لعام 1991 فلم نشاهد صلباً ولا رجماً ولا قطعاً، مع إستمرار وقوع جرائم النهب والزنا والسرقة.
الأحكام الدستورية في الخطاب الإسلامي
كان الخطاب الإسلامي في المرحلة التي سبقت إستيلاء الجبهة على السلطة يتحدث عن الدعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية. لم يكن ذلك يعني التخلي عن الدستور الإسلامي لأن الشريعة تحتوي على قواعد في القانون الدولي، وفي القانون الدستوري، وفي أغلب فروع القانون الداخلي. لم يكن هنالك غموض حول الدعوة للدستور الإسلامي، ولكن الغموض كان في محتوى هذه الدعوة فلقد كانت وما زالت أدبيات الإسلاميين تخلو تماماً من أي دراسة للأحكام الدستورية الشرعية.
الإمامة والبيعة والطاعة
ظهر تخلي الجبهة عن إقامة دولة إسلامية جليا في دستور 98 الذي أصدره الإسلاميون المنفردون بحكم البلاد. فلم يتعرض دستور 98 للإمامة على الإطلاق، ولا يمكن أساساً قيام دولة إسلامية بغير إمام. ولا نعني بالإمامة هنا المعنى الشيعي، وإنما نعني به رأس الدولة المكلف بإقامة أحكام الله فيها. وعوضاً عن ذلك تحدث الدستور عن رئيس الجمهورية، فإشترط فيه المواطنة دون الدين. وسلامة العقل وبلوغ الأربعين. وأن لا تسبق إدانته بجريمة تمس الشرف أو الأمانة. ومرور سبع سنوات في حالة – سبق إدانته بأي من ذلك. وذلك يفتح الباب لتولي رئاسة الجمهورية لغير المسلم، وللمجلود في حد، وللمرأة . ومسألة المجلود، والمرأة، قد تخضع لنقاش، ولا نقاش على الإطلاق في تولي غير المسلم الأمر في دولة الإسلام. ولا يصح التحايل على ذلك بالمجادلات التي تعتمد على التبرير، مثل القول بأن الغالبية المسلمة لن تنتخب غير مسلم للرئاسة، فليس من الفطنة أن نترك التمييز لتمارسه الأغلبية. فالمسألة مسألة مبدأ إذا أردنا إقامة دولة الإسلام يجب إشتراط الإسلام في رئيسها، ويجب أن يعهد اليه بمهام هي من صميم أعمال رأس الدولة الإسلامية، وهذا ما تجاهله دستور 98.
كذلك فقد أغفل الدستور البيعة، فحولها إلى إنتخاب متجاهلاً شروط البيعة، فأجاز الإنتخاب لكل من جاوز سن معينة، بغض النظر عن الدين والعلم. فأجازها لغير أهل الحل والعقد، دون أن يقابل ذلك أي عمل فكري يبرر ذلك. وأجاز نقض البيعة لأسباب غير دينية، وذلك بالنص على العزل فقط في حالة الإدانة بجريمة الخيانة، أو أي جريمة اخرى تمس الشرف. وعموماً فإن كافة الأحكام المتعلقة بالسلطات الثلاث في الدولة، في دستور 98، هي أحكام وضعية لا صلة لها بأحكام أي دين.
يتحدث دستور 98 عن دولة السودان، وتذكر مادته الأولى عن طبيعة الدولة أنها "وطن جامع تأتلف فيه الاعراق والثقافات وتتسامح الديانات، والاسلام دين غالب السكان، وللمسيحية والمعتقدات العرفية أتباع معتبرون." ألا يعني هذا أننا نتحدث عن دولة لا تقوم على الدين أوالعرق؟ ألا يعني ذلك أن الدولة لا تتبنى أحكام الإسلام الدستورية ؟ وإذا كانت الدولة التي نعيش في ظلها هي دولة السودان، وأن الرابطة التي تربطها بمواطنيها هي المواطنة وليس الدين، فما هي شرعية تبني مفهوم ديني على رابطة لا تقوم على الدين؟
عموما فقد غلبت ثقافة السربون الفقه الشرعي، لدى الحركة الإسلامية، في دستور 98. وهكذا إعترفت المادة 21 من الدستور بالحق في المساواة فذكرت "جميع الناس متساوون أمام القضاء، والسودانيون متساوون في الحقوق والواجبات في وظائف الحياة العامة، ولا يجوز التمييز فقط بسبب العنصر أو الجنس أو الملة الدينية، وهم متساوون في الأهلية للوظيفة والولاية العامة ولا يتمايزون بالمال"
ما هو المقصود من الشريعة الإسلامية
رغم تخلي الإسلاميين عن الأحكام الدستورية في الشريعة الإسلامية فلقد بقي الإصرار على الشريعة الإسلامية كمنظومة قانونية، وليست دستورية، بإعتبارأن تطبيقها كان المبررفي الإنقضاض على السلطة، وهو الحادي لهم في التمسك بها وأصبحت هي العقبة الكؤود في التوصل لحل في مباحثات السلام.
عندما أسفر الإسلاميون عن وجههم عقب إستيلائهم على السلطة كان خطابهم نحن أتينا لتطبيق الشريعة. كان الفهم السائد لدى العامة آنئذ هو أن الشريعة الإسلامية، والتي كان يطلق عليها شرع الله، هي مجموعة أحكام إلهية مقننة، ومتفق عليها، ويلزم فقط قرار سياسي لتطبيقها. هذا غير صحيح فالشريعة الإسلامية هي جهد بشري لإستنباط أحكام من أحكام إلهية. وهي تشمل بحور غريقة وواسعة من الخلافات في تفاصيلها. ولم يتفق الفقهاء حتى على المصادر التي تستقي منها الشريعة أحكامها. فإذا نظرنا للمذاهب الأربعة الكبرى لأهل السنة نجد أن الإمام أبو حنيفة يرى أنّ مَصادر الشريعة ستة مصادر، وهي: القرآن الكريم، وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم ما ثبت منها، وإجماع الصحابة والتابعين، والقياس على الأحكام الفقهيّة العمليّة المُستنبطة من المصادر الأصليّة للتشريع، الاستحسان، والعُرف. في حين يذهب الإمام مالك إلى أنَّ مصادرها ثمانية، وهي: القرآن الكريم، والسُّنة النبوية، وعمل أهل المدينة، وفتوى الصحابيّ وقوله، والقياس، والمصالح المُرسَلة، والاستحسان، والذَّرائع سدُّها وفتحها. ذهب الإمام الشافعيّ إلى أنَّ مصادر التشريع المُعتبرة هي: القرآن الكريم، والسُّنة النبوية، وهما عنده بنفس الدرجة من حيث الاستدلال، والإجماع، وقول الصّحابي أو فتواه، والقياس. ولم يأخذ الشافعيّ ولا إبن حنبل بالاستحسان .
في حين ذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى أن مصادر الشريعة هي: القرآن الكريم، والسُّنة النبوية، والإجماع، وفَتاوى الصّحابة والتابعين، والقياس، وهو ما أخذ به تلميذاه ابن تيمية، وابن قيم الجوزيّة. ذهب الإمام ابن حزم الظاهري إلى أنّ مَصادر التشريع محصورةٌ في القرآن الكريم والسُّنة النبوية فقط.
وهكذا نرى أنه فيما عدا ما قال به الإمام ابن حزم الظاهري فإن سائر الفقهاء قبلوا مصادراً للشريعة تقوم على الإجتهاد البشري. وقد فطن لذلك الإمام الشافعي بالنسبة للإستحسان فذكر(من استحسَن فقد شَرَّع).
الإسلاميون والشريعة الإسلامية
لا يوجد أي عمل فكري خاص بالجبهة الإسلامية حول مصادر التشريع الإسلامي، ولا على ما تضمنته الشريعة من أحكام. فرغم أنها إستبعدت فيما أصدرت من قوانين أحكاماً ، مصدرها الإجتهاد البشري، لم تعد مقبولة في هذا العصر، كالرق وملك اليمين، إلا أن ذلك لم يكن نتيجة لبحث أو نقاش بل تجاهلتها كأنها غير موجودة. واقع الأمر أن القوانين التي اصدرها نميري بإعتبارها قوانين إسلامية لم يطالها أي تغيير من منظور إسلامي، فقد ظل قانون المعاملات المدنية المنقول نقلاً مخلاً عن قوانين أجنبية، على حاله. وإذا كانت هناك تعديلات أدخلت على أحكام الحدود والقصاص بقانون 91 فهي تعديلات طفيفة غير مؤسسة على نظرية واضحة ولم تجد لها ظهيراً من أي عمل فكري.
ويمكن للمرء أن يقلب كافة الجوانب السياسية والإجتماعية والإقتصادية والقانونية، فلا يجد للجبهة عمل فكري يعلم منه موقفها من هذا الأمر أو ذاك ، مما سمح لنظام الإنقاذ أن يتأرجح من أقصي اليسار لأقصى اليمين دون أن يتخلى عن شعاراته الإسلامية، ودون أي تبرير فكري . فدولة الإسلام التي فتحت حدودها للمسلمين بغض النظر عن جنسياتهم في أول الإنقاذ، بل وللمستجيرين (كارلوس) حتى ولو كانت إستجارتهم من القانون الجنائي العادي ، تحولت إلى دولة المواطنة في دستور 98 وقبلت بعض من كانت ترفع في وجوههم راية الجهاد حكاماً معها دون أن يدخلوا في دين الإسلام.
كذلك فقد تأرجحت السياسة الإقتصادية من تحديد قاطع للأسعار، وفرض صارم للرقابة على العملة، وصل لدرجة الإعدام إلى انفتاح كامل، وتحرير للسوق، وخصخصة لا حدود لها، وها هيالآن تعود إلي فرض صارم للرقابة على العملة، دون أي تبرير فكري من منظور إسلامي.
الشريعة كمصدر للقوانين
من كل ذلك يتضح أن حرص الجبهة في نيفاشا على تطبيق الشريعة، في الشمال، وتضمين إشارة بذلك في الدستور هو إصرار لم يكن يعني شيئاً.
وهذا ما تم في المادة (5) من الدستور. فما هو المعنى المقصود بأن تكون الشريعة الإسلامية والإجماع مصدراً للتشريعات التي تسن على المستوى القومي وتطبق على ولايات شمال السودان
معلوم أن للتشريعات مصادر عديدة، منها العرف، والمعتقدات الدينية والثقافية، وغير ذلك. هذه المصادر تكون في ذهن المشرع ولكنها لا تقيده في إصدار القوانين التي يرى أن من المصلحة إصدارها. فما هي مصادر قانون حركة المرور ؟ أو قوانين النقد الأجنبي؟ أو الشركات؟ وما صلتها بالشريعة الإسلامية؟ لا معنى أصلا لوضع مصادر القانون في الدستور. فالدستور معني بتكوين السلطة التشريعية، وطريقة إصدار القوانين، وحدود سلطتها في ممارسة التشريع، حتى لا تصل إلى إنتهاك الحريات الدستورية. إذا كان لتحديد مصادر القانون سبب، فإن مكان ذلك يكون في القانون المعني. والغرض من ذلك ليس تقييد المشرع، ولكن مساعدة الشراح على فهم القانون وشرحه.
الحديث عن وضع الشريعة كمصدر للقانون، لا يعني وفي واقع الأمر شيئاً، لأن الشريعة نفسها كما رأينا لا يوجد إتفاق على مصادرها، وتحتوي بين جنباتها على بحور من الخلاف. ولذلك فقد رأينا الإسلاميين القابضين على زمام الأمور، يتنكرون لها إما تشريعاً، أو تنفيذا، في أحوال عديدة.
الإستهداء بقيم الشريعة وليس تطبيق الشريعة
لقد رأينا دعوة أبي بكر البغدادي لتطبيق الشريعة وما أدت إليه. الشريعة في واقع الأمر تشمل المصادر الإلهية والتي هي موجودة في النصوص المقدسة التي لا تفسر لا تفسر نفسها، بل يفسرها بشر. وهذا ما عبر عنه إمام المتقين حين رد على المناداة بتحكيم القرآن في صفين بقوله "القرآن حمال أوجه". كما وتحمل الشريعة مجموعة من الإجتهادات الفقهية والتي تشمل الصواب والخطأ. فقد نقل عن عبد الله بن مسعود قوله عن رأيه (ما كان فيه من صواب فمن الله وحده وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان) وهي عبارة رُويت أيضا عن أبي بكر الصديق في مسألة الكلالة. ولذلك فلا يصح المنادة بتطبيقها وكأنها مجموعة من الأحكام الإلهية الواضحة الدلالة. فالأصوب هو الإستهداء بها وليس تطبيقها. لا يمكن لعاقل أن ينكر الأهمية القصوى للقيم الدينية، كما وأنه لانرى هنالك مايدعو لأن يعترض أحد على أن يدعو حزب ما إلي تبني هذه القيم وإستلهامها في التشريع، أو في السياسات المختلفة، طالما أن القوانين تنسب للبشر الذين يصيغونها، ولفهمهم لتعاليم قيم الدين الذين يدعون لتبني قيمه، وإستلهام كليات أحكامه فيما ينفع البشر. وليس هنالك ما يمنعهم من تبنى تفسيرات معينة لأحكام فقهية، بل في الواقع نحن ندعوهم لذلك، فيما يتعلق بالسياسات والمعاملات والجنايات، ولكن دون أن ينسبونها لله، بل يدعون لها بإعتبارها ما يفهمونه هم من الدين، إذ أنه ليس لهم فيه القول الفصل، بل هو أمر يقبل الخلاف، ليصل الناس فيه فيما بينهم لكلمة سواء وهذا أساس التشريع في النظام الديمقراطي.
nabiladib@hotmail.com