في نقد رؤية مغايرة للهوية والحرية والحداثة (1-2)

 


 

 

 

الدكتور فتحي المسكيني كاتب ومفكر تونسي من مواليد 1961 يعمل استاذا للفلسفة بالجامعات التونسية وهو كاتب نشط نشر عددا من الكتب في الفلسفة وله معرفة واسعة بالفلسفة الغربية وقدرة على التفلسف التأملي، سوى، أنه تستغرقه التفاصيل، ولا يعمل على استخلاص نظرة كلية لفلسفة الذين يقع في أسرهم، تمكنه أن يقف منهم موقفا نقديا. 

وينهض مشروع الدكتور فتحي المسكيني في جانب كبير منه على نقد "الهوية" بمعناها الأنثروبولوجي والثقافي ويصف هو نفسه هذا المشروع بأنه مكرس لنقد "العقل الهووي" والهووي هنا نسبة إلى الهوية. وقد صدر له في نقد الهوية حتى الآن ثلاثة كتب هي: (الهوية والزمان: تأويلات فينومينولوجية في مسألة النحن) )2001 و(الهوية والحرية: نحو أنوار جديدة) 2011 و(الكجيتو المجروح: أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة) 2013.
وقد لفت نظري إلى مشروع المسكيني في نقد الهوية الأخ والصديق، طاهر عمر، وهو كاتب مثابر ومتابع جيد لأحدث تيارات الفكر الغربي والعربي. وهو مفتون بنقد المسكيني للهوية ويتخذه أساسا لرفض أي حديث عن الهوية بالمعنى الإثني والثقافي والديني والسياسي. وكنت أظن في البداية قبل قراءة كتبه، إن المسكيني يقصد بنقد الهوية أو العقل الهووي، رفض التوظيف الايديولوجي للهوية ورفض العقلية العصبية والقبلية والعنصرية والطائفية والتعصب المذهبي والعقائدي، ورفض الاستعلاء والتمييز العرقي والثقافي واستخدام الهوية سببا وسلاحا في الصراعات والحروب.
لكن الحقيقة التي فاجاتني وسوف تفاجىء القارىء، إن الكاتب يرفض الهوية من حيث هي هوية بالمعنى العرقي والثقافي والديني والسياسي والاجتماعي، بوصفها بنية وجودية وواقعا معاشا وحقيقة من لحم ودم تمشي على رجلين. ليس ذلك وحسب بل إن الكاتب يرفض حتى الهوية بمعنى "الوطن/الأمة" ويدعو صراحة إلى "ذات بلا هوية" وإلى معنى للوطن، لا يتأسس على مفهوم "الملة" و"الأمة" و"القومية" أو حتى بمفهوم "الدولة الحقوقية الحديثة"، وهذه هي الكلمات التي يستخدمها الكاتب حرفيا.
بل أن الكاتب يرفض الانتماء من حيث هو انتماء إلى فكرة او مفهوم أو جماعة أو مؤسسة محددة سلفا ويدعو إلى الدرجة "الصفر" من الانتماء!! وهكذا فإن "العقل الهووي" الذي يقول إنه يستهدفه بالنقد هو كل عقل يؤمن بالانتماء التاريخي والقومي والوطني والثقافي والسياسي.
الهوية بين الفلسفة والعلوم الاجتماعية:
أول ما يلفت نظر القارىء ان الكاتب لا ينطلق في رفض الهوية بالمعنى الانثروبولوجي والثقافي والسياسي، من مناقشة القضايا والإشكالات الواقعية والعملية والتجريبية التي تدعوه لرفضها، كما لا ينطلق في مناقشة ذلك من منظور العلوم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانون الدولي والفكر السياسي والدراسات الثقافية، وما يثار في ساحة هذه العلوم من قضايا وإشكالات متعلقة بموضوع الهوية والانتماء الانثروبولوجي والثقافي والقومي، ولكنه ينطلق في رفض ذلك من تأملات فلسفية تجريدية محضة لا علاقة لها بالواقع التجريبي المعاش ولا بالعلوم السالفة الذكر، وذلك استنادا إلى هيجل ونيتشه وهيدجر وبول ريكور.
فهو ينطلق من فرضية أن الهوية سؤال فلسفي في الأصل فهي "لئن صنفت عادة بوصفها ظاهرة تاريخية أو ثقافية أو أنثروبلوجية أو نفسية، فهي في أصلها مسألة فلسفية قديمة لا مشاحة فيها". الهوية والزمان، ص6
لذلك فهو يهدف أن يرد سؤال الهوية إلى ساحة الفلسفة، يقول: "إن قصدنا هو نقد العقل الهووي identitaire وذلك يعني عندنا الانتقال من السجال الانثروبولوجي والثقافي identite الى الاستشكال الفلسفي". ص20
وهذا خلط للأوراق، وذلك إذا كان هدفنا هو القضاء على مفهوم الهوية بالمعنى الانثروبولوجي والثقافي فإن نقل النقاش من ساحة العلوم الاجتماعية إلى الفلسفة ما هو إلا تأجيل وتعليق للهوية بالمعنى الذي نرفضه وقفز فوق حقائق الواقع الصلد. لأن الهوية بهذا المعنى لم تكن يوما سؤالا تأسيسا في الفلسفة ذلك أن دلالة مصطلح الهوية في الفلسفة غير دلالة الهوية بالمعنى الأثنروبولوجي والثقافي. فالفلسفة كما هو معلوم، تهتم بـ"الكليات" وتترك "الجزئيات" للعلوم الأخرى.
ولا نهدف بذلك إلى إقامة جدران عازلة بين الفلسفة وبقية العلوم، فنحن نعلم أن الفلسفة أم العلوم ومنها انبثقت، ونعلم أن الفلسفة والعلوم الأخرى منفتحة على بعضها البعض. فمثلما كتب افلاطون وأرسطو في الفلسفة كتبوا أيضا في السياسة والاجتماع والأدب. وهنالك الكثير من الفلاسفة المحدثين جمعوا بين الفلسفة والاجتماع والسياسة والاقتصاد واللغة. ولكنا قصدنا هو إذا أردنا أن نكتب عن الهوية سلبا او ايجابا، بمعنى الانتماء الوطني والقومي والثقافي والتاريخي، فينبغي ان نلتمس ذلك في العلوم الاجتماعية لا في الفلسفة المحض على النحو الذي يسعى إليه الدكتور فتحي المسكيني.
لكل ذلك يتعين علينا أولا الوقوف عند دلالة مصطلح "الهوية" في الفلسفة. يستعمل مصطلح "هوية" في الفلسفة، في علم الوجود (الأنطولوجيا) وفي علم المنطق. والأنطولوجيا قسم مهم من فلسفة (ما بعد الطبيعة) ويصفها أرسطو بأنها "دراسة الوجود بما هو موجود". أي دراسة المبادىء والعلل الكلية لوجود الأشياء أو الكائنات وأحوال وكيفية وجودها وأنواعها وأصنافها مثل: هل الشىء: محسوس أم مجرد إلخ.
وعلل الوجود أربعة وهي حسب الكندي استنادا إلى أرسطو: (1) السؤال عن إنّية الشىء، يعني هل هو موجود. (2) السؤال عن ماهية الشىء، يعني ماهو؟ أي تحت أي جنس يقع. (3) السؤال عن أي الأشياء هو، أي أي فصل يميزه وسط الجنس او النوع. (4) السؤال عن غاية الشىء، أو لِمَ هو؟ أعني السؤال عن علته الغائية. (رسائل الكندي الفلسفية، ص 82).
وعن أصل كلمة هوية ودخولها العربية، يقول الفارابي في كتابه (كتاب الحروف)، وهو كتاب في شرح ما بعد الطبيعة لأرسطو، إن الفلاسفة العرب وضعوا كلمة "الهو" لمقابلة كلمة "الموجود" في اللغة اليونانية، "وجعلوا المصدر منه الهُوية.. ورأى آخرون ان يستعملوا بدل الهو لفظة الموجود، وجعلوا مكان الهوية لفظة الوجود..، أما أنا فأري أن الانسان له أن يستعمل أيهما شاء. ولكن ان يستعمل لفظة "هو" فينبغي أن يستعملها اسم لا أداة..، وتستعمل على ما نستعمل كقولنا "شىء". أبو نصر الفارابي، كتاب الحروف، ص 112-115.
أما في علم المنطق فتعتبر الهوية هي أول المبادىء أو القوانين الثلاثة البدهية، للتفكير العقلي السليم في التعرف على الأشياء، والتي وضعها أرسطو وهي: (1) قانون الهوية identity ويعبر عنه: كل ما هو، هو، أو كل ما هو، ذات ما هو. أي أن حقيقة الشىء لا تتغير ولا تتبدل. أي أن الشىء لا يكون غير ذاته، فلا مغايرة بين الشىء وذاته. بل هما شىء واحد. (2) قانون التناقض أو عدم التناقض contradiction ويعبر عنه: بأن الشىء لا يمكن أن يكون ذاته ونقيضه في الوقت عينه. أي لا يمكن أن يوجد الشىء، وأن لا يوجد في آن واحد. (3) مبدأ الوسط المتتنع أو المرفوع the excluded middle term . ويعبر عنه: بأن يمتنع أن يوجد الشىء، وأن لا يوجد. أي يمتنع سلب الوجود عن الشىء وسلب لا وجوده. انظر: علي سامي النشار، المنطق الصوري، ص78-79
ويمكن أن يرمز لما يدل عليه كل مبدأ من هذه المبادىء رياضيا كأن يقال مثلا عن مبدأ الهوية: أ هي أ. ولكن الفيلسوف وعالم الرياضيات المهشور ليبنتز يضع المبدأ كالآتي: أ = أ. غير أن الفيلسوف مارتن هيدجر يعترض على هذه الصيغة ويقول أن الصيغة الصحيحة هي: أ هي أ. "من الأفضل إعطاء مبدأ الهوية الصيغة التالية: أ هي أ، وهذه الصيغة لا تقول فقط أن كل أ "هو هو" بل أن كل أ متطابق مع ذاته". هيدجر، مبدأ الهوية ص29-30 (انظر المراجع). وعبارة "متطابق مع ذاته" هي التي تثير اهتمام هيدجر لانه سوف يشتغل عليها في تأسيس فلسفته في (علم الوجود) الأنطولوجيا (انظر- أدناه: نقد الهوية في الفلسفة).
على أن القول إن الشىء "هو هو" لا ينفي ولا يتجاهل التغيّر الطبيعي الذي يطرأ على أحوال الأشياء كما فهم البعض، وكيف لصاحب كتاب (الطبيعة) أن يتجاهل التغير وهو القائل إن الطبيعة هي "دراسة الأشياء التي تتغير". إذن المقصود من مبدأ الهوية هو القول إن الشىء يظل هو هو، على الرغم مما يطرأ على أحواله من تغيّر: فالشجرة هي شجرة على رغم ما يطرأ عليها من تغير في مختلف مراحل نموها، والحجر هو حجر ولن يمسي حجر ويصبح شجرة، و"أنا هو "أنا" على الرغم مما يطرأ عليَ من تغير في طفولتي وشبابي وكهولتي. أي أن جوهر الشىء يظل ثابت برغم مما يطرأ على أحواله من تغير.
أما في العلوم الاجتماعية فالهوية تعني في المستوى الفردي، المكونات الشخصية التي تميز الفرد عن غيره من أفراد المجتمع، وعلى المستوى المجتمعي، تعني الخصائص الإثنية والقومية والثقافية والاجتماعية واللغوية والدينية المشتركة التي تميز مجموعة سكانية معينة. فهنالك الهوية الاجتماعية والهوية الثقافية والهوية القومية والهوية اللغوية والدينية وغيرها.
أما محاولة المؤلف للتمييز بين الهُوية بالضم والهَوية بالفتح فهو تمييز لا أصل له، فالهوية كلمة واحدة وأصلها بالضم الهُوية، كما ذكر الفارابي أعلاه، ولكن صارت تنطق في العربية المعاصرة بالفتح: الهَوية. كل ما هنالك أن دلالة كلمة الهوية في الفلسفة تختلف عن دلالتها في العلوم الاجتماعية على النحو السابق بيانه.
هذه التفاصيل مهمة جدا حتى نشرك معنا القارىء في هذه المناقشة، وهذا الوضوح المفاهيمي مقصود في ذاته. فقد سئمنا حتى أصابنا السقم من هذا الاسلوب التجهيلي المتعالم الارتيابي الانبهامي الاستشكالي الذي ابتلينا به، ونحن الذين ننتمي إلى ثقافة تقدس المعنى و"المفهوم" و"الحقيقة".
وقد صار هذا الأسلوب هو ديدن الكُتّاب العرب الراديكاليين منذ الثمانينات حين اكتشفوا فجاءة البنيوية والتفكيكية في آن واحد معا، وهما نقيضان، وبعد أن غابت شمسهما هنالك. والآن بعد أن عشنا بكل الدهشة والانبهار، عصر رولان بارت وفوكو ودريدا، نعيش وبذات الدهشة والانبهار عصر بول ريكور وهبرماس ورورتي. وفي كلا الحالين لم نتجاوز مرحلة الانفعال إلى الفعل، أي إقامة حوار جدلي مع هذا الآخر المدهش، انطلاقا من واقعنا الفكري والثقافي، كما فعل الفلاسفة العرب الأوائل: الفارابي والكندي وابن سينا وابن رشد وغيرهم.
إن نقطة انطلاق الدكتور فتحي المسكيني في نقد الهوية التاريخية والقومية والوطنية والثقافية هي طرحه لسؤال: مَنْ نحن؟
وبالضرورة إن هذا السؤال الذي يطرحه الكاتب تأتي الإجابة عليه وفقا لقصد السائل والسياق المطروح فيه السؤال، ومن هم "النحن" المسؤول عنهم؟. فإذا كان المقصود بالنحن، نحن الأمة العربية، فإن السؤال بالضرورة سؤال تاريخي وانثروبولوجي وقومي وثقافي. أما اذا كانت النحن، نحن الإنسان بالمعنى الكلي، فالسؤال، سؤال فلسفي.
يقول الكاتب إن الغرض من طرح السؤال: "هو الخروج من طور الفحص الانثربولوجي الثقافي للهوية identity لطور المساءلة الفلسفية لسؤال من نحن؟" الرهان، هو كيف نطرح سؤال: من نحن؟ بوصفه سؤالا فلسفيا صارما. نعني كيف يمكن استشكال معنى النحن، بوصفه مشكلا أنطولوجيا ليست الخصومة الثقافية السائدة سوى أضعف مظاهره". الهوية والزمان ص 9، ص20
إذن السؤال هو أصلا عن "نحن" الأمة العربية أي عن هوية هذه الأمة، ولكن المؤلف لا يريد إجابة تاريخية وقومية وثقافية على هذا السؤال وإنما يريد إجابة فلسفية.
في مقدمة كتابه (الهوية والزمان: تأويلات فينومنولوجية في مسألة النحن) يضع المؤلف اقتباسا من مارتن هيبدجر ديباجة للمقدمة، يقول الاقتباس: "كيف يجب أن نكون نحن أنفسنا، والحال أننا لسنا نحن أنفسنا؟ وكيف يمكن أن نكون أنفسنا دون أن نعرف من نكون، حتى نكون على يقين من أننا نحن الذين نكون؟". – هيدجر الأعمال الكاملة، ص 49.
لا شك أن تساؤل هيدجر هذا، ورد بكتابه (الكيونة والزمان) أو (الوجود والزمان) وهو كتاب في الأنطولوجيا (علم الوجود) لذلك فإن تساؤله عن "النحن" هنا تساؤل فلسفي أنطولوجي وليس سؤالا عن الهوية القومية والثقافية للأمة الألمانية أو أوربا او الغرب بعامة. إن هيدجر يتساءل هنا عن "نحن" الانسان، بالمعنى الكلي الفلسفي. وهو تساؤل لا يحل محل، ولا يجيب عن سؤال "النحن" بالمعنى التاريخي والقومي والثقافي الذي يسعي الكاتب في البحث عن إجابة فلسفية لرفضه.
إن مجرد نقل النقاش حول الهوية من العلوم الاجتماعية الى الفلسفة لا يقضي على الهوية بالمعنى الإنثي والوطني والثقافي كواقعة امبريقية يهدف الكاتب من مشروعه إلى التخلص منها. وذلك بدليل أن المؤلف بعد أن نقل السؤال إلى الفلسفة وبعد رحلة شاقة في التفلسف، لم يفلح في النهاية سوى الوصول إلى إجابة تاريخية أنثربولوجية ثقافية على النحو الذي سوف يأتي بيانه.
ولكن دعونا نساير الكاتب في فرضياته الفلسفية ونتسائل معه: كيف نطرح سؤال "من نحن" بوصفه مشكلا فلسفيا انطولوجيا؟
هنا يتكىء الكاتب على كتاب الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر (الوجود والزمان)1927 Being and Time والذي توفر الكاتب نفسه على ترجمته إلى العربية بعنوان (الكينونة والزمان). وتأسيا بعنوان كتاب هيدجر سمى الكاتب كتابه (الهوية والزمان) وذلك بالاستعاضة عن كلمة "الوجود" في عنوان هيدجر بكلمة "الهوية" في عنوانه، واستخدام عناوين فرعية داخلية بالكتاب مستوحاة من فلسفة هيدجر مثل: "الهوية والزمانية" و"من هو الزمان" و"الزمان هو نحن"، وذلك في سبيل الإجابة عن سؤال: "من نحن؟".
باختصار غير مخل نقول، إن هيدجر يرى أن الذات الإنسانية ليست معطى محددا سلفا بل تتشكل عبر الزمان. ولكي نتعرف على أنفسنا يجب أن علينا أن نجيب على سؤال "من نحن" في الأفق الزماني أو اللحظة "الآنية" التي نوجد فيها. أي أن حقيقة أنفسنا تتشكل في "الهنا" و"الآن" وليس فقط في ماضي وجودنا. فالإنسان عند هيدجر مشروع إنسان منفتح على المستقبل، والذات الانسانية "مقذوفة" باستمرار في أفق الزمان المنفتح أبدا بلا نهاية.
ولذلك نحن نرى أن مساهمة هيدجر الحقيقية في علم الوجود (الأنطولوجيا) تكمن في إضافة عنصر "الزمان" إلى مبدأ الهوية بالمعنى الفلسفي. فمفهوم "الزمان" عند هيدجر ليس مفهوما فيزيائيا مجردا وإنما هو مفهوم تاريخي. يقول: "الدازين تجد كينونته معناها في الزمانية. بيد أن هذه الزمانية هي في الوقت نفسه شرط إمكان التاريخانية من جهة ما هي نمط خاص بكينونة الدازين نفسه". هيدجر، الكينونة والزمان، ترجمة فتحي المسكيني، ص76.
والدازين Dazein هو مصطلح اجترحه هيدجر علامة على وجود الكائن البشري. يقول: "الدازين، أي كينونة الانسان، أكان ذلك في تعريفه العام أو الفلسفي، محدد بوصفه الحي الذي تتعين كينونته بالقدرة على الكلام". الكينونة والزمان، ص84
إذن إن الزمانية في مصطلح هيدجر هي التاريخانية عينها. يقول: "إن السؤال عن معنى الكينونة إنما هو، طبقا لنمط التحقق الذي من شأنه، وذلك من حيث هو تفسير سابق للدازين في زمانيته وتاريخانيته، منقاد بذلك من ذات نفسه، لأن يفهم ذاته بوصفه سؤالا تاريخيا". ويضيف: "هذه التاريخانية التي هي بمنزلة العنصر الأصلي للدازين". الكينونة والزمان، ص77

ولما كان ذلك فإنه يجوز لنا تأويل عنوان كتاب هيدجر (الوجود والزمان) أو (الكينونة والزمان) إلى "الوجود والتاريخ" أو "الكينونة والتاريخ" أي إن وجود الكائن الإنساني في الزمان هو وجود تاريخي، وهو ما يعني أن الانسان "كائن تاريخي" تتشكل ذاته وهويته عبر التاريخ وبالتاريخ. ومتى ما سلمنا بان الانسان كائن "تاريخي" تعين علينا التسليم بأن الانسان ذات أو هوية تاريخية وأنثروبولوجية وثقافية.
بل أن هيدجر نفسه يصف كتابه (الوجود والزمان) بأنه "أنثروبولوجيا فلسفية" ص 71،72. وذلك لحصره الحديث عن الكينونة في الذات الإنسانية. وهذا ما أخذه عليه أيضا أستاذه ادموند هوسرل (صاحب الفلسفة الظاهراتية) حيث وصف كتاب هيدجر بأنه ليس دراسة في الأنطولوجيا (علم الوجود) وإن حديثه عن الأنطولوجيا لم يتجاوز بضعة صفحات بأول الكتاب، ولما لم يعد لديه شىء يقوله عن الأنطولوجيا غيّر الموضوع للحديث عن (الدازين) أي الوجود الإنساني، وما قدمه لا يعدو أن يكون "أنثروبولوجيا فلسفية" لم تقدم سوى صورة تجريدية غير صحيحة عن الكائن البشري*.
وبعد الاستعانة بهيدجر من خلال مفهوم "الزمانية" في الإجابة على سؤال "من نحن؟" فلسفيا يتوصل الكاتب إلى نتيجة مفادها أنه يجب أن نتجاوز مفهوم الهوية بالمعنى الانثروبولوجي والقومي والثقافي والوطني، والنظر إلى أنفسنا أو "من نحن" في اللحظة الزمانية التي نحيا فيها.
يقول: "إن النحن ليست ملة ولا ينبغي لها أن تكون، بل هي إمكان راهن.. نحن إذن لا نوجد في الراهن، بل نحن بنية الراهن، أو نحن الراهن وحسب. وهكذا بدأ ينكشف للتو إن النحن إنما هي في أصلها إمكان زماني". ص33
ولكن ما هي هذه الإمكانية الزمانية لوجودنا الراهن؟ يجيب: "إنها ليست شيئا سوى ما نشير إليه بعبارة العصر. إن العصر هو كل مرة أفق الراهن الذي تستمد منه منطقة النحن نمط وجودها الخاص". الهوية والزمان، ص33 ويضيف إن "العصر هو الوطن".
وبذلك يتحول سؤال: من نحن؟ عند الكاتب، إلى سؤال: ما هو الزمان الذي هو نحن؟.
ولما كان ذلك فما العصر الذي يحدد وجودنا الراهن ويصير لنا وطنا؟، وما هو الزمان الذي هو نحن؟ يجيب الكاتب: إنه "الحداثة". يقول: "ما نسميه "نحن" اليوم لا يعدو أن يكون ظاهرة فينومنولوجية تجد في معنى معين للزمان، هو الحداثة، مضومنها التاريخي". ص 21.
غير أن القول إن "العصر هو الوطن" قول رومانسي تبشيري، سبق أن جرى التعبير عنه منذ القرن الثامن عشر بـ"روح العصر". والجديد في دعوة الكاتب هو الاكتفاء بعنصر الزمان محددا للهوية، وإلغاء عنصر المكان/الجغرافيا والتاريخ.
فلما صارت الحداثة هي هويتنا الجديدة ووطننا الجديد، يدعونا الكاتب إلى بناء مفهوم جديد للوطن نتخلص فيه من مفهوم الوطن الملة والأمة والقومية والدولة. يقول: "إن الحداثة هي الموضع الجديد للسؤال عن أي معنى الوطن. فالوطن لم يعد مشكلا قوميا، بل قد صار، وربما بلا رجعة، مشكلا مدنيا. إن غرض الفلسفة منذ الآن ارساء استعمال مدني للوطن..إن الدولة الحديثة هي دولة/أمة.. كيف نحرر معنى الوطن من الدولة/الأمة؟ كيف نبني شروطا جديدة للانتماء لا يكون لها من أساس سوى الانتماء المدني الجذري لإنسانية الإنسان؟". الهوية والزمان، ص 70 و71
وهكذا، بعد كل هذه الرحلة التأملية الشاقة والتفلسف المضني في دروب هيدجر الوعرة نصل إلى أن غرض الكاتب، من نقل سؤال الهوية من المستوى الأنثروبولوجي والقومي والثقافي إلى المستوى الفلسفي، هو اختراع مفهوم جديد للوطن سماه "الوطن المدني" نتحرر فيه من مفهوم الدولة/ الأمة بل والدولة الحقوقية الحديثة!
ولكن ما الوطن "المدني" الذي يدعونا إليه؟ وما طبيعة الانتماء "المدني" لهذا الوطن؟ لا يقدم الكاتب أي تحديد لطبيعة وماهية هذا الوطن "المدني" ولكنه يكتفي بالقول هو نتيجة "ما حققته حداثة التنوير من مكاسب مدنية"! ولما كان ذلك، فلماذا كل هذا الجهد المضني لإعادة اكتشاف ما تم اكتشافه قبل نحو أكثر اربعمائة سنة؟
وما الوطن المدني الذي هو أحد مكاسب حداثة التنوير؟ أليس هو الدولة الحديثة الحقوقية التي يرفضها الكاتب؟ أليس هذا الوطن "المدني" سوى اعتراف بتعدد "الهويات" العرقية والثقافية والسياسية والدينية في ظل منظومة عقدية من القيم والمعايير المتفق عليها؟ وهل مكاسب التنوير المدنية التي تدعونا للاتنماء إلى الانسانية بلا تمييز سوى منظومة من الحقوق المدنية الغرض منها أصلا حماية انتماءات الفرد الاجتماعية والإثنية والدينية والثقافية والسياسية؟!
ولكن الكاتب رغم تقريره أن الحداثة صارت وطننا الجديد، يعود وينقلب على الحداثة نفسها ويدعو صراحة إلى التفكير في "بدائل" للحداثة وإلى "أنوار جديدة" كما سنرى.
الذات ما بين الحداثة وما بعد الحداثة:
إن المؤلف متأثر في نقده للهوية بمعنى الانتماء الاثني والقومي والثقافي، بنقد الذات في الفلسفة، مع أن نقد الذات في الفلسفة لا علاقة له بنقد الانتماء الاثني والقومي والثقافي بل هو متعلق بنظرية المعرفة. معلوم أن الحداثة تأسست على مبدأ مركزية الذات ومركزية العقل في المعرفة. لكن هذه المركزية، أي مركزية الذات/العقل، تعرضت لنقد عنيف من فلاسفة ما بعد الحداثة (فوكو ودريدا) بخاصة، الذين أحيوا نقد نيتشه للحداثة.
ويقر المؤلف صراحة بتأثره في رفض الهوية بنقد فلاسفة ما بعد الحداثة لمبدأ الذات حيث يقول: "إن قصدنا هو تجذير الدلالة السائدة للفظة "الهَوية" identity باخراجها من مستوى اللغة العادية، حيث تشير إلى نحن انثروبولجية وثقافية، إلى اللغة الفلسفية، وذلك في ضوء النقد ما بعد الحديث لنموذج الذاتية الحديثة". الهوية والزمان، ص8
قوله: "وذلك في ضوء النقد ما بعد الحديث لنموذج الذاتية الحديثة"، اقرار صريح بانه ينطلق في نقد أو بالأحرى رفض الهوية من نقد نيتشه وفلاسفة ما بعد الحداثة لمبدأ الهوية والذات. ويؤكد ذلك بالقول: "الفلسفة الحديثة بما هي مستوفاة في ميتافيزيقا الذات، لم تتخلى أبدا عن "النزعة التأسيسية" لمؤسسة الملة الوسيطة.. إن ميتافيزيقا الذات إنما تقوم على تنزيل نموذج الأنا أفكر منزلة القطب المتعالي، الذي يجعل كل ما عداه "موضوع" للسيادة والهيمنة. إن ما منحته الملة لمفهوم الإله الخالق، منحته الفلسفة الحديثة لمفهوم الإنسان- الذات. فلا عجب أن يكون العالم في المرة الأولى سوى آية على نحو مفارق له، وأن لا يكون في المرة الثانية سوى موضوع لذات هي التي تشكله". المصدر السابق، ص13
ثم يبين سبب اعتراضه على مركزية الذات التي تأسست عليها الحداثة والتي ينتقضها نيتشه وفلاسفة ما بعد الحداثة، بالقول: "أما نكتة الاعتراض على تلك الذات (النزعة التاسيسية للذات الحديثة) فهي ميلها الطبيعي إلى بناء هوية واحدية ومطلقة". المصدر السابق، ص 14
وقد استلهم فلاسفة ما بعد الحداثة رفض مبدأ الهوية الفلسفي ونقد الذات من نيتشه. يقول فؤاد زكريا: "والمبدأ العقلي الأساسي هو مبدأ الهوية الذي يؤكد بقاء الشىء على حاله، ومطابقته لذاته دواما، وهو تفسير نيتشه، وهو تفسير غير دقيق، إذا يضاف إليه عنصر زماني لا صلة له بالمبدأ في صيغته المنطقية الخالصة. بينما الأصل في الهوية أنها مجرد ترديد للشىء الواحد دون إقحام أي عنصر زماني". نيتشه، دار المعارف ص 69.
واستنادا إلى تعريفه بأن الهوية هي مطابقة الشىء لذاته دائما، يرفض نيتشه الهوية ويقول باستحالتها بهذا المعنى: "إذ الهوية ليست الا إضفاء لصفة التشابه على ما هو غير متشابه. ومن المحال أن نستطيع إيقاف تيار التحول والصيرورة لحظة واحدة، نهتدي فيها الى حالة من حالات الهوية. فمبدأ الهوية إذن لا يرتكز على أي أساس في طبيعة الأشياء، وإنما وسيلة يصطنعها العقل حتى يستطيع أن يهتدي إلى نقط واضحة خلال تيار الصيرورة الذي لا ينقطع. فإذا كان أول مبادىء العقل وأبسطها تزييفا، فبدهي أن كل المبادىء المبنية عليه تزييف بدورها". المصدر السابق ص 70.
ومثلما رفض نيتشه مبدأ الهوية العقلي، يرفض أيضا فكرة "الجوهر" أو تقسيم طبيعة الأشياء إلى جواهر و"أعراض" أي ظواهر. فهو يعتقد أنه لا توجد سوى ظواهر الأشياء وعوارضها. ومن هنا جاء نقده لمبدأ "الشىء في ذاته" عند ايمانويل كانط. ورفض نيتشه لفكرة الجوهر قادته إلى رفض فكرة "الذات" أي الذات الإنسانية، أو الوعي، لأنها "تنطوي على اعتراف بفكرة الجوهر". ويتجلى ذلك في نقده، لمقولة "الأنا أفكر"، أي الكيجيتو الدريكارتي، الذي لخصه ديكارت في عبارة: "أنا أفكر، إذن أنا موجود". "فهذا الذي يستدل على وجوده، هو الذات الجوهرية الباطنة، التي هي أصل يرتد إليه كل فكر وشعور، وهي المركز الذي تلتقي عنده كل مظاهر فاعلية الانسان بل العلة المسببة لهذه الظاهر".
وهنا يسارع نيتشه فيتساءل: هل هنالك ما يبرر القول بوجود هذا الجوهر المركزي في النفس الإنسانية من وراء مظاهره المختلفة؟ إن المبرر الذي يرتكز عليه ديكارت هو اليقين المباشر للكيجيتو ولكن نيتشه يسخر من الاعتقاد بوجود يقين مباشر لمثل هذه القضية الفلسفية". نيتشه، فؤاد زكريا – ص 73.
وبعد نيتشه ظهرت الحركة البنيوية في الفلسفة والأنثروبولوجيا والأدب فأقصت الذات/ العقل عن عرشها وحولتها من ذات فاعلة إلى بنية لغوية لا غير. ففي "اللحظة التي وضعت فيها البنيوية الموضوع الواقعي بين أقواس، وضعت أيضا الذات الإنسانية بين أقواس.. إن القول إن للبنيوية مشكلة مع الذات هو قول ملطف شيئا ما، فالذات قد تمت تصفيتها فعلا وجرى اختزالها في وظيفة في بنية لا شخصية". تيري ايجلتون، النظرية الأدبية، النص الانجليزي ، ص 98. ومن هنا انطلقت صيحة رولان بارت الشهيرة: "موت المؤلف".
ثم جاء جاك دريدا ليذهب أبعد من البنيوبة، التي ينتقدها، في تفكيك الذات والعقل أو بحسب عبارته: تفكيك مركزية العقل logocentrism ويتم ذلك بتفكيك مبدأ الهوية وعدم التناقض المنطقي الذي يقوم على مبدأ الثنائية التي يفكر بها العقل، لينتهي إلى إنه، لا معنى لأي كلمة، ولا حقيقة ولا هوية لأي شىء، لأن كل شىء مسكون بنقيضه وهو ما يعرف عنده، بالاختلاف المُرجىء.
في مقالته المعنونة (العيش: على التخوم) والتي نشرت بالكتاب المنفستو لجماعة ييل التفكيكية الصادر سنة 1979 والذي جاء تحت عنوان (التفكيك والنقد الأدبي) يقول دريدا: "وهكذا فقد اجتاح النص كل الحدود المرسومة له.. إنه اجتياح لكل الحدود ولكل شيء يمكن أن يقف في وجه الكتابة: الكلام والحياة والعالم والواقع والتاريخ وغيرها، وكل ما يمثل مرجعا كالجسد والعقل والوعي واللاوعي والسياسة والإقتصاد وغيرها". فينسيت ليتش، النقد التفكيكي، النص الانجليزي، ص 118
وهذا تأكيد مفصل لعبارة دريدا الموجزة المشهورة "لا شيء خارج النص" والورادة في كتابه (في علم الكتابة). ويعلق فينسيت ليتش، أحد شراح التفكيك، على حديث دريدا السابق بالقول: "العالم ينبثق في التفكيك كنص لانهائي. فكل شيء يتحول إلى نص.، وعوضا عن الأدب يصبح لدينا النصية، وعوضا عن الذات يصبح لدينا التناصص بحيث يموت المؤلفون وتصبح كل الذاوت، بنى لغوية". المصدر السابق، ص122.
أما هيدجر فلا اعتراض لديه على الهوية أو الماهية أو الذات من حيث المبدأ ولكن يرى أن هوية الشيء أو ماهيته لا تتطابق مع ذاته. وعنده إن "جوهر الانسان هو الوجود المنفتح". بمعنى ان الذات ليست منغلقة على نفسها، بل توجد قبلا "هنالك" أي منفتحة على العالم والآخرين. وبعبارة هيدجر "الوجود في العالم" و"الوجود مع الآخرين" هما الوسط أو المجال الذي تحقق عبره الذات كينونتها وهذا ما يصفه هيدجر بـ"التوسط" وهو مصطلح ارسطي. فكينونة الإنسان مشروطة منذ البداية بالزمانية أو التاريخانية، فهي ليست ثابتة وإنما متغيرة في كل "آن" ومنفتحة على المستقبل لتحقق في كل مرة إمكانية وجود جديدة.
حتى الآن لا غبار على هذا الطرح، لكن الغريب حقا، هو أن هيدجر يعود ويصف الوجود اليومي في العالم مع الآخرين أي الوجود الواقعي العياني في المجتمع بأنه وجود غير أصيل بل ويصفه بـ"الانحطاط" و"السقوط" و"الوقوع" و"الاغتراب" عن الذات. (الكينوتة والزمان، ترجمة فتحي المسكيني، الفصل الخامس، ص 339-342). ولكي تحقق الذات وجودها "الأصيل" حسب هيدجر، لا بد من "التعالي" والتسامي فوق الوجود مع الآخرين في العالم، لأن الانغامس مع الآخرين في الحياة اليومية يحجب عن الذات تجربة استشعار القلق الذي يشكف لها عن العدم وعبث الحياة، وهذا الكشف مهم جدا للوعي بالمصير المحتوم الذي ينتظر الذات وهو الموت، فالانسان ولد ليموت.
وهنا تتجلى الفلسفة الوجودية فى أنصع صورها في فكر هيدجر. وهذا الجانب في فكر هيدجر هو الذي بنى عليه جان بول سارتر فلسفته الوجودية (انظر: سارتر، الوجود والعدم). وهكذا تنتهي فلسفة هيدجر الى الفردية والذاتية المطلقة، وهو الذي انتقد ديكارت ووصف فلسفته بأنها ذاتية عقلانية تاملية خالصة وهو الذي يزعم، أي هيدجر، أن فكره يعمل على تفكيك وتجاوز الميتافيزيقا.
وقد صدق جاك دريدا عندما وصف فلسفة هيدجر بأنها ترفع الكينونة أو الوجود مدلولا ميتافزيقيا متعاليا. ودريدا كما هو معروف يقف بالمرصاد لتفكيك كل مدلول متعال، سواء كان هذا المدلول المتعالي هو: "الجوهر أو الأصل أو الغاية أو الطاقة أو الوجود أو التجلي أو التعالي أو الوعي أو الضمير أو الله أو الإنسان إلخ.". دريدا، الكتابة والاختلاف، النص الانجليزي، ص279.
أما الفيلسوف الفرنسي بول ريكور، فكل كتاباته حول الذات هي رد فعل على تقويض نيتشه وفلاسفة ما بعد الحداثة لمبدأ الهوية الفلسفي والذات. ولئن كان ريكور يثمن منجزات البنيوية في اللغة إلا أنه يأخذ عليها تهميشها للذات، فيعمل على رد الاعتبار للذات بالانتقال من التركيز على اللغة إلى التركيز على الخطاب. وذلك بما أن الخطاب هو نشاط الذات الفاعلة فهو الذي يبرز دور الذات المركزي في نظرية المعرفة (انظر: ريكور، نظرية التأويل: الخطاب وفائض المعنى، ترجمة سعيد الغانمي).
ويميز ريكور بين هوية الإنسان المتطابقة وهي التي تظل ثابتة لا تتغير وبين هويته الذاتية وهي التي تتغير بفعل الزمن والاحتكاك بالذوات الفاعلة الأخرى. إن المعرفة عند ريكور ليست فعل ذات منغلقة على نفسها، وإنما هي محصلة للعلاقة الجدلية بين الذات و"الأنا" من ناحية وبين "الأنا" والعالم الخارجي من ناحية أخرى. وهذه العملية يسميها ريكور "التوسط التفكري" أو التأملي mediation reflexive وهو كما يقول مترجم ريكور، جورج زيناتي: "المجهود المستمر الذي تقوم به الذات لفهم ذاتها باكتشاف معنى تجربتها عبر توسط الغير، والغير هنا كل عالم الرموز الإشارات التي تأتي الذات الفاعلة من العلوم الأخرى، خاصة اللسانيات والتحليل النفسي". ريكور، الذات عينها كآخر، ترجمة جورج زيناتي، ص 67-72.
وهذا ما سبق أن سماه سارتر "الوجود للغير" أي أن الوجود- لذاته، يسعي إلى استرداد وجوده الخاص، بجعل الغير، مباشرة أو غير مباشرة، موضوعا بالنسبة إلى الأنا أو الذات". سارتر الوجود والعدم، ترجمة عبد الرحمن بدوي، ص 5.
هذا، وقد جعلت البنيوية من سارتر، نسيا منسيا. فقد كان المستهدف الأول، ومنذ ذلك الوقت صار الباحثون يهابون الاستشهاد بفكره خوفا من تهمة الرجعية، مع إنه من المؤسسين الأوائل للتأويلية الظاهراتية.
ولكي نفهم نظرية ريكور حول الذات بصورة أفضل، دعونا نعود إلى مقولة سقراط الشهيرة: "أعرف نفسك!". هذه العبارة تنطوي على ذاتين (مجازا) هما المخاطب ونفسه. النفس هنا تمثل عند ريكور الهوية المتطابقة أي الطبع والفطرة، أما ضمير المخاطب فيمثل "الأنا" أي "آخر" الذات وهو الذي يتغير بالاتصال بالآخرين وبالمعارف والوسائط الأخرى مثل اللغة وغيرها. وعلى هدى من ذلك يمكنا أن نفهم عبارة ريكور "الذات عينها كآخر" والتي جعلها عنوانا لكتابه المشار إليه أعلاه.
وما أراد ريكور قوله في كتابه المطول (بلغ 700 صفحة في ترجمته العربية)، قاله سارتر في كلمات قليلة: "والذاتية التي نقول بها ليست ذاتية فردية. لأن الإنسان يكتشف بالكيجيتو ذاته وذات الآخرين أيضا. فأنا لو شئت أن أعرف شيئا عن نفسي، فلن استطيع ذلك إلا عن طريق الآخر، لأن الآخر ليس فقط شرط وجودي، بل هو كذلك شرط المعرفة التي أكوِّنها عن ذاتي. وهكذا يكون اكتشافي لصميم ذاتي هو اكتشاف للآخر. وهكذا نجد أنفسنا فجأة في عالم لنقل إنه مجموعة من الذوات المتبادلة الوعي ببعضها البعض inter-subjectivite ". سارتر، الوجودية مذهب إنساني، ترجمة عبد المنعم حنفي، ص46و47
وعندي إن ما يجاهد كل من ريكور وسارتر في إثباته، من البداهات. وهذه البداهة قد عبّر عنها أرسطو في كتابه (السياسة) في ثلاثة كلمات هي: "الانسان حيوان اجتماعي". أي أنه يتعرف على ذاته والعالم من خلال وجوده في المجتمع.
مهما يكن من أمر، فقد تراجع كل من فوكو ودريدا في كتاباتهما الأخيرة، عن نقد الذات المؤسسِة للحداثة، وطالبا برد الاعتبار لفلسفة عصر التنوير الأوربي. ولكنا للأسف لا نزال نتمسك بمواقفها المتطرقة السابقة في نقد الحداثة، كأنها الحق الذي لا حق بعده. مع التاكيد أن كل ما سبق نقاشه لا علاقة له بنقد أو تجاوز الهوية بمعنى الانتماء التاريخي والقومي والوطني والاثني والثقافي والسياسي ولكن الدكتور المسكيني يأبى إلا أن يقذف بسؤال الهوية، بهذه المعاني، في هذا الأتون الفلسفي الموَّار.
نحو "ذات بلا هوية" أو نحو ذات بلا تاريخ:
بعد مرور نحو عشر سنوات من نشر كتابه (الهوية والزمان: تأملات فينومنولوجية في مسألة النحن)2001، نشر الدكتور فتحي المسكيني كتابه الثاني في نقد الهوية بعنوان: (الهوية والحرية: نحو أنوار جديدة) 2011 وفيه يصر على رفضه الاعتراف بالهوية بمعناها الأنثروبولوجي والثقافي والقومي والديني، كما يصر على رفض فكرة الوطن/ الأمة بل رفض حتى مفهوم الدولة الحديثة الحقوقية.
يقول: "الدولة الحديثة قد صنعت جهاز الهوية مثل أوراق الهوية وصورة الهوية وبصمة الهوية ولكن أيضا اللغة والدين والقبيلة، وحولته الى جدار أخلاقي وامتحان أمني متسلط يقع على رقاب سكانها، فإن السكان لن يكونوا مواطنيين إلا بثمن هووي يقع تثبيته في الأثناء بعناية قانونية فائقة تستفيد على نحو كلبي من كل تطور تقني". ص 239 و240
وإذا كان في كتابه السابق (الهوية والزمان) يمجد الحداثة ويزعم أنها صارت هي هويتنا الجديدة ووطننا الجديد، حينما يقول: "ما نسميه "نحن" اليوم لا يعدو أن يكون ظاهرة فينومينولوجية تجد في معنى معين للزمان، هو الحداثة، مضومنها التاريخي". ص 21. فإنه يعود في كتابه (الهوية والحرية) لينقلب على الحداثة ذاتها ويحملها المسؤولية عن اختراع الهوية التي يرفضها. يقول في تصدير الكتاب: "أليست الهوية نفسها جهازا من أجهزة الحداثة بل من أجهزة الدولة مهما كان شكلها؟ إنّ الحداثة، وليس الأديان، هي التي اخترعت فكرة الهوية، مثلما خلقت أيضا مقولات "السيادة" و"الإقليم" و"العَلَم" و"الوطن". ص14
ما البديل إذن من وجهة نظر الدكتور المسكيني؟ البديل هو تأسيس "ذات بلا هوية"! نعم هكذا، فإذا كان في الكتاب السابق (الهوية والزمان) قد أسس رفضه للهوية استنادا لنقد فلاسفة ما بعد الحداثة لمبدأ الذات، على النحو السابق بيانه، فإنه يعود هنا ليرد للذات اعتبارها ولكن يطلب منها التخلي عن هويتها! وهل هنالك ذات بلا هوية؟ أليست الهوية نفسها الذات؟ حتى أنهم أحيانا يعبرون عن مبدأ الهوية في الفلسفة بمبدأ الذاتية. واضح أن المؤلف يقصد بالهوية هنا، الهوية بمعنى الانتماء التاريخي والقومي والوطني والاثني والثقافي. ولكن هل توجد ذات إنسانية بغير هذه الانتماءات؟
إن المسكيني متأثر إلى مدى بعيد، في دعوته إلى ذات بلا هوية، بأفكار ما بعد الحداثة من جهة، وبالفلسفة الوجودية من جهة أخرى. وذلك بالرغم أنه لم يأت على ذكر الفلسفة الوجودية أو اسم سارتر اطلاقا في سائر كتاباته عن الهوية. يقول في التأسيس لهذه الذات التي بلا هوية: "فجاءة بدأنا نكتشف أن وعد المحدثين الأكبر إنما كان بلورة مشروع ذات كونية تصبو الى الاستئاف التشريع الروحي للإنسانية جمعاء، وذلك يعني بالنسبة إلينا "بلورة ذات بلا هوية. ونعني بذلك ذات حرة بشكل جذري لم تعد تستمد قوامها من أي شيء خارج عنها. وهي بلا هوية لأن فكر "الأزمنة الجديدة" هو في الأساس شك منهجي في كل شكل من الوصايا في فهمنا لأنفسنا، أي في كل شكل من الإنتماء المعد لنا سلفا." ص133
قوله: "ذات بلا هوية.. ذات حرة لا تستمد قوامها من أي شيء خارج عنها" هي مقولة وجودية بامتياز، بل هي جوهر الفلسفة الوجودية كما نجده في فكر اساطين الوجودية: نيتشه وهيدجر وسارتر. في الوجودية الإنسان الفرد ليست له هوية أو "ماهية" سابقة على وجوده، بل هو من يختار ويصوغ ذاته بكل حرية دون تخطيط مسبق من سلطه خارج ذاته أي كانت إلهية او اجتماعية أو سياسية.
يقول سارتر: "ماذا نعني عندما نقول أن الوجود سابق للماهية؟ إننا نعني أن الإنسان يوجد أولا ثم يتعرف إلى نفسه، ويختار لنفسه أشياء هي التي تحدده.، الإنسان يوجد ثم يريد أن يكون. الإنسان ليس سوى ما يصنعه بنفسه. هذا هو المبدأ الأول من مبادىء الوجودية. نعني ان الإسان يوجد أولا ثم يكون شيئا، يمتد بذاته نحو المسقبل. الإنسان مشروع". ص 14 و15
وهنا علينا ان نقف عند عبارة "الأزمنة الجديدة" الواردة في الاقتباس السابق من المسكيني في قوله: "وهي بلا هوية لأن فكر "الأزمنة الجديدة" هو في الأساس شك منهجي في كل شكل من الوصايا في فهمنا لأنفسنا، أي في كل شكل من الانتماء المعد لنا سلفا".
ونحن نعلم أن (الأزمنة الجديدة) Les Temps Modernes هو اسم المجلة التي أصدرها جان بول سارتر، وكان ينشر من خلالها فلسفته الوجودية. فهل ورود اسم "الأزمنة الجديدة" في هذا الاقتباس ووضعه بين قوسين جاء صدفة مع إغفال تام إلى أي إشارة أو ذكر لسارتر أو الفلسفة الوجودية؟.
صحيح إن تعبير "الأزمنة الجديدة أو الحديثة" يرد عند المسكيني في أكثر من سياق، وهو تعبير استخدمه هيجل للإشارة إلى الحداثة، ولكن نقصد وروده في هذا السياق تحديدا.
ولماذا الإضراب التام عن ذكر سارتر والوجودية والاكتفاء بذكر هيدجر ونيتشه؟ هل خشي المؤلف أن يبدو "رجعيا" وهو الذي يكتب تحت سحر وتأثير فلاسفة ما بعد الحداثة؟!
هذا، ويعد الفليسوف الألماني نيتشه ملهم الفلسفة الوجودية. فهو قد سبقها الى الكثير من الأفكار التي تدعو إليها. فقد عرَّف الانسان في كتابه زرادشت بأنه "خالق ذاته". ومن ذلك قوله: "في الانسان شيء أساسي ناقص" وهو ما يفسره فؤاد زكريا بالقول: "إن الانسان كائن يتجاوز ماهيته على الدوام، ولا يقف بها عند حد". نيتشه ص 44. وذلك هو قول نيتشه الذي يستشهد به المسكيني في كتابه (الهوية والحرية) حين يقول: "مع نيتشه أنهار التعريف التقليدي للإنسان بوصفه "حيوانا عاقلا" وصار يشار إليه بوصفه "الحيوان الوحيد الذي لم يستقر بعد على "ماهية" نهائية". ص177 و178 وكلمة ماهية هنا تعادل كلمة "هوية" التي يرفضها الكاتب.
هذا، ولم يكن استحضار الفلسفة الوجودية غائبا عن كتاب المسكيني السابق (الهوية والزمان: تأويلات فينومنولوجية لمسألة النحن) فعنوان الكتاب في حد ذاته استدعاء ومحاكاة لكتاب هيدجر (الوجود والزمان) الذي كان يعتبر إنجيل الفلسفة الوجودية. والوجودية كما نعلم هي الابنة الشرعية للفينومنولوجيا. فالفينومنولوجيا (الظاهراتية) تنصب من تجربة وعي الفرد حكما على ماهية وهوية الأشياء. تجربة الوعي الفردية هي التي تضفي على الوجود معناه وليس المعايير القبلية السابقة على الوعي الفردي. والجودية من منظور هيدجر، كما سبقت الإشارة، هي أن هوية الذات الإنسانية ليست محددا سلفا بل تتشكل عبر الزمان. إن هويتنا كذاوت إنسانية تتشكل في "الهنا" و"الان" وليس في ماضي وجودنا.
وهو ما يعبر عنه المسكيني بقوله: "فليست شخصية أي كان غير "هويته السردية" التي يرفعها كشكل مخصوص من الانتماء إلحر إلى ذاته وأفقه الروحي الذي يخصه". الهوية والحرية ص46. وانطلاقا من مقولات الفلسفة الوجودية، والتي لم يصرح باسمها اطلاقا، يدعونا الكاتب إلى ما يصفه "الدرجة الصفر في الانتماء" وذلك لكي نصبح "ذوات بلا هوية"، حسب عبارته. يقول: "والفرضية التي نقدمها هي ضرورة العودة الصفر في الإنتماء إلى الذات الإنسانية بما هي كذلك.. وليست تلك الدرجة الصفر من الإنسانية بالنسبة إلينا كنمط من الانتماء نشترك فيه مع الغرب نفسه، سوى آدميتنا". الهوية والحرية، ص47
وهذه الدرجة الصفر في الانتماء هي ما عبر عنه الوجوديون بأسبقية الوجود أي وجود الإنسان على ماهيته وهويته. وحديث المسكيني هنا عن الدرجة الصفر من الانتماء هو تريد لقول سارتر نفسه: "لم يكن للإنسان في بداية حياته صفات محددة، فهو قد بدأ من الصفر. بدأ ولم يكن شيئا. وهو لم يكن شيئا الا بعد ذلك ولن يكون سوى ما قدره لنفسه". سارتر، والوجودية مذهب إنساني، ص 14.
وحتى الانتماء إلى الآدمية ليس هو انتماء لهوية إنسانية أو نموذج قيمي لإنسان محدد سلفا لأنه كما يقول المسكيني: "وآدم صيغة هووية فارغة من أي معنى محدد". ص51.
القول إن آدم هوية فارغة من أي معنى محدد، هو أس الفلسفة الوجودية. وهذا القول يصطدم مع "النزعة الإنسانية" التي تؤمن بوجود هوية أو "طبيعة إنسانية" كونية وعقل كلي وأخلاق كلية، يشترك فيها كل البشر، وهذه هي رؤية فلاسفة عصر التنوير الأوربي. والوجوديون يرفضون الإقرار بهذه "الطبيعة الانسانية" المشتركة وبوجود أي عقل كلي أو أخلاق كلية قبلية مسبقة a priori .
حيث يرفض سارتر القول بأن للإنسان طبيعة بشرية "وهذه الطبيعة البشرية هي ما يصاغ عليه الإنسان، وهي ما يتسم به كل إنسان، أو يشترك في صفاتها مع غيره من البشر. وبذلك تكون الإنسانية كلها أو أفرادها قد خلقوا طبقا لفكرة عامة أو مفهوم عام أو نموذج عام يجب أن يكون عليه كل البشر.، إن الإنسان يوجد ثم يريد أن يكون. وهكذا لا يكون للإنسانية شئ اسمه الطبيعة البشرية". الوجودية مذهب إنساني، ص13و14.
ثم يضيف: "ما دام الوجود يسبق الماهية حقيقة فإنه لا عذر للإنسان بإحالة سلوكه وتفسير أسباب تصرفه إلى طبيعة إنسانية مسبقة ومحددة الصفات، بمعنى آخر يصير كل تفسير بالحتمية تفسيرا مستحيلا، ويصبح الإنسان حرا، بل يصبح هو الحرية". المصدر السابق، ص25و24
وموقف سارتر ضد النزعة الإنسانية، مماثل لموقف هيدجر منها. ففي (رسالة حول النزعة الإنسانية) يقول هيدجر: "بهذا المعنى إن الفكر المعبر عنه في (الكينونة والزمان) ضد النزعة الانسانية، ولا تعني هذه الضدية إن هذا الفكر يتوجه ضد الانسان ويدافع عن البربرية ويحط من قيمة كرامة الانسان". هيدجر، الفلسفة، الهوية والذات، ص113 و114 بمعنى أن هيدجر ضد النزعة الإنسانية، لأن "الوجود المنفتح هو جوهر الانسان" وأنه لا وجود لهوية أو فطرة أو طبيعة إنسانية مشتركة سابقة على وجود الفرد البشري.
وفي هذا السياق لا يكتفي هيدجر بمناهضة النزعة الإنسانية وحسب بل يقول إنه ضد المنطق والقيم أيضا: "ولأننا نحن ضد النزعة الإنسانية، يُخشى من أننا ندافع فقط عن اللاانساني. ولأننا ضد المنطق، يعتقد بأننا نطالب بسيادة الاعتباطية واللاعقلانية. ولأننا نحن ضد القيم، ينظر إلى فلسفتنا بوصفها تعمل على التقليل من شأن القيم". المصدر السابق، ص 148
هذا، وحديث المسكيني السابق عن الدرجة الصفر في الانتماء وتحرر الذات من أي انتماء سوى إلى ذاتها يقودنا بالضرورة لفحص مفهوم الحرية عند الكاتب وهي المفردة الثانية في عنوان كتابه (الهوية والحرية: نحو أنوار جديدة).
نحو حرية بلا "هوية" سياسية:
تزامن صدور كتاب (الهوية والحرية: نحو أنوار جديدة) 2011 مع تفجر ثورة الربيع التونسية حيث صدر الكتاب بعيد قيام الثورة في ذات العام. لذلك أهدى المؤلف الكتاب لشهداء الثورة حيث جاء الإهداء: "إلى شهداء الكرامة في كل مكان الذين قالوا يوما: نعم الحرية قبل الهوية!"
ولكن لم يتحدث المؤلف عن الثورة إلا في خاتمة الكتاب. وبخلاف ما جاء بالاهداء والخاتمة لم يفرد المؤلف مبحثا خاصا للحرية كما كان متوقعا بحسبانها المفردة الثانية في عنوان الكتاب. ولم يرد ذكرها في ثنايا الكتاب إلا مرات معدودة وكمفردة مجردة من أي مضمون أو مفهوم أو انتماء قومي أو سياسي أو اجتماعي أو فكري محدد. وحتى في هذه المرات المعدودة تحاشى الكاتب تماما ربط الحديث عن الحرية بمعناها المدني والحقوقي كما في النظم الديمقراطية الليبرالية ومباديء عصر التنوير الأوربي أو كما هي في مواثيق حقوق الإنسان مثل حرية الرأي والتعبير والاعتقاد والتنظيم السياسي وغيرها.
وحتى مقولة "الحرية قبل الهوية" الورادة بالاهداء لم يتكرر ذكرها مرة أخرى في متن الكتاب إطلاقا. ولكنا نفهم من حديث الكاتب عن الحرية في سياق حديثه عن ثورة الربيع التونسية، أن هذه "الحرية التي قبل الهوية" لا علاقة لها بالحرية بالمعنى السياسي ولا علاقة لها بالديمقراطية الليبرالية! فهو يرفض انتماء هذه الحرية لأي أُطر أو نظم وقيم ومعايير سياسية وفكرية محددة سلفا ويكتفي بوصف هذه الحرية فقط بأنها حرية الحق في العيش الكريم.
لذلك جاء حديثه عنها بخاتمة الكتاب تحت عنوان (أجيال ما بعد الهوية او الحيوي قبل الهووي) وهو يقصد بالحيوي النسبة إلى الحياة أي أن حق العيش الكريم له الأولوية على تحديد هوية النظام السياسي الذي من شأنه أن يحقق للمواطن الحياة بكرامة. ولا يجد ما يمثل به لهذه الحياة الكريمة التي لا تشترط هوية مسبقة لنظام سياسي بعينه سوى استدعاء نيتشه حيث يقول: "ولقد نبهنا نيتشه إلى أن المقياس الوحيد لتقويم أي نمط من إرادة الحقيقة: هو الحياة". ص 243 وللوقوف على طبيعة هذه الحياة عند نيتشه انظر القسم الثاني من هذا المقال: (نحو أنوار جديدة أم نحو عدمية نيتشوية).
لذلك ينفي الكاتب عن الثورة أي دوافع سياسية أو مطالب بالحريات العامة بالمعنى الديمقراطي ويرى أن جماهير الثورة كانت تنشد فقط حرية الحياة الكريمة والعيش الكريم. يقول هذه الجماهير التي فجرت الثورة كانت: "بلا مشروع أخلاقي خارجي عن شروط بقائها الكريم بمواصفات هذا العصر. هي حرة بمعنى حيوي صرف. ولا علاقة بمعنى حريتها بأي معيارية قانونية أو قومية أو دينية.. ومن السخف مقايضة مكاسب انتفاضاتهم بأي مقابل هووي، أكان ليبراليا أو قوميا أو دينيا". ص 245 و246
لذلك ليس بمستعجب أن يسخر الكاتب من الحرية بمعناها الديمقراطي العلماني حين يقول: "فمن يستعمل الحرية ضد الهوية مثل العلمانيين، كمن يستعمل الهوية ضد الحرية مثل السلفيين، إنما يؤجل الطرح المناسب لمشاكل الإنسان الجسدي والمدني واليومي لدينا الى أجل غير معلوم". ص 239
فهل مشاكل الإنسان الجسدية والمدنية واليومية لا علاقة لها بالحرية بالمعني الديمقراطي العلماني؟ وهل العلمانية تصادر الهوية الدينية للسلفيين أو غيرهم؟ إن هذا الحديث يؤكد مدى استخفاف المؤلف بالحرية بالمعنى السياسي والاجتماعي والفكري.
كما أن هذا الموقف من العلمانية الصادر عقب الثورة التونسية من مفكر يصنف نفسه بوصفه "حداثيا" ومبشرا قويا بالحداثة، موقف مفارق حتى لموقف السلفيين الذي تخلوا عن مشروع الإسلام السياسي وارتضوا أن يخوضوا الممارسة السياسية في إطار علمانية الدولة. كما يؤكد هذا الموقف أن مفردة الحرية الواردة في مقولة "الحرية قبل الهوية" في الاهداء، لا علاقة لها بالمفهوم الديمقراطي العلماني للحرية.
إذاً إن الحرية التي يتحدث عنها الكاتب ليست حرية سياسية واجتماعية وفكرية بل حرية متحررة من أي مفهوم من هذا القبيل. وهذا ما يؤكده الكاتب في موضع أخر من الكتاب بالقول: "الحرية دائما بلا موضوع" ص223.
إذن ليس في الأمر عجب! فهذه الحرية التي بلا موضوع لا يمكن فهمها إلا من منظور الفلسفة الوجودية العدمية. ففي الوجودية الفرد حر حرية مطلقة غير مؤطرة بأي موضوع أو مفهوم ومسؤول عن حريته. غير أن الكاتب اضرب عن قصد اضرابا كاملا عن الحديث عن هذه الحرية التي لا موضوع لها في إرث الفلسفة الوجودية واكتفى بنشدانها عند الشعراء الرومانسيين وفي فلسفة هيجل المثالية في مقولة الوعي الكلي الحر، الذي هو "تاريخ نفسه". ولكن الحرية عند هيجل ليست بلا موضوع، بل لها غاية سامية، وهي تحقيق إنسانية الانسان والكمال الإنساني عبر العقلانية والديمقراطية الليبرالية طبقا لفلسفته.

المراجع والمصادر:
1- فتحي المسكيني، الهوية والزمان: تأويلات فينومينولوجية في مسألة النحن، دار الطليعة، بيروت، 2001
2- فتحي المسكيني، الهوية والحرية: نحو أنوار جديدة، جداول، 2011
3- فتحي المسكيني، الكجيتو المجروح: أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة، منشورات الاختلاف، 2013
4- مارتن هيدجر، الكيونة والزمان، ترجمة فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2012
5- مارتن هيدجر، الفلسفة، الهوية والذات، ترجمة محمد مزيان، منشورات الاختلاف ومشورات ضفاف، بيروت، الطبعة الاولى 2015.
6- بول ريكور، الذات عينها كآخر، ترجمة جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الاولى 2005.
7- بول ريكور، نظرية التأويل: الخطاب وفائض المعنى، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، بيروت،2005.
8- يورغن هبرماس، القول الفلسفي للحداثة، ترجمة فاطمة الجيوشي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1995.
9- جان بول سارتر، الوجود والعدم، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار الآداب بيروت، الطبعة الاولى 1966.
10- سارتر، الوجودية مذهب إنساني، ترجمه عن الفرنسية، عبد المنعم حنفي، 1964.
11- برتراند رسل، حكمة الغرب، ترجمة فؤاد زكريا، عالم المعرفة، الكويت، 2009.
12- عبد الرحمن بدوي، الزمان الوجودي، دار الثقافة، بيروت، الطبعة الثالثة 1973.
13- عبد الرحمن بدوي، نيتشه، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الرابعة 1965
14- رسائل الكندي الفلسفية، تحقيق محمد عبد الهادي أبو ريدة، دار الفكر العربي، مصر، 1950
15- علي سامي النشار، المنطق الصوري منذ أرسطو حتى عصورنا الحاضرة، دار المعرفة الجامعية، مصر، 2000
16- أبو نصر الفارابي، كتاب الحروف، حققه وقدم له، محسن مهدي، استاذ الدراسات العربية بجامعة هارفارد، دار المشرق ، بيروت، طبعة ثانية 1990.
17- فردريك نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، ترجمه عن الألمانية: علي مصباح، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2007
18- فردريك نيتشه، ما وراء الخير والشر، ترجمته عن الألمانيه: جيزيلا فالور حجار، دار الفارابي، الطبعة الأولى 2003
19- فردريك نيتشه، إنسان مفرط في انسانيته، الجزء الأول، ترجمة محمد الناجي، افريقيا الشرق، 2001.
20- فريدريك نيتشه، العلم المرِح، ترجمة محمد الناجي وحسان بورقية، افريقيا الشرق، 2000
21- فردريك نيتشه، هذا هو الإنسان، ترجمة على مصباح، منشورات الجمل، 2006
22- فردريك نيتشه، غسق (أفول) الأصنام أو كيف نتعاطي الفلسفة بالمطرقة، ترجمه عن الألمانية، علي مصباح، منشورات الجمل 2010.
23- فردريك نيتشه، جينيالوجيا الأخلاق، ترجمة محمد الناجي، افريقيا الشرق، الدار البيضاء، طبعة 2006.
24- فردريك نيتشه، إرادة القوة: محاولة لقلب كل القيم، ترجمة محمد الناجي، افريقيا الشرق، المغرب، 2011
25- جاك دريدا، في علم الكتابة، ترجمه عن الفرنسية وقدم له: أنور مغيث ومنى طلبة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى 2005.
26- جاك دريدا، مواقع، ترجمه عن الفرنسية، فريد الزاهي، دار توبقال للنشر، طبعة ثانية 1992.
27- جاك دريدا، المهماز، ترجمة عزيز توما وابراهيم محمود، دار الحوار، الطبعة الأولى 2010.
28- فؤاد زكريا، نيتشه، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثالثة 1991(صدرت طبعته الاولى 1956).
29- عبد المنعم عجب الفيا، في نقد التفكيك، منشورات الاختلاف بالاشتراك مع منشورات ضفاف ومكتبة الامان، 2015
30- عبد المنعم عجب الفيا، من التفكيك إلى التأويل، دار نينوى، دمشق، 2017
31- تيري ايجيلتون، نظرية الأدب، ترجمة ثائر ديب، دار المدى، دمشق، الطبعة الأولى 2006,
32- تيري ايجيلتون، أوهام ما بعد الحداثة، ترجمة ثائر ديب، دار الحوار، اللاذقية، الطبعة الأولى 2000.

المراجع باللغة الإنجليزية :

1. Jacques Derrida, Of Grammatology, Translated by Gayatri Chakravorty Spivak, Johns Hopkins University Press, 1997.
2. Jacques Derrida, Writing and Difference, Translated by Alan Bass, Chicago University Press 1978.
3. Jacques Derrida, Margins of Philosophy, Translated by Alan Bass, The University of Chicago Press, 1984.
4. Jacques Derrida, Positions, Translated by Alan Bass, University of Chicago Press, 1982.
5. Jacques Derrida, Dissemination, Translated by Barbara Johnson, The University of Chicago Press, 1981.
6. Jacques Derrida, Specters of Marx, Translated by Peggy Kamuf, Roultledge Classic, 2006.
7. Jean-Francois Lyotard, The Postmodern Condition, Translated by Eieoff Bennington and Barian Mascumi, Manchester University Press, 2004
8. Jean-Paul Sartre, What is Literature, Translated by Bernard Frechtman, Routledge, London and New York, 1993.
9. Jonathan Culler, On Deconstruction, Cornell University Press, 1982.
10. Jurgen Habermas, the Philosophical Discourse of Modernity, MIT Press Ed. 1990.
11. Martin Heidgger, Introduction to Metaphysics, Translated by Gregory Fried and Richard Pol, Yale University Press, 2000.
12. Nietzsche, the Basic Writings, Translated by Walter Kaufmann, the Modern Library Classic, New York, 2000.
13. Roland Barth, the Pleasure of the Text, Translated by Richard Miller, Hill and Wang, New York, 1975.
14. Roland Barth, Writing Degree Zero, Translated by Annett Laversand and Colin Smith, Hill and Wang, New York, 2001.
15. Roland Barth, Image, Music and Text, Translated by Stephen Heath, Hill and
Wang, New York, 1978.
16. Terry Eagleton, the Literary Theory, an Introduction, The University of Minnesota, 2nd.2003,
17. Terry Eagleton, the Illusions of Postmodernism, Blackwell, USA, Massachusetts, 1997.
18. S. E. Frost, JR., Basic Teachings of the Great Philosophers, Anchor Books, 1989.
19. Umberto Eco,The Limits of Interpretation,Indiana University Press, 1994
20. Vincent B. Leitch, Deconstructive Criticism, Columbia University Press 1983.
*https://en.wikipedia.org/wiki/Martin_Heidegger

abusara21@gmail.com

 

آراء