الفساد والكشف عن ثروة المسؤول (2/2)

 


 

 

 


المعالجة في القانون السوداني

أساس الفساد هو أن يهدف القرار الحكومي لإرضاء مصلحة خاصة. وهذه المصلحة الخاصة فى الغالب الأعم هى مصلحة مالية. من هنا فإن معرفة معاملات المسئولين المالية ليست فقط مهمة للكشف عن وجود المصلحة الخاصة فيما صدر من قرارات، بل أيضاً لأن من شأنها المساعدة فى إستبعاد تأثير المصلحة الخاصة على فى ما لم يصدر بعد من قرارات. المعاملات الفاسدة التي تؤدي للتأثير على قرار المسؤول دائماً تجري في غرف مغلقة بعيدا عن أعين الجمهور ولكنه يتخلف عنها أثر يتمثل في نماء ثروة المسؤول بشكل يمكن رصده. فإذا علم المسئول بأن شئونه المالية كلها مكشوفة، و بأن حصوله على مزايا مالية سهل رصده و تحليل سببه، فإن ذلك قد يمنعه من محاولة الحصول على ميزة خاصة، أو قبول تلك الميزة لقاء إتخاذه للقرار. في كل الاحوال فإن الزيادة في ثروة المسؤول غير المبررة تفرش الطريق لمحاسبته سياسيا وقانونيا. لذلك فإن الركيزة الأساسية لكافة قوانين مناهضة الفساد تبدأ في تفعيل حق الجمهور في العلم. والحق في العلم لا يمكن توفيره بشكل مباشر أو عام اذ يستحيل أن تكون كافة اتصالات المسئولين وعلاقاتهم متاحة للكافة بحيث يعلم الناس كل ما يدور في إطارها، لذلك فإن إلتزام المسئول بالكشف عن الأصول التى يمتلكها ومعاملاته المالية هي مسألة محورية تتصل بكل قوانين مناهضة الفساد.

من يخضع لهذا الالتزام
تختلف التشريعات حول درجة المسئولية التي تحتم إلزام المسئول بتقديم كشف عن معاملاته المالية بصفة دورية، فبعض الدول تتطلب ذلك من المسئولين الذين يتقلدون المناصب الدستورية فقط وبعضها يتطلبه من كل من يتولون مسئوليات حساسة فقط، ودول قليلة هي التي تطلب ذلك من كل الموظفين العموميين، ومنها مصر واليونان ولبنان وماليزيا. يخشى البعض من أن تعميم تطلب ذلك من كل الموظفين العموميين قد يؤدي إلى إغراق أجهزة المراقبة بالمعلومات بشكل لا يمكنها من التوصل في زمن معقول لإكتشاف المخالفات، وهى خشية معقولة. ولكن من الجهة الأخرى فان المستويات الدنيا من الموظفين العموميين الذين يكونون في أجهزة حساسة كالشرطة والأمن وتسجيلات الأراضي يمكن لهم التأثيرعلى تطبيق العدالة وعلى المصالح الإقتصادية للأفراد والدولة. وهذا قد يقود لمحاولة استدراجهم للقيام بأفعال غير مشروعة بمبالغ قد لا يكون من السهل عليهم مقاومتها بالنظر لمستوى دخولهم، بالإضافة لأن كثرتهم وقلة أهمية المراكز التي يشغلونها تجعلهم بعيدين عن مراكز الاهتمام الشعبي. كل ذلك يجعل من المستحسن مراقبة الحركة في ذمتهم المالية لأن ذلك يوفر وسيلة مهمة لإكتشاف أي فساد في حقهم. لذلك يبدو لنا أن الصحيح هو إلزام كل الموظفين العموميين بالكشف عن أصولهم ومعاملاتهم المالية، على أن تتم مراجعة ذلك داخلياً في المستويات الدنيا، ومركزياً في المستويات العليا لمنع إغراق الأجهزة المركزية بمواد يصعب عليها مراقبتها.
بالنسبة للمراكز العليا والتى تتم مراقبتها مركزياً فإنه يتوجب على من يتولاها ليس فقط الكشف عن أصوله ومعاملاته المالية بل أيضاً الكشف عن الذمة المالية لزوجته أو زوجه وأبنائه وبناته القصر وذلك حتى لا يتم إخفاء اصول المسئول ومعاملاته بإستخدام أسماءهم.

الوضع في السودان
نص مكافحة الثراء الحرام و المشبوه في المادة (9) على الكشف قانون حيث أوجب تقديم إقرار ذمة يحوي أصوله ومعاملاته المالية على كل من رئيس المجلس و أعضائه و رئيس الوزراء و نائبه و الوزراء و وزراء الدولة، و أي شخص يشغل أي منصب بدرجة وزير للدولة و حكام الأقاليم و نوابهم و معتمد العاصمة القومية و نائبه و المفوضين و محافظي المديريات وأي شخص آخر يقرر المجلس إضافته وأيضاً رئيس القضاء و النائب العام و المراجع العام و رئيس هيئة الخدمة العامة و أعضائها و القضاة و المستشارين القانونيين بديوان النائب العام و المراجعين بديوان المراجع العام،و شاغلي الوظائف القيادية العليا وفقاً للتفسير الممنوح لهذه الوظائف في قانون الخدمة العامة لسنة1973م و ضباط قوات الشعب المسلحة والقوات النظامية الأخرى من ذوي الرتب التي يقررها المجلس لهذا الغرض،و شاغلي أي وظائف عامة أخرى أو يقررها لهذا الغرض الوزير المختص أو حاكم الإقليم أو معتمد العاصمة القومية بحسب الحال بالتشاور مع النائب العام.
كما وأوجبت المادة أن يشمل إقرار الذمة ذمة زوج المقر و أولاده القصر. وهو كما نرى رغم أنه إقتصر على شاغلي الوظائف العليا الا انه فتح الباب لإضافة غيرهم بواسطة الوزير المختص بالتشاور مع وزير العدل وهو حل غير موفق لأن هذه المسالة من الأهمية بحيث يجب أن يتولاها القانون بنفسه .


مشتملات الكشف
عرفت المادة الثانية من قانون مكافحة الثراء الحرام والمشبوه إقرار الذمه بأنه (يُقصد به ذلك الإقرار، الذي يبين فيه المقر كل مال يملكه سواء كان نقداً أو منقولاً أو ثابتاً ويشمل ذلك كل دخل دوري أو طارئ يدخل في ذمته، مع بيان سببه و مصدره.)
وهو تعريف يضم كل مكونات الثروة الشخصية وبيان مصادرها فلم يتطلب القانون بلوغ الثروة قدراً معيناً من الأهمية لتضمينها الإقرار. فأي مبلغ أو منقول أو عقار يجب تضمينه، وقد خالف في ذلك القانون السوداني ما هو سائد في القوانين الأخرى من عدم ضرورة الإبلاغ عن المبالغ والممتلكات التي تقل عن مبلغ معين وذلك حفاظاً على وقت جهات المراقبة، وحفاظاً على حق المسئول في الخصوصية في الحدود التي لا تخرق الشفافية. من جهة أخرى فقد أغفل القانون النص على المزايا ذات القيمة المالية كتذاكر السفر أو نفقات الإقامة فى الفنادق والمنتجعات عن طريق الدعوات التي تقدم للمسئولين والتى قد تصل إلى مبالغ محسوسة والتى لا تظهرها الحركة العادية فى حسابات المسئول، لذلك فإن مشتملات الاقرار في القانون تحتاج لمراجعة وفق ما أوضحناه وهي ليست بالمسائل الخطيرة على كل حال .

لمن يقدم الإقرار
تنص المادة 4 من قانون مكافحة الثراء الحرام والمشبوه على إقامة إدارة بوزارة العدل تسمى إدارة مكافحة الثراء الحرام. وقد حدد القانون في المادة الخامسة اختصاصات اللجنة وهي تلقي إقرارات الذمة و الشكاوى المتعلقة بالثراء الحرام أو المشبوه المقدمة من أي شخص، إما إليها رأساً، أو المحالة إليها من جانب النائب العام، أو أي قاض، أو الضابط المسئول عن نقطة الشرطة. و التحقيق في تلك الشكاوى واتخاذ ما تراه مناسباً من الإجراءات حيالها. كما ويجوز لها التحقيق من تلقاء ذاتها مع أي شخص إذا اتضح لها أنه مشتبه في إثرائه حراماً أو مشبوهاً.
وهذا تنظيم معيب فالإدارة هي جزء من وزارة العدل أي أنها تخضع للسيد/ وزير العدل الذي هو أحد من يمكن أن يشملهم تحقيق يتعلق بالثراء الحرام أو المشبوه. وفي هذا ما يقلل من قدرة الإدارة أو يجعلها عديمة الجدوى فيما يتعلق بإجراء ذلك التحقيق، ليس فقط مع وزير العدل، و شاغلي الوظائف العليا في وزارة العدل والذين يتبعهم أعضاء الإدارة وظيفياً، بل أيضاً مع سائر الوزراء والقيادات التنفيذية والقضائية فى الدولة، لأن عدم إستقلالهم عن الجهاز الحكومى يجعلهم فى وضع أدنى درجة من كل هؤلاء. ولعل ذلك يفسر ما نقله موقع سودانيز اون لاين فى عام 2006عن مدير مكافحة الثراء الحرام والمشبوه أنه منذ صدور القانون في عام 89 فإن الإدارة لم تتلق إقرار ذمة واحد. ورغم أن المادة (11) تعاقب كل شخص يرفض تقديم إقرار الذمة إلا أن الصياغة الرديئة جعلتها بدون جدوى لأن الرفض يعني تصرف ايجابي، وهو يقتضي رداً على جهة تملك مخاطبة المسئول، وطلب الإقرار، والقانون لا يوفر تلك الآلية لأى جهة .لذلك كان المفترض ليس معاقبة من يرفض تقديم إقرار الذمة، بل من يفشل في تقديمه خلال مدة معينة يحددها القانون. ووضع اللجنة غير المستقل لا يشجع الجمهور على تقديم الشكاوى، ومن الجهة الثانية فان ترك المسالة في يد إدارة غير مستقلة عن السلطة التنفيذية يجعل مسألة تحريك الإجراءات القانونية ضد الفشل في تقديم الاقرار مسألة مشكوك فيها. لكل ذلك نرى ضرورة تعديل القانون لضمان فاعلية الإقرار وتحقيق الهدف منه وذلك يستوجب أمرين الأول تكوين إدارة مستقلة للمراقبة والثانى علنية الإخطار.


إدارة مستقلة لمراقبة الإخطار
يجب أن تكون الإدارة التي تراقب الإخطارات إدارة مستقلة عن الأجهزة الحكومية ولا تتبع لها، وفي بعض الدول يقوم بهذه المهمة الرقيب العام Ombudsman وهو منصب مستقل لا يدخل ضمن الهيكل الحكومي ويقوم البرلمان بتعيينه لفترة طويلة ولا يخضع للعزل الا لأسباب محددة .
الرقيب العام أو المفتش العام هو شخص مكلف بمراقبة النشاط الحكومي لصالح المواطنين، وقد ظهر المنصب في العصر الحديث أول ماظهر في السويد وإن كان الباحثون يرجعون تاريخه السحيق الى روما والصين . عين الملك تشارلس الثالث عشر في عام 1719 إبان فترة نفيه فى تركيا Ombudsman Super ليراقب آداء الحكومة في السويد وخوله حق مقاضاة من يهمل فى أداء واجبه من التنفيذيين والقضاة ،وقد تطور ذلك المنصب إلى منصب وزير العدل فيما بعد، فيما نشأ منصب Ombudsman ليراقب أداء الحكومة.ويقال ان الملك تشارلس كان قد اقتبس الفكرة من ديوان المظالم في تركيا وهي مؤسسة اسلامية قديمة تعود الى الخليفة الثاني ،وقد تبنت معظم الدول الآن هذا المنصب كمؤسسة مستقلة تراقب أعمال الحكومة وتقدم توصيات للحكومة بشأنها .
تنبع الحاجة لتقديم الإقرار لجهة مستقلة من الحاجة لمنع الإخلال بالسلم الوظيفى وإزالة شبهة المحاباة عندما تمارس تلك الجهة سلطة التحقيق مع مسئول أعلى فى الدرجة الوظيفية من أعضاء لجنة المراقبة. من الجهة الثانية فانه قد لا يكون في الأمر جريمة ولكن قد تكون هنالك شبهات بأن ثروة المسئول أو بعض أصوله على اتصال بشكل مباشر أو غير مباشر بالمنصب الذي يتولاه بحيث يلزم إما التخلص من تلك الاصول أو التخلى عن المنصب، وذلك لأنه قد لا يكفي مجرد تفويض التابعين له لإتخاذ القرارات في المسائل التي قد تؤثر على مصالح المسئول لأن المُفوَّض بإتخاذ القرار غالباً ما يعمد الى اتخاذ القرار الذي يعلم أنه سيرضى رئيسه . في هذه الحالات أو غيرها تقوم تلك الجهة بتقديم إقتراحاتها للحكومة بما تراه مناسباً وهو الأمر الذى يقثضى إستقلالاً تاماً عن الحكومة. من كل ذلك يتضح أنه حتى يكون لإقرار الذمة أي معنى فإنه يتوجب أن يُقدم لجهة لا تخضع اداريا للجهة التي يرأسها مقدم الاقرار. الآن ورغم صدور قانون المفوضية القومية للشفافية ومكافحة الفساد، والذي أوجد الآلية التي يمكن أن تقدم لها إقرارات الذمة والشكاوي للتحقيق فيها فإنه لم يبق سوى تعيين المفوضية لتفعيل هذه الأحكام إذا توفرت الإرادة السياسية.

سرية المعلومات
تنص المادة 12 من قانون مكافحة الثراء الحرام والمشبوه على مايلي (تعتبر جميع إقرارات الذمة ، و الشكاوى ، بشأن مخالفة أحكام القانون ،أسراراً، ولا يجوز لأي شخص ،ممن يتلقونها ،أو يتداولونها ،أو يفحصونها، أو يحققون بشأنها، أو يحفظونها، أن يفشي أي بيان، ورد بها.) وفرضت المادة عقوبة جنائية على مخالفة ذلك. عندما سألت صحيفة الصحافة مولانا عبدالله أحمد مهدى هل حدث ان سألتم او قدمتم احد شاغلي المناصب الدستورية للمساءلة تحت طائلة قانون مكافحة الثراء الحرام ؟!
أجاب هذا يقع تحت باب السريات" الصحافة 18/3/2008"وهذا النص يجرد إقرار الذمة نفسه من الشفافية الطلوبة لأن الكشف عن أصول المسئول ومعاملاته المالية للرأى العام يُخضع هيئة المراقبة نفسها لرقابة الرأى العام، وفى ذلك ضمان لمنع الهيئة من محاباة المسئولين بأن تغض الطرف عما يظهره الإقرار من معلومات أو تغييرات تستدعي التحقيق، كما أن كشف الإقرارات لعموم الناس يلعب دورأ فى منع المسئول من محاولة إخفاء المعلومات تحسباً من إحتمال كشفها بواسطة الآخرين ممن لهم صلة بها . من جهة أخرى فإن كشف الاقرار للناس يخدم اغراض المحاسبة السياسية ،وذلك لأن الكشف قد لا يؤدى لمساءلة قانونية إما لأنه لا يكشف عن مخالفة لقانون بعينه ،خاصة في حالة قصور القوانين عن تنظيم بعض صور الفساد – وهو الوضع فى القانون السوداني – او لصعوبة اثبات التورط جنائياً ،ولكنه يكشف عن أن المسئول قد وضع نفسه في موضع الشبهات مما يستدعي مساءلته سياسياً .فى هذه الحالة يؤدى الكشف الإقرار والتحقيق فيه لأن يدفع الرأى العام الجهات التي يتبعها المسئول سياسياً لاتخاذ القرار المناسب ،أو تتحمل هى مسئولية تقاعسها . والمساءلة السياسية التي يمارسها البرلمان تكون أكثر فاعلية عندما تكون إقرارات الذمة معلومة للكافة لان الناس عادة في الأنظمة الديمقراطية يخاطبون نائبهم البرلماني عندما يشعرون بوجوب اتخاذ اجراءات من قِبَل البرلمان ولأن أعضاء البرلمان يصعب عليهم غض الطرف عن مسائل معروفة للكافة. بقى أن نقول أن إفتقاد النظام القانوني السوداني لكثير من قوانين مناهضة الفساد تقلل من فعالية المادة (9)من قانون مكافحة الثراء الحرام والمشبوه ولكن هذا يضيق عنه المجال فنتركه لنتناوله فى مقال مستقل.


نبيل أديب عبدالله
المحامى

nabiladib@hotmail.com

 

آراء