العودة إلى جنيف

 


 

 

 

يقام في سبتمبر من كل عام في مدينة جنيف أكبر محفل لمحاكمة الحكومات على إخفاقها في مجال حقوق الإنسان. تحتدم المناقشات في ذلك الشهر في تلك المدينة بين أبناء الوطن الواحد، داخل وخارج إجتماعات مجلس حقوق الإنسان. لم تكن حكومتنا، كدأبها في الأعوام الأخيرة بعيدة عن ذلك المحفل فهي من عملائه الدائمين. ورغم أن القرار بشأن حالة حقوق الإنسان في السودان صدر دون تصويت، إلا أن ذلك يعكس توازن القوى في المجلس وليس توافقها على تقييم حالة حقوق الإنسان في السودان. ما يهمنا هنا هو رد فعل حكومتنا والتي خرج عنها ما يؤكد أنها أحرزت إنتصاراً على متهميها الذين ما كالو لها هذه الإتهامات إلا من باب المكائد السياسية. لا جديد في ذلك كله فهو نفس ما سمعناه منها في العام الماضي، وأحسب أننا سنسمعه في العام المقبل، لو ظل الحال على حاله، ولكنه في نهاية الأمر لا يعكس إستفادة من الدروس التي تقدمها التجربة.


قصة بندين
ساقت سياسات الحكومة السودان إلى مفوضية حقوق الإنسان في جنيف في العام 1993 وذلك قبل إنشاء مجلس حقوق الإنسان، والذي تم تكوينه بشكله الحالي في عام 2006. وبقدر ما غيرت الحكومة في هذه الفترة من لبوس وأبدلت من مساحيق، إلا أن السياسات التي قادتها إلى جنيف بقيت على حالها، مما أبقى على السودان ضمن تركة مفوضية حقوق الإنسان التي تركتها لمجلس حقوق الإنسان.
مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة هو هيئة واجبها تطوير وحماية حقوق الإنسان، وهي مكونة من 47 دولة يتم إختيارها لمدة ثلاث سنوات على أساس إقليمي. يقوم تفويض المجلس على التحقيق في الإدعاءات بإنتهاكات حقوق الإنسان في الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وبحث ومعالجة المسائل المتعلقه بحقوق الإنسان على أساس موضوعات محددة، مثل حرية التجمع والتنظيم، وحرية التعبير، وحرية المعتقد. والمجلس يفعل ذلك وفق أجندة مكونة من عشرة بنود. كان السودان أول الأمر قد تم إدراجه في البند الرابع من تلك الأجندة، وهو بند يتعلق بمراقبة إنتهاكات حقوق الإنسان في البلد المعني التي تتطلب إهتماماً خاصاً من المجلس ، وتتمثل في الإنتهاكات التي يعتبرها المجلس أكثر الإنتهاكات خطورة على حالة حقوق الإنسان، مما يسمح بتعيين مقرر خاص Special Raporteur للقيام بذلك. وذلك البند يحيز لمجلس الأمن أن يتدخل وفق سلطاته بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، والتي تصل للتدخل المسلح في الدول المعنية. وقد تم تعيين سيما سمر كمقرر خاص للسودان في عام 2006 وفي عام 2009 ومع إنتهاء مهمتها، تم إنهاء منصب المقرر الخاص، وتعيين خبير مستقل للقيام بمهام الرقابة والرصد بالنسبة لحالة حقوق الإنسان في السودان، بموجب البند الرابع من أجندة المجلس، مما يعني أن المجلس يرى أن حالة حقوق الإنسان في السودان، ما زالت تتطلب منه إهتماماً خاصاً.
وفي سبتمبر 2011 كثمن لقبول السودان، كما يرى كثير من المراقبين، لإنفصال الجنوب، قرر مجلس حقوق الإنسان نقل السودان من البند الرابع من أجندته، الي البند العاشر، وبذلك أصبح تفويض الخبير المستقل يشمل بالإضافة لرصد الإنتهاكات تقديم المساعدة الفنية، والمساعدة في بناء القدرات لتحسين حالة حقوق الإنسان في السودان. وما زال السودان منذ سبتمبر 2011 وحتى قرار المجلس الأخير في البند العاشر من أجندة المجلس.


إدارة المعركة على أساس فن الممكن
حملت الدورات التالية لقرار المجلس في 2011 بوضع السودان تحت البند العاشر بدلاً من الرابع، محاولات جادة لإعادة السودان لذلك البند، ومدافعات أكثر جدية من حكومة السودان لإبقائها تحت البند العاشر. وكانت الحكومة في كل مرة تخرج علينا بأهازيج الإنتصار عقب صدور قرار المجلس بإبقائها في البند العاشر.
القرار الذي صدر من المجلس في آخر سبتمبر الماضي أيضاً قوبل إعلامياً بنفس الأهازيج. وليس في ذلك ما يثير الدهشة، إذ أنني لا اعتقد أنها مجرد مظاهرة إعلامية بل لأن الحكومة لم تكن تطمح في أكثر من ذلك. فرغم أن الحكومة كانت تُطالب بإخراج السودان من أجندة المجلس، وهو ما لم يتضمنه القرار، إلا أنني لا أشك في أن إستراتيجية الحكومة لم تكن تتصل بتحقيق ما ترغب، بقدر ما كانت تتصل بتفادي ما تخشى، وقد نجحت في ذلك. بالنسبة للجهة الأخرى، فإن الأمر لم يكن مختلفاً، فالمسألة كانت بالنسبة لهم تفادي الأسوء لصالح الأقل سوءً. كان مطلب المدافعين عن حقوق الإنسان في العالم، هو إعادة السودان إلي البند الرابع نتيجة لما تعاني منه حقوق الإنسان فيه من إنتهاكات، تحتاج لمراقبة فعالة من المجتمع الدولي. ولما كانت الدول الأوروبية والولايات المتحدة لا تستطيع أن تقف موقفاً يعرضها لسخط الرأي العام في بلادها، فإن موقفها المعلن كان إعادة السودان إالي البند الرابع، ولكنها كانت تعلم بالنسبة لتركيبة المجلس أن ذلك قد لا يكون خياراً متاحا.


منزلة بين المنزلتين
"الذين يضعون مصالحهم فوق مبادئهم سرعان ما يفقدونهما معا" دوايت آيزنهاور
معلوم أن العلاقات بين الدول تقوم على المصالح المشتركة، ولا يجوز لسياسي على أي قدر من الإتصال بما هو حادث في عالمنا هذا، أن يبنى أي إستراتيجية ذات بعد دولي بدون الإرتكاز على هذه الحقيقة البسيطة.
لذلك فقد كانت المفاوضات بين حكومة السودان وممثلي التيار المناوئ، تقوم على وجهين الأول موضوعي، يتم نقاشه بصوت واضح ومباشر عن حالة حقوق الإنسان في السودان. والثاني يُترك لفطنة المفاوض دون أي تصريح، أو يتم الجدل فيه تلميحا، وهو يتعلق بمصالح الدولة المفاوضة وكيف سيؤثر تصويتها على تلك المصالح. النقاش حول حالة حقوق الإنسان في السودان، تكتفي فيه حكومة السودان عادة بأن تتحدث عن سوء حالة حقوق الإنسان في دول الجوار، لعلمها أنه لا حجة لها حين يتعلق النقاش بحالة حقوق الإنسان في السودان، فهي حالة لا يجوز لعاقل أن يجادل في كونها تترك مساحة كبيرة للتمني. وبدون التوغل في ذلك يكفي أن نقول أن هجمة الأجهزة الأمنية على المجتمع المدني أدت لإفقاد كل منظمات المجتمع المدني المهتمة بالحكم الراشد، وحقوق الإنسان مشروعيتها، عن طريق رفض تجديد تسجيلها، ومن ضمنها المنظمة التي أتشرف برئاستها وهي المرصد السوداني لحقوق الإنسان. وأن جميع الصحف تعاني من رقابة بَعْدية تتمثل في عقابها على تجاوزها الخطوط الحمراء التي تم تنبيهها لها، أو تلك التي كان يجب عليها أن تعرفها، أو تتوقعها، بمصادرة الأعداد التالية للمخالفة، أو منعها من توزيعها في الزمن الذي يسمح للموزعين بتوزيعها. كذلك فهنالك مسائل كثيرة متعلقة بحرية الدين والمعتقد تعاني منها المؤسسات الدينية لغير المسلمين، وبعض المذاهب الإسلامية من خارج التيار الرئيسي السني. ما تعاني منها حرية التنظيم والتجمع لا يحتاج منا لترداده.
اما نقاش التلميحات فهو يتصل بالمصالح الكثيرة المشتركة بين حكومة السودان والحكومات الأوربية والأمريكية، والتي لا تحتاج تلك الحكومات لكبير عناء لتذكيرها بها في أي مفاوضات تتم بين الطرفين، مثل مجهودات السودان فيما يتعلق بالمنظمات الإرهابية، وبالحيلولة دون الهجرة غير الشرعية، وإيواء اللاجئين. أما الجدل الصامت فيتصل بما يتمتع به السودان من تأييد الكتلتين الإفريقية والعربية في المجلس.
وفقاً لكل ذلك فلم يكن السودان يطمع في أكثر من أن يظل في البند العاشر، ومنع إعادته إلى البند الرابع مرة أخرى. كما لم يكن المجتمع الدولي يرغب في مواجهة مع الكتلة الإفريقية العربية غير محسوبة النتائج، طالما أنه يمكن إبقاء السودان في البند العاشر بحيث يظل تحت رقابة المجلس، بدون تصويت. وكان طرح المسألة للتصويت في المجلس يحمل خطورة بالنسبة للطرفين لم يكن أياً منهما يرغب في المخاطرة بوقوعها. ومن ثم فقد جاء القرار يحمل السمات الأساسية للموقفين


ملامح الموقفين في مقدمة القرار
"يمكن القول أن فلسفة حقوق الإنسان برمتها لا تعني سوى التحرر من الخوف" داج همرشولد
حملت مقدمة القرار أجزاء تحمل مبررات لفحوى القرار تخاطب الرأي العام المهتم بحقوق الإنسان في الدول الديمقراطية المتقدمة، فتذكر أن المجلس "يشير بتقدير إلى النتائج التي حققها حتى الآن الحوار الوطني المستمر، وما نُفِّذ حتى الآن، بهدف الوصول إلى سلام دائم. ويشجع على المشاركة الشاملة لجميع الجهات المعنية السودانية، ويشجع جميع الجهات صاحبة المصلحة على تهيئة بيئة مواتية لإجراء حوار يشمل الجميع، ويتسم بالشفافية والمصداقية" ففي حين تمدح المقدمة ما أنجزه الحوار الوطني، فإنها لا تقف عند ذلك بل تطالب بإكمال نواقصه، بإشراك من لم يشترك من القوى السياسية، وتطالب بالشفافية والمصداقية. كذلك تثني المقدمة في فقرة أخرى على "استضافة السودان أكثر من مليون لاجئ من بلدان مجاورة، وبلدان أخرى في المنطقة، وفتحه (5) ممرات إنسانية من أجل توفير تدخلات منقذة لحياة المتضررين من النزاع" وهو أمر يُحسب في مصلحة السلم والإستقرار العالمي خارج إطار حقوق الإنسان. ثم يلاحظ أيضاً بتقدير "التطورات الإيجابية، مثل تعيين رئيس ونائب رئيس وأعضاء المفوضية القومية لحقوق الإنسان في أبريل 2018 والجهود التي تبذلها حكومة السودان من أجل مكافحة الاتجار بالبشر، والتهريب، وعمل الحكومة وتعاونها المستمرين مع مختلف الشركاء في هذه المجالات والخطوات التي اتخذها في سياق الحملة المتعلقة بمراقبة الأسلحة الصغيرة، بهدف كفالة الأمن وسيادة القانون، واستكمال لخطة العمل المتعلقة بحماية الأطفال من الانتهاكات أثناء النزاعات المسلحة" ثم يدلف لمسألة حقوق الإنسان فيبدأ بالنزاع الداخلي فيقول " يشجع حكومة السودان على تمديد الإعلان الأحادي الجانب بوقف الأعمال العدائية، ويدعو المجموعات المسلحة المتبقية إلى إعلان وقف غير مشروط للأعمال العدائية والتفاوض بحسن نية من أجل التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار"
ثم يعود للمسألة الرئيسية وهي إخفاقات الحكومة في مجال حقوق الإنسان فينوه "بالملاحظات التي قدمها الخبير المستقل في تقريره، ويحث حكومة السودان على كفالة احترام حقوق الإنسان لجميع الأفراد، ويعرب عن القلق إزاء الحوادث المبلغ عنها المتعلقة بالمضايقة والاعتقال التعسفي والاحتجاز المطول بما في ذلك للطلاب والصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان وأعضاء منظمات المجتمع المدني، وإزاء تزايد عدد عمليات الحجز والرقابة على الجرائد، فضلاً عن القيود المفروضة على الحقوق في حرية التعبير وتكوين الجمعيات والتجمع السلمي، وفي الوقت نفسه يحث الحكومة على احترام التزاماتها
وتعهداتها الدستورية والدولية وصون حرية الدين أو المعتقد"


القرار
على عكس مطالبة الحكومة بإنهاء ولاية الخبير المستقل فإن القرار يقرر تجديدها لفترة سنة واحدة أو حتى اليوم الذي تعلن فيه المفوضية السامية وحكومة السودان عن بدء تشغيل مكتب قطري للمفوضية السامية، وفقاً لقرار الجمعية العمومية(48 / 141)المؤرخ (ديسمبر 1993)، أيهما يتحقق أولا. والإشارة للقرار 141/48 والمتعلق بدور المفوض السامي لحقوق الإنسان يعني أن التفويض يشمل تعزيز وحماية حقوق الإنسان، وأيضا تقديم التقارير بشأنها، ويشمل ذلك بالطبع رصد الإنتهاكات كما يشمل تقديم المساعدات الفنية والمتصلة ببناء القدرات. ويطلب القرار من حكومة السودان والمفوضية السامية العمل بصورة بناءة للتوصل إلى اتفاق بشأن الطرائق والولاية المتعلقة بإنشاء مكتب قطري في موعد أقصاه (سبتمبر 2019). كذلك يطلب القرار من الخبير المستقل أن يقدم إلى مجلس حقوق الإنسان تقريراً عن تنفيذ ولايته يضمنه توصيات تتعلق بالمساعدة التقنية وبناء القدرات لكي ينظر فيه المجلس في دورته الأربعين. و يهيب القرار بحكومة السودان أن تواصل تعاونها الكامل مع الخبير المستقل وأن تستمر في السماح بالوصول الفعلي إلى جميع مناطق البلد لزيارتها والالتقاء بكافة الجهات الفاعلة والمعنية. كما و يطلب القرار من الأمين العام أن يوفر للمفوضية السامية جميع الموارد اللازمة لتنفيذ هذا القرار. ويقرر النظر في هذه المسألة في
إطار البند(10) من جدول الأعمال.


ثم ماذا بعد؟
"حقوق الإنسان هي التي تمنح الشرعية لأي حكومة في العالم" جون كوينسي آدامز
وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مَنْ خَلِيقَـةٍ وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَـمِ
زهير بن أبي سلمى
إعتبار القرار إنتصاراً للحكومة في تقديري لا ينطوي على فطنة تمكنها من إدارة شؤون البلاد. فالقرار في واقع الأمر هو إنعكاس لما نعرفه جميعاً، وهو تردي حالة حقوق الإنسان في السودان، والحاجة لبقائها في مركز الإهتمام الدولي للمساعدة في حلها، والتصدي لمنع المزيد من التدهور. ويمكن للحكومة أن ترحب بالقرار، ليس كإنتصار لها، بل كفرصة حصلت عليها لتحسين حالة حقوق الإنسان. ما يجب على الحكومة أن تشعر به ليس الزهو بعدم العودة إلي البند الرابع، إذ ليس في وجود البلاد في البند العاشر، ما يحمل أي حكومة على الفخر أو الزهو. ما هو مطلوب من الحكومة أن تتبنى سياسة إصلاحية تهدف للوصول بالبلاد إلي المستوى الدولي من حيث إحترام حقوق الإنسان وحمايتها. مسألة توفير الحريات العامة والحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية للشعب كفيل بتحقيق ما يجب أن تنشده الحكومة. فالشفافية هي مفتاح القضاء على الفساد، وتوفير الحريات العامة هو أساس حل الأزمة الإقتصادية بما يوفره من صرف على القهر والحرب، وما يجلبه من مساعدات وإستثمار أجنبي.
إذا إنتبهت الحكومة لذلك فإنها ستجد نفسها خارج أجندة المجلس بدون عناء والأهم من ذلك محل رضا المحكومين، وهو ضمانها الوحيد للبقاء في السلطة.


نبيل أديب عبدالله
المحامي

nabiladib@hotmail.com
/////////////////
////////////////
< >
/////////////
///////////////////

 

آراء