2020 على الأبواب فماذا نحن فاعلون؟
( الديمقراطية هي أسوء نظام للحكم إذا إستبعدنا جميع الأنظمة الأخرى) مقولة منسوبة لوينستون تشيرشيل.
بنفس القدر الذي يمكن للإنتخابات أن تكون معبراً للتبادل السلمي للسلطة، فإنها يمكن أن تصبح أداة للإبقاء على السلطة في يد الحاكمين. لذلك فإنه لا يخلو نظام دستوري على وجه الأرض من إنتخابات دورية، دون أن يعني ذلك بالضرورة وجود فرصة حقيقية لتغيير الحاكم. وقد فطن الطغاة منذ زمن بعيد إلى أن الإنتخابات يمكن إستخدامها في الوصول إلى السلطة، والبقاء فيها. وليس في كل هذا جديد، فأدولف هتلر، أعتى الطغاة في الزمن الحديث حملته إلى سدة الحكم أصوات الناخبين. وهو أمر تكرر كثيرا مند عام60 قبل الميلاد حين كان فوز يوليوس قيصر بمنصب القنصل في الإنتخابات، إيذانا بالقضاء على النظام الجمهوري في روما، وإبداله بنظام إمبراطوري. ولا نحتاج أن نذكر القارئ أن لقب القيصر وهو لقب يميز أكثر الأنظمة الملكية إستبداداً، جاء من إسم يوليوس قيصر الفائز في إنتخابات 60 قبل الميلاد.
إذا فإن الإنتخابات في حد ذاتها ليست ضماناً لإختيار الحاكم المؤهل للحكم.
من جهة أخرى فإن الإنتخابات يمكن أن تكون غطاء لبقاء السلطة في يد الحاكم وليس لتبادلها. وأكثر الوسائل لتزوير الإرادة الإنتخابية يتمثل في تزوير الإنتخابات نفسها. وقد عبر عن ذلك ماركوس دكتاتور الفيلبين بقوله (التصويت لا يهم المهم هو طريقة عد الأصوات) Voting does not count counting does
تجريد الناخبين من القدرة على الإختيار
ولكن التزوير نفسه لا يقتصر على التزوير الذي يقع على صناديق الإنتخابات، فهذا يسهل كشفه. ولكن التزوير الأبعد أثرا هو التزوير الذي يتم قبل إجراء الإنتخابات بتزوير الإرادة الشعبية، عن طريق تجريد الناخبين من القدرة على الإختيار، وذلك عن طريق شبكة من القوانين التي تجرد الأصوات الإنتخابية من الإدراك والفعالية.
نتيجة لذلك كله فإنه من المناسب القول بأن الإنتخابات التي يمكن أن تكون وسيلة للتبادل السلمي للسلطة، هي نوع واحد من الإنتخابات. وهي الإنتخابات التي تكون السلطة السياسية فيها مطروحة في صندوق الإنتخابات، ولا تكون الإنتخابات كذلك إلا إذا كانت نتيجتها تقررها الإرادة الحرة للناخبين. فإذا كانت إرادة الناخبين غير حرة، فإن السلطة السياسية لا تكون مطروحة في الصندوق. حتى يؤدي صندوق الإنتخابات دوره كاملاً في أن يصبح أداة حقيقية للتبادل السلمي للسلطة لا يكفي تحرير الإرادة الشعبية من المكبلات بل يتطلب ذلك أيضاً أن تجرى الإنتخابات بطريقة حرة ونزيهة بحيث لا يكون هنالك حائلاً بين صاحب الصوت وبين أن يدلى به لمن يشاء.
إذا المسألة تتطلب شرطين: الأول إرادة حرة للناخب، والثاني عملية تنظم الإدلاء بالأصوات بشكل حر ونزيه. وهذان الشرطان يوفر الأول منها المنظومة القانونية السائدة في الدولة التي تسمح للناخب بحرية الإختيار، وبالحصول على المعلومات التي تمكنه من حسن الإختيار. ويوفر الشرط الثاني قانون الإنتخابات
حرية الإختيار وفعاليته
حرية الإختيار لا تقف عند السماح للناخب بالتصويت على النحو الذي يرغب فيه، بل تمتد إلى أن يكون متمتعا بصوت مدرك Informed Vote أي أن يكون الناخب مطلعا على الطريقة التي تدار بها الشؤون العامة في الدولة. أو على الأقل له الحق في طلب المعلومات المتعلقة بها، والحصول عليها إذا شاء. وهذا يتطلب القوانين التي تلزم السلطات العامة بالشفافية، أي إدارة الشؤون العامة على مرأى ومسمع من الرأي العام. ولا تكتمل حرية الإختيار إلا إذا أتيحت للناخب فرصة الوصول إلى الآراء المختلفة حول الشؤون العامة. وهذا يعني أيضا وجود القوانين التي تدعم وجود نقاش حر في الشؤون العامة. أي توفير حق التعبير عن الرأي والذي يصل قمته في حرية الصحافة ووسائط الإعلام الأخرى.
إذا كانت القوانين توفر الحريات العامة بشكل يسمح للمواطن بحرية الإختيار، فإن حرية العمل السياسي تخلق البيئة السياسية التي تمكن الناخب من أن يكون له صوت فعال. الصوت الفعال هو الصوت المؤثر في نتيجة الإنتخابات. وفعالية الصوت تعني هنا أن يختار الناخب المرشح الذي تتفق أهدافه مع مصالحه وأهدافه، بحيث ينضم صوته للأصوات التي ترتكز على نفس المصالح، وتطلب نفس المطالب، فتتكون كتلة إنتخابية يكون لها تأثير على نتيجة الإنتخابات، مما يمنحه الفعالية السياسية. يؤسس لذلك القوانين التي تحمي حرية التنظيم والتجمع، إذ أن الإنتخابات العامة في واقع الأمر تدور بين تنظيمات سياسية حرة. كل هذا يعني أن توفير الحريات العامة هو الذي يمنح الناخب صوتا مدركاً وفعالاً. إذا فإن توفير الحريات العامة هو الشرط الأولي لإجراء إنتخابات حرة ونزيهة، ولكنه ليس الشرط الوحيد. فهنالك شروط تتعلق بإدارة العملية الإنتخابية، وأحكام الترشيح والإقتراع، يتم تحديدها بواسطة قانون الإنتخابات. بدون أن توفر تلك الأحكام طريقة إقتراع تسمح بقوة متساوية للصوت الإنتخابي، وتمنع التأثير عليه بشكل غير صحيح، لا تكون الإنتخابات إنتخابات حرة ونزيهة، وهو ما سننتعرض له في مقال منفصل.
ما هو الغرض من خوض الإنتخابات
السؤال الذي يجب أن يوجهه الحزب لنفسه، على ضوء هذا كله، هو لماذا أشارك في الإنتخابات؟ الغرض الأساسي من خوض الإنتخابات بالنسبة لأي حزب سياسي هو الوصول إلى السلطة، والقول بغير ذلك يجرد الحزب السياسي مما يفرقه عن الجمعيات والمنظمات الطوعية. فالحزب السياسي هو تنظيم يهدف للوصول إلى السلطة بغرض تحقيق برامجه. إذا فإن الغرض الرئيسي للحزب السياسي من خوض الإنتخابات هو الوصول إلى السلطة. السؤال الآن إذا لم يكن للحزب السياسي وفقاً للواقع السياسي الفعلي أي فرصة في كسب الإنتخابات، بما يعني أنها لن تحقق مطلبه الأساسي وهو الوصول إلى السلطة، فهل يحسن به أن ينسحب من الإنتخابات؟ الإجابة عندي بالنفي. لأن الإنتخابات في المجتمع الديمقراطي ليست مناسبة طارئة يتم التعامل معها في حدود نتائجها المباشرة، بل هي عملية مستمرة ترتكز على ممارسة حق أساسي للمواطنين، يمارسون من خلاله الحق في المشاركة في الحكم ومحاسبة الحكام، وبدونه يستحيل خلق حياة سياسية معافاة. لذلك فإن الأحزاب لا تتعامل مع الإنتخابات بإعتبارها مسألة ستنتهي بإعلان النتائج، بل سيستمر بعدها التواصل مع الجماهير من أجل التعامل مع الواقع الجديد الذي أفرزته تلك النتائج. ومعنى ذلك أن هدف الحزب في الوصول إلى السلطة عن طريق الإنتخابات لا يقتصر على إنتخابات واحدة. الإنتخابات هي عملية تراكمية تزيد من فعالية الحزب، ومن وزنه السياسي. وبالتالي فإن عمله أثاء النشاط ألإنتخابي هو جزء من نشاط الحزب في الحياة السياسية يعمل لتأهيله للفوز بالإنتخابات في المرات القادمة. ولكن هذاليس كل ما في الأمر فصحيح أن الحزب السياسي هدفه هو الوصول إلى السلطة، وصحيح أن الغرض من الإنتخابات هو إختيار من يتولى السلطة، ولكن الغرض من خوض الإنتخابات ليس فقط الوصول إلى السلطة، بل أيضاً التاثير على السلطة، وعلى الواقع السياسي الذي يحكم البلاد.
بالإنتقال للواقع السوداني يجب أن نبدأ من القول بأن المنظومة القانونية التي تساهم في إجراء إنتخابات حرة ونزيهه ليست متوفرة في الوقت الراهن في السودان. وهو الأمر الذي أدى للطرح الذي يدعو لمقاطعة الإنتخابات. فماهي حجج الطرفين؟
المقاطعة والشرعية
حجة المقاطعين هي أن الإنتخابات لا جدوى منها، وخوضها لا يفعل أكثر من منح النظام شرعية. وهي في تقديري حجة مردود عليها، لأن لإنتخابات لا تمنح الحكومة شرعية، فالشرعية تكتسبها الحكومة من الدستور. الحكومة تتولى السلطة بموجب دستور 2005 وهو دستور مقبول من سائر أحزاب المعارضة. ولكن شرعية الحكومة لا تعني شرعية أعمالها. فالحكومة الشرعية تقوم بأعمال غير شرعية حين تخالف الدستور الذي تحكم بموجبه. لذلك فإن مشروعية أي عمل تقوم به السلطات الثلاث في الدولة يحكم شرعيته ليس صدوره من السلطة المختصة، بل موافقته للدستور. فرغم أن شرعية الحكومة يوفرها لها الدستور الذي إرتضيناه، فإن ذلك لا يطلق يدها لتفعل ما تشاء، بل يتوجب الحكم على أي عمل تقوم به بمعيار موافقته للدستور. وفقاً لذلك فإن إعتقال المعارضين تعسفاً هو عمل مخالف للدستور، وغير مشروع، حتى ولو قامت به سلطة مشروعة، وفق قانون ساري المفعول، لأن القانون المخالف للدستور هو نفسه غير مشروع. وما ذكرناه عن إعتقال المعارضين ينطبق على مصادرة أعداد الصحف، ومنع المظاهرات السلمية. وكل هذا صحيح، ولكن ذلك لا يجرد الحكومة من شرعيتها، في نفس الوقت الذي لا تمنح لها تلك الشرعية مبررا للبقاء في الحكم، ولا تمنح سياساتها أي قبول. فالسياسات الخاطئة والممارسات السيئة للحكم، لا تقوم بها الحكومات غير الشرعية وحدها، فهاهو ترمب يعطينا مثالاً صارخاً للحاكم الشرعي السيئ، وشرعية حكم ترمب لا تمنع معارضيه من معارضته، ولا المحاكم من إبطال قراراته، بل ولا تمنع من إسقاطه، وفق التدابير الدستورية التي تقضي بالإطاحة بالحكومة السيئة، وتحديه في الإنتخابات هو أحد تلك الوسائل.
وإذا قبلنا أن خوض الإنتخابات يمنح الحكومة شرعية تفتقدها، فهل ذلك سببه هو أن خوض الإنتخابات يعني الإعتراف بسلطة الحكومة؟ إذا كان ذلك هو السبب، فماذا عن لافتات الأحزاب التي يرفعها المقاطعون على دورهم. ألا يمثل ذلك إعترافا بسلطة الحكومة؟ معلوم أن الحق في الحصول على دور، ورفع اللافتات عليها، وإقامة النشاط فيها لم يحصلوا عليه إلا عن طريق القانون الذي سنته الحكومة. ولماذا يمنح خوض الإنتخابات الحكومة شرعية لا يمنحه لها التسجيل كحزب سياسي بموجب قانونها؟ ألا يعني التسجيل قبول لسلطة الحكومة. هذا مجرد مثل مثله مثل كل الأنشطة القانونية للأحزاب المعارضة التي تقوم بها بالحصول على تصديقات من الحكومة.
شرعية الحكومة لها مستويين:
الأول: وهو المستوى الرفيع أساسه الدستور ويقال له الشرعية القانونية de jure
الثاني: وهو المستوى الغليظ وهو شرعية الأمر الواقع De facto
والشرعية الدستورية أو القانونية تكتسبها الحكومة حين تتولى السلطة بموجب دستور مقبول للأمة. وشرعية الأمر الواقع تكتسبها الحكومة حين تتولى السلطة بإنقلاب ينتهي بإخضاع أجهزة الدولة وسائر المواطنين لإرادة الإنقلابيين السياسية ويستمر ذلك لبعض الوقت حتى تستقر الأمور في قبضتهم. والحكومة المتقلدة مقاليد الأمور الآن هي حكومة إستبدادية، مثلها مثل حكومة الفريق عبود قبل ثورة أكتوبر، وحكومة المشير نميري قبل الإنتفاضة. ولكن الفرق أن نظام عبود كان يحكم بمراسيم دستورية تستند على شرعية الأمر الواقع، وليس على قبول الشعب. وحكومة نميري كانت تحكم بموجب دستور 73 غير الشرعي، أما الحكومةالقائمة اليوم فهي تحكم بموجب دستور 2005 وهو دستور ليس فقط مقبول لمجموع الحركة السياسية، ولا تبني المعارضة معارضتها للحكومة على أساس عدم إعترافها بالدستور، بل على العكس من ذلك عصب المطالب التي يتجمع حولها المعارضون إنتهاك الحكومة لحريتهم بموجب ذلك الدستور. وهو الأمر الذي يجعل خوض الإنتخابات ليس قبولا للحكومة بل ممارسة لحق دستوري في مواجهة الحكومة وليس خضوعا لها.
ولكن هذا نقاش شكلي لن يحل المسألة، المسألة الأساسية في هذا الصدد هو أن المشاركة في الإنتخابات ليست قبولا للحكومة، بل هو عمل سياسي ضدها. وأن الإنتخابات لا توفر تفويضا للحكومة لمجرد مشاركة المعارضة فيها، بل فقط إذا توفر في الإنتخابات الشروط التي تجعل منها إنتخابات حرة ونزيهة.
الإستراتيجية والتاكتيك
إذا بعيداً عن حجة الشرعية التي لا قيمة عملية لها هل يمكن في ظل المنظومة الحالية من القوانين للمعارضين أن يفوزوا بالإنتخابات؟ وما هو أثر خوض الإنتخابات؟ يبدو لي أن الإنتخابات لو أجريت اليوم، فلن يكون لها أي أثر على التبادل السلمي للسلطة، وستكون مجرد معبراً لإنكار الحق الدستوري في الإنتخابات. وحتى ولو تم إجراء الإنتخابات في المواعيد المحددة في 2020 فإنه بدون تغيير حقيقي في المنظومة القانونية التي تحكم النشاط السياسي، والتي تستخدمها الحكومة لتحجيم دور المعارضة، فإن الإنتخابانت لن تكون أكثر من ختم مطاطي في يد الحكومة تضعة على تفويض جديد.
إستناداً على ذلك فقد طالب جزء من القوى المعارضة بأن تقوم الحكومة بالإيفاء بإلتزاماتها الدستورية بتعديل القوانين التي تحكم العمل السياسي بما يسمح به المستوى الدولي كشرط لدخولها الإنتخابات. ولكنني لا أرى أن هنالك فرصة حقيقية في أن تستجيب الحكومة لهذا الطلب.
إذاً ما هو المطلوب؟ إعتقد أنه على الاحزاب المعارضة أن تقرر في مسألة خوض الإنتخابات على خلفية إستراتيجيتها بمعنى أن يكون المعيار هو الإجابة على هذا السؤال، ما هو تأثيرخوض الإنتخابات على إسترتيجية المعارضة؟ أعتقد أن الحركة السياسية المعارضة يجب أن تتبنى إستراتيجية تهدف لخلق مجتمع ديمقراطي، وأن يكون قرارها بدخول الإنتخابات من عدمه مبنياً على مدى ما يمكن أن تحققه بدخولها الإنتخابات بالنسبة لإستراتيجيتها المبنية على خلق المجتمع الديمقراطي.
لقد آن لنا أن نعي بإن تغيير السلطة السياسية القابضة، لا يخلق مجتمعاً ديمقراطياً، ولا يؤمن ممارسة الحكم بشكل ديمقراطي، وهذا ما خبرناه في المرتين السابقتين.
عند سقوط النظام الدكتاتوري في إكتوبر 1964 ورغم التحسن الملحوظ في حالة الحريات العامة، إلا أن الممارسة السياسية كانت مليئة بالعيوب التي أدت لإنهيار النظام في أقل من خمس سنوات، بسبب الممارسات السلطوية التي لجأ إليها الحكام، وعلى رأسها حل الحزب الشيوعي، ثم حل الجمعية التأسسيسية ، والعودة إلى الحرب الأهلية في الجنوب، بعد الفشل في التوصل لتسوية سياسية نتيجة لضيق الأفق الذي أبدته الأحزاب المكونة للحكومة في لجنة الإثنى عشر. ولم تكن تجربتنا في ممارسة العمل السياسي في النظام الديمقراطي الذي تلى إنتفاضة أبريل مختلفة.
خلق المجتمع الديمقراطي
خلق الظروف المواتية لتحقيق المجتمع الديمقراطي، يهدف في نهاية الأمر لوضع السلطة السياسية في صندوق الإنتخابات، لأن الديمقراطية أهم مظاهرها هي القدرة على تغيير الحكام دون اللجوء للعنف. وهذا لن يتم سوى عن طريق الإنتخابات، بشرط وجود القوانين التي تجعل من الإنتخابات إنتخابات حرة ونزيهة. إذا فإن العمل الرئيسي للمعارضة هو فرض تلك القوانين بدلا من إنتظار ذلك من السلطة. المطلوب من المعارضة هو أن يكون لها فاعلية تأثير على المسرح السياسي يفرض على السلطة إجراء الإصلاحات المطلوبة على المنظومة القانونية. إذا فإن السؤال هو هل خوض الإنتخابات يخلق فرص مواتية للعمل المعارض لفرض إحترام الدستورعلى السلطة وإلزامها بإحترام الدستور من جهة ، وتحسين الممارسة السياسية داخل الاحزاب نفسها عن طريق تعميق الممارسة الديمقراطية داخلها من جهة أخرى؟
بالنسبة للشروط المتعلقة بإيجاد صوت مدرك وفاعل فإن الإنتخابات تمنح الأحزاب منبراً مناسباً لممارسة نشاطها السياسي من جهة، ولقيادة حملة سياسية قانونية لإسقاط القوانين القمعية والتمييزية من جهة أخرى. قد لا تسمح الحكومة للحزب بالنشاط الذي يمكنه من قيادة حملة إنتخابية مؤثرة. ولكن على الحزب ألا يرضخ لذلك، فعليه إستخدام كل السبل القانونية لنيل حقوقه، وقيادة الحملات السياسية الإعلامية والمجاهيرية لكشف سياسات الحكومة في هذا الخصوص. على المعارضين بدل أن يوقفوا مشاركتهم في الإنتخابات على أن تلغي الحكومة القوانين المقيدة للحريات، أن يستغلوا الإنتخابات لخلق حراك حقوقي واسع يطالب بإلغاء هذه القوانين يصعب على الحكومة منعه، لأنها إذا فعلت ذلك ستفقد الإنتخابات نفسها مصداقيتها كإنتخابات حرة ونزيهة. كجزء من الحملة الإنتخابية على الأحزاب المعارضة أن تكوِّن حركة حقوقية قوية تشمل الأحزاب التي تؤمن بالدستور، وعلى الأخص بالحريات العامة المضمنة فيه، في تنسيق مع المجتمع المدني وبالأخص الأجزاء المعنية منه بالحكم الراشد، وحقوق الإنسان، ومغالبة الفقر والعوز، ومنع التمييز بسبب النوع أو العرق أو الدين. وهي حركة حقوقية ستضطر الحكومة لأن تسمح لها بعقد الندوات والليالي السياسية للمطالبة بتنقية المنظومة القانونية من القوانين القهرية المخالفة للدستور. بغض النظر عن نتيجة الإنتخابات فإن خوض الإنتخابات سيسمح بعمل جاد نحو إصلاح القوانين وتمرين عضوية الحزب على العمل السياسي مع الجماهير، وبشكل خاص سيضع المعارضة في مركز الفعل السياسي بدلا عن مركزها الحالي الذي يقتصر على رد الفعل من موقع المتفرجين. .
خوض الإنتخابات والفاعلية السياسية
بدون الإنتخابات لا توجد فعالية للحزب السياسي. لماذا؟ لأن الإنتخابات تمنح الحزب الفرصة في أن يتعرف على مطالب المجموعات التي تكوَّن دفاعا عن مصالحها، ويحولها إلى برامج قابلة للتحقيق في خلال فترة التفويض التي تمنحها الإنتخابات، بدلا عن البرامج المعممة التي تنتج آثرها أحيانا بعد إنتقال الناخب للعالم الآخر. السياسة هي صراع برامج وهذه البرامج تتكون حول حياة الناس المعيشية.
حقوق الإنسان السياسية والمدنية تعمل على خلق حياة سياسية معافاة، ولكن تلك الحقوق لا تكتمل إلا بتوفير الجيل الثاني من حقوق الإنسان، ويتمثل ذلك الجيل في الحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية. الناس مهمومون في المقام الأول، و قبل كل شئ، بالبحث عن الغذاء والكساء والصحة والتعليم. وأحزابنا الحاكم منها والمعارض، ليس لديها أي برامج حول هذه المسألة.
دخول الإنتخابات يعني أن يكون للحزب برنامجاً إنتخابياً لا يقتصر على العموميات، ولا يسمح بالهتافية أو الأحلام . إذا أراد حزب خوض الإنتخابات الآن لا يكفي أن يحتج على أزمة النقد، بل يجب عليه أن يُفّصِل رؤاه بشأنها، وما يعتقد أنه السبب فيها، وماهي كيفية علاجها.
الإنتخابات تدفع الحزب السياسي للتعرف على المشاكل وتشخيص أعراضها وإقتراح الحلول لها. على الحزب السياسي أن يُضَمّن أدبياته وبرنامجه الإنتخابي تشخيصاً لأمراض الإقتصاد، يتعرض فيه لأسباب التضخم المستمر وماهي أطروحاته لوقفه. بمعنى أن يفصل برنامجه بالنسبة للتحكم في التضخم. هل ينوي تحديد عرض النقود؟ أم تحفيز الإنتاج؟ وما هو موقفه من الإنفاق الحكومي؟ ورؤيته في كيفية زيادة الموارد وتخصيصها. وهل ستوجه سياساته الضرائبية نحو تحفيز الإنتاج، أم عدالة التوزيع. كما ويتطلب الأمر برامج مفصلة في الصحة والتعليم، إلى آخر هذه المسائل التي تصطرع الأحزاب حولها في الإنتخابات التي تجري في الدول المتقدمة. لا بد أن يكون للحزب برامج متصلة متعلقة بالمسائل المعيشية للناس، في كل مستويات الحكم. هذه البرامج يجب أن تكون أكثر تفصيلا في المستوى المحلي حيث الأمر يتطلب الحديث عن تدبير الموارد لإقامة مدرسة ومستشفى وغير ذلك من الخدمات التي يطلبها الناس في كل محلية والتي يرون في الإنتخابات فرصة للحصول عليها مقابل أصواتهم التي لا يملكون رفاهية التنازل عنها من أجل برنامج سياسي تم إبتكاره بواسطة المثقفين في المركز. هذا هو ما يعنيه ما ظللنا نردده ببغائية عن توزيع الثروة والسلطة.
خوض الإنتخابات يقوى الحزب، ويقربه من الجماهير،ويجعل له وزن سياسي لا يمكن تجاهله، إذا أفلح في التعرف على مشاكل الجماهير، وطرح لها الحلول الممكنة، وقاد حملات للضغط على السلطة لتوفير الموارد لحلها. بالإضافة لأنه جزء من الصراع من أجل خلق المجتمع الديمقراطي.
nabiladib@hotmail.com