حفريات نحوية: مُكْرهٌ أخاك لا بطل
مدخل: "والغافلُ مَن ظنَّ الأشياءَ هي الأشياء" – الفيتوري
لا شك أن كثيرا ممن همَّ بالاستدلال بالمثل: "مُكْرهٌ أخاك لا بطل" تردد وتلجلج عند كلمة "أخاك" وتساءل بينه وبين نفسه: هل هي أخاك أم أخوك؟
وذلك لأن الكلمة واقعة في محل رفع، ووفقا للقواعد النحوية الموحدة في اللغة العربية ينبغي أن تأـتي مرفوعة بالواو "أخوك" وليس "أخاك" لأنها من الأسماء الخمسة أو الستة التي تُرفع بالواو وتنصب بالألف وتجر بالياء. تقول: جاء أخوك، ورأيتُ أخاك، ومررتُ بأخيك. ولكن رغم أنف قواعد النحاة، فقد وردت الكلمة في كل كتب التراث وحتى في كتب النحاة أنفسهم "أخاك"، حيث يروى المثل: "مُكْرهٌ أخاك لا بطل". فما أصل الحكاية؟
أصل الحكاية هو أن قواعد النحو الموحدة التي وضعها النحاة في القرن الثاني الهجري وتوارثتها من بعدهم الأجيال حتى اليوم، لا تمثل كل قبائل الجزيرة العربية القديمة. ومن ذلك القاعدة التي تقول إن الأسماء الخمسة أو الستة: ترفع بالواو وتنصب بالألف وتجر بالياء. فهنالك من العرب من كان يلتزم صيغة واحدة في الحالات الثلاث فيقول: جاء أخاك، ورأيتُ أخاك، ومررت بأخاك.
في حديثه عن قوله تعالى: (إنَّ هذان لساحران) يقول الفراء بالجزء الثاني من كتابه (معاني القرآن) إن هذه الآية جاءت على "لغة بني الحارث بن كعب، يجعلون الاثنين في رفعهما ونصبهما وخفضهما بالألف". قوله: "يجعلون الاثنين" يعني يجعلون المثنى بالألف في كل الأحوال، فلا فرق عندهم بين رفع ونصب وخفض. فهم يقولون: هذان ساحران، إن هذان ساحران، ومررت بهذان الساحران. ويقولون مثلا: جاء اثنان من التلاميذ، ورأيتُ اثنان من التلاميذ، ومررت باثنان من التلاميذ.
ثم يواصل الفراء قوله: "وأنشدني رجل من الأسد عنهم، يريد بني الحارث:
فأطرق إطراق الشجاعِ لو يرى * مساغاً لناباه الشجاع لصمما
قال: وما رأيت أفصح من هذا الأسدي، وحكى هذا الرجل عنهم: هذا خط يدا أخي بعينه. وذلك وإن كان قليلا، أقيس". انتهى - معاني القرآن، الجزء الثاني ص 184.
قوله: "هذا خط يدا أخي بعينه" قال "يدا" بالألف وهي مجرورة بالإضافة، ووفقا لقواعد النحاة الموحدة ينبغي أن يقول: "هذا خط يدي أخي بعينه".
أما قول الشاعر:
فأطرق إطراق الشجاعِ لو يرى * مساغاً لناباه الشجاعُ لصمما
قوله "لناباه" جاءت بالألف ووفقا لقواعد النحاة الموحدة ينبغي أن يقول: "لنابيه" بالياء، لأنها مجرورة باللام. والبيت للشاعر الجاهلي المتلمس الضبعي، من قبيلة ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، إحدى قبائل بكر بن وائل. وهو خال طرفة بن العبد.
والفرّاء هو الإمام أبو زكريا يحي بن زياد الكوفي. ولد بالكوفة سنة 144 هجرية. وتتلمذ على يد الكسائي (أحد القراء السبعة وإمام مدرسة الكوفة في النحو) وخلف الفراء الكسائي على إمامة مدرسة الكوفة في النحو. وسمي الفرّاء "لأنه كان يفري الكلام، أي يحسن تقطيعه وتفصيله". ومذهب الفراء في النحو أنه كان يأخذ عن الأعراب مباشرة ولا يقول حدثني فلان عن فلان. قال ثعلب: "لولا الفراء لما كانت عربية، لأنه خلصها وضبطها". وفي تاريخ بغداد: "وكان يقال: النحو الفراء، والفراء أمير المؤمنين في النحو". – معاني القرآن، الجزء الأول، مقدمة المحقق، ص 7،8،9.
قلنا إن المثل موضوع الحديث يروي: "مُكْرهٌ أخاك لا بطل". وهنالك إجماع على رواية المثل هكذا. بل حتى كتب أصول النحو تجمع على هذه الرواية للمثل، وذلك رغم مخالفته لقواعدهم. فأنت واجد بباب (الأسماء الستة وشروط إعرابها) بكتب أصول النحو، أنهم يذكرون المثل بهذه الصيغة، بل ويذكرون معه قول الشاعر:
إنَّ أباها وأبا أباها * قد بلغا في المجد غايتاها
الشاعر هنا قد التزم الألف في كلمة "أباها" في حالتي النصب والجر، فقال: "وأبا أباها". والصحيح طبقا لقواعد النحاة الموحدة، أن يقول: "وأبا أبيها". وينسب النحاة، البيت للشاعر الجاهلي رؤبة بن العجاج. ويروي النحاة قبل هذا البيت قول الشاعر:
واهاً لريّا ثمّ واهاً واها * هي المنى لو أنَّنا نلناها
يا ليت عيناها لنا وفاها * بثمنٍ نُرضي بهِ أباها
إنَّ أباها وأبا أباها * قد بلغا في المجد غايتاها
(انظر: أوضح المسالك إلى ألفية بن مالك، لابن هشام الأنصاري النحوي، الجزء الأول، ص 64-71).
كل ذلك يدل على أن من اجترح المثل: "مُكْرهٌ أخاك لا بطل"، كان ينتمي إلى قبيلة عربية تلتزم الألف فقط في الأسماء الستة، في الرفع والنصب والجر. "وقيل: إن أول من قاله عمرو بن العاص لما عزم عليه معاوية ليخرجن إلى مبارزة علي، رضي الله عنهما، فلما التقيا، قال عمرو: مُكرهٌ أخاك لا بطل، فاعرض علي عنه".- أوضح المسالك، الجزء الأول ص 71.
فإن صح هذا الخبر، فإنه يعني أنه كان من بين قريش من لا يلتزم بحالات إعراب الأسماء الستة كما أقرها النحاة.
ولو نظرنا في اللهجات العربية المعاصرة، نجد أن الأسماء الستة تأتي كلها بصيغة واحدة في كل الحالات. فمثلا في اللهجة العربية السودانية تأـتي بالواو، تقول: جا أخوك، وقابلت أخوك، وسلمت على أخوك. ولا نقول مطلقا: أخاك وأباك أو أخيك وأبيك. اللهم إلا في التصغير نقول: أخيّ وأخيّك.
أما المثنى، فيأتي كذلك في جميع اللهجات العربية المعاصرة، على صيغة واحدة في الرفع والنصب والجر، تقول في اللهجة السودانية: كتابين وقلمين ورجلين وولدين ومرتين ومدرستين، تلتزم الياء في كل الأحوال. ولا نقول مطلقا: كتابان ورجلان وولدان ونحوها.
وعودا إلى حديث الفراء في قراءة قوله تعالى: (قالوا إنَّ هذان لساحران) طه 61، يقول القراءة التي عليها هو وجماعته والتي تطابق رسم المصحف: "إنَّ هذان" معللا ذلك بقوله: "ولست أشتهي أن أخالف الكتاب" – ص183.
والثابت أنه عند جميع القراء السبعة قرئت بالألف "إن هذان" عدا أبي عمرو قرأها "إنَّ هذين". وقراءة أبي عمرو (رواية الدوري) هي الوحيدة التي تطابق قواعد النحاة. وبعض ممن قرأها "هذان" شدد همزة "إنَّ هذان" وبعضهم خففها "إنْ هذان". – الفراء ، ص 183،184.
هذا، وقد اجتهد بعض النحاة ليوفقوا بين قواعدهم وقوله تعالى: "إنَّ هذان لساحران"، فكلفوا أنفسهم شططا فوق شطط ولم يفلحوا. ولا مخرج سوى الأخذ برأي الفراء القائل إن قوله تعالى: (إنَّ هذان لساحران) جاء مسايرا للغات بعض العرب ومنهم "بني الحارث بن كعب، يجعلون الاثنين في رفعهما ونصبهما وخفضهما بالألف".
abusara21@gmail.com