طالعت في الأيام القليلة الماضية بعض المقالات التي ينادي محرروها بأنّ الوقت قد حان لتعلن قيادة ثورة 19 ديسمبر الإجهاز على السلطة وإسقاطها !! يؤسفني أن أقول بأن هذا النمط من الكتابة يبتسر ديناميكية الحراك الثوري الجماهيري في برنامج أشبه بجدول مباريات كرة القدم. فالعصيان المدني في آخر تجلياته في بداية القرن العشرين عند ثورة الهند بقيادة المهاتما غاندي وانتهاءً بثورة الورود في جورجيا وانتفاضة اليمن الشقيق ضد الدكتاتور علي عبد الله صالح في ما عرف بالربيع العربي، لم يكن بمقدور شخص تحديد نقطة الصفر فيه. ذلك لأنّ اكتمال دورة الحالة الثورية تمليه عوامل كثيرة ومعقدة. وقبل أن نتحدث عن سير قطار ثورة 19 ديسمبر - ثورة تحرير المدن ، ومتى باعتقادنا ستبلغ حالة الذروة حيث النزال النهائي ، أود أن أقدم فذلكة تاريخية قصيرة لسلاح العصيان المدني في قرن واحد من تاريخ البشرية، وكيف أنه أثبت فعاليته التي تجعل أعتى أنظمة الإستبداد تجثو على ركبتيها.
إنّ تاريخ العصيان المدني قديم جدا. وهو يعود لقرون مضت. لكنه بلغ اكتمال نضجه في القرن الماضي، وتحديداً باستخدام المحامي الهندي الشاب غاندي لنوع من الإحتجاج السلمي ضد المستعمر البريطاني عرف بفلسفة (ساتيا كراها) أي المقاومة السلمية. والتي عرفت لاحقا بثورة اللاعنف. حيث قاد فيها غاندي الشعب الهندي عام 1931 في مسيرة قطع فيها المتظاهرون 400 ميل ليصلوا إلى البحر. عرفت المسيرة بثورة ملح داندي. فقد حرم المستعمر البريطاني آنذاك تصاريح استخراج الملح في الهند لغير البريطانيين. وبعد عام كامل من التظاهرات السلمية ، نجح الشعب الهندي في إجبار المستعمر على إلغاء هذا القانون. كما يعرف الكثيرون أن غاندي واصل ثورة اللاعنف لسنوات قبل أن يجبر الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس آنذاك في دعوته إلى لندن لمؤتمر المائدة المستديرة ، الذي أملى فيه الشعب الهندي بقيادة غاندي استقلاله عن بريطانيا في العام 1947.
تكرر أنموذج غاندي بشكل آخر في مسيرات اللاعنف للمطالبة بالحقوق المدنية في اميريكا بقيادة القس مارتن لوثر كينغ في ستينات القرن الماضي. ورغم استمرار الإحتجاج السلمي للأمريكيين السود من أجل إنهاء التمييز العنصري المفروض عليهم، والذي وصل الذروة يمسيرة المليون شخص حيث ألقى القس مارتن لوثر خطبته الشهيرة والتي قال فيها بأنه يحلم بيوم تتساوى فيه كل ألوان الطيف في أمريكا ويجلس فيه الطفل الأسود إلى جانب الطفل الأبيض في غرفة واحدة لتلقي الدرس، والتي ختمها بصيحته الخالدة: ----- إنّ لي حلماًI have a dream بيد أنّ قانون الحقوق المدنية أخذ 14 عاماً قبل أن يتم تشريعه في العام 1968م. أما في أوروبا المعاصرة فقد كانت الثورة السلمية لشعب جورجيا عام 2003 والتي حمل أنصارها الورود وهم يهتفون ضد الرئيس إدوارد شيفرنادزة حتى اسقطوا نظامه، مثالاً آخر لانتصار ثورات الشعوب باستخدامها فلسفة اللاعنف. نود أن نقول للإخوة الذين يستعجلون قطف ثمار تظاهرات شهر واحد في بلادنا ضد نظام مستبد جلس على صدورنا قرابة الثلاثين سنة، سرق حيالها كل الموارد ، واحتكر أجهزة الدولة.. أقول لهم إن من أهم مميزات ثورة اللاعنف، أو ما يسمى بالعصيان المدني أنّ له آلياته كما لكل ثورة آلياتها. يبدأ العصيان المدني باحتجاجات ومسيرات قد تبدو حيية أو ضامرة ، وسرعان ما تتوسع ويتأكد مفعولها الإيجابي الذي يتلخص في رفع درجة الوعي في الشارع المنتفض ، وتحطيم حاجز الخوف ثم يتلون شكل وتكنيك المسيرات ضد آلة القمع. يلاحظ المتابع للتظاهرات الجماهيرية السلمية لأي ثورة بأنها تزداد ضراوة في المطالبة بحقوقها ، رافعة سقف مطالبها كلما زاد عدد ضحاياها. يقابل ذلك عند النظام المستبد إرهاق آلة القمع واضمحلال شراستها. إضافة إلى ذلك تبديد قدرات النظام إقتصاديا ومعنوياً وتنظيمياً. ولعلنا جميعاً نلحظ بوضوح حشد نظام الإخوان المسلمين لكل قواته النظامية وغير النظامية بما في ذلك ما صرح به مهندس انقلاب الإنقاذ علي عثمان محمد طه في مقابلة بإحدى محاطهم التلفزيونية بأنّ لديهم قوات ظل لحماية النظام سوف يستخدمونها عند الحاجة. وبعد هذا التصريح لأحد أقطاب النظام زادت حدة إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين العزل ليسقط بعض الشهداء في ملحمة ام درمان البطولية. مثل هذه المعارك كما قلت تزيد من حدة الحشود الشعبية السلمية وتكسبها في عصر سرعة انتقال المعلومة تعاطفاً داخليا وخارجياً..وهذا ما بدأت ثورة تحرير المدن في السودان تقطف ثماره هذه الأيام بينما يقابله خسران مبين للنظام وإدانة من لدن المجتمع الدولي ممثلاً في منظماته المدنية ودوائره الرسمية. بل إهتمام محاط البث الإقليمية والعالمية بالحدث. ثم إن العصيان المدني يصل محطته الأخيرة حين تحس قيادته أنّ النظام المستبد فقد القدرة على الردع. وأنه يبحث عن طوق النجاة بالإيعاز لقيادة الثورة أنه على استعداد للتفاوض. هنا يكون آخر الأسلحة للثوار هو إعلان الإضراب السياسي وذلك بالتوقف عن أداء كل المناشط الحيوية. التوقف عن السعي إلى المكاتب الحكومية والشركات. وتوقف المركبات العامة والتوقف جزئياً في حركة السوق والمصارف. وقد توقف البازار ( السوق) والمصارف في ثورة الخميني 1979م في كل شبر من البلاد مما شل مؤسسات الدولة كلها . وبالشلل الكامل لمؤسسات الدولة، لا يكون أمام أي نظام مستبد غير الرضوخ والتسليم . في المرحلة هذه فإن أعتى دولة في العالم لن تقدر على الصمود ، ناهيك عن نظام منهار أصلا كنظام الإخوان المسلمين الميت سريرياً في السودان. كلمة أخيرة أوجهها لأبنائنا وبناتنا في قيادة ثورة ديسمبر العظيمة: لستم في عجلة من الأمر. فحماس جماهير شعبنا في كل مدن وقرى البلاد لإسقاط النظام ، حماس يعرفه العدو قبل الصديق. إن ملاحظة عابرة لتصريحات كبار المسئولين تفصح عن الذعر والإضطراب في عقلية أركان النظام. بينما كل الأدلة تشير إلى أن خط سير الثورة السلمية يحصد نقاطاً إيجابية في التماسك والإصرار. بل أكاد أجزم أن شعوب السودان لم يحدث أن انصهرت في بوتقة واحدة كما هو حالها اليوم. نعرف أن هناك من يقول وماذا عن إزهاق الأرواح؟ وتعقيبي على ا لسائل: ومتى توقفت تضحيات شعبنا منذ مجيء هذا النظام النحس حتى بلغنا هذه الذروة؟ هل نسينا أن الثورة السودانية الحالية على هذا النظام الدموي بدأت بشهداء رمضان ومئات الآلاف في دارفور وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وفي بورتسودان وكجبار وفي كل جامعات السودان؟ الثورة السودانية على هذا النظام الفاشي لم تبدأ في 19 ديسمبر 2018 وإن أعلنت عطبرة صافرة بداية فصلها الأخير.