كتب شينوا أشيبي في نعيه الطويل لمقاتلى الحرية في حرب بيافرا "كانت هنالك بلاد" عن مقتل صديقه الشهيد كريستوفر أوكيغبو عبارة عن الموت تلهب الضمير بجزالتها. قال شينوا أشيبي عن كريستوفر الذي فاز منه بنظرة أخيرة، ولم يكن يعدها وقتها الأخيرة، في خراب شقة أصابتها قذيفة للجيش النيجيري في عاصمة جمهورية بيافرا الوليدة، أينوقو، ضمن جمهور من المتعاطفين هبوا للعون: "فزت بالكاد بنظرة منه في ذلك الحشد، ثم مضى كشهاب إلى الأبد". سقط أوكيغبو في أغسطس ١٩٦٧ قتيلا بعد أسابيع من لقاء الشقة ذاك في معركة بالقرب من مدينة نسوكا الجامعية، سقط الشاعر والمدرس والوراق في عمر الخامسة والثلاثين وهو يقاتل عن حرية بيافرا في المدينة التي اكتشف فيها صوته الشعري. كان أوكيغبو شديد الحب لابنته حتى اشتهر حبه هذا وسط الأصدقاء والمعارف، وكان له في ملاعبة الأطفال إبداع وفن فتعلق به ابن أشيبي ذو الثلاثة أعوام كأنه في عمره. عندما صارح أشيبي ابنه بخبر وفاة أوكيغبو رد الصغير: "يا أبتي، لا تتركه يموت"، العبارة التي اختارها أشيبي عنوانا لديوان أشعار في نعي أوكيغبو الشهيد.
كيف ننعى الحياة إذن والقتلى ما زالوا يهتفون بحب الحياة، يهتفون في وجه الطاغية لا يكترثون حتى بموتهم. حصد جهاز الدولة القسري في صباح ٢٩ رمضان أرواح المعتصمين كأنهم صيد في برية ثم تلجلج في مسؤولية القتل كأن من سقطوا عند التروس مضرجين بالدماء اقتلعوا البنادق من قاتليهم وصوبوها نحو أنفسهم منتحرين. ساق جنرالات المجلس لأنفسهم الأعذار فقالوا استفزنا المعتصمون بالهتاف والسخرية والنكتة، استفزونا بالأعلام والشعارات. وزاد صاحب المليشيا، محمد حمدان دقلو، أن من المعتصمين من استل ذكره ولوح به لجنودنا. لم يقصد الجنرالات إذن فض الاعتصام وكفى، فذلك كان ممكنا بقوة بوليسية مدربة على فض الحشود، لكن كان قصدهم كسر الإرادة التي ساقت المعتصمين إلى معمل الحرية الذي مثله الاعتصام بالإرهاب الفتاك. انتقم الجنرالات بالقتل والسحل والاغتصاب طمعا في استرداد ما ظنوه "هيبة الدولة" وقد كشف المعتصمون بنشاطهم اليومي سرها الوضيع، أنها هيكل لحراسة مصالح الطبقة الحاكمة، لا ترعى وطنا ولا تمثل شعبا.
هز المعتصمون هيكل الدولة مرة فضحى ثلاثي الجيش والمليشيا والأمن كما غنى له صديق متولي في رائعته "حبيناك يا برهان وحبيناك يا حميدتي وحبيناك يا دمبلاب" بعميده عمر البشير. لكن اختبر المعتصمون أن الدولة ليست إلها شاخصا من عل بل شبكة مصالح استطاعوا في غمرة تناقضاتهم ورغما عنها أن يبعثوا حياة جديدة في استقلال عنها بالتنظيم والعمل المشترك. في الحقيقة، أكثر ما استفز جنرالات الجيش هو هذه الحرية، الحرية التي شكل من مضغتها المعتصمون الأمن والسلامة والطعام والعلاج والأدب والفن واللهو والسعادة، كل ذلك بمعزل عن قسر الدولة. مثل الاعتصام من هذا الباب جمهورية مضادة، ليس فقط بإزاء جنرالات المجلس العسكري ولكن كذلك بإزاء الطبقة السياسية التي تعذر عليها ترجمة إرادة الحرية هذه إلى سياسة صالحة وتقاصرت عزائمها عن الذين مضوا أحرارا كأنهم الشهب إلى الأبد.
m.elgizouli@gmail.com
////////////////