التسامح: قلبا نبضو واصل ما بين دين ودين

 


 

أم سلمة الصادق
19 September, 2019

 


بسم الله الرحمن الرحيم
غرس الوطن 10

 

تتميز الشخصية السودانية بما توافق السودانيون على تسميته (بأخلاق السمتة) وقد عددها كثيرون- منهم الامام الصادق المهدي الذي احتفى بالسودانوية أو الهجنة الأفروعربية التي أفرزت لنا خليطا لا هو مثل العرب بمثلما شهد به الأمير الحسن بن طلال الذي قال أن السودانيين برغم عروبتهم يختلفون عن بقية الأعراب بما أسماه محتفيا ب"الانسانيات السودانية" ولا هم مثل الأفارقة بمثل ما شهد به وزير الخارجية الكيني الأسبق وعضو الايقاد سمبويا الذي قال أن السودانيين برغم أفريقانيتهم لكنهم يختلفون عن بقية الأفارقة.

والتسامح من أبرز مكونات أخلاق السمتة السودانية التي جعلتنا مختلفين ومتميزين، آخذين بألباب وعقول من يتعامل معنا ليشهد لنا بعد تجربة: أنه برغم ( الهدم المترب القلب نضيف)..
اكتسب السودانيون تسامحهم من عدة عوامل منها الوسائل التي انتشر ودخل بها الاسلام السودان وكذلك المسيحية قبله. إذ انتشر الدينان فيه سلما وتسربا فيه تسربا بلا قهر ولا حرب. فالسودانيون اعتنقوا المسيحية ثم الاسلام بكيفهم وبمزاجهم...كذلك لا شك أن للتصوف الذي انتشر في ربوع السودان أثرا و دورا مقدرا في اضفاء صفة التسامح على الشخصية السودانية .
فإن كان د. النور حمد يعد محقا أن أسباب تخلف السودان تعود لما أسماه الانقطاع الحضاري بسبب الغزو التركي المصري الذي قطع على السودان تطوره الطبيعي التراكمي منذ الحضارة الكوشية فإن الانقاذ لا تقل مسئولية وجرما عما فعله الغزاة . فمثلهم ركزت (الدولة المنقذة )على شكل صوري للدين أسس تسيده على قهر الناس ، وبما انتهجته من تضييق على كل الأغيار دينا وعنصرا بل حتى ضد المسلمين ممن لا يؤمنون بالفكر الاخواني لصالح فكر أحادي في بلد متعدد الأديان والأعراق تسببت في كثير من المآسي. و بدعوتها لتجربتها الاسلاموية القاصرة والمشوهة ولمشروعها الحضاري- وهو المشروع الذي ترتب عليه تحويل الحرب في جنوب السودان الى حرب جهادية عصفت بمفهوم المواطنة وحولت بعضا من المواطنين على أسس دينية الى أهل ذمة يسلمون أو يقتلون. وعلى مدى عقود ثلاثة خنقت قيمة التسامح السودانية وطردت من الوطن الآخر الاثني والآخر الديني.
وقد ترتبت على الفكر الأحادي الاسلاموي الشمولي، شرور كثيرة ونشر كثيف لثقافة العنف بالبلاد. ولأول مرة في فبراير 1994اعتدى مسلحون اسلاميون على مسجد لأنصار السنة في امدرمان وتكرر الهجوم على مسجد في مدني عام 2000 كما تم الاعتداء على المسيحيين في احتفالهم بعيد القيامة في عام 2001. هذه الحوادث العاصفة بالنسيج الاجتماعي السوداني دفعت الامام الصادق المهدي وهيئة شئون الأنصار لقرع أجراس الأنذار ورفع الرايات الحمر عاليا، وفي احتفال الهيئة بيوم 17 رمضان 1414هجرية دعا الامام لعهد ولاء وبراء لحماية الدين والوطن والتحصن ضد هذه الدعوى الجاهلية . تطورت هذه الفكرة لاحقا لتكون أشمل بما تمثل في نداءات العصر الثلاثة: (نداء المهتدين) لخطاب أهل القبلة في سائر بقاع المعمورة الذي صدر في مارس 1999 لانقاذ دينهم من الانكفاء ودنياهم من التبعية والارتهان للخارج.
و( نداء الايمانيين) يوليو 1999 لكافة أهل الملل في العالم من عدة نقاط مبنية على قيم التسامح والسعي نحو الرقي الروحي للبشر ولكي تضمن المواثيق الدولية بعدا روحيا وغيرها من المشتركات بين أهل الأديان المختلفة.
و(نداء حوار الحضارات) في يونيو 1999 لحفظ السلام على مستوى العالم على أسس الاحترام والتعاون المتبادل والعمل المشترك لحفظ ما يجمع الانسانية ويبقيها.
على خلفية هذا العنف المركزي المتعمد ضد الآخر، من قبل الحكم المباد، صار متوقعا من حكومة تأتي بعد ثورة شعبية شاملة أن تعمل على إعادة ما كان يسود في سودان ما قبل الانقاذ من قيم و أشياء حميدة، وأن تطمئن السودانيين وتبشرهم بعهد جديد.
لا شك أن أهم ما يقع على عاتق الحكومة المدنية العمل الجاد على نقض تركة الإنقاذ الثقيلة و يأتي التحبير على قيمة مثل التسامح على رأس قائمة مهامها ، خاصة لكون أن الستة أشهر الأولى من عمر الحكومة الانتقالية قد تم تخصيصها لتحقيق السلام وافشائه والاحتفاء به، مما يوجب تطمين الآخر الديني و الآخر الاثني: أن الانتقالية، هي بحق حكومة الثورة التي شعارها "حرية،سلام وعدالة" وأن الانتقالية بحق ليست هي "انقاذا" بنسخة ثانية!
لذلك ومن هذا المنطلق يجب الاحتفاء بتصريحات وزير الشئون الدينية نصر الدين مفرح ودعوته للأقليات الدينية السودانية المهاجرة بالعودة للوطن بمجرد اعلان اسمه وزيرا للشئون الدينية في مؤتمر رئيس الوزراء الصحفي في 5 سبتمبر وحتى قبل أداء القسم الذي تم في 8 سبتمبر 2019.
وما ذكره مفرح بالخصوص لم يتعد دعوة مواطنين سودانيين غادروا وطنهم للرجوع لبلاد صارت بها حكومة مدنية، والمواطنة فيها هي أساس الحقوق والواجبات" وأن " السودان بلد متعدد في أفكاره وقيمه وفي ثقافاته ومشاربه الفكرية والمذاهب الإسلامية وحتى في أديانه، وقال إنّ هناك ديناً إسلامياً ومسيحياً، وكانت هناك أقليات يهودية فارقت البلد" كما أكد الوزير أن «الإسلام دخل السودان من قديم الزمان عن طريق السلم وليس الحرب، واعتبر أنّ التسامح الديني وتعايش المذاهب الفكرية والمجموعات المختلفة أمر مهم، وهي من القضايا التي سيعملون عليها»، قائلاً إن «التعايش مبدأ إسلامي عظيم"واعتبر مفرح أن هنالك الكثير من المعطيات تجعلهم يعملون على قضية التعايش الديني والمذهبي، والتصالح والسلام، والتصافي والتعافي، لبناء الدولة على أسس جديدة، مضيفاً أن «الأساس فيها الحرية والمساواة والعدل والأخلاق والمثل النبيلة" كما أوضح "إن التطرف ليس في دعوة مواطن العودة إلى بلاده، وإنما المتطرفون هم من يرفضون هذه الدعوة، وأكد مفرح أن إستراتيجية العمل لوزارته في الفترة المقبلة ستكون قائمة على إعلاء قيمة التسامح بين المكونات كافة، وأنه سيستفيد من خصائص الوسطية لدى السودانيين".
والناظر لهذه التصريحات بعقل سديد وقلب سليم يحتار فيما الجدال حولها؟ ولما التركيز على اليهود بينما الدعوة للعودة كانت عامة لكل الأقليات الدينية من السودانيين الذين هاجروا الوطن؟ وما الداعي لتحريف الكلم عن مواضعه وللاتهامات بالتبشير لعلاقة مع الكيان الصهيوني وغيره ..والخ من ترهات؟ لكن طبعا الغرض مرض كما يقولون!
من جانبي لا أرى فيما الضجة حول هذه التصريحات المستنيرة من رجل نشأ في الجزيرة أبا بلد التسامح والتعايش والسلم الاجتماعي، رجل من كيان وسطي يريد جمع كلمة الناس على أسس الحرية والسلام والعدالة ..رجل هو وزير الشئون الدينية والأوقاف في حكومة مدنية أتت ليرى السودانيون من جميع المشارب أوجههم في مرآتها.
وسلمتم

umsalsadig@gmail.com

 

آراء