2 اكتوبر ذكرى الصديق، صدَيق الديمقراطية وشهيدها

 


 

 


بسم الله الرحمن الرحيم
غرس الوطن 12

 

سبق لنا أن طالبنا مرة تلو الأخرى بأن يكتب التاريخ بأقلام موضوعية تسجل لنا ماضيا نفخر به وننطلق من منصته جماعيا نحو المستقبل. ولا نمل حتى يكون هذا المطلب واقعا.
فالتاريخ وكتابة السير يستفاد منها دروسا وعبرا مثلما ذكرنا ربنا في محكم تنزيله
عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ
مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يوسف)111)
ويستفاد منها لضمان توثيق الأحداث لاستصحاب الصالح منها وتجنب الطالح ويستفاد منها في تأسيس محكم للوحدة الوطنية واللحمة القومية كما يستفاد منها لأغراض أخرى مثل إنصاف الرجال والنساء الذين قدموا/من الكثير ما يجعل من سير حيواتهم قدوة لتربية النشء والقدوة من آليات التنشئة الاجتماعية الناجعة.
في مثل ذلك التوثيق التاريخي نحن جد مقصرون. وبسبب ذلكم التقصير نجد أن بناء الدولة السودانية القومي لم يكتمل بعد فالبناء القومي يحتاج للحمة الوطنية ويحتاج للتوافق حول تاريخ موحد يلتف الناس حوله ويحترمونه مثلما تفعل بقية الأمم. بل لأهمية مثل ذلك التاريخ المشترك بعض الأمم تصنعه صناعة لكي يتوفر لها. فمن المؤسف أن يكون لنا تاريخا مشرفا لكننا غير متفقين حوله ومن المحزن أننا حتى اليوم نختلف حول أمور بديهية وحول أحداث وقعت وحول مواقف شهد بها العالم كله من حولنا لكننا أحجمنا.
علينا أن نفطن لذلك فورا خاصة والسودان قد حدثت فيه ثورة وضعها د.ابراهيم الأمين محقا بين واحدة من ثلاث محطات تغيير كامل في تاريخ السودان :أولاها المهدية الدولة الوطنية الأولى وثانيها الاستقلال وثالثها ثورة ديسمبر 2018(كلمة د.ابراهيم في حفل تكريم الحبيب فضل النور جابر أحد الرجال الذين آن الأوان للاعتراف بفضلهم ومعرفة دورهم).وديسمبر ثورة اجتماعية شاملة ينتظر بعدها تأسيسا ثانيا للدولة السودانية، ولكي يقوم هذا التأسيس على أساس سليم علينا أن نعنى بالتاريخ.
فمن غير المعقول ولا المقبول-مثلا أن يشكو د. محمد سعيد القدال في مقدمة كتابه (الامام المهدي-لوحة لثائر سوداني )من أنهم في احتفال جامعة الخرطوم في عام 1981 بالذكرى المئوية لاندلاع المهدية وجد الأستاذ قاسم عثمان النور في مكتبة الجامعة اربعين كتابا عن غردون لكنه لم يجد كتابا واحدا مخصصا لسيرة الامام المهدي!
ومن غير المعقول ولا المقبول أن يتحقق استقلال السودان على شعار (السودان للسودانيين) وبجهد الاستقلاليين ثم لا ينصب الإمام عبدالرحمن وصحبه من الاستقلاليين كآباء للاستقلال الذي تحقق بجهدهم ونضالهم وتضحياتهم.
ومن غير المعقول ولا المقبول أن تذكر الديمقراطية في السودان ولا يتذكر الناس صدّيقها ودوره في غرس اكتوبر 21!
وكل ذلك النقص وما يترتب عليه من تفرق الكلمة ومن انعدام لمنصة انطلاق نحو المستقبل يعود بداية لعدم اهتمامنا بتوثيق موضوعي للتاريخ يجمعنا ولا يفرقنا.
من جانبه رأى كياننا الديني والسياسي بالتنسيق مع الأسرة إحياء ذكرى الامام الصديق تخليدا للمعاني والقيم التي يمثلها و في سبيل معالجة بعضا من ذلك الخلل.
كون رئيس حزب الأمة وامام الأنصار لجنة عليا لإحياء ذكرى الامام الصديق برئاسة الحبيب سعادة اللواء فضل الله برمة ناصرنائب رئيس حزب الأمة ومقررية الحبيب مولانا عبدالمحمود ابو أمين هيئة شئون الأنصار.
هذا الاحتفال الذي تعد له اللجنة العليا المذكورة ليس هو الأول من نوعه لتكريم شهيد الديمقراطية من قبل جماعة من كياننا فقد سبقه احتفال آخر بالذكرى في يناير 2014 لكنه يتم الآن في ظل ثورة أحدثت تغييرا كبيرا سيؤدي الى حكم ديمقراطي كامل فنتوقع أن يكون أثرذلك باديا للعيان ويكون التركيز فيه على ابراز دور الإمام الصديق في ثورة اكتوبر وكشهيد للديمقراطية.
كانت اللجنة العليا قد حددت يوم رحيل الصديق في 2 اكتوبر ليكون يوم انطلاق الاحتفال بذكراه رحمه الله فقد رحل في ذلك التاريخ من عام 1961 شهيدا للديمقراطية و للسلام والحرية.
ولعله من حسن تدابير الأقدار أن تم تأجيل الاحتفال في يومه المحدد ليبدأ انطلاقه في 21 اكتوبر بندوة سياسية وفنية تنعقد في دار الأمة -يوم الاحتفال باكتوبر التي كانت حصادا لغرسه مع الآخرين ليكون ختامه في يوم الجمعة 25 اكتوبر بزفة تتحرك بعد الصلاة من مسجد ودنوباوي لبيت المهدي حيث يكون يوما مفتوحا للاحتفال يختم بليلة كبرى خطابية وفنية .
وللاحتفال بذكرى الامام الصديق في هذا الوقت الذي نستشرف فيه التحول الديمقراطي وننشد السلام العادل أهمية كبيرة تبين أن الديمقراطية في السودان قيمة مغروسة منذ زمان بعيد في كيانات نصفها بالتقليدية.وهو ما يتضح أيضا عند استعراضنا لسيرة الامام الصديق .
للامام الصديق مواقف في سبيل الديمقراطية التي هي مطلبنا اليوم أقوال مأثورة مدعومة بنضالات مشهودة :
اول موقف اتخذه كان في معارضة البيان الذي أصدره والده تأييدا لانقلاب عبود فقطع رحلته العلاجية ومن المطار قصد والده معاتبا بصورة لم تؤلف منه وهو البر بوالده بما صار مضرب مثل لدرجة اتخاذ أصحاب والده أصحابا له.
ومن أول يوم أعلن هو والحزب الذي هو رئيسه معارضتهم للانقلاب بمن فيهم الأميرلاي عبدالله خليل الذي سلم الحكم للعسكر لأسباب رآها في ذلك الوقت لكنه مع الآخرين دفع استحقاقات النضال كاملة .
وعلى أساس الجهاد المدني كانت معارضته:
اتخذ لذلك سبيل المذكرات وقد كانت المذكرة الأولى في 21 اكتوبر 1959 من الصدف العجيبة، وقد طالب في هذه المذكرات التي قدمها للحكومة العسكر بالعودة للثكنات وترك الحكم والعودة لممارسة عملهم في حماية البلد ورفع حالة الطواريء وعودة الحياة النيابية وقيام الانتخابات .
وكذلك المفاوضات التي ما أن دعي اليها استجاب مطالبا بضم الأحزاب الأخرى إليها.
واتخذ كل وسائل الجهاد المدني للضغط على الحكومة لكي تستجيب لمطالب الشعب :من تكوين للجبهة الوطنية لجمع الكلمة موحدة، للخطب المنبرية لتعبئة الناس من أجل الديمقراطية، للحشود التي ارسل لها الوفود لكي تكون قوية ..
وتحت قيادته كان تلغراف الساسة الذي وجه لحكومة عبود بعد قتل مواطن في الأبيض تحت التعذيب في 7/7/1961
وهو الموقف الذي قامت بعده الحكومة باعتقال الساسة وارسالهم لجوبا وأرسلت للامام الصديق خطاب لفت نظر في 11/7/ 1961 - خطاب عنيف وتهديدي لمنع الأنصار من المخاطبات السياسية ومن مظهرهم التنظيمي فرد عليهم بخطاب في مساء نفس اليوم جاء في بعضه: "إن الجيش الثنائي الذي انبري لكيان الأنصار بقوته وجبروته فأعمل فيه الضرب والهدم والتحريق ما لبث أن وجد أشلاء ذلك الكيان تتجمع مستمدة قوتها من عقيدتها الثورية التي تنطح كل عائق فرأى رجال الحكم الثنائي نشأة الكيان الشهيد مرة أخرى بقيادة الإمام عبد الرحمن الذي دفع بالحكمة والتي هي أحسن حتى أصبحت تلك القوة المعنوية الكامنة سبب الدفع نحو استقلال البلاد والذود عنه.
إنني لا أذكر هذا للمفاخرة وإنما أذكره للتأسف على الظروف التي جعلت حكماً وطنياً يعالج الأمور بأساليب الجيش الثنائي ، إن نشاط الأنصار وحريتهم لأداء شعائرهم الدينية حقوق وليست منح وأنا ومن معي أمناؤها وحراسها بالمال والنفس والولد".
وفي هذا الجو الملبد بالغيوم والتهديد الحكومي الواضح توافدت وفود الأنصار متحدية و مشفقة من فعل حكومي متهور لكن الامام الصديق هدأ من روعهم وطلب منهم العودة الى زراعتهم والاطمئنان الى أن الأمور غير مزعجة وفعلا عاد ثلاثة ارباعهم وبقي الربع في حالة استعداد للسفر عندما صادف الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في 21 لغسطس 1961 فحضروه مع الآخرين في امدرمان وقد تم توجيههم بصرامة لكي يتجردوا من السلاح حتى السلاح الأبيض العادي الذي درجوا على حمله. وقد كانوا في بيت المهدي فتحركوا منه لساحة المولد في ميدان الخليفة.
كانت الحكومة قد أعدت خطة لتأمين موقفها ورأت أن ذلك رهين بالفتك بالأنصار الذين لم تجد معهم عبارات الوعيد والتهديد بل رفعت روحهم المعنوية وضاعفت حماسهم وزادت من نشاطهم ووجدت من أشار إليها بأن جرأة الأنصار يمكن القضاء عليها بالانقضاض على جماعتهم وقتل بعضهم لتضعف الروح المعنوية ويشتت الجمع وتخمد المعارضة الوطنية المستندة إلى الأنصار.
لذلك هاجمت الأنصار المتجهين من بيت المهدي الى ساحة المولد بقوة من العساكر أطلقت عليهم البمبان والرصاص الحي فاستشهد اثنا عشر شهيدا من الأنصار الذين ثبتوا للهجوم ودافعوا عن أنفسهم بما وجدوا من أخشاب وعصي وقتلوا ثمانية من العساكر .
وجه الامام الصديق بعدم التصعيد حفظا للدماء وصار متنازعا بين كظم الغيظ من أجل الوطن او اتخاذ موقف ربما أسال الدماء أنهارا..
حدثه البعض وحثه في هذا الموقف العصيب بأننا نستطيع الانتقام واستلام البلد لكنه ردهم ورد عليهم لا نريد استبدال دكتاتورية العسكر بدكتاتورية الأنصار ..كظم غيظه وربط على جرح نازف لم يتحمله قلبه فانفجر بذبحة مات على اثرها في مثل هذا اليوم 2اكتوبر في مشهد كأنه مسرح معد بأدق التفاصيل بحضور جمع كبير من الأطباء وكبار الأنصار والأسرة وهو في قمة الألم نزع عنه أنابيب الأطباء وعصى طلبهم بأن يصمت وخاطبهم بقوله :علي مسئولية لابد من إنجازها وأملى على ابنه الصادق وصيته وهو على فراش الموت :"نظام الأنصار يستمر بقوة- العمل الوطني يستمر كما هو –لنا مطلبان هما مطلبا البلد عامة ،ليست لنا عداوات شخصية ولا مطالب خاصة والمطلبان هما: حريات الناس والحكم الديمقراطي".ثم أكمل بقية بنودها و طلب سيدنا عبدالله اسحق لتلاوة الراتب مع حزب القرآن وما ان انتهى الراتب رفع يده بالفاتحة على روحه معزيا ولده الصادق وقال الآن دعوني ارتاح واسلم الروح لباريها.
ألا رحم الله الصديق (حبيبي ولي الله وولي الناس) حبيب الشعب.
وسلمتم

umsalsadig@gmail.com
////////////////////

 

آراء