لا ندري كيف يكون كنه لوحة الغناء السوداني لو لم يكن عركي دهانها البنفسج. فمنذ أن بدأ مغنياً كان صوتاً متفرداً للغاية، وملحناً عبقرياً سبق زمانه، وإنساناً أعطى الفن قبسه العرفاني الثائر لأجل الحق، والخير، والجمال. ولما لم يبلغ الثلاثين من عمره كانت حداثته قد بهرت أساطين الفن، والمستمعين على حد سواء. فإذا كان عطاء الفنان يقاس بالكم، لا الكيف، فيكفي عركي أن يكون ملحناً أسطورياً لو توقف عطائه عند عقده الثالث. ولكن كتب الله له الحياة ليمنح الغناء في كل عقد لوناً من بهاء التفرد، وطعماً من النداوة، وروحاً من الحداثة المستمرة، وجزالةً في النص جديرة بالخلود. وحتى إذا وصلت الأغنية السودانية مرحلة السبعينات كانت تجربة عركي قد تموضعت في قمة العطاء الغنائي فيما بقي نموذجاً للفنان المثقف الذي لا يخون شعبه.
كنا نرى عركي، عندما حلت بوادر اللوثة الدينية على البلاد في مستهل عقد التسعينات، ملهمنا الإبداعي السياسي الذي نلوذ إليه ليجنبنا ثقل اللحظة التاريخية المتهوسة على النفس. كانت حفلاته تواسي جيلنا الذي نشأ على رفض الاستبداد. وكان صوته الغرويد هو صوت جيله الوحيد الذي يضخ المقاومة السلمية الغنائية بعد هجرة وردي، والموصلي، ومصطفى سيد أحمد. في الداخل كان هناك الفنانون من جيله الذين يغنون للجمال. ولكن عركي الفنان الوحيد الذي يسرف في التغني بالموقف الإيجابي للحياة الحرة الكريمة من مدخل دهش الإيقاع، وسحر النغمة، وفرادة الأداء. ولكن هذا العناد إزاء تيار الاستبداد جعله هدفاً مستمراً لمضايقات السلطة الاوليغاركية. وما كان ليستهل الغناء في طرفٍ من نهار المكتبة القبطية، أو في بعضِ من ليل نادي الضباط، أو فندق قصر الصداقة إلا وقد سعى البصاصون المندسون لقطع التيار الكهربائي من الساوندسستم. ومرات يتحينون لحظة ختام حفله الدائم بأداء "أضحكي" ليكرروا فعلتهم المنكرة.
-٢- حين عزم منظرو المشروع الحضاري على تحقيق مشروع الأغنية البديلة بواسطة أصوات تفتقر إلى التطريب من شاكلة شنان، ومحمد بخيت، وقيقم، ضيقوا واسع الفنانين، بالجلد تارةً، والحبس تارةً، وأحياناً مواجهتهم بالاستفزاز، والترهيب، وإهانتهم بجانب زملائهم العازفين على مرأى من الجمهور. ووجد عركي نصيباً من الملاحقة الأمنية الممضة. ولكن لم يفت هذا من عضد عزيمته، ومثابرته القوية ضد الانكسار، وعنفوان نهجه ضد الاستبداد حتى سقوط النظام. ولما نالوا منه مأخذا التقيته في منزل صديقه الأستاذ هاشم صديق في مطلع عام ١٩٩٣، وكان غاضباً للغاية، وحدثني عن اعتزاله كموقف ضد المضايقات التي يواجهها بجانب زملائه. وأخذت منه تصريحا عن اعتزاله لصحيفة (الخرطوم) التي كنت اراسلها حين صدورها في القاهرة. ونُشر الخبر ليخلق تعاطفاً هائلاً معه وسط السودانيين المهاجرين. وأذكر أنه كان قد استدعاه عبد الباسط سبدرات بعد انتشار خبر اعتزاله، وأعلمني أن سبدرات وزير الثقافة والإعلام آنذاك - استشاط منه غضبا، واسمعه الكثير من الكلام الفارغ فخرج من مكتبه. ذلك برغم أن سبدرات كان مغرماً بأن يجد له موقعاً في شعر الغناء في فترة مايو، وكان حفياً بالغناء، ومجالسة قعدات الفنانين. ولكنه آثر أن يبصق على تاريخه الليبرالي كله ليكافئه مخدمه حين يخبره باستدعاء عركي لمكتبه، ومحاولة إهانته في مقابل الاعتناء بشنان الذي فُتحت أمامه أبواب الإذاعة، والتلفزيون، بغنائه النشاز. وحينما لاحقته رجاءات محبي فنه عاد عركي للغناء بذات الروح الوثابة ليشحذ همة جيلنا بأغاني الحياة الحرة، والتي كانت صرتها أغاني هاشم صديق: "أذن الآذان"، و"أمونة يا خرطوم" و"أضحكي". ولما مات مصطفى كان الحزن قد غطى على روح عركي الحنينة، وتوقف عن الغناء لفترة حزناً لفقد مصطفى. وكان في مقدمة مشيعي جثمان الفنان الراحل. إذ امتطى عربة الجثمان واقفاً أمام بوابة مطار الخرطوم، حاملاً لافتةً تُقرأ: "وضاع معاك زمن الوسامة"، وحزف عجز البيت، والذي يُقرأ: "واختفى الفرح العلامة". ولعله بحسه الشعري تجاوز إضافة عجز البيت، موقناً أن مصطفى الذي كان يغني في حفلات خُصصت لعلاجه لن يختفي الفرح به، ولن يندثر. وظل عركي في ذلك اليوم لا يلوي على شئ غير حمل تلك اللافتة من مطار الخرطوم حتى سريان موكب التشييع إلى معهد الموسيقى والمسرح، بينما كانت المفارقة الغريبة ظهور سبدرات في المولد الحزين ليتاجر بجثمان الراحل مصطفى. فتراه قد اعتلى مكاناً في بوكس التشييع، محتالاً برمزية مشاركته في المناسبة حتى يمثل وجوده اهتمام السلطة بالمبدعين. وحينما علا الهتاف ضد النظام أوقف الجثمان، ثم هبط من العربة بطريقة هيستيرية، ثم ذهب وراءه عدد من حراسه، ورهط من الأمنجية الذين كانوا قد اندسوا وسط الموكب ليتبصصوا، ومع ذلك لم يأبه المشيعيون لغضبه. ولم يكتف عركي، وزوجته الراحلة عفاف الصادق، بالسفر إلى مسقط رأس الراحل في ود سلفاب لإكمال مراسم التشييع، بل نظموا لنا قبل مرور عام على وفاة مصطفى اجتماعاً سرياً في منزلهم بالحتانة، وقد ضم أكثر من ثلاثين فرداً في منزلهم لرسم خطوط الاحتفاء بالذكرى الأولى لوفاته. وفي ذلك اليوم خرج الراحل محمد الحسن سالم حميد من اختفائه القسري ليشارك في الاجتماع الذي أداره عركي بمهارة. ولاحقاً، حينما تم الاتفاق على أن يكون الاحتفاء بالخرطوم، رفضت السلطات التصديق، ووافق معتمد الحصاحيصا، فانعقد الاحتفاء في يوم مشهود، وحاشد، قدمته عفاف الصادق، وغنى عركي ليلتها بحماس دافق.
-٣- ما من فنان دفع ثمنا باهظا نتيجة مواقفه السياسية ضد الاستبداد الإسلاموي مثل عركي. ورغم أن معظم - إن لم يكن كل - زملائه ما كانوا يتحرجون من الإطلال عبر البرامج الحوارية، وسهرات الإذاعة، والتلفزيون، إلا أنه اتخذ موقفا حادا تمثل في مقاطعة الأجهزة الرسمية، والمناسبات التي تستخدم فيها السلطة المغنين. وجاء رد الفعل بأن عاقبته السلطة بحرمان أغنياته الجديدة من البث عبر الإذاعة، والتلفزيون، برغم انتشارها الواسع على مستوى الاستماع عبر الكاسيت. وكل هذه المواقف الصلبة انعكست على معيشته حتى اضطرت زوجته الراحلة للهجرة إلى السعودية لمساعدة الأسرة، وهي أيضا قد وجدت المضايقة في عملها الإذاعي على الرغم من قدراتها الإذاعية الباهرة، وكونها أكاديمية في مجال علم الاجتماع، وخبيرة في مجال المسرح والدراما. لكل هذا الموقف المسؤول الذي سجله هذا الفنان الوطني المتفرد، ولدوره في إثراء الحركة الفنية، ينبغي أن يجد تكريما ضخما لائقا بدوره الفني، والوطني. بل الواجب هو أن نفكر جميعا في تأسيس مشروع فني يرتبط باسمه حتى يكون موازياً لدور أيقوناتنا الثقافية التي بذلت مجهودا عظيما لمقاومة الاستبداد. ونضال عركي النوعي خلال الثلاثين عاماً، وحرثه المثابر لمدي نصف قرن من التحديث الموسيقي المتفرد ينبغي أن يحرك جميع القطاعات التي شاركت في إسقاط النظام لتخليده بشكل مفارق، وذلك حتى تجد الأجيال القادمة في سيرته فيضا من سيرة إبداعية واجبة الاحتذاء. فالشعوب التي تحترم مبدعيها المميزين من أمثال عركي، وتعمل على الاحتفاء القومي بهم، هي التي تحافظ على استمرارية تجديد موروثها الثقافي الذي يوحد طاقات وحدتها. إذن فلتكن الدعوة لتكوين لجنة قومية برعاية وزارة الثقافة والإعلام، على ان تضم شخصيات ممثلة لمكونات المجتمع المدني المعنية، للتفكير حول كيفية تكريم هذا الإنسان الذي احترم الفن، وشخصه، وشعبه، حتى توج نفسه في قمة الفنانين ذوي العطاء الفني المميز للغاية، ومن أصحاب العرفان الذين سجلوا اسمهم بأحرف من نور في سجل المثقفين الملتزمين بالرسالة الوطنية.