حمدوك والأمم المتحدة .. لا نريد ان يغني الشعب السوداني: (رواية على طالت ولسه في اول فصولا)

 


 

 

 

في السابع والعشرين من فبراير ارسل رئيس الوزراء عبد الله حمدوك خطابا إلى الأمين العام للأمم للمتحدة يطلب فيه دعم المنظمة للسودان خلال الفترة الانتقالية وفقا للبند السادس.

الوضع الطبيعي لأي دولة في العالم هو الا تكون تحت أي فصل من الفصول، لا السابع ولا السادس ولا غيرهما، لذا فالطلب بالتحول من الفصل السابع للفصل للسادس يندرج في مفهوم ثقافتنا الشعبية ما نسميه (احمد وحاج احمد).
في الاساس الخروج يجب أن يكون من الفصل السابع، خروجا إلى غير رجعة، وألا يكون الأمر لعبة (حجلة) بالقفز من مربع لمربع يجاوره، والمطلب هو ان تغادر القوات الاممية والأفريقية المكان، خصوصا وأن تجربة هذه القوات غير مفيدة إطلاقا، بل كانت عاجزة حتى عن حماية نفسها، وأنها في احيان كثيرة كانت تحتاج لحماية القوات الحكومية. الحرب في دارفور اوشكت على طي صفحتها ومفاوضات السلام جارية، ونظام الحكم قد تغير، لكن هذه اليوناميد ستظل شوكة حوت، لأنها كانت ولا تزال مصدر رزق للمشاركين فيها من جنود وضباط وقادة من أمم مختلفة، ومصدر عمل لشركات امداد لوجيستي وغير ذلك من ضروب الزرق، وبالتالي يحرص المستفيدون منها على بقائها اطول فترة ممكنة.
طلب الحكومة السودانية كان واضحاً وهو ان يكون موضوع الدعم تحت الفصل السادس، غير أن خبراء المنظمة والقوى الدولية تجاهلوا لشيء في نفس يعقوب كلمة السادس وقرأوها السابع وبكل لغات المنظمة، مما أضطر وزارة الخارجية لإصدار بيان تطلب من هذه الأمم المتحدة أن تضع نظاراتها وتعيد القراءة مرة ثانية، فقد جاء في بيان وزارة الخارجية السودانية أن بعثة الأمم المتحدة يجب أن تُنشأ بشكل شفاف وتشاوري بما يضمن المِلكية الوطنية للبعثة وأن تكون وفقا لمقتضيات الفصل السادس من الميثاق. وأضطر مندوب السودان الدائم لدى الأمم المتحدة لتذكيرهم في الجلسة (على أن أي نقاش حول الفصل السابع، أو نشر عناصر أمنية أو عسكرية وفقا له، لن يكون مقبولا لدى الحكومة السودانية). ولكن ما فات على حكومة حمدوك أنه حتى ولو وضعت الأمم المتحدة كل نظاراتها وقرأت الكلمة مرات عديدة فالنتيجة ستكون واحدة.. كل الأعداد ستتحول على طريقة افلام الكارتون للعدد سبعة.
تقديم طلب كهذا من الحكومة السودانية لمجلس الأمن كان بمثابة هدية مجانية، فقد كانت القوى الدولية تحاول بشتى الطرق والوسائل وفي كل عام تمديد بعثة يوناميد في دارفور، ويحدث التمديد بعد نقاش وجدال، ولكنهم الآن ولحسن حظهم وجدوا أن هناك من يطلبها لا لدارفور فقط بل لتشمل السودان كله، فما اعظمها من هدية.
ربما كان الهدف السياسي البريء لحكومة حمدوك من هذا الطلب؛ هو وجود ضمانات دولية تحمي الفترة الانتقالية بصورة من الصور؛ وتساعد في عبور البلاد بشكل سلس من نفق المشاكل السياسية وتربصات القوى المضادة. لكن هذا التصور القائم على حسن الظن بالأمم المتحدة هو في حد ذاته (غشامة) وقلة خبرة سياسية، فالأمم المتحدة ليست منظمة خيرية انسانية تهدف لحفظ امن العالم وتحقيق رفاهيته ولا من اولياتها سعادة شعوب العالم الثالث وما إلى ذلك من جميل الألفاظ ومعسول الكلام، بل هي واجهة لعدة دول تحتكر صناعة القرار في العالم؛ وتعمل هذه الدول الكبرى على تحقيق مصالحها تحت مظلات براقة هي حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب، ومنع انتشار الأسلحة النووية، وغير ذلك من هذه اللافتات الخادعة، ولا يمكن لهذه المنظمة الخروج عن قواعد العاب هؤلاء الكبار وإلا صبوا على من يخرج جام غضبهم.
هذا الأمل في ان يساعد الوجود الدولي في السودان في عملية العبور بالفترة الانتقالية إلى بر الأمان؛ إنما هو أمل كاذب وسراب بقيعة لا ماء فيها، وخير مثال على فشل هذه الحلول المستوردة والمتمثلة في وجود قوات اجنبية لحماية التجربة الديمقراطية؛ هي التجربة العراقية والتجربة الأفغانية، فهذه القوات في تلك البلاد لا أرضاً قطعت ولا ظهراً ابقت، ثم انسحبت بعد دمار وخراب كثير اصاب الاقطار التي دخلوها، وقررت هذه الدول ان سلامة افراد قواتها اهم من سلامة حلفائها من مواطني تلك البلاد. وبعدها تركت هذه القوات قادة الأحزاب وكل الحالمين بالديمقراطية وجهاً لوجه مع خصومهم، وكان الخصوم في وضع انتصار والذين استعانوا بالقوات الدولية هم المهزومين. وفي مفاوضات الدوحة للسلام في افغانستان رفضت حركة طالبان مجرد الجلوس مع الحكومة الأفغانية المدعومة امريكياً ورأت أن جلوسها معهم على طاولة واحدة شرف لا يستحقونه.
وجود قوى متربصة بالثورة والحكومة الانتقالية في السودان أمر لا يختلف عليه اثنان، والسؤال هو: هل ستخشى هذه القوى المتربصة وجود قوات أممية في البلاد وتخاف منها؟
الإجابة كلا، بل سيكون وجود مثل هذه القوات مبررا لهذه القوى في الاستمرار في وقوفها في وجه الحكومة الانتقالية وستقوم هذه القوى بتجييش المشاعر الدينية والوطنية ضد الوجود الأجنبي، وستربح من هذا الوجود اضعافا مضاعفة. خصوصا وان الخبرات المتراكمة من مواقع الصراعات تفيد ان ازعاج مثل هذا النوع من القوات الدولية والحاق الخسائر به ليس أمراً صعباً، ويجيء ذلك في شكل عبوات ناسفة على جوانب الطرق، وصواريخ تطلق من بعد على قواعدها، واحيانا هجمات مباشرة مباغتة وانسحاب سريع. وقد تعرضت القوات الأمريكية وقوات حلف الناتو لكل هذا في افغانستان، وتعرضت له القوات الامريكية والبريطانية في العراق؛ مما اضطرها للانسحاب والاكتفاء بقواعد خارج المدن، وحتى هذه القواعد خارج المدن اصبحت مكشوفة وعديمة الجدوى في ظل تطور استخدام الصواريخ وزيادة فاعليتها ومداها، إنها حرب خاسرة لا محالة وانت تحارب عدوا لا تراه. مما يعني الانسحاب في نهاية المطاف طوعا أو كرهاً.
القوات الأممية القادمة ان نضجت هذه الفكرة ووضعت موضع التنفيذ؛ ستحتاج لقواعد تقيمها لتبقى فيها؛ واقامة هذه القواعد أمر مكلف، وعند المطالبة بخروج هذه القوات يوما ما؛ فالدول التي اقامت هذه القواعد ستطالب الدولة المستضيفة بالحساب، والحساب سيكون دقيقا يشمل كل طوبة وكل كيس اسمنت تم صرفه، وكل سقالة نصبت، ولكم في العراقيين اسوة؛ فقد طالبهم ترمب بما قيمته خمسة وثلاثين مليار دولار ثمناً للقواعد التي أنشأتها القوات الامريكية في العراق، وأعلن استعداده للانسحاب متى دفعوا له هذا المبلغ. وهذا يعيدنا لتكرار القول أن من يعتقد ان الأمم المتحدة منظمة خيرية عليه ان يعيد حساباته. بل هي أداة تستخدمها القوى الكبرى لتمرير اجندتها والخاسر فيها دائماً الضعيف.
هناك أمر لا يجب اغفاله؛ وهو موقف القوى السياسية السودانية من هذه القوات الدولية، فطبقاً لأدبيات الكثير من طوائف اليمين فالنظرة لهذه القوات ستكون أنها قوات غازية يجب مقاومتها، وكما اسلفنا لن تدخر هذه القوى جهدا في حشد المشاعر الدينية ضدها وإعادة انتاج جميع المصطلحات التي استخدمت في حروب الجنوب.
اما القوى اليسارية فستكون في مأزق، فمن ناحية هي الداعم الرئيسي لحكومة حمدوك، ومن ناحية أخرى فان ادبيات هذه القوى والمتمثلة في مكافحة الاستعمار ومقاومة القوى الإمبريالية ستكون في موضع اختبار، كيف سيفسر مثلاً البعثيون حربهم الشعواء ضد القوات الأمريكية والبريطانية ومن معها من قوات أمم أخرى في العراق وبين قبولهم بوجود قوات أممية في السودان؟ وقس على ذلك الشيوعيين والناصريين.
طلب الدعم تحت أي فصل يجب أن يلغى من أساسه، فمهما كانت المخاطر الداخلية التي تواجه التجربة الديمقراطية في السودان، إلا أنها تبقى اقل كلفة وأقل بكثير من التدخل الدولي، والله وحده يعلم ما حدوده وما مداه.
الغاء طلب الدعم يجنب البلاد منزلقات هي في غنى عنها، خصوصا أن النيات قد وضحت وان الأمور تجرى إلى تجاهل الطلب تحت البند السادس وتحويله للبند السابع، كما أن في إلغاء الطلب تفويت للفرصة وسحب البساط من تحت ارجل القوى المضادة التي سيسرها كثيراً وجود هذه القوات الأممية في متناول يدها.

nakhla@hotmail.com

 

آراء