لماذا لا تنشب حروب قبلية بين القبائل في شمال السودان؟

 


 

 

 

برز في الاسافير مؤخراً تساؤل كان محوره هو: لماذا لا تنشب حروب قبلية في الشمال مثلما هو حادث في غرب البلاد؟ والتساؤل في حد ذاته محمود إن كان الغرض منه الاستفادة من تجربة الشمال، إما إن كان الغرض منه هو تحميل شمال البلاد وزر ما يحدث من نزاعات عرقية كما أشارت لذلك اصابع البعض؛ فهذا اتهام لا أساس له من الصحة، إذ أن هذه النزاعات كانت تحدث منذ عهود سلطنتي الفونج والفور، واستمرت في الحدوث في فترات العهد التركي المصري، وكذا كان الحال في فترة المهدية، ولم يتغير شيء في زمن الحكم الاستعماري، وتواصلت في العهود الوطنية إلى تاريخ اليوم. 

خلافاً للرؤية التي تتبنى نظرية المؤامرة وتتهم جانب الشمال يرى هذا المقال أن المتهم الأول في هذه القضية هو النظام القبلي نفسه. ويرى أن وجود أنظمة قبلية متفاوتة التطور هو ما يفسر وجود نزاعات في بعض المناطق وانتفاء وجودها في مناطق أخرى. لكن نفي نظرية المؤامرة من جانب الشمال لا يعني عدم وجود مستفيدين من هذه النزاعات، فسلاطين الفونج وسلاطين دارفور كانوا يغضون الطرف عن هذه النزاعات متى ما كانت نتائجها في صالح احد حلفائهم، واحياناً كانوا يشعلون فتيلها، وانتهجت انظمة الحكم المتتالية التي حكمت السودان النهج نفسه مستفيدة من البيئة الصالحة لنشوبها والمتمثلة في النظام القبلي، والذي يجسد نفسه في خليط من الأعراق المتفاوتة في تحضرها، وفي وسائل كسب عيشها، وتختلف ايضاً في حجمها العددي ومساحة اراضيها، ومقدار ما تملكه من ثروة.
تشكل اللغة العربية لغة التخاطب بين الكثير من هذه القبائل مع احتفاظ العديد منها بلغاتها المحلية الخاصة، والقبيلة كنظام إنّما تنبني على وجود رابطة دم، أي جد واحد ينحدر من صلبه أفراد القبيلة، واراضٍ تتحرك فيها حسب الفصول هي ديار القبيلة وهي ملكية مشاعة، ووجود حيوان رئيس تعتمد عليه في معاشها.
اعطى القرآن الكريم اسبقية لمفهوم الشعب على مفهوم القبيلة كما في الآية:) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)، سورة الحجرات الآية 13، حيث أن مفهوم الشعب يمكن تفسيره بمفهوم (اللاقبيلة) وباللغة العصرية هو مفهوم الانتماء للدولة.
و يتطلب الارتقاء من مفهوم القبيلة إلى مفهوم الشعب اختراقاً للحلقة الدائرية التي لا تنتهي؛ والتي يعيد فيها النظام القبلي إنتاج نفسه، فما يحدث في هذه الحلقة هو أن بنية القبيلة عندما تتضخم في مرحلة ما تتعرض في مرحلة تالية للتفكك، ولا نتحدث هنا عن التفكك الذي تحدثه الهجرات القسرية بسبب الجدب أو الغزو، ولكن التفكك الطبيعي والذي تنقسم فيه القبيلة إلى بطون ضخمة تضم الكثير من الأفخاذ والعشائر، وفي طور آخر معاكس تعيد هذه البطون والأفخاذ والعشائر إنتاج النظام القبلي مرة أخرى، فتنمو العشيرة مرة أخرى وتتحول لفخذ؛ والفخذ يكبر ويصبح بطناً؛ ثم تنمو البطن وتصبح قبيلة مستقلة، وهكذا دواليك، والاختراق يمكن أن يحدث بنشر التعليم وزيادة الوعي، وإحراز قدر من التقدم الاقتصادي، والعدل الاجتماعي، وتوطين أهل البادية في قرى مستقرة، وكل ما يلغي مسوغات اللجوء إلى الكيان القبلي.
في مصر على سبيل المثال تلاشت القبيلة ولم يعد لها وجود إلا في تجمعات البدو في سيناء والصحراء الغربية، وما نجده حالياً في مصر الحضرية هو عائلات كبيرة وأسر ممتدة وأسر نووية، وفي الأردن يعيش المجتمع مرحلة وسطي بين مفهوم الشعب ومفهوم القبيلة هي مرحلة الطور العشائري وطور العائلات الكبيرة، أما في السودان فنجد تفاوتاً كبيراً بين الأنظمة القبلية في مسيرتها نحو الارتقاء لمفهوم الشعب، ويمكن أن نلحظ وجود أربعة أشكال تمثل هذا التفاوت:
1- نظام قبلي كامل يعتمد على الترحل:
توجد في السودان مجتمعات بدوية تقليدية تعتمد على الترحل في الشرق والغرب؛ تسود فيها هيمنة كاملة للقبيلة كنظام اجتماعي واقتصادي وثقافي وسياسي، فهي تقيم وتتنقل في منطقة جغرافية محددة أو ما يسمي بديار القبيلة، ولها حيوان رئيس قد يكون جملاً أو ثوراً تصحبه حيوانات صغيرة، و يوجد في هذه المجتمعات تجانس عرقي؛ إذ ينحدر الجميع من صلب جد واحد، وقد يكون هذا الجد حقيقياً وقد يكون (مفترضاً)، و (مفترضاً) هذه تشير لوجود جماعات أخرى ليست من نفس الجد قد تضاف للقبيلة في مراحل زمنية مختلفة بسبب المصاهرة، أو التحالف أو الجوار المسالم؛ وأحيانا بسبب الغزو وتصبح جزءًا منها؛ وتُلحق بجد القبيلة رغم انحدارها من سلالات مختلفة، والجد المفترض هو تصور مرن يُمكّن القبيلة من استيعاب دماء جديدة ويساعد في إضفاء نوع من التماسك بين بعض المجموعات التي تحتاج للتعاون فيما بينها أو ترغب في رؤية عنصر مُوحِد يجمع بينها.
في المجتمع القبلي كامل القبلية نجد أن سلطة شيخ القبيلة أو ناظرها أو ملكها أو سلطانها، حسب اللقب الذي تفضله كل قبيلة، واضحة للعيان ومن مهامه الاهتمام بحدود القبيلة، وتنظيم تحالفاتها وعلاقاتها مع القبائل الأخرى، وتنظيم العلاقة مع الدولة، ومن سلطته يستمد المساعدون والأمراء والعمد والشراتي وغير ذلك من تسميات صلاحياتهم، وهم المنوط بهم حفظ النظام وتنظيم العلاقات بين الأفراد وغير ذلك من مهام يوكلها لهم رأس الهرم القبلي.
وتتميز القبيلة بوجود نظام لقسيم للعمل بين الرجال والنساء حسب تراث كل قبيلة، كما يتميز النظام القبلي بوجود ملكية عامة للقبيلة في ديارها ومراعيها ومصادر مياهها، كما يوجد لكل قبيلة تراثها الشعبي من رقص وفنون ولها رموزها القبلية المميزة لها عن الآخرين من (شلوخ) على وجوه البشر ووسم على الحيوان.
ومن أهم ما يمتاز به النظام القبلي الكامل تفضيله اللجوء لمقتضيات أنظمته التقليدية سلماً أو حرباً بعيدا عن أنظمة الدولة، وعلى سبيل المثال فقد عد الباحث عبد الجبار آدم عبد الكريم اثنين وثلاثين مؤتمراً للصلح القبلي في إقليم دارفور جمعت بين حوالي ستة وعشرين قبيلة في الفترة من عام 1932 إلى 1997"( )، وهذا يشير بوضوح إلى هيمنة كاملة للنظام القبلي بكافة مقوماته وأن الدولة في عهودها المختلفة ومنذ عهد الاستعمار وحتى عهود الحكومات الوطنية كانت تتدخل غالباً كوسيط صلح.
2- نظام قبلي غير كامل فيه ترحل جزئي وفيه استقرار جزئي.
خير مثال لهذا النوع هو قبائل سهل البطانة وقبائل شرق السودان، فقد كانت هذه القبائل كاملة البداوة فيما مضى لكن وبصفة عامة وفي القرن الماضي ظهرت في الأفق بوادر توجه نحو الاستقرار، ربما كان هذا التوجه بطيء الإيقاع؛ لكن ما نتج عنه هو أنّ ملكية القبيلة للأرض لم تعد مقدسة، ومثال ذلك أن قانون مزارعي دلتا القاش لعام 1928م نص على تخصيص 70% من مساحة دلتا القاش لقبائل الهدندوة و30 % للقبائل الأخرى، والهدندوة هم تاريخياً أصحاب الأرض؛ لكن القبائل الأخرى اكتسبت حق الملكية لأنها هي التي ساهمت في شق الترع والقنوات والإعمال الأخرى في هذه الدلتا الخصبة؛ وهي قبائل من الشمال كالدناقلة والشايقية والجعليين؛ ومعهم قبائل من الغرب كالهوسا والبرقو والبرنو، ويذكر لايف مانجر في كتابه اسلوب حياة الهدندوة والذي ترجمه مجدي النعيم، "وبدأ الناس المنتمين الى مختلف المجموعات الاثنية الاستقرار فيها وهاجرت القبائل من جبال البحر الأحمر الى القاش لتنضم الى هذه القرى وأصبحوا جزارين ومزارعين وخفراء ورجال شرطة وطباخين. وقد أثر هذا التاريخ على مختلف القبائل بمختلف السبل"( ).
في عام 1964 جاء مشروع آخر هو مشروع خشم القربة والذي غير مفاهيم حياة البادية لدى قبائل سهل البطانة خصوصاً الشكرية؛ وحول بعضهم من رعاة إلى مزارعين، ومن هذين المثالين يمكن تبين ملامح هذا الشكل القبلي الذي يجمع بين الترحل والاستقرار، فقد أحتفظ الشكل الجديد ببعض سمات النظام القبلي القديم، كما أخذ في نفس الوقت ببعض سمات المجموعات المستقرة، فقد أخذ من سمات النظام القبلي الكامل القبلية؛ ظاهرة وجود تقسيم للعمل بين النساء والرجال، وأنه يمكن تتبع أفخاذ القبيلة وبطونها ومنطقة كل بطن وشيخها. وأن توفير حماية القبيلة للأفراد موجود وإن كان في حالات معينة وليس على إطلاقها، وأن هناك وجود لبعض السلطة لناظر القبيلة؛ مع أن أفراد القبيلة ليسوا بحاجة لنظارهم أو شيوخهم لتنظيم حياتهم أو علاقاتهم مع الدولة؛ عدا بعض الحالات مثل التعريف بالشخصية أو طلب المثول أمام محكمة وما شابه ذلك. وأخذ هذا الشكل من سمات الاستقرار انتفاء حاجة أفراد هذه القبائل ممن استقروا لحيوان رئيس، ومن ثمّ انتفت حاجتهم للترحل، وتحولوا من رعاة لمزارعين، وتغيرت نظرة هؤلاء المزارعين الجدد لملكية الأرض من الملكية العامة والمتمثلة في أراض شاسعة لكافة افراد القبيلة وتحولت إلى الاهتمام بالملكية الخاصة، وقد حًصرت هذه الملكية للأفراد في (حواشة).
3- نظام قبلي باهت الملامح القبلية يعتمد على الاستقرار.
نجد هذا الشكل في المجتمعات الزراعية المستقرة في الوسط والشمال؛ وفيه أصبح مفهوم القبيلة باهتاً وتلاشت لدى هذه المجتمعات كل مقومات القبيلة التي ذكرناها، وتحولت القبيلة بعد أن كانت جسماً حياً فاعلاً إلى مجرد منظومة اجتماعية وثقافية؛ تحدد صلات القرابة وتقوم بإثبات الجذور؛ وتحافظ على ما تبقى من تراث القبيلة وفنونها الشعبية، فلا وجود فعلي في هذا الشكل المستقر لمسمى (ديار القبيلة ) ولا وجود لحيوان رئيس تدور حوله حياة الناس ومعاشهم، ولا وجود فعلي ملموس لشيخ أو ناظر القبيلة، وأصبح المنصب شرفياً. ولم يعد للأعراف القبلية أي دور مؤثر في تنظيم علاقات الناس داخل القبيلة بعضهم ببعض.
ويمكن القول أنه ومنذ العهد التركي المصري وبروز حكومة مركزية في السودان بدأ التلاشي الحقيقي لمفهوم القبيلة في مناطق الشمال والوسط، وكانت إرهاصات ذلك قد بدأت مع ظهور الضعف في مملكة سنار، ثم اكتمل ذلك في العهد التركي المصري؛ حيث طغت سلطة الدولة المركزية على سلطان القبيلة ولم يعد للقبيلة وجود ملموس كنظام اجتماعي وسياسي وثقافي، فلا وجود لنظار بارزين لهم سلطة الحل والعقد يفاوضون الدولة ويعلنون الحرب أو السلم؛ إذ تقلصت كثيراً سلطاتهم السابقة، وإن وجدوا فوجودهم أمر شرفي كما سبق ذكره، وفقدت هذه القبائل حدودها التقليدية وتحولت إلى حدود على الورق، بل أصبح بإمكان الأفراد من قبائل مختلفة وبقوة الدولة وقوانينها تملك الأرض في مناطق خارج مناطق قبائلهم، وغالبا ما يتلو ذلك قيام علاقات عمل ومصاهرات وعلاقات اجتماعية أخرى بين هؤلاء الأفراد والقبيلة المستضيفة، ويؤدي هذا في الأغلب إلى تذويب الفوارق في العادات والتقاليد بين أصحاب الأرض والقادمين الجدد، وقد أدى هذا التداخل إلى تحويل العداء التقليدي السابق بين تلك القبائل إلى نوع من التمازج والتعاون، ومن أمثلة ذلك استقرار جماعات من قبيلة الشايقية في مناطق الجعليين بعد الغزو التركي المصري، وهو سلوك يخالف سلوك القبائل المترحلة التي فرضت عليها الجغرافيا بمناخها وتضاريسها أن تجد نفسها مضطرة دائما للدفاع عن حدودها التقليدية ومراعيها وطرد الغرباء منها خصوصا في أوقات الجدب، مما يثير الكثير من النزاعات القبلية.
ويبدو أن إرهاصات تفكك النظام القبلي في المناطق النيلية قد برزت مع التحول في النظرة إلى ملكية الأرض أثناء فترة ضعف مملكة سنار، وسقوط مبدأ أن كل الأراضي هي ملك للسلطان، فقد خرج الكثير من قبائل الشمال عن سيطرة الدولة، وحسب قول حافظ عبد الله: "أصبح من الممكن التصرف في تلك الأراضي بالبيع والشراء وغيره، وفي بعض المناطق النيلية قام الأثرياء وأصحاب النفوذ الاجتماعي بالاستحواذ على مساحات واسعة من الأرضي وزراعتها"( ).
أدى انهيار واحد من أهم أعمدة النظام القبلي وهو حرمة (ديار القبيلة) في المناطق النيلية؛ أدى بالتالي وضمن عوامل أخرى إلى تدهور مفهوم القبيلة في نفوس الأفراد. ومما ساعد الأفراد على استحواذهم الأرض بصورة فردية هو غياب حيوان رئيس لدى تلك القبائل يحتاج لمساحات واسعة للتحرك؛ ويستدعى وجوده نوعاً من الملكية المشاعة للأرض. ولعل أبلغ دليل يوضح استمرار التلاشي لسطوة القبيلة في مناطق الشمال والوسط؛ والذي بدأ كما أسلفنا في فترة ضعف مملكة سنار؛ أنّ تاجراً كالزبير باشا رحمة في عهد الحكم التركي المصري؛ كان يُكوّن الجيوش ويقود الحملات ويتصل بالحكام دون أن يكون لناظر قبيلته أي دور في ذلك، مع أن الزبير وحسب المفهوم النظري القبيلة هو فرد من قبيلة الجعليين وعلاقاته مع الغير بمن فيهم الدولة يجب أن تدار عن طريق ناظر قبيلته أو شيخها.
4- اختفاء كامل للقبيلة.
هذا الشكل تمثله المجموعات المهاجرة التي وفدت في عهد الحكم التركي المصري أو عهد الاستعمار الإنجليزي، وهجرتها كانت أما بسبب العمل في السلك العسكري، أو التجارة، أو نشر العلوم الدينية، أو فراراً من الاضطهاد الديني كهجرة الأقباط مثلاً، ونجد هذه المجموعات في المدن الكبرى وهي لا تنتمي إلى قبيلة بعينها بل أنها تمثل رأس الرمح في الارتقاء من المفهوم القبلي نحو مفهوم الشعب، وعلى الرغم من عدم وجود علاقات قبلية سابقة لهؤلاء المهاجرين تسهل تغلغلهم في بنية النسيج الاجتماعي؛ إلا أنهم لم يصادفوا صعوبات تذكر تمنع اندماجهم في المجتمع، خصوصاً المسلمين منهم، وقد تلاقت مصالح هؤلاء المهاجرين مع مصالح اقرب شكل قبلي مماثل لهم وهو الشكل الثالث، اي النظام قبلي باهت الملامح والمعتمد على الاستقرار، ونتج عن هذا التلاقي تطور التجارة لدى القبائل الشمالية واستفادتها من الخبرات التجارية لهذه المجموعة الوافدة، وحسبما ما أوردته د. فاطمة بابكر: "حدث استيعاب للمهاجرين المسلمين ضمن الطبقة الرأسمالية السودانية وذلك عن طريق علاقات الزواج المتبادل وعلاقات العمل التجاري خصوصا بعد الاستقلال، وقد ساهمت سياسات العهد التركي المصري والاستعمار البريطاني في استمرار بقاء المجموعات المهاجرة ونجاحها وانعكس ذلك في تشكيلهم لنحو 24% من الحالات التي جرت دراستها في عام 1976"( ).
ومنذ الغزو التركي المصري عام 1821 فان عهد النزاعات بين القبائل النيلية قد اصبح تقريباً في طي النسيان، وتوقفت كلية المعارك التي كانت تنشب بين الشايقية والدناقلة، والشايقية والجعليين، والشايقية والمحس، وكان الشايقية هم العنصر المشاغب حسب روايات المؤرخين، ويورد بروكهادت : (( قبل أنّ يصل المماليك إلى دنقلة (سنة 1811م) ، كان المك نمر (ملك شندي) في حروب متواصلة مع عرب الشايقية الذين كانوا قد قتلوا كثيراً من أقربائه في المعارك، كما أنهم أغاروا على بلاده عدة مرات، في جموع كبيرة من الفرسان، وتركوا كعادتهم كل الضفة الغربية للنهر خراباً بلقعاً((.
ويقول كايو : (بعد زوال مملكة سنار ، أصبح الشايقية جبابرة في نظر جيرانهم ، وقد عانى أهالي دنقلة وبربر والحلفاية ما عانوه على أيدي هؤلاء القوم الجسورين - قوم نشأوا محاربين نساءً ورجالاً) .
بعد مرور قرنين من الزمن منذ العهد التركي المصري أدى الوصول لطور النظام القبلي الباهت في الشمال لتغلغل ثقافة القبول بالآخر، وتعودت هذه القبائل ان يتعايش افرادها بسلام، واصبحت التنشئة الاجتماعية تقوم على فكرة ان وجود افراد من قبيلة اخرى ضمن ديار القبيلة الثانية لا يشكل هاجساً أو سببا لقيام حرب، أو ظهور روح عدوانية، بل مدعاة لمزيد من الانصهار والتجانس، واستمرت هذه الروح في النمو، وأخر مظاهرها في وقتنا الحالي هو ترحيل بعض افراد قبيلة المناصير عند قيام سد مروي لمناطق تابعة تاريخياً للجعليين، وتم الأمر بسلام دون أي حساسية قبلية من جانب الجعليين، وقبل ذلك تم ترحيل أهالي حلفا لمناطق هي تاريخياً تابعة للشكرية ومعهم بعض اللحويين وبسلام أيضاُ. ومما ساعد على تقبل الشكرية لوجود هؤلاء الوافدين إن القبيلة وحسب التصنيف الذي ذكرناه تقع ضمن النظام القبلي غير الكامل والذي فيه ترحل جزئي وفيه استقرار جزئي. ولو كانت تقع ضمن التصنيف الأول وهو سيطرة النظام القبلي الكامل فربما نشبت حرب ضروس بينهم وبين القادمين الجدد، أو ربما كان سيتم تهجير أهالي حلفا لمنطقة أخرى. علماً بان قبيلة الشكرية كانت من القبائل ذات القوة الضاربة في عهد الفونج وقامت بتهجير قسري للكثير من القبائل من منطقة البطانة، وقد حدث هذا كان عندما كانت القبيلة تقع ضمان نطاق الشكل الاول وهو النظام القبلي الكامل، ولكن عندما انتقلت للشكل الثاني الموزع بين البداوة والاستقرار؛ اصبحت أكثر تصالحاً واقل حساسية لوجود الغرباء في ديارها. وتغلبت نظرة المنافع الاقتصادية التي يجنيها بعض افرادها من حياة الاستقرار على نظرة البداوة وتبرمها من وجود غرباء.
نخلص من خلال هذا التحليل إلى أن المتهم الرئيس في النزاعات القبلية هو الشكل الأول للنظام القبلي، أي النظام القبلي الكامل الذي يعتمد على الترحل، إذا ما قورن بالنظام القبلي ذو الملامح القبلية الباهتة والذي يعتمد على الاستقرار. فتحركات القبائل المترحلة ودخولها في حِمى قبائل أخرى يشعل حُمى التنافس على الموارد، فإذا وضعنا في الحسبان كثرة اعداد هذه القبائل واختلاف مرجعياتها الثقافية، فهذا يؤدي لانتعاش البيئة الحاضنة لتفريخ النزاعات، ففي دارفور على سبيل المثال لا الحصر توجد قبائل كثيرة (بعضها عديد البطون والأفخاذ) نذكر منها:
الفور، الرزيقات، الزغاوه، الحمر، بني هلبه، التتجر، البديرية، الداجو، الفلاته السلامات، الجوامعه، التاما، الهبانية، التعايشه، المساليت، الهوسا، المعاليا، البرقد، الجموعية، الميما، القرعان، الشنابله، المسيريه، البرتي، الترجم المراريت، الغديات، الميدوب، كما يوجد الجلابة وهم أيضا ينتمون لقبائل شمالية مختلفة.
وتساهم القبائل كثيرة البطون والافخاذ وبسبب زيادة عدد أفرادها باضطراد؛ في قيام النظام القبلي بإنتاج نفسه، فتصبح البطون قبائل منفصلة تطالب بحصتها من الأرض ومن الموارد وتدخل في صراع مع بني عمومتها.
الحل المقترح لتقليل حدة النزاعات وعددها هو الانتقال للشكل الثاني؛ أي إلى النظام قبلي غير الكامل والذي فيه ترحل جزئي وفيه استقرار جزئي، لأنه من غير الممكن وفي ظل الأوضاع الحالية جعل هذه القبائل مستقرة بالكامل، مع ما يقتضيه ذلك من تغيير في نمط حياتها وثقافاتها، لكن يمكن المبادرة بإقامة مشاريع اقتصادية تتيح الاستقرار لمن يرغب من أفراد هذه القبائل، مما يساهم في تقليل حركة تنقلات البشر والحيوان وبالتالي تقليل الاحتكاكات القبلية.
وفي جانب التعليم يجب منح مناطق النزاعات هذه فرص أكبر في التعليم بفتح المزيد من المدارس فيها، وفي الجانب الإداري لا مفر من العودة للإدارة الأهلية ولكن (بتحديث) شيوخ القبائل والنظار والعمد، أي أن يكون ناظر القبيلة أو شيخها من ابناء القبيلة ولكن من الذين نالوا حظاً من التعليم.

nakhla@hotmail.com

 

آراء