من الكتب التي حرصت على حملها معي في متاعي منذ مغادرتي السودان قبل نحو أربعة أعوام ، لقضاء مهمة عملي الخارجية الحالية ، وانتهزتُ فترة الإغلاق والحجر الصحي التي فرضتها ظروف انتشار جائحة كورونا الماثلة حتى الآن ، للرجوع إليها مرة أخرى ، بغرض العكوف مُجدَّداً على مطالعة ما فيها ، كتاب: " جزيرة صاي .. قصة الحضارة: قضايا التنمية والتهميش في بلاد النوبة " ، من تأليف الدكتور محمد جلال أحمد هاشم. إنه كتابٌ ضخم ، يقع في 657 صفحة من القطع المتوسط ، وقد صدرت طبعته الأولى في عام 2014م ، عن مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي بأم درمان. هو كتابٌ كما وصفه ناشره مُحقَّاً ، " جِماعٌ لعلوم شتى استند عليها وتعرض لها المؤلف ، فألَّف بينها بمنهج صارم وبأسلوب شيق ولغة رصينة ، جيدة التحرير والتقديم ... ففيه مثلاً من التاريخ بقدر ما فيه من السيرة الاجتماعية .. على هذا فهو إلى التاريخ الاجتماعي أقرب.... كما في هذا الكتاب من النقد الكثير من حيث مراجعة المُسلَّمات ، وتحرير علوم التاريخ والاجتماع والفولكلور مما التبس بها من آراء وأحكام غير نقدية ، صدع بها محدثون ، إلا أنها لا تصمد عند المَحَكّ. بجانب كل هذا ، يشتمل الكتاب على نظريات جديدة في مجالات التاريخ واللسانيات والاجتماع ، إذ يتطرق إلى فترات تاريخية لم يرد عنها في كتب التاريخ عن السودان غير فقرات عابرة ، ويأتي بنظريات جديدة في مجال اللسانيات والأثنوغرافيا والتاريخ ، تطويراً منه لنظريات راسخة .. الخ " أ. هـ. وتكمن أهمية هذا الكتاب: " جزيرة صاي " للدكتور محمد جلال هاشم في تقديرنا الخاص ، في كون أنه غير مسبوق في بابه ، ولم يُتح لنا مثله في حدود ما نعلم. وذلك ببساطة لأن المنطقة التي يتناولها ، ألا وهي قلب بلاد المحس والسكوت ، التي كانت تمثل جزءاً مما كانت تُعرف ببلاد النوبة العثمانية خلال بضعة القرون التي سبقت غزو إسماعيل باشا لأرض سودان وادي النيل جميعها ، وضمها لأمبراطورية والده محمد علي باشا في عام 1820م ، إذ أنَّ السلطان سليم العثماني كان قد بسط سيطرته عليها عبر مماليكه وتركمانه وكُشَّافه فور استيلائه على مصر نفسها في عام 1517م ، قد ظلت تتطور تطوراً حضارياً وثقافياً واجتماعياً يختلف عن سائر أجزاء السودان الأخرى ، التي جعلت تزدهر فيها منذ قبيل ذلك التاريخ نفسه فصاعداً ، ممالكه وسلطناته ومشيخاته الإسلامية المعروفة ، مثل: سلطنة الفونج ، ومشيخة العبدلاّب ، وسلطنة تقلي ، وسلطنة دارفور وغيرها ، والتي رغم استقلالها استقلالاً تاماً بعضها عن بعض ، والتباعد الجغرافي البين فيما بينها ، إلا أن مظاهر التماثل والتداخل والتبادل التجاري والثقافي والاجتماعي والسكاني فيما بينها ، تبدو واضحة إلى حد كبير ، وقد أمكن الوقوف على كثير منها بالفعل ،من خلال الكم الهائل من المصنفات التي تناولت تواريخ تلك الكيانات ، سواء بواسطة الباحثين والمؤرخين الوطنيين أو الأجانب على حد سواء. أما المنطقة التي يتناولها هذا السفر ، فما تزال المعلومات عنها شحيحة جداً لجهة معرفة تفاصيل أكثر عن تركيبتها الاجتماعية والقبلية والعشائرية ، والصلات – إن وجدت – بينها وبين الكيانات الأخرى داخل بقية السودان وخارجه ، ومؤسساتها التعليمية والدينية ، ونوعية المذهب أو المذاهب الفقهية ، والرواية أو الروايات القرآنية التي كانت منتشرة فيها ، وعما إذا كانت هنالك أية مظاهر أو شواهد للتواصل العلمي أو الفقهي أو الصوفي مع مصر مثلاً ، أو غيرها من بلدان العالم الإسلامي ، وخصوصاً مع بقية أجزاء السودان الأخرى في هذه النواحي ، وهلمَّ جرَّا. لقد أشار المؤلف بالفعل إلى أطروحة سيد محمد عبد الله مُسُل بعنوان: " من حياة وتراث النوبة بمنطقة السكوت " ، التي قدمها إلى معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم في عام 1974م ، وهو مصنف لم نقف عليه مع الأسف ، ولا ندري إن كان قد طُبع وصدر في شكل كتاب منشور ، رغم اهميته في هذا الباب ، أم لا. هذا ، ومن المفارقات العجيبة ، أن تلك المنطقة بالذات ، قد أنجبت نفراً من العلماء المؤرخين الأفذاذ الذين كان بمقدورهم علماً وتأهيلاً ، وعدة وعتادا معرفياً ومنهجياً ، وبكل سهولة ويسر ، أن يعمدوا إلى البحث في تاريخ منطقتهم على نحو مثمر ومفيد ، خصوصاً من ذلك المنظور الذي أشرنا إليه آنفا. أعني – على سبيل المثال – عالمين جليلين مثل: البروفيسور محمد إبراهيم أبو سليم ، والدكتور يحي محمد إبراهيم رحمهما الله تعالى. والبركة – كما يُقال – في أستاذنا بروفيسور علي عثمان محمد صالح ، وصديقنا الدكتور محمد جلال هاشم الذين نتطلع إليهما بشدة ، لكي يستدركا مواضع النقص والتقصير في هذا المجال ، إغناءً للبحث التاريخي والثقافي والاجتماعي ، وتعميماً للفائدة. من أكثر المواضع التي شدت انتباهي في كتاب الدكتور هاشم ، ما جاء فيه عن الملكة المصرية " تِيّي " Tiye 1398 – 1338 ق.م ، تحت العنوان الجانبي: " صاي في العصر الفرعوني " ، المندرج بدوره تحت الفصل الثالث من الكتاب بعنوان: " صاي عبر التاريخ: من العصر الحجري حتى العهد المسيحي " ، الذي يقع في الصفحات من 89 إلى 139. وتيي هذه هي زوجة الفرعون المصري امنحتب الثالث ، ووالدة ابنه امنحتب الرابع الذي غير اسمه لاحقاً إلى " إخناتون " ، وجَدّة الفتى الذهبي الفرعون الشاب " توت عنخ آمون ". كتب المؤلف تحت ذلك العنوان الجانبي ما يلي: " بالإضافة إلى معبده بصُلِب ، بنى تحتمس الثالث ( هكذا في الأصل وهو خطأ غير مقصود بالطبع ، وإنما المعني هو أمنحتُب الثالث ، والتصويب من كاتب هذه السطور ) .. في صادنقا ( بين قبة سليم ونُلْوا ) معبداً لزوجته النوبية " تِيِّي " ( قارن ذلك مع " التاي " و " التايا " و " تِيَّا " و " تويا " وجميعها أسماء نوبية لا زالت تُستخدم ). وقد أطلق على المعبد اسم " حوت تيي " بمعنى " دار تيي " .. واشتهرت الملكة النوبية " تايا " أو " تويا " ، بأنها أول ملكة فرعونية يُنحت لها تمثال بحجم الإنسان ، متساوية بذلك مع الملك الفرعون. فقبل ذلك كانت الملكات يُنحتن داخل أقدام الملوك. وهذا يشير إلى مكانة الصدارة التي ظلت المرأة النوبية تحتلها قديماً وحديثا.. " أ.هـ ثم يمضي المؤلف في ذات السياق فيقول: " عُرفت الأسرة الثامنة عشر في التاريخ بأخطر حدث مرَّ على البشرية ، وذي ارتباط ببلاد النوبة ، ألا وهو ديانة التوحيد. فقد ألغى امنحتب الرابع ( ابن تييّ أو " تايا " النوبية تعدد الآلهة من آمون وخلافه ، ودعا إلى عبادة آتون الإله الواحد الأحد. ومن ثم غير اسمه من أمنحتب إلى أخناتون..... هنالك بعض الروايات التاريخية التي تذهب إلى أن اخناتون ، قبيل تسلمه العرش ، قضى سني شبابه ببلاد النوبة ( بين أهل أمه ) لاعتدال المناخ بها نسبية لاعتلال صحته ، فهل يمكن أن يكون أن الله قد ألهمه التوحيد عندما كان في بلاد النوبة قبل أن يصبح ملكاً ؟ " أ.هـ . لقد نسب المؤلف الاستنتاج الآنف ذكره إلى عالم الآثار الألماني كارل هاينز بريزه 1935 – 2017م ، مشيراً إلى أن بريزه سبق له أن قال بهذا الرأي في عام 1976م ، بيد أنه عاد وتخلى عن هذا الرأي فيما بعد ، على حد قول المؤلف. ومن المحتمل بل الراجح ، أن يكون الفرعون امنحتب الثالث قد شيّد لزوجته الملكة " تيي " معبداً بصدنقا بأرض المحس ، ومعبداً آخر ب " الكوَّة " بالقرب من دنقلا ، لأنها أساساً من تلك الديار بالتحديد ، ولكي يعزّها ويمجدها بين آلها وذويها ، كما تقضي بذلك الثقافة السودانية العتيدة بصفة خاصة. مهما يكن من أمر ، فإن معظم آراء علماء الآثار والمؤرخين ، تتظاهر على ترجيح الأصل النوبي للملكة تيي Tiye زوجة الفرعون امنحتب الثالث ، ووالدة الفرعون والمتنبئ الشهير امنحتب الرابع ، الذي غير اسمه إلى اختاتون ، وشن ثورة دينية وسياسية عارمة ، حاول من خلالها تغيير عقيدة المصريين المتوارثة منذ قديم الزمان في الالهة المتعددة ، وتبنى عبادة إله واحد هو " آتون " الذي رمز إليه بقرص الشمس. وُلدت الملكة تيي لأبوين تقول بعض المصادر مثل موسوعة ويكبيديا الالكترونية أنهما من بلدة " اخميم " بالنوبة المصرية ، وأن والدها كان يسمى " يويا " Yuya وأنه كان يعمل كاهناً وسائساً للخيول الملكية ، وان أمها كانت تسمى " جُويو " Tjuyu وكانت هي الأخرى تعمل كاهنة ومنشدة ترانيم للإلهين آمون ومين. كان تاريخ ميلاد الملكة تيي في عام 1398 ق.م ، وتوفيت في حوالي عام 1338 ق.م كما يقدر العلماء ، وقد حكمت مع زوجها الملك امنحتب الثالث ، وقاسمته السلطة والعرش سواء بسواء. وقد استدلوا على ذلك من حقيقة أن تمثالها وهي جالسة إلى جوار زوجها امنحتب الثالث ، والموجودين إلى الآن بالمتحف المصري بالقاهرة ، يظهر مساوياً في الحجم لتمثال الملك الفرعون نفسه ، وهو ما لا نظير له في مخلفات فن النحت المصري القديم. وقد فسَّر نفر من العلماء ذلك بوصفه يمثل انعكاساً للثقافة والتقاليد الكوشية التي كانت تصدر عنها الملكة تيي وتربت عليها ، والتي ظلت تتيح الفرصة للنساء لتولي الملك والسلطة المطلقة سواء بسواء مع الرجال منذ قديم الزمان ، وظل مستمراً إلى عهد كنداكات مملكة مروي ، وربما بعد ذلك. وإلى ذلك ، استمرت الملكة تيي تتمتع بمكانتها ووظيفتها كملكة كاملة الصلاحية ، بعد وفاة زوجها ، وفي ظل حكم ابنها امنحتب الرابع " اخناتون " ، بدليل أنها كانت تحرر المراسلات وتتلقى المراسلات بتلك الصفة كما يذكر المؤرخون. وقد أعلنت الملكة تيي دعمها لحركة ابنها " الإصلاحية " تلك فيما يبدو ، وواصلت دعمها له حتى توفيت في عهد حكمه بمدينة " تل العمارنة " التي اتخذها اخناتون عاصمة للدولة بدلاً عن " طيبة " التي كانت مركز نفوذ كهنة آمون ، الذين يبدو أنهم قد ضايقوه بكثرة تدخلاتهم في شؤون الحكم. والغريب أن سيرة الملكة " تيي " بموسوعة ويكبيديا المبذولة على الشبكة العنكبوتية ، على الرغم من نصها على ترجيح الأصل الأجنبي للملكة " تيي " ووالديها " يويا " و " جويو " ، إلا أن من الملاحظ أنها لم تذكر ذلك الأصل الأجنبي لتلك الأسرة صراحةً على الإطلاق. ولكن مصادر أخرى كثيرة تؤكد بالفعل ، الأصل الكوشي أو النوبي لهذه الأسرة ، فضلاً عن أن السحنة والملامح الفيزيقية للملكة تيي ، كما تظهر من خلال صور تماثيلها المنشورة بموسوعة ويكبيديا نفسها ، تُظهرها على أنها سمراء اللون بصورة واضحة جدا. وكان الدكتور زاهي حواس المدير العام السابق لهيئة الآثار المصرية ، قد توصل في عام 2010م ، عن طريق تقنية فحص الحمض النووي ، إلى التعرف والتأكد من هوية مومياء الملكة " تيي " ، لكي تنقل بعد ذلك معززة مكرمة إلى مكانها اللائق بها في المتحف المصري بالقاهرة. ولعل بوسعنا أن نغامر في الختام بتخمين أن يكون اخناتون قد ورث روح العناد ، واستقلال الشخصية ، والتحدي و " ركوب الراس " من أخواله السودانيين بصورة واضحة. فكأن لسان حاله وهو يخاطب كهنة آمون عندما ضاق بهم ذرعا يقول – بالطبع إلى جانب عدد آخر من البواعث الذاتية والموضوعية الأكثر إلحاحاً وجدية: " أقول ليكم حاجة .. مش آمون بتاعكم ده ؟ .. أنا ذاتي خليت عبادته .. يلا حريقة فيكم وفيه !! " .. والله أعلم.