يُقصد من مصطلح الاقتصاد السياسي عموماً ، أنه المعرفة المتعلقة بمجمل الظواهر ذات الصلة بالنشاط الاقتصادي في المجتمع عبر أطواره وتحولاته المختلفة ، شاملة إنتاج السلع والخدمات ، وطرائق تملكها وإدارتها وتوزيعها ، وخصوصاً من زاوية علاقتها بالخصائص المميزة للمجتمع المعني اجتماعياً وثقافياً ، والتوجه العام للدولة سياسياً وإدارياً وتنظيميا. ولما كان مصطلحا " الدولة " و " المجتمع " كمصطلحين مفتاحيين ومتلازمين معاً في هذا السياق ، قد ظلا يشكلان حضوراً شبه حتمي في سائر التعريفات التي تمت صياغتها لشرح مفهوم " الاقتصاد السياسي " هذا بصفة عامة ، فقد أوشك هذا المصطلح ، خصوصاً من وجهة النظر المعرفية والإيديولوجية أيضاً ، أن يكون لزيم أدبيات الاقتصاد الماركسي والاشتراكي تحديداً ، دون الاقتصاد الرأسمالي. أما حصة الفطور ، فهي تلك الفسحة الزمنية التي تمنح للتلاميذ في المدارس ، والعمال في الورش والمصانع ، والجنود في الثكنات لكي يتناولوا خلالها وجبة الإفطار التي تُعرف في العامية السودانية بالفَطُور بفتح الفاء ، وهي كلمة عربية فصيحة أيضا ، ومعناها في الأساس الطعام الذي يقدم في تلك الوجبة ، فساغ استخدامه من قبيل المجاز للطعام وللوجبة نفسها معا. قال الشيخ عبد الرحيم البرعي الكردفاني: هوّن لعشاي بل غداي وفطوري من التقوى كسوتي وعطوري رسول الله .. كنزي ونُوري .. لقد كان الناس في حواضر السودان وقراه الكبيرة حتى أواخر الثمانينيات من القرن الماضي ، يتناولون إفطارهم بين الساعة التاسعة والحادية عشرة صباحاً على أبعد تقدير ، لمن تأخر فطوره لسبب أو لآخر ، ولا يتجاوزون ذلك إلا نادرا. والغالب على موعد وجبة الفطور أنها تكون عند تمام الساعة العاشرة صباحا. وما أزال أذكر بهذه المناسبة ، صوت الصافرة المميزة الذي كان يشق عنان السماء منطلقاً من رئاسة هيئة النقل النهري بالخرطوم بحري ( أم انها كانت تنبعث من النقل الميكانيكي ؟ ! ) ، مؤذنة بموعد الفطور ، فيسمعها سائر الموظفين والعمال الذين يعملون بمختلف المصالح الحكومية ، وغيرهم من أرباب المهن و الأعمال العامة والخاصة ، خصوصاً تلك المطلة على شواطئ النيل بالمدن الثلاث. وربما كانت حصة الفطور بالنسبة للمدارس الإبتدائية والمتوسطة في حوالي الساعة التاسعة والنصف صباحاً ، ذلك بأن جرسها يُقرع عادة عقب انتهاء الحصة الدراسية الثانية من بداية اليوم الدراسي الذي يبدأ في الساعة السابعة والنصف. ويقابل أطفال المدارس جرس حصة الفطور بفرحة عارمة ، وصرخات استبشار عالية عادة. وبالجملة ، فقد كانت تلك هي مواعيد الفطور المرعية تقليدياً بالسودان ، وخصوصاً في العاصمة والحواضر الأخرى ، بل في سائر القرى الكبيبرة ، وخصوصا تلك التي توجد بها بعض المدارس والمرافق الحكومية الأخرى. على أن السودانيين كانوا في زمانهم القديم ، يعرفون في بواديهم وأريافهم ما يسمى ب " فكّة الرِّيق " ، وهي وجبة خفيفة تؤكل في الصباح الباكر عقب شروق الشمس مباشرة ، ويشربون معها الشاي والقهوة لكي يتقووا بها على سائر الأعمال اليدوية التي كانوا يزاولونها مثل الزراعة والرعي والصيد ، وغير ذلك من الحرف والمهن الأخرى. كان إفطار السودانيين من حيث التوقيت مبكراً جداً في السابق ، وكانوا يسمونه " فكة الريق " كما أسلفنا ، وهو كما يلاحظ ، مصطلح يرادف بالضبط ما يسميها الشوام مثلاً ب " الترويقة " ، كما أنها كانت تتم في تفس التوقيت الذي يتناول فيه الناس في شتى أنحاء العالم وجبة الإفطار. ومع ذلك قد تجد بين السودانيين المعاصرين من يقول لك مثلا: " نحن والله فطور الخواجات البدري ده ما متعودين عليه ! ". وقد شهدت بأم عيني بالفعل ، ثلة من الشباب السودانيين الذين جمعتني معهم ظروف العمل في عاصمة أوروبية ، وهم يفطرون بعد الساعة الواحدة ظهراً على الطريقة السودانية المستجدة ، أي بعد أن يكون الخواجات قد تغدوا سلفا ، فتأمّل. وعندي أنه ربما يكون تعديل موعد الإفطار في حواضر السودان من وقت الشروق إلى وقت الضحى حيث توقيت حصة الفطور التقليدية المذكورة آنفا ، قد اقتضته النظم الإدارية التي وضعتها الإدارة الاستعمارية البريطانية أساساً ، وسارت عليها الحكومات الوطنية بلا تغيير يذكر. وربما كان ذلك لأسباب تتعلق بالتحول الحضري وتغير نوع الطعام ، وطريقة إعداده ، وأوان نضجه واستوائه ، ومواعيد الحصول عليه. وهنا يخطر ببالنا تلقائياً رغيف الخبز الذي يصنع بالمخابز الحديثة ، وخصوصا الفول " المصري " الذي صار رويداً رويداً سيد مائدة الفطور بامتياز في سائر حواضر السودان ، حتى أنه احتل مكان الأطباق السودانية التقليدية مثل العصيدة والقراصة التي اقتصر صنعها وتقديمها على اإطار المنزلي فحسب غالبا. ولما كان صنع الفول خصيصاً واستوائه يستغرق وقتاً طويلاً نسبياً ، فقد أضحى ذلك واحداً من اهم الأسباب في تأخير وجبة الفطور عما كانت عليه مواعيد فكة الريق التقليدية المبكرة. ثم صارت عبارة: " الموظفين طلعوا الفطور " نغمة ثابتة في سمفونية العمل الديواني في جميع المرافق العمومية منها والخاصة خلال العقود القليلة الأخيرة ، ذلك الطلوع الذي قد يستغرق أحياناً كل الوقت ما بين الساعة الحادية عشرة صباحاً إلى الساعة الواحدة ظهرا يومياً ، وهو لا شك مظهر سئ من مظاهر التسيب وعدم الانضباط ، وإهدار أوقات المواطنين وإضاعة حقوقهم. ينطلق أولئك الموظفون والعمال نحو المطاعم والكافتيريات المجاورة لمكان العمل أو البعيدة عنه أحيانا ، أو يجوسون بين ظلال الأشجار والفرندات فيجلسون إلى بعض النسوة اللائي يبعن بعض أطباق الأطعمة البلدية ، فيفطرون هناك ويشربون الشاي عندهن ، أو عند غيرهن من النسوة بائعات الشاي. وذاك لعمري نفسه – أعني بيع النسوة للطعام والشاي - عالم قائم بذاته ، يمثل مظهرا مميزاً من مظاهر الاقتصاد السياسي للعقود الأخيرة بالسودان ، حيث اضطرت ظروف الجفاف والتصحر والحروب والصراعات والفقر ، الكثيرين من سكان الأرياف إلى النزوح إلى المدن وخصوصا العاصمة ، لمزاولة هذه المهن من أجل كسب لقمة العيش. ويجب ألا ننسى فوق كل ذلك سائر المنظومة الإدارية / السياسية من محليات وبلديات وما وراءها من ولايات ، المستفيدة قطعاً من مثل تلك النشاطات الخدمية. ثم إن ظاهرة الفقر والعوز لم تقتصر فقط على منتسبي القطاعات التقليدية في الأرياف والبوادي فحسب ، بل تعدتهم إلى معظم ذوي الدخل المحدود من الموظفين والعمال في البلاد أنفسهم في السنوات الأخيرة ، في ظل ارتفاع معدلات التضخم ، وغلاء الأسعار باستمرار بما لا علاقة له البتة بما يتقاضونها من مرتبات هزيلة جدا. فأضحى هذا الفطور الجماعي المتأخر في حد ذاته حيلة لخفض النفقات بتفادي الغداء ، أو لكي يكون هو نفسه بمثابة الفطور والغداء الذي يعود بعده الموظف والعامل إلى بيته مهدودا مكدودا قبيل المغرب بقليل ، بعد أن قضى سحابة نهاره كله وهو يكدح في أكثر من مهنة لكي يحاول تغطية متطلبات حياته وحياة أسرته ، فيتتغدى غداء متأخراً بما تيسر، يكون هو العشاء نفسه ، وهكذا دواليك. وفي ذلك الخروج الجماعي للفطور ، تتجلى حقاً الكثير من مظاهر التشارك والتراحم والأريحية الحقيقية ، ومراعاة الظروف الخاصة بأي من رفاق المجموعة. وهكذا نلاحظ أن حصة الفطور ، تنتظم دنيا عريضة حقاً من الاقتصاد السياسي ، لجهة ما تشتمل عليه من أصحاب المصلحة المختلفين أفراداً ومؤسسات ، الذين يسعون من خلالها لتحقيق جملة من الأهداف والمصالح التجارية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية ، وعلى المستويات الفردية والجماعية على حد سواء.