حكايات من مديرية الفونج: تأليف: ال اف نالدر .. ترجمة د. مبارك مجذوب الشريف
نقدم لكم هنا بعضاً من نتائج محاولة لجمع ما تيسر من الحكايات البطولية الاسطورية المتداولة حالياً في مديرية الفونج (1931)، وكشفت المحاولة ومعها جنباً الى جنب النوع المعتاد من قصص الغارات القبلية والحروب، عن وجود دائرة من القصص الممتعة المشبعة بالأحداث الدرامية والتي تدور حول انحلال سلطنة الفونج وسلالة محمد ابو لكيلك، وعلى وجه الخصوص حفيده محمد ود عدلان.
هذه القصص ضئيلة القيمة إن نُظر اليها من ناحية السجلات التاريخية؛ فالأسماء تنتزع من ازمنتها، وقد تُختزل حادثتين في هذه القصص في واحدة، ومع صعوبة تصور أن مائة سنة فقط قد مرت على الفترة التي عاش فيها هؤلاء الناس وماتوا (أي عند قيام المؤلف بتجميع هذه القصص)..لكن الصورة التي تقدمها لحالة المجتمع السائدة في ذلك الوقت جديرة بالحفظ، وهي لا تشبه أي شيء موجود في سودان اليوم.
نستحضر من هؤلاء القادة العظام بدروعهم وخيلهم المدرعة مثلهم، وسيوفهم الاسطورية التي تشبه سيف الملك آرثر، ومنشديهم وشعرائهم الشعبيين، وتمسكهم الصارم بالالتزام بالعادات والتقاليد، وتحدياتهم ومعاركهم الفردية، نستحضر منهم ويا للغرابة؛ روح القرون الوسطى وروح اشعار البالاد (1).
كان عصر هذه القصص هو عصر تفسخ النظام الإقطاعي، وانعدام الحكومة، وسيادة الفوضى وإراقة الدماء. وكانت الشخصية المحورية هي محمد ود عدلان. ويظهر الرجل فيها بصورة سالبة، كشخص بلا رحمة، ومن سلالة لا تعرف الرحمة، إذ أن أول ما ابتدر به زعامته هو اعدام جميع ابناء عمومته، وكانت نجاحاته تعتمد بصفة عامة على الخيانة، وربما لهذا السبب تحديداً تركت سيرته وبشكل جلي بصماتها في الخيال الشعبي، فطمست ذكرى من خلفه من ملوك الفونج. ولم تظهر على كل حال أي حكايات عن افعالهم لدائرة الضوء، وحتى اسماؤهم يبدو وكأنها نُسيت.
الهمج يطيحون بالفونج
يصف ماكمايكل محمد ابو لكيلك بأنه ربما كان من اعظم الرجال الذين انجبهم السودان في القرنين السابع عشر والثامن عشر، يُنسب الرجل احياناً للجموعية ولكنه بكل تأكيد من الهمج، وهم عنصر زنجي كان ينتشر سابقاً في جنوب الجزيرة وقد اخضعهم الفونج لنفوذهم. وكان ظهوره الأول في عام 1754 كقائد للفرسان في معركة ظافرة ضد الأحباش. وبعد ثلاث سنوات من ذلك شارك في غزو كردفان، وبعد انهزام جيش الفونج ومقتل قادته آلت إليه القيادة؛ وتمكن من اعادة تنظيم قوات الفونج ونجح في اخضاع المنطقة. وظل في مركز القيادة حيث يبدو انه قد بقي فيها لمدة ثلاثة عشرة سنة قادمة.
استغل ابو لكيلك في عام 1760 موجة الاستياء السائدة ضد تجاوزات الحاكم بادي ابو شلوخ، فزحف على سنار، وابقى على الملك ثم خلعه تالياً، واستولى على زمام ومقاليد السلطة وبقى فيها حتى وفاته عام 1776. وكان هو وخلفاؤه حريصون على الإبقاء على ملك دُمية من سلالة الفونج، وقد كادت ان تؤدي هذه السياسة فيما بعد للقضاء عليهم.
في عام 1785 أخذ الملك عدلان (من الفونج) يبدي تبرمه من هذه الوصاية المفروضة عليه، وانتهز فرصة غياب الوزير الحاكم رجب في كردفان فقام "بثورة" واعدم ابراهيم أخ رجب الوصي على السلطان واستعاد السلطة في سنار، وعند سماع رجب هذه الأخبار زحف على سنار لكنه هُزم وقُتل، وسرعان ما تولى خليفته ناصر أمر القتال مجدداً، أما الملك عدلان؛ حسب السجلات التاريخية؛ فقد كان غير قادر على الاستمرار في قيادة جيشه نتيجة لمعاناته من مرض ألم به من فترة طويلة، أو كان؛ حسب الرواية الاسطورية التي سنقدمها؛ مصاباً بالسحر، فانهزم جيشه ومات عدلان في الوقت نفسه.
الرواية الأسطورية التالية (حسب الخيال الشعبي)؛ تمزج بين قصص الزحفين من كردفان، فهي تشير لزحف الهمج والقيادة فيه كانت لأبي لكيلك، لكنها تقدم احداث زحف رجب وهزيمة مك الفونج عدلان وموته.
عندما تسنم المك بادي ابو شلوخ سدة الحكم في سنار، قام بمنح قادته مناصب رفيعة ومن ضمنهم محمد ود عدلان ابو لكيلك، والذي تحرك بفرسانه وجنوده واخضع كردفان وكانت طويشة اقصي مكان وصل اليه. وترك محمد ود عدلان وراءه اخاه ابراهيم مراقباً على الملك وكان مع ابراهيم قبائل الكيرا والعويساب وبعض النايلاب والجندياباب والكامتيناب والغريبلاب.
اقام عدلان مملكة عظيمة في الغرب وكان يرسل في كل شهر ضريبته للملك بادي، وحدث أن تأخر شهرين عن الارسال، فارسل الملك (بادي) اليه كتيبة من الفرسان يقودها ابو ريدة ود خميس مكونة من خمسة وسبعين فارساً، ولكن بعد ان تُلي امامه خطاب الملك والذي يدعوه فيه للمثول أمامه قام باحتجاز ابو ريدة؛ وكتب للمك قائلاً: (انا في زيادة واعدادي تتضاعف، لن آتي اليك ولكني سأرسل الضريبة).
في هذه الاثناء كتب اليه أخوه ابراهيم سلاطين يخبره أن جنود الملك بادى تشتتوا في بقاع مختلفة لجمع الضرائب ويستحثه على النهوض والمجيء فوراً قائلاً: (ان لم تهجم الان وجنوده مشتتون فلن تهزمه ابداً).
تابع محمد احتجاز ابو ريدة لمدة شهر وعشرين يوماً، وكانت افكاره تروح وتغدو مترددة بين الذهاب للملك أو عدم الذهاب، فثار ابو ريدة وأقسم انه لن يمكث اكثر مما مكث، حينها وعده محمد بالرد عليه بعد يومين، ومن ثم قام بإعداد ردوده على خطابات الملك، وكذلك رده على خطاب اخيه ابراهيم سلاطين والذي قال له فيه: (انا مستعد لمحاربة الملك وسوف نخضع سنار؛ وسيكون بيت الوزير فلان بن علان كله بنسائه وجواريه غنيمة لواحد من قادتي)، ومضى الخطاب على هذا المنوال وقد سرد فيه محمد لأخيه ابراهيم أدق التفاصيل.
انطلق ابو ريدة ومعه البريد المرسل للملك وقد وُضع في حقيبة أُحكم اغلاقها. ولكن المتآمرون وقد خشوا أن يطَّلع الملك على خطتهم؛ حيث إن الخطابات لإبراهيم كانت في نفس الحقيبة، ارادوا استدراك هذا الخطأ فقاموا بإرسال مائة وخمسين فارساً لتعقب ابو ريدة؛ وكان معه حوالي خمسة وسبعين فارساً، وعندما وصلوه قالوا له: محمد ود عدلان يطلب عودتك والانتظار ليوم أو اثنين لأمر عاجل، عندها أجابهم: لقد انتظرت شهراً وعشرين يوماً ومع ذلك لم تنتهي مهمتكم! لن انتظر أكثر مما انتظرت. فقاموا بالهجوم عليه ولكنه شتت شملهم وغنم منهم ثلاثين جواداً أتى بها للملك.
عندما وصل ركب ابو ريدة لسنار كان الوقت مساءً فاحضروا الحقيبة ومحتوياتها للملك والذي استدعى أحد الفقهاء لقراءة الخطابات، كان أول خطاب تُلي امامه هو خطاب ابراهيم سلاطين والذي كتبه لأخيه محمد ود عدلان يطلب منه القدوم وقتل الملك، استدعى الملك ابراهيم وكان موجوداً في المجلس الخارجي، وبعد قراءة الخطاب عليه، نادى الملك ابو ريدة واوكل له مهمة قطع رأس ابراهيم بالسيف.
أرسل الملك في طلب النعيسان شاعر ابراهيم، وقال له: (غدا سأهديك شيئاً ما اهداه لك لا أبوك ولا أمك)، تأمل النعيسان ملياً ما قاله الملك ووصل في تفكيره لنقطة هي: (أن أمي وأبي أعطياني كل شيء عدا الموت، وهذا يعني أن الملك يريد قتلي)، ذهب التعيسان للملك وقال له: سيدى، أرجو السماح لي بإقامة وليمة، فأجابه الملك بالإيجاب، عندها بدأ في الإعداد وأحضر مجموعة من الفتيان والفتيات وكثيراً من الشراب بحيث يغدو الجميع مخمورون، كان الملك قد وضع حارساً عند بيت النعيسان تحسباً لهروبه، ولكن في غفلة من الحارس خرج النعيسان من الباب الخلفي لمنزله وهرب دون ان يشعر به أحد. ولما جاء الطلب في الصباح يريده لم يجده؛ وعند التحري مع حضور الحفل كان كل ما تأكد هو أن الرجل قد فر بليل.
وصل الخبر للملك فأمر بإرسال فرقة من الفرسان مكونة من ثمانين فارساً يقتفون أثره، وهُمزت الخيل وأسرعت في الركض متجهة للنيل الابيض، وعندما أدركت الفرقة ضفة النهر بعد الغروب كانت الطريدة قد عبرت النهر، وأخذ النعيسان يستحث بعيره للإسراع مبتعداً عنهم.
نادوه قائلين: النعيسان، الملك يأمرك بالعودة، وكانت إجابته: بلغوا تحياتي للملك، ما الفائدة من الليمون بعد العشاء؟ (يقصد ان الليمون يستخدم كمتبل لوجبة المساء، ولا فائدة منه بعد إعداد الوجبة)، وعادت الفرقة خائبة للملك واخبرته بما حدث.
يمم النعيسان صوب الابيض ووصل هناك في يوم السوق، وحين عرفه الناس أبلغوا محمد ابو لكيلك بقدومه، ادرك محمد أن قدوم النعيسان إنما هو لأمر جلل ما فتوجه للقائه ومعه مجموعة من المرافقين، وعندما التقيا رفض النعيسان مصافحة محمد وكذلك فعل محمد، ثم ارتجل النعيسان ابيات من الشعر قبل أن يعود ويصافحه:
يأجركم القيوم
في اخوكم المتل الصقر القطامي يقوم
الهنا والهناك من القتال مهموم
الليلة الوزير فوقو المرافعة تحوم (2)
عندها صرخ محمد: المك قتل أخي إبراهيم، اضربوا الطبول والنحاس الكبير. واستمر العزاء والنحيب مدة ثمانية ايام، ثم واصلت النساء ومعهن الارقاء الردحي يومياً لمدة اربعين يوماً وهم يحثون الرماد على رؤوسهم من اوان من القرع، لا يأكلون شيئاً به حلوى ولا يمس الدهن رؤوسهم او اجسادهم.
بانتهاء أيام المأتم جمع محمد الناس من فرقان العرب وأهل القرى من الأبُيض إلى طويشة؛ وطلب منهم اعداد قرب الماء وحقائب الجلد، واستغرق هذا الامر سنة كاملة، وبعدها كان محمد جاهزاً للنزول لمقاتلة الملك بادي في سنار، فوصلوا للنيل الابيض في دروعهم وخيلهم المدرعة أيضاً، وعبر جمعهم النهر سباحة بلا مراكب، وعندما وصلوا الضفة الشرقية كانت دروع الخيل تنوء بالسمك، واصبح هذا السمك وليمة لطيور الجو تأكل منه لثمانية أيام متتالية، ثم تزودوا بالماء وامتلأت القرب ويمموا صوب سنار، اما قطرات الماء المتساقطة من هذه القرب على يمين الطريق وعلى يساره فقد جادت بعشب وفير تواصل ممتداً إلى سنار.
عند وصولهم لقريتي التقيل وود التويم في سهول سنار تصدى لهم الملك بادي ومعه ابو ريدة وفرسانهم؛ والتحم الطرفان في معركة رجحت كفتها لصالح الملك بادي وفر ود عدلان برجاله للسلالي ودادول، ثم عادوا للاشتباك مجدداً وللمرة الثانية كان النصر حليف الملك بادي، فعاد ود عدلان للسلالي مرة اخرى.
في مساء ذلك اليوم غادر الفقيه حجازي ود ابو زيد سنار وذهب لمحمد ود عدلان وقال له: لو عقدت لك سحراً للملك بادي بحيث تقتله، ماذا ستعطيني؟ اجاب ود عدلان: لك وعدي، ويقصد أنه سيعطيه الفاً من كل شيء من الارقاء والجمال والبقر والضأن والذهب والفضة، طلب الفقيه من عدلان أن يحضر له وهو في المجلس عجينة من الصلصال، فاحضرها أحد الخدم، ثم قام الفقيه بتشكيلها على صورة الملك بادى؛ وبعد ذلك قام بوضعها في النار، وظلت النيران تصليها إلى أن تشقق ذلك الصلصال، حينها قال الفقيه لود عدلان: (تم العمل)، ورجع ود عدلان في الليل لسنار.
في تلك الليلة أصيب الملك بادي بالحمى وآلام في الظهر بحيث لم يتمكن من المشاركة في اليوم الثالث من القتال. لذا قال لأبو ريدة ود خميس: (اذهب لمحاربتهم، ظهري يؤلمني واشعر بالحمى)، فكانت المعركة بين ابو ريدة وود عدلان، لكن جند الملك بادي هربوا، فجاء ابو ريدة للملك، سأله الملك: انتصرتم ام انكسرتم؟، فأجاب ( سيدي: المجموعة دون قيادة لا تنجز شيئاً، الفرسان والقادة رفضوا الدخول في الحرب)، طلب منه الملك العودة مجدداً للقتال، وعاد الجند ولكنهم هزموا ايضاً. في اليوم الثالث مات الملك بادي، وعُزي موته للعمل السحري الذي عمله حجازي.
حذر ابو ريدة نساء بادي ومحظياته من إقامة أي نوع من المناحة عليه، وأنه لن يتردد في قطع رؤوسهن ولو فعلن ذلك، ثم قاموا بدفنه في مخزن بالمنزل، وشرع ابو ريدة في جمع كل القوارب في سنار، وفي كل يوم كان يباشر القتال ضد ود عدلان، وفي كل ليلة يقوم بنقل افراد عائلة الملك بادي الى الطرفية في الضفة الشرقية، واصل هذا العمل لمدة ثمانية ايام دون توقف؛ وبعد اليوم الثامن وقد أنجز المهمة عبر النهر بنفسه.
جاء ود عدلان لقتال أبو ريدة كما كان الحال لكنه لم يجده، فدخل سنار واحتلها ووطد نفسه بها. واعلن عفواً عاماً عن مواطني البلاد، وأصبحت السلطة في يده. ثم جمع رؤساء الناس ومستشاريه قائلاً لهم: (من المرجح جداً أن حجازي ربما يسحرنا بسحره ويقتلنا كما سحر الملك بادي)، فوافقوا على قتل حجازي، فقام ببناء زنزانة له وجعل لها باباً وقام بوضعه داخلها بالقوة، ووضع حارساً عليها، وأمره أن يُبقي حجازي فيها لمدة اربعة أيام دون طعام أو شراب، بعدها طلب ود عدلان فتح باب الزنزانة ليرى إن كان حجازي حياً أو ميتاً، ولكن حين فتحها وجده وبصحبته ما تشتهيه الانفس من أنواع الطعام والشراب. فقام ود عدلان بتأديب الحراس متهماً إياهم بجلب الطعام والشراب له، وجرى ابعادهم، ثم احضر رجالاً من خاصته وأمرهم بمراقبة الفقيه لمدة ثمانية أيام، وبعدها قاموا بفتح الزنزانة مجدداً، لكنهم وجدوه وبحوزته كؤوس القرع وهي مملؤة باللبن ومعها البطيخ. فقاموا بتغيير الحراس، واقفلوا الزنزانة لمدة خمسة عشر يوماً، ولكن وكما حدث في المرات السابقة كلما دخلوا عليه وجدوا عنده رزقاً من اللبن والبطيخ.
خاف ود عدلان خوفاً شديداً من حجازي وبدأ في البحث عن حل للمعضلة في أعمال السحر، فوجد ضالته حالاً في أحد الفلاتة، طلب الفلاتي أن يحضروا له رطل ونصف من روث دجاجة صفراء، وأن يبنوا له غرفة بجوار شاطئ النهر بنوافذ من الحديد، وعندما أكتمل تنفيذ طلباته قال لهم: اذهبوا وافتحوا زنزانة حجازي وضعوا سلسلاً من الحديد على عنقه واحضروه لي، ولما أُحْضِرَ، طلب الفلاتي من ود عدلان أن يأتيه باثنين من عبيده وروث الدجاجة الصفراء، وعندما حضر الاثنان، طلب منهم أن يلطخوا حجازي بالروث، وابلغهم أنهم سيموتون بعد اكمال هذه المهمة، قام الرجلان بوضع حجازي في الغرفة على ضفة النهر، وتقييده بالسلاسل ومسحه بالروث، ثم قاموا بإغلاق باب الغرفة عليه، وعند الانتهاء من ذلك مات الرجلان، وبدأ النهر في الارتفاع والفوران، وبعد اربعة ايام أخذ حجازي يصرخ من العطش، (اعطوني شربة ماء ثم اقتلوني، اعطوني شربة ماء ثم اقتلوني)، ولما لم يقدم له احد الماء مد رأسه خارج النافذة وقد تدلى لسانه ومات من العطش. وقال الناس مثلاً هو: (يا رب يا مجازي، شوفوا ميتة حجازي، البحر قبلو والعطش كتلو) (3).
1- اشعار تؤدى بدون كورس وتدور حول المعارك والغارات ومنشؤها في القرون الوسطى مناطق الحدود الانجليزية الاسكتلندية.
2- ورد في الاصل المُترجم عنه بيتين فقط.
3- لم نعثر على نص المثل الأصلي بالعامية السودانية، وقمنا بصياغة عبارات المثل استناداً للنص الإنجليزي.
تعليق المترجم:
كتب نالدر هذا المقال في العدد الرابع عشر من مجلة السودان في رسائل ومدونات، الصادر عام 1931، وقد قمنا بترجمة الصفحات من 67-73، وتصور الروايات الشعبية التي وردت في مقاله المزاج السوداني العام في فترات سابقة، وتخدم من يريد معرفة كيفية تشكل الهوية السودانية بكل تناقضاتها من كرم وبطولة وشهامة، وفي نفس الوقت تصور العناصر السلبية الموجودة في النفس البشرية بصفة عامة من تآمر وخيانة ، كما تعطي لمحة عن التداخل القديم بين الدين والسياسة وعن تطويع الدين لخدمة السياسة وتطويع السياسة لخدمة الدين.
المؤلف ال اف نالدر، (ليونارد فيلدنق نالدر 1888-1958م) ضابط بريطاني، التحق بجهاز خدمة السودان السياسية، في الفترة من عام 1912-1936م، والجهاز جسم يضم عدة مكونات ادارية وسياسية لحكم السودان، وخدم نالدر في عدة مواقع في السودان في مديريات البحر الاحمر وكردفان والخرطوم والفونج ومنقلا، وترقى حتى وصل لمرتبة مدير المديرية الشمالية في الفترة من عام 1930-1936م.
جرت العادة عند الإداريين البريطانيين الذين خدموا في السودان، القيام برصد انشطة الحياة المختلفة من الجوانب التاريخية والأثرية والاجتماعية والدينية والسياسية والاقتصادية في مناطق خدمتهم، وامتد نشاطهم إلى رصد المناخ والتضاريس وإلى مجالات البيطرة والطب البشري، وأنواع الطيور ومواسم هجرتها وأماكن تكاثرها...الخ، وعلى وجه التقريب لم يتركوا مجالاً لم يطرقوه، وخلفوا وراءهم ثروة عظيمة من المعلومات عن البلاد والكثير منها مكتوب في مجلة السودان في رسائل ومدونات. وحفظوا ايضا معلومات عن اجيال سابقة من السودانيين كانت ستضيع لولا جهدهم هذا.
والملاحظ أن هؤلاء الموظفين البريطانيين يأتون للبلاد وقد تقمصوا الشخصية البريطانية المُسْتَعْمِرَة المشبعة بالعجرفة والغرور، ولكن بعد ان يستقر بهم المقام فترة من الزمن، وتزداد خبراتهم بسكان البلاد؛ ويصبح لديهم إلمام جيد بالتاريخ والثقافات والأعراف الاجتماعية السائدة لدى الناس، فسرعان ما ينتهي بهم المطاف في حب هذه الثقافات السودانية بصفة عامة؛ والوقوع في أسر الإعجاب بها، وقد تمنعهم قيود الوظيفة أحياناً؛ أو الإطار العام للسياسة البريطانية عن التعبير عن هذا الإعجاب؛ ولكن بمجرد وصول بعضهم لمرحلة التقاعد أو التحلل من قيود الوظيفة فستجد سيلاً من الإعجاب الدفين اخذ يتدفق في كتاباتهم ومذكراتهم. والبعض منهم كان احتكاكه بالسودانيين في ساحات المعارك، فبهرته روح الإقدام والاستهانة بالموت؛ ويندرج في هذا السياق ما خطه تشيرشل رئيس وزراء بريطانيا المشهور في كتابه حرب النهر، واشعار شاعر الامبراطورية البريطانية رديارد كيبلنغ وقصائده في رجال عثمان دقنة الذين اسماهم بالفيزي ويزي.
في هذا المقال يبدو اعجاب مؤلفه (نالدر) واضحاً حين كتب عن نزاعات الهمج والفونج وبقية القبائل التي قد تنحاز الى هؤلاء أو اولئك حيث قال: (نستحضر من هؤلاء القادة العظام بدروعهم وخيلهم المدرعة مثلهم، وسيوفهم الأسطورية التي تشبه سيف الملك آرثر، ومنشديهم وشعرائهم الشعبيين، وتمسكهم الصارم بالالتزام بالعادات والتقاليد، وتحدياتهم ومعاركهم الفردية، نستحضر منهم ويا للغرابة روح القرون الوسطى وروح اشعار البالاد).
وفي الصورة التي تقدمها الرواية الشعبية لحالة المجتمع السائدة في ذلك الوقت، التي نقلها نالدر تظهر البطولة وتظهر الخيانة ويبدو فيها بعض رجال الدين بلا مبدأ ويقدمون خدماتهم لمن يدفع أكثر، ويظهر السحر وما يرتبط به من خوف ورجاء كعامل حاسم تقوم فيه الأرواح الشريرة بخدمة من يسيطر عليها، وفي هذا الإطار قدم نالدر عدة عناوين لقصص مبهرة أخرى مثل قصة رجب بن بشير الغول، والذي اعُدم على الخازوق في الخرطوم بعد حياة حافلة بالإجرام، وكان رجلا جباراً يستنشق الشطة الحمراء أو يستخدمها كسعوط. وقدم القصة البطولية لأخت المك نمر (بُرة) وشجاعتها الفائقة حين اسرها التكارير في القلابات.
ولنا ان نلاحظ جملة نالدر عن أن هذه الروايات الشعبية كانت تصف (حالة المجتمع السائدة في ذلك الوقت، والتي لا تشبه أي شيء موجود في سودان اليوم)، وسودان اليوم الذي يقصده نالدر وقتها كان سودان الثلاثينات، حيث كانت القبضة الاستعمارية القوية لا تسمح بوجود أي مهددات للأمن، وبالتالي فان بضاعة الفرسان من قتال وكر وفر اختفت من الأسواق، واختفى معها ما يعقب ذلك من اغانٍ تنشد في مدح الابطال وروايات تصف بطولتهم وما إلى ذلك، وانصرفت قرائح الشعراء في هذه الفترة لقصائد الغزل وازدهر معها فن ما يعرف بأغاني الحقيبة، والذي كان في مجمله لساناً متحدثاً بفترة ساد فيها نوع من الهدوء؛ حيث كان الوضع العسكري تحت سيطرة المستعمر الكاملة؛ ومن خلال المجال الغزلي المسموح به أخذ الشعراء يسربون اشواقهم النضالية تلميحاً فيشيرون مثلاً إلى عزة كناية عن الوطن، ويساندون الحركة الوطنية السلمية والتي كانت تنضج على مهل خلال الثلاثينات.
من الشخصيات المحورية في هذه القصص ابو ريدة ولد خميس ، وخميس والده أمير من الفور كان منشقاً عن بلاط الفور ولاجئاً في مملكة الفونج، ولعب دوراً بارزاً في هزيمة الأحباش عند غزوهم لسنار، ويؤرخ الشاطر بصيلي لهذا الدور بالقول:
) ورأى السلطان بادي إخلاء المدينة قبل أن تعبر إليها جيوش الأحباش ولكن الموقف قد تغير بموافقة السلطان على اقتراح تقدم به الأمير خميس ومقترحه أن يقود أربعة آلاف من الفرسان على أن ينقض بهؤلاء على الجيش الحبشي الرئيسي من الخلف ورغمًا عن أن هذه الخطة قد نقلها أحد زعماء القبائل من سكان شرق سنار إلى النجاشي الذي هرول لملاقاته إلا أن خميس استطاع الانفضاض على مؤخرة الجيش الحبشي الرئيسي الذي كان بقيادة الراس ولد لول وأن ينزل به هزيمة منكرة تشتت بعدها الجيش الحبشي وهرب النجاشي إلى بلاده).
ويشير كاتب الشونة ايضا لذلك:
) فلما سمع الملك بادي بذلك طلب من جميع المراتب الدعاء وأرسل إلى المراتب البعيدين واشتد الكرب على المسلمين وأقبلوا على الله بالدعوات وتضرعوا إليه بالعبرات فأجابهم من يجيب المضطر إذا دعاه. وأهل لنصرتهم ذلك الملك بادي . فجيش جيشه وأمر عليهم الأمين ومعهم مقاديم جماعة وفرسان مشهورون بالفروسية فقطعوا البحر إلى الشرق إلى السلطان خميس سلطان فور. واجتمعوا وساروا فتلاقوا مع السلطان اياسو قرب ميمونة وعجيب بالدندر ويقال بمحل الزكيات فهزم الله تعالى عسكر اياسو .
وفي الرواية الشعبية نشاهد ان ابو ريدة ولد خميس قام بنقل عائلة الملك ولمدة ثمانية ايام متتالية للضفة الأخرى للنهر وبذل اقصى جهده لتأمين سلامتهم حتى بعد وفاة الملك، حيث كان يحارب نهاراً ويقوم بنقلهم ليلاً ولم يترك ميدان القتال إلا بعد أن جرى إخلاء جميع افراد العائلة الملكية من ميدان العراك.
في مقاربته لموضوع السحر يقول ميرغني ابشر مستنداً على الرواية التاريخية لقصة الفقيه حجازي ابو زيد والتي تختلف في بعض تفاصيلها عن الرواية الشعبية:
(وتتبدى العوالم السحرية وتأثير مفرداتها في أقصى حدود تجليتها، في قصة سيادة الهمج
وحاكميتهم على بلاط السلطنة، لتتموضع هذه العوامل في دارة الفاعل الأمضى
حضورا، في تحقق الإطاحة بسيادة ملوك الفونج، وميلاد عصر وزراء الهمج في
سنار، عندما نجح ابو لكيلك فى العام 1762م في إقصاء السلطان بادي عن عرش
المملكة، بفضل تعاون (معرافي) فلاتي مع الفقيه حجازي أبى يزيد. إذ طلب
الإنقلابيون من أحد الفلاته، علماء الطب، يطب لهم المك ويحل ملكه) ا.ه.
ويبدو أن الفلاتة عموماً كانوا يسخرون معرفتهم بالأعشاب والسموم وغيرها لصالح الطبقة الشعبية من الناس ويؤثرون البقاء بعيدا عن القصور ومؤامراتها، وتركوا هذا المجال للفقهاء.
ويروى كاتب الشونة من وجهة نظره الرواية التاريخية لملابسات قضية الفقيه حجازي ابو زيد:
((فطلب منهم (أي الفلاتي) صورة المك، فطلبوا الفقيه حجازي بن أبى زيد، وكان محبوسا عند المك في حلة العيكورة، فطلبوه منه قبل إظهار الفتنة، وفى طلبهم له أنهم يقتلونه، ففرح المك
بذلك لأنه خائف من قتله، ووقوع دعوة الشيخ إدريس (ود الارباب) فيه، فأرسله إليهم بالسجن،
فلما قابلهم أكرموه، وطلبوا منه الصورة المذكورة، فصورها لهم وألبسوه من لباس المك وعمل فيها
الفلاتي وأرسلها إليهم، ثم توجهوا نحو سنار وقام الجيش الزاحف بمحاصرتها، وأرسل استدعاءً
لبادي قائلين أخرج إلينا عليك أمان الله، ورموا صورة المك في الهواء، واتتهم البشرى أن المك
بادي قد ذهب، وجاء المك خارجاً، مستسلماً ومستصغراً وانسحب إلى الشرق). ا.ه.
ولا تبدو صورة السياسة اليوم بعيدة عما كان حادثاً في تلك القرون، فحسب ما يقوله ميرغني ابشر
(لعب المشائخ والفُقرا أدوارا جهيرة في تداول السلطة، والمشاركة بفاعلية في مؤامرات ودسائس
البلاط السناري، فقد كانوا يمثلون (مظهرا قويا للراديكالية الريفية)،كما أنهم تمكنوا من قلوب العامة وحصلوا على احترامهم وانقيادهم ،وذلك لأنهم شاركوهم معاشهم وحياتهم، وكانوا ملاذا
أمنا لبسطاء الناس من جور السلطان وفورته، ويأتي تأثيرهم الأكبر على العامة من خلال سطوتهم الروحية واعتقاد العامة في قدراتهم الروحية الخارقة للعادة، وتمكنهم من علوم الطبابة البديلة، لذا كان لهم اصتنات مميز من قبل المجتمع السنارى بكل طبقاته، لنبوءاتهم واستشرفاتهم
المستقبلية، لمصير النظام السلطاني ولاعبيه من ملوك ووزراء ومناجل).
ويبدو من وجهة نظري أن هؤلاء الشيوخ والفقهاء كانوا يشاركون في المؤامرات ليس بالجانب الروحي فقط، وإن كان هذا ضروري جداً كغطاء، وانما بقدرتهم على التغلغل وسط العاملين في البلاط واصطيادهم ومن ثم الوصول للرأس الحاكم ووضع السم له أو أي مادة مميتة أخرى، وبعد ذلك يجري نسبة هذه الافعال للفقيه وكأنه قام بأمر خارق، وهم بذلك يصطادون عصفورين بحجر واحد الأول هو ابعاد الشبهة عن المتآمرين، والثاني هو تعظيم قوة الفقيه الروحية لدى السلطة ولدى عامة الناس وبث الرعب في قلوبهم من خوارقه ومن ثم استغلال هذا الرعب في إدارة الأمور السياسية.
كان في امكان الوزير قتل حجازي ابو زيد فوراً بالسيف، ولكنه خاف عواقب هذا الأمر لأن الجو العام والثقافة السائدة تصب في مصلحة قوة الفقهاء الروحية، فقد يموت الفقيه وسحره باق، فوجد ان مجابهة السحر بالسحر وابطال مفعول السحر قبل القضاء على الفقيه هو الحل الاحسن لذا استعان بالفلاتي
ويعبر ميرغني ابشر عن هذا المعني بالقول:
(ويقال أن ناصر خاف من القوى الخفية التي يمتلكها الفقيه، والتي أرجع إليها هزيمة وموت السلطان عدلان، لذلك فان قوة خفية وسحرية شاملة لابد من اتخاذها لكسر القوى الروحية الخفية لحجازي، والتي يستخدمها لحماية نفسه. في النهاية ربطوه داخل قفص بجانب النهر ليموت من العطش)
كانت عبارة المؤلف البريطاني نالدر هو يسرد قصصه: (وهي لا تشبه أي شيء موجود في سودان اليوم)، تمجد العهد الاستعماري وتشير لقضائه على الفوضى والخروج على القانون، لكننا الآن وبعد مرور قرون على هذه القصص، نجد أن روح تلك الحكايات ظلت باقية مع انسان السودان إلى وقتنا الحالي، وفي الختام نقول ونحن في القرن الحادي والعشرين انها (تشبه كل شيء في سودان اليوم).
مصادر التعليق:
1. الشاطر بصيلي عبد الجليل: (معالم تاريخ سودان وادي النيل).
2. احمد بن الحاج ابو علي: (مخطوطة كاتب الشونة).
3. ميرغني ابشر: الأسطورة والنبوءة في سنِّار .. قراءة تبعيْضيِّة لعَصْرِ البُطولة. (مجلة الحوار المتمدن، العدد 3763).
nakhla@hotmail.com