رحل صديقي العزيز كمال حسن بخيت الذي كان في كتاباته الصحافية، يأتي العالم إليه، يستحضره في كل سانحة منذ أيامه الأولى في صحيفة (الأيام) المايوية إلى نهضات بغداد، إلى أنفاس من قرأ لهم وتعرف عليهم وانفعل بمنجزاتهم الكتابية والسمعية والبصرية. وأعيد القول إن كمال يقدم عالمه كما لم يقدم سوى قلة، ويداخلني إحساس بأنه يكتب هذا الكيان اللغوي الحي بهاجس تكوين رفقة مكتوية رفقة كلمات الإنسان للإنسان والكلمات إذ تعبر عن وجدان مبدعها فهي تجمل المصدر تبرز أحلى ما فيه حين تمزج الواقع بما نحلم أن يصير إليه هذا الحال، وكمال ينتمي إلى جيل عبر عنه صديقنا العجوز التجاني حاج موسى (الحال ياهو نفس الحال وفي جواي صدى الذكرى). واقع الحال أن الراحل كمال حسن بخيت صحفي رقم متميز في أداء واختيار مواضيع تتسم بالشمول. وفي حقبة السبعينيات كان يعتبر ملك المنوعات، ولا يعني هذا أنه ترك اهتمامه بالأخبار والسياسة وبقية الماجريات الصحفية. وينبغي نوضح إن أصل هذه الأسطر برنامج إذاعي بعنوان (مشوار) أعده وقدمه كاتب المقال في العام 2009م، وبثته إذاعة صوت القوات المسلحة في إطار خطتها لتوثيق التجارب الصحفية، وقد تمت معالجته بحذف الإسهاب الملازم للحديث الشفهي، وهنا التفاصيل: سؤالنا الأول أستاذ كمال بعد التجربة الثرة الممتدة يكون هناك في الذاكرة شيء من البدايات الأولى، ماذا الذي يجول في الذهن الآن من تلك البدايات؟ مازالت تسكنني الأخبار ومازلت مهتما بها وبمصادرها. الأخبار أول قسم عملت فيه في الصحافة السودانية وانهماكي في العمل في الأخبار قادني إلى المنوعات، وهكذا أصبحت نائبا لرئيس قسم الأخبار ومحررا للصفحة الأخيرة. وكان معي صديقاي محي الدين تيتاوي ويوسف عمر. لذا تسكنني الأخبار. لك تجربة عمل صحفي ممتدة داخل وخارج السودان، بالضرورة أتاحت لك هذه التجربة الإنسانية الثرة فرصة التعرف على شخصيات كبيرة جدا حد الضخامة ونفوس صغيرة جدا حد التقزم؟ طبعا فرصة اغترابي في العراق أبان ذلك الزمن الجميل حين كانت بغداد رئة يتنفس عبرها كل الشرفاء والمناضلين. أتاحت لي هذه الغربة التي كنت مجبرا عليها ولست بطلا فرصة التعرف على رموز كبيرة جدا في الفكر والسياسة والفن، التقيت بالمفكر الفرنسي روجيه جارودي وأجريت معه حوار طويلا، والتقيت بالفنانة الكبيرة فيروز. وحاورت الرئيس العراقي الشهيد صدام حسين، كما حاورت الزعيم الليبي معمر القذافي. وفي مجال آخر التقيت الشاعر العظيم الجواهري، وكذلك نزار قباني وغيره من النجوم المضيئة في عالم الآداب والفنون. وفي هذه العجالة لا أذكر أنني التقيت بأقزام، إذ أن طبعي ينفر منهم ولا أعتقد أن هناك أقزام بالمعنى السياسي أو الفكري. وحين يعود بي قطار الذكريات إلى تلك الفترة أشعر بسعادة وتجدني شديد الامتنان لكل الصلات التي ربطتني بهؤلاء العظام. من بين تلك الأسماء المميزة التي التقيت بها وحاورتها وكتبت عنها، ما هو أكثر اسم رسخ في ذاكرتك من بينهم؟ هل تسمح لي أن أقول أنهما اثنان نزار قباني ومحمود درويش، وإن سمحت باسم ثالث فهو الجواهري. وتأتي بعدهم غادة السمان والدكتورة سعاد الصباح. ولعل سر هذا الاستطراد أن ذاكرتي من فرط الصلة الحميمة التي ربطتني بهم قد أصبحت خماسية، فغادة السمان تطورت علاقتي بها إلى صلة أسرية قوية. وتجدني في غاية الحزن للظروف الصحية التي تمر بها الدكتورة سعاد الصباح. ورغم أن غادة السمان توارت عن الأنظار، إلا أنني تسلمت نسخة من كتاب صدر لها قبل فترة، بعد أن ضاع عنواني منها. بين كل هذه الأسماء البارزة في عالم الشعر والأدب التي اقتربت منها، هل مارست كتابة القصة أو تدوين الشعر؟ لم أحاول أن أكتب شعرا، رغم أنني أتذوق الشعر وتحلق بي القصيدة حينما تنساب كاللحن عندما يكون في ثمالة خفوته. هل وصلت بك تجربة الغربة إلى سقف طموحاتك، وأين ترسو سفينة طموحاتك الآن؟ قد يبدو لي أحيانا أنني أحلق فوق سماوات سبع، بمعنى أن طموحاتي لا سقف لها. ومازلت قادرا على العطاء والتميز في كثير من الموضوعات التي أتناولها، وذلك لأنني أقرأ والذي يقرأ يكون نبعه متدفقا باستمرار. يبدو أنك تحلق في سماء الفرح، مع ملاحظة أن السودانيين كل يوم في هم جديد، هل هذا صحيح أم أنك صاحب شخصية مختلفة؟ معظم السودانيين لا يعرفون الفرح ولا يؤمنون بالتفاؤل. وأحسب أن الفرح يملأ دواخلي وجوانبي. أحب الآخرين والحياة والجمال، ولا أسمح لدواخلي أن تشيخ دواخلي. مع شلال الفرح هذا، ألم يحدث أن فقدت مرة متعة الكتابة بفرح أو الركض وراء مادة جميلة؟ لا أسمح لنفسي أن تفقد القدرة على التعامل مع الأشياء بفرح. في بعض الأحايين يجبرني التوجه الجاد أو المحافظ أو المسؤولية التي أتحملها على التقليل من الانطلاق كما أشتهي. هل تعني الإجابة السابقة أن مسؤولية رئيس التحرير قد تعيق عفوية كمال حسن بخيت في إعداد مادة جرئية؟ لقد تمردت على هذا الموقع منذ فترة مبكرة، ومازلت أكتب المادة المنوعة والمادة الفنية. الملاحظ في كتاباتك اهتمامك بتدوين السيرة الذاتية لأشخاص، هل تفعل هذا لأن الوفاء عملة نادرة، أم المسألة مرتبطة بالسعي لتدوين ذاكرة سودانية؟ بطبعي أنا إنسان وفي وقد جبلت على هذا الوفاء، خاصة مع الآخرين الذين يقفون معي في كل المحن التي مررت بها سواء كان ذلك من حزب أعداء النجاح أو من الذين لا وفاء لهم، خاصة من أقرب الناس الذين ساعدتهم أو قدمتهم في عالم الصحافة. ومع ذلك على إثبات أنني أكثر وفاءا وهذا يكفي. كمال حسن بخيت خريج مدرسة سياسية تعتقد أن الكتابة رسالة والتزام قومي نحو القارئ، أين أنت من هذه المدرسة الآن؟ أنا داخل هذه المدرسة ومازلت ملتزما بها بعد أن أصبحت أحد أركانها في الصحافة السودانية. هل تعتقد أن مثل هذا الالتزام الآن يجعل الصحافة السودانية تسهم في خلق الوعي الذي يقود إلى التغيير المنشود؟ بالتأكيد شريطة أن نحذف الأجندة السياسية التي تتمسك بها بعض الصحف السودانية، فإن مثل هذا الالتزام يجعل الصحافة السودانية تقوم بواجبها على الوجه الأكمل. وأمنياتي أن يتفق الناس على حذف الأجندة الخاصة وأن يعملوا على توعية المجتمع وترقيته وخدمة القضية الوطنية بشكل عام، دون أي تحزب أو آراء مسبقة. حذف الأجندة الخاصة قد تبدو فكرة مثالية، إلا تعتقد أن فكرة الحذف لن تحد صدى على أرض الواقع؟ نعم الفكرة مثالية، لكن لا محيص من أن نتمسك بها. كمال حسن بخيت أمدرماني النشأة والميلاد وتربطك ذكريات براءة وحاضر طفولة فيها، هل تعتقد أن أمدرمان مدينة ذات ألق خاص؟ هذه المدينة العظيمة لها وله خاص في نفسي. أمدرمان عندما تقف في الشارع لأن سيارتك أصابها عطل، تقف لك عشرات السيارات لكي تنقلك من شدة تعارف الناس في المدينة. ذات مرة سرقت سيارتي ووقفت في الشارع الرئيسي وأحصيت 54 سيارة لم أعرف سائقيها أو ركابها. وحين عدت من العراق بعد غربة امتدت لـ 12 سنة، سألني علي المك عليه رحمة الله وهو عاشق أصيل لأمدرمان: كمال سكنت وين في بيت الأسرة؟ أجبته سكنت في المهندسين. رد علي: برضك سكنت في أمدرمان أوعى تخلي أمدرمان؟ وقبل وصية علي المك فأنا من عشاق أمدرمان أحبها وأحب سكانها وحواريها وأزقتها وكل حكاياتها الجميلة. أمدرمان التي تتحدث عنها وتحبها غير موجودة الآن، أمدرمان الحديثة أصبحت مدينة ضخمة وممتدة، هل مازلت مدينتك المفضلة؟ رغم التشوهات التي حدثت في أمدرمان والعدد الهائل من السكان الذين أتوا من ولايات طرفية، وسكنوا فيها وغيروا التركيبة الديموجرافية لأمدرمان العزيزة، إلا أن رائحة ترابها أشمه في كل لحظة. بعد هذا الحنين لأمدرمان وترابها، هل يمكن أن تلخص تجربتك في كلمتين؟ من الصعوبة أن ألخص قرابة الأربعين عاما في كلمتين، فهي تجربة صعبة جدا ورائعة في نفس الوقت. ثلاث شهادات نعيد القول إن الأسطر السابقة استخلصت من برنامج (مشوار) الذي تبثه إذاعة (صوت القوات المسلحة). وبرنامج (مشوار) شهادة للبوح الذاتي في تجربة إنسان له أثر في الحياة. بعد رحيل كمال حسن بخيت يداخلني الإحساس بأن حفيد بخيت كان يكتب ليسجل عمرا وصلتنا كسوره، ونهضة حققناها فرادى، وذهبت بنا الطرق إلى أماكن غير أماكن الأهل، فلا ندري هل خسرناهم أم خسرونا. والحال أن مجتمعنا يهنأ في كسوره القديمة والجديدة ويترك لنا غربتنا وحسرتنا عليه. وهذه ثلاث شهادات توضح مكانة كمال حسن بخيت في المحيط العربي ودوره في المجال الصحافي وتأثيره في الحياة الاجتماعية. المحيط العربي قبل سنوات مضت قادتني إلى بيروت على حد قول أمير الشعراء أحمد شوقي اقدار سير للحياة دراك. وهناك كنت مجموعة من الإعلاميين في زيارة الصحافي الكبير فؤاد مطر الذي سألني بلهفة كيف حال حبيبي كمال حسن بخيت. اجبته بخير وعافية ويرأس تحرير كبرى الصحف السودانية. رد علي بفرح وبالنص لحنا: بالله سلم لي عليهو وبلغ اشتياقي الزائد حبي ليهو. ثم أكمل الأستاذ فؤاد: أيام المصالحة الوطنية (1977)، دعاني كمال حسن بخيت لحفل زفاف في حي العمدة في أمدرمان، وكان الفنان بصوت شجي يردد أغنية تتحدث جميلة تتحدث عن العيون والمحنة ورسخ في ذهني ذلك المقطع. وأكمل: معرفتي وصداقتي لكمال افادتني كثيرا في تعميق معرفتي وفهمي للسودان بالحياة السودانية. المجال الصحافي تقترب رحلة عمل الراحل كمال حسن بخيت في الصحافة داخل وخارج السودان من نصف قرن من الزمان، وهذه شهادة يقدمها الصحافي الفذ معاوية حسن يسن الذي ينتمي إلى جيل يلي جيل الراحل كمال ويقول معاوية في شهادته: عليه رحمة الله. كان أخا وصديقا عزيزا تملأه حيوية الشباب في كل مكان اختلف اليه. حاول التوفيق بين تعقيدات الانتماء للسودان بمقاربات فكرية ووجدانية فعاش متصالحا مع نفسه درن ان يتقبل الآخرون أفكاره. كان صديقا للفنانين والشعراء من اجيال السبعينات. وكان فنانا في كتابة التحقيق الصحفي الى درجة ندر مثيلها. لا بد ان الإنقاذ كانت أسوأ فترات حياته. فهو كلن ليبراليا حتى النخاع. ولم يسمح لعلاقاته بالبعثيين العراقيين بأن تجعله منحازا لأية فئة. وضيعت شبابة أكذوبة الصحافة السودانية التي ترزح تحت مطرقة قبضة الدولة ولصوصية الناشرين وأصحاب الامتياز. اللهم تقبل عبدك كمال ود الصول حسن بخيت بأحسن قبول وأحسن اليه وأغفر له وارحمه. لا حول ولا قوة الا بالله. تقبل عزائي فيه. الحياة الاجتماعية هذه شهادة تدل على رسوخ علاقات الراحل كمال حسن بخيت في المجال الاجتماعي يقدمها المهندس منير لمعي عياد مدير وكلة أولمبيا للسفر، وهنا نص الشهادة: He was my best friend I knew him since the 1980’s he was a family friend me knew my mother and all of the house. May Allah rest his Soul In Peace. وأخيرا، فليبكي جميعكم معي حزناً على كمال، أعطوني عيوناً أبكي بها فقد جفت مدامعي. ونسأل الله أن يتغمد كمال بواسع رحمته وأن يلهم أهله ومريديه الصبر والسلوان. ////////////////////