الإسلام السوداني ومبادرة كدباس (الحلقة الأخيرة)

 


 

 

 

سبقت فكرة الإسلام السوداني من عملية التأثير والتأثر المتبادلة بين الإسلام الرسمي (الأرثوذكسي) أو مرجعيته الكتاب والسنة المطهرة والإجماع، وبين الثقافات المحلية في المناطق التي وفد إليها حملة الدين الرسمي. وهي عملية يحدث فيها التكيف والتنازلات العقدية والفكرية والتعايش بين الوافد والمستقر، الجديد والتاريخي. وهي عملية طويلة ومعقدة تنتهي بتركيب جدلي بين الشيء ونقيضه فالإسلام السوداني تبنى أو تعايش مع كثير من مكونات الثقافات المحلية في سلام، ولكن غالباً ما تظهر حركات أصولية أو سلفية تقول بضرورة تطهير الإسلام “الصحيح” من البدع والخزعبلات والشعوذة، فتشن الحرب على العناصر الثقافية المحلية التي اندمجت في الإسلام الأصيل.

في الإسلام السوداني يتميز الفكي أو الفقير أو المولى بموقع يصل درجة التقديس في المجتمع وعقيدة الناس فهو قادر على تغيير نواميس الطبيعة فقد يحيي الموتى، ويشفي العليل بالآيات والرقى. حاولت المهدية أن تقلل من من نفوذ الأولياء بين الناس البسطاء وبسبب حرفهم أحياناً عن صحيح الدين باعتبار حركة إصلاح ديني وبالفعل تراجعت مكانة ونفوذ الأولياء لحساب العلماء والفقهاء ولم يعد لهم أي دور في موضوع الشفاعة عند الحكام، ولكن عملية الأجاويد وهي محاولة توسط تتطلب مساومات وتنازلات متبادلة وتطيب خاطر الفكي- الوسيط وتقديراً له، وهي لا تصلح في عمل سياسي حديث باعتبار أن لكل طرف أيديولوجيته وبرنامجه الخاص وهذا ما يميز كل طرف سياسي وإلا لكانت البلاد كلها حزبا واحدا. لذلك لا مكان للفكي في الصراع السياسي وإلا فقد التقدير والتقديس الذي يميز مكانته الاجتماعية ومن الأفضل للفكي أن يبعد نفسه عن هذا الميدان المليء بالمشكلات والخبائث وأن يحصر نفسه في علاقات المحبة والاحترام وهذا ما يفيد مجتمعه حقيقة.
إذ يمكن أن يتوسط بين زوجين اختلفا وتشاجرا ويكون قد وقى أسرة شر التفكك وتشريد الأبناء، وهذا هو دور الفكي أو الولي المفيد.
وفي حالة مبادرة كدباس الأخيرة، سوف يتساءل كثيرون بالتأكيد: أين كان شيخ كدباس صاحب المبادرة حين كانت بيوت الأشباح تعج بالشرفاء ومنهم من قضى تحت التعذيب وخرج أغلبهم بعاهات مستديمة؟ وحين قطعت ساق المحامي عبد الباقي وحين تم تعذيب الأكاديمي الوقور دكتور فاروق محمد إبراهيم، وحين مات طلاب معسكر العيلفون؟
حاول النظام البائد توظيف مكانة رجال الدين من الأولياء والصوفيين واستغلال الدين الحنيف في سياسة تخدم نظاماً قمعياً فاشياً فأسس داخل حزب المؤتمر الوطني ما يسمى بأمانة الذكر والذاكرين بهدف تلويث هؤلاء الرجال المحترمين في قراهم ومجتمعاتهم الصغيرة. كما روج لطرق جديدة ومتصوفة جدد لامتصاص طاقات الشباب وشرفهم للتدين.
لقد صارت كلمة المصالحة الوطنية رغم بريقها الخارجي سيئة السمعة لأنها تخلط الحق بالباطل وتساوي بين المجرم والضحية وتحول المجرم السفاح الذي مارس القمع ثلاثين عاماً إلى مظلوم ومواطن حرم من حقه السياسي وتم إقصاؤه بلا سبب كان الأجدر بصاحب المبادرة أن يطلب من طرف الإسلامويين الاعتذار للشعب السوداني وأن يسترد أموال الشعب المنهوبة والمودعة في بنوك العالم وأن يحاسب ويدين الفاسدين بين صفوفه. وتكون هذه الشروط هي البداية ثم ينطلق بعد ذلك مولانا الشيخ في إجراء الصلح والمصالحة بين الطرفين.
في الختام كل الإحترام لسادتنا الأولياء “البيكم توسلنا” ولكن عليهم أن يدركوا جيداً دورهم في المجتمع السوداني ومن أجل الإنسان السوداني وأن يقفوا بلا تردد إلى جانب المستضعفين والمضطهدين وأن يمتنوا صلتهم بربهم. وهذه هي العلمانية التي ندعو لها فهي لا تطرد الدين من الحياة ولكنها تعيد للدين قدسيته وللأولياء تقديرهم من خلال حيادهم السياسي أو انحيازهم جانب الشعب.

 

آراء