قصيدة غنائية سودانية مقصورة
Khaldoon90@hotmail.com
القصائد المقصورة هي القصائد التي تجئ قافيتها بألف مقصورة أو ليِّنة مثل الأفعال: هَدى وأتى ودعا وأبَى ، أو الأسماء: بُكا وسَما " مقصور بُكاء وسماء على التوالي بالمد "، وبِلى ، ورُبى " جمع ربوة " وما جرى بمجرى هذه الألفاظ.
لسبب ما لم يكثر الشعراء الجاهليون من نظم القصائد المقصورة ، وإن لم يخل ديوان الشعر الجاهلي القديم منها بالكلية. فقد أثبت الأصمعي في مختاراته " الأصمعيات " على سبيل المثال ، قصيدة مقصورة لمرثد بن أبي حمران الجعفي ، وهوشاعر جاهلي مطلعها:
أبلِغْ أبا حُمران أنَّ عشيرتي
ناجَوْا وللقومِ المناجين التَّوَى
ويرى بعض الباحثين المعاصرين أنَّ القرآن الكريم قد أثَّر في طائفة من الشعراء الذين نظموا القصائد المقصورات ، وذلك نظراً لحفاوته الظاهرة بالألفاظ المقصورة ، وإيرادها بكثرة في عدد من سوره مثل سورة " النَّجم " ، من مثل قوله تعالى: " والنجم إذا هوى .. ما ضلَّ صاحبكم وما غوى " إلى آخر الآيات.
وتبقى قصيدة أبي الطيب المتنبئ التي مطلعها:
ألا كلُّ ماشية الخَيْزلَى
فدا كلِّ ماشية الهَيْدَبَى
وفيها قوله بعد هذا المطلع:
وكُلُّ نَجاةٍ بُجاويةٍ
خنوفٍ وما بيَ حُسنُ المِشَى
ولكنَّهُنَّ حِبالُ الحياةِ
وكيدُ العُداةِ وميطُ الأذَى
ضربتُ بها التِّيهَ ضرْبَ القِمارِ
إمَّا لهذا وإمَّا لذا .. الخ
واحدة من أشهر القصائد المقصورات على الإطلاق.
وهنالك عدد آخر من القصائد المقصورات المعروفات لدى المهتمين بهذا الشأن ، منهن على سبيل المثال أيضاً:
القصيدة المقصورة لأبي بكر بن دُريد 223هـ/ 837م – 321هـ/ 933م في مدح ميكال ومطلعها:
إمَّا ترى رأسي حاكى لونُه
طُرَّةَ صُبحٍ تحت أذيال الدُّجَى
ومقصورة حازم القرطاجنِّي 608 هـ/ 1211م – 684 هـ / 1286م التي مدح بها المستنصر صاحب إفريقيا ، ومطلعها:
لله ما قد هِجتَ يا يومَ النَّوَى
على فؤادي من تباريحِ الهوى
والقصيدة المقصورة للشاعر العُماني أبي مسلم البهلاني 1857 – 1920م ، ومطلعها:
تلك ربوع الحيِّ في سفحِ النَّقا
تلوحُ كالأطلالِ من جِدِّ البِلَى
وهنالك من الشعر العربي المعاصر ، مقصورة الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري 1899 – 1997م:
برغمِ الإباءِ ورغم العُلا
ورغمِ أنوفِ كرامِ المَلا
ورغمِ القلوب التي تستفيض
عطفاً تحُوطُكَ حَوْطَ الحِمَى .. الخ
ثُمَّ إني طفقت أتساءل: هل يكون في الشعر العربي الغنائي عموماً ، والسوداني العامي منه خصوصاً ، قصائد مقصورة ؟.
أجل ، وأنا استمع للإذاعة السودانية من راديو السيارة ذات يوم مؤخراَ ، أسعدتني محض الصدفة بالاستماع إلى أغنية قديمة من أغنيات خمسينيات القرن الماضي بلونيتها اللحنية المميزة ، وكورسها النسائي المصاحب بأصواته الرقيقة ، وخصوصا بمشاركة الموسيقار المصري الأستاذ مصطفى كامل فيها بالعزف على آلة القانون ، هي أغنية: " سادة جميل انت لونك أسمر " ، من تأليف الشاعر الغنائي الراحل ذي الإنتاج الغزير والمتنوع ، الأستاذ إسماعيل خورشيد عليه رحمة الله ، ومن تلحين وأداء المطرب الصداح الأستاذ صلاح محمد عيسى رحمه الله تعالى. وانا مستغرق في الاستمتاع بتلك الأغنية ، تنبهت بعد تأمل ، إلى ان قافية معظم أبياتها مقصورة بالفعل.
ومطلع هذه الأغنية أو لازمتها الأساسية ، بل " عصايتها " كما يقال في حديثنا العامي:
سادة جميل انت لونك أسمرْ
فتنِّي وغاب لى طرفي أسهَرْ
ثم تمضي الأبيات المقصورة هكذا:
تعال زهر الرُبى
ليه تعمل كده ( يجاوب الكورس النسائي )
وحُبي ظاهر ما خفَى
لييه تعمل كده
تعال غرام الصبا
تعال وتعال كيد العِدا
..... .... .......
وفيك نفور الظِبا
لييه طبعك كده ( الكورس النسائي )
وفيك وداعة الصبا
لييه تعمل كده
تعال سيب الجفا
وارحم قلبي الانكوا ... الخ الخ ..
وبالطبع فإن الشخص المتعجل وغير البصير بعلم القافية في نظم الشعر العربي وموسيقاه ، قد يستنكر مثلاً ورود كلمتي " الجفا " و " الإنكوا " المذكورتين في نهاية آخر شطرين من هذا المقطع ، في نسق تقفية تتابعي واحد. ولكن يُرد عليه بان هذه القافية هي قافية مقصورة قوامها جرس الألف اللينة أو المقصورة فقط لا غير ، ولا معول فيها على أصوات الحروف المختلفة التي قبلها.