(60) قصور اتفاقية السلام الشامل وغموض مواقف الحركة الشعبية! مُقدِّمة خَلُصَ د. مَنْصور، فِي مَعْرِضِ تَحْليلِهِ لِأَسْبابِ فَشَلِ اَلِاتِّفاقيَّةِ فِي تَحْقيقِ السَّلامِ الشَّامِلِ، بَلْ وَتَحَوُّلِ مَشْروعِ الدَّوْلَةِ الواحِدَةِ بِـ“نِظَامَيْنِ”، إِلَي دَوْلَتَيْنِ بِـ“نِظامٍ” واحِدٍ، فِي نِهايَةِ المَطافِ، إِلَى أَنَّ المُؤْتَمَرَ الوَطَنيَّ هوَ المَسْؤولُ الأَوَّلُ عَنْ عَدَمِ الْإِيفَاءِ بِمُسْتَحَقّاتِها. وَمَعَ ذَلِكَ، فَإِنَّ لامُبالاةَ الحَرَكَةِ الشَّعْبيَّةِ، مِنْ جِهَةٍ، وَضَعْفَ مُتابَعَةِ ضامِني الِاتِّفاقيَّةِ، مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، شَجَّعَتْ الحِزْبَ الحاكِمَ لِلتَّمَادِي فِي خَرَقِ نُصوصِ الِاتِّفاقيَّةِ. فَهَكَذَا، إِنَّ مُرَاوَغَةَ المُؤْتَمَر الوَطَني، حَوْلَ القَضَايَا الكَارْدِينَالْ لِلسَّلَامِ الشّامِلِ، طَوالَ الفَتْرَةِ الِانْتِقاليَّةِ، يُقَابِلُهَا نَفْسُ السُّلوكِ مِنْ قِبَلِ الحَرَكَةِ الشَّعْبيَّةِ فِي نِهاياتِ هَذِهِ الفَتْرَةِ. فَمُنْذُ نَشْأَتِهَا، أَعْلَنَتْ الحَرَكَةُ التِزامَها بِوَحْدَةِ السُّودَانِ، بَلْ كَانَ أَحَدُ شَعَارَتِهَا المَرْفوعَةِ «مِنْ يَرْغَبُ فِي الِانْفِصالِ، فَلِيقَاتِلْ مِنْ أَجْلِهِ». وَلَكِنْ فِي عَشيَّةِ الِاسْتِفْتاءِ، أَعَادَ عَدَدٌ كَبيرٌ مِنْ قِيَادَاتِ الحَرَكَةِ الشَّعْبيَّةِ اخْتِراعَ أَنْفُسِهِمْ كَوَرَثَةٍ لِعُتاةِ الِانْفِصَالِيِّينَ فِي السَّتِينَاتِ مِنْ القَرْنِ الْمَاضِي، وَلَيْسَ لِجُونْ قَرْنَقْ، حامِلِ شُعْلَةِ “السُّودَانَاوِيَّةِ” الجَديدَةِ. وَكَدَأَبِهِ، لَمْ يَعفِ مَنْصورُ الطَّرَفِ الثّالِثِ المُسْتَفيدَ، كَأَحْزابِ المُعارَضَةِ الشماليَّةِ، مِنْ التَّقْصيرِ فِي المُقاوَمَةِ، خاصَّةً فِي ظِلِّ مَا وَفَّرَتْهُ الِاتِّفاقيَّةُ مِنْ هامِشِ حُرّيَّاتٍ واسِع، والضَّغْطِ الفَعَّالُ، لِتَنْفِيذِ الأَحْكامِ المُفْضِية لِلتَّحَوُّلِ الدّيمُقْراطي، مِمَّا سَاهَمَ بِقوَّةٍ فِي إِخْفاقاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، كَانَ مِنْ المُمْكِنِ تَجَنُّبُها. وَمِن المُفارَقاتِ، أَنَّ هَذِهِ القُوَى نَفْسَها، اسْتَقَرَّتْ فِي نِهايَةِ المَطافِ عَلى التَّضَرُّعِ لِلْحِزْبِ الحاكِمِ المُتَسَلِّطِ ليَفْتَحَ لَهُمْ الفَضَاءَ السّياسي، حَتَّى يَحْجِزوا مَكَاناً لِأَنْفُسِهِمْ فِي هَذَا الفَضَاءِ، وَعَلى شُروطٍ يَضَعُها المُؤْتَمَرُ الوَطَني. غموض مواقف الحركة الشعبية! داخل دوائر المعارضة الشماليَّة، ازداد عدم التصديق بشأن صدق التزام الحركة الشعبيَّة بأي أجندة قوميَّة بعد رحيل جون قرنق، وتزايدت المخاوف والتوجُّسات بشأن قُدرة الحركة على الوقوف بالكامل وراء أجندة التحوُّل الدِّيمُقراطي لاتفاقيَّة السَّلام الشامل. ويبدو أنَّ هذا الشعور قد زاد بسبب مقايضة الحركة بإلغاء جميع القوانين المُقيِّدة للحُريَّات (قوانين الصَّحافة والأمن القومي) من أجل إصدار قانون الاستفتاء. من جهةٍ، كما ذكرتُ في الحلقة (40)، أنه قد خّاب ظن المُؤتمرين في أجندة ونتائج المُؤتمر القومي الثاني للحركة في مايو 2008. فبرغم نجاحه في حسم مسألة قيادة الحركة بصورة وُديَّة وديمُقراطيَّة، والحفاظ على وحدة الحركة وتماسُك قيادتها، وبالرغم من المُصادقة على رؤية السُّودان الجديد، إلَّا أنَّ هذه الرُّؤية لم يتم تفصيلها في أي إستراتيجيات أو سياسات أو برامج يسترشد بها العمل السياسي اليومي، ويقوم عليها المانيفستو أو البرنامج الانتخابي للحركة. فلم تُعرَض على المؤتمرين أي أوراق أو وثائق لمُناقشتها والحوار حولها، فيما عدا مُسودَّتي الدُّستُور والمانيفستو، كما أنَّ هذه البرامج والسياسات المُنتظرة لم تُطرح للتداوُل، ولا حتى في أعقاب المُؤتمر. من ناحية أخرى، أخفق المُؤتمر في الاهتمام بـ“التجديد التنظيمي”، من حيث تعزيز هياكل الحركة الشعبيَّة ومُؤسَّساتها بما يتناسب مع الواقع السياسي الجديد في مرحلةِ ما بعد اتفاق السَّلام الشامل. فالهيكل التنظيمي القطاعي (قطاع الجنوب وقطاع الشمال)، في ضوء الثغرات التنظيميَّة وأوجُه القُصُور الملحوظة، خاصة مشاكل التنسيق وتحديد اختصاصات كُلٍ من القطاعين، والعلاقات مع “السكرتارية القوميَّة” (التي أنشئت حديثاً)، والقرار بشأنها، بما في ذلك التمثيل غير المتكافئ لقطاع الشمال في هياكل القيادة، كان يستوجب الاهتمام الفوري والقرار بشأنها. من جهة أخرى، بينما كانت الوحدة الوطنيَّة على رأس أجندة المُؤتمر، ومع تبنيه لعددٍ من المُقرَّرات في هذا الشأن، إلا أنها ظلت حبراً على ورقٍ. فقد أكَّدت أحد قرارات الاتفاقيَّة التزام الحركة برُؤية السُّودان الجديد بما في ذلك “وحدة السُّودان على أسُسٍ جديدة”، ولكن دون توضيح لما تعنيه هذه “الأسُس الجديدة”، بل مضى القرار إلى حثِّ حكومة الوحدة الوطنية على «اتخاذ كافة الإجراءات المنصوص عليها في اتفاقية السلام الشامل والدستور المُؤقت من أجل “ضمان” الوحدة والمصالحة بين شعب السودان من أجل تعزيز احترام التنوُّع السياسي والوئام العرقي والتسامُح الديني والعلاقات الأخويَّة بين جميع أبناء السُّودان». كانت هذه بالفعل إجراءات ضروريَّة كانت حكومة الوحدة الوطنيَّة، وهي حكومة يهيمن عليها شريكي الحُكم، المُؤتمر الوطني والحركة الشعبيَّة، ومُلزمة بتنفيذها كما نصَّت عليه اتفاقيَّة السَّلام الشامل والدُستُور القومي الانتقالي. ومع ذلك، كان من المُمكن أن تكون الحكومة مُقيَّدة فقط بتنفيذ هذه الالتزامات إذا كانت الحركة الشعبيَّة قد وضعت المسألة قيد البحث على رأس جدول أعمالها وعملت على مُمارسة الضغط على تلك الحكومة حتى تأخذ التزاماتها الدُّستُوريَّة على محمل الجد. ما كان مفقوداً أيضاً في القرار هو رسم خريطة للخُطة الخاصة بالحركة الشعبيَّة لإعادة بناء السُّودان على أُسُسٍ جديدة. كما حثَّ المُؤتمر قيادة الحركة على مضاعفة جهودها لتعزيز المُصالحة وتوطيد الوحدة بين أبناء جنوب السُّودان. أمران لفتا انتباه د. منصور في هذه القرارات، على حدِّ تعبيره: «أولاً، من خلال وضع مسئولية جعل وحدة السُّودان جاذبة بالكامل على عاتق المُؤتمر الوطني، مع قصر دور حكومة جنوب السُّودان على توطيد وحدة شعب جنوب السُّودان، فإنَّ الحركة لم تُنصِف نفسها ولا القضيَّة التي كانت تناضل من أجلها منذ عقدين من الزمان. إلى جانب ذلك، كانت الحركة مُلزمة بنفس القدر بموجب اتفاقيَّة السَّلام الشامل بالعمل على جعل وحدة السُّودان جاذبة، حيث لا يمكن تحقيق هذه الوحدة إلا من خلال عمل الطرفين في انسجامٍ تام. ثانياً، على الرغم من أن جعل وحدة السُّودان جاذبة أصبح واجباً على حكومة الوحدة الوطنية، بينما أصبح دور توحيد شعب جنوب السُّودان يقع على عاتق حكومة جنوب السُّودان، إلا أنه كان لا يزال من واجب الحركة الشّعبية، بصفتها الرائد بحكم مُشاركتها في الحكومتين، تحديد ما يجب أن تفعله هاتان الحكومتان، وتقييم ما حققه أعضاؤها داخلهما بشّكلٍ مُشّترك ومنفرد أو فشلوا في تحقيقه، وإنشاء آليات من شأنها ضمان التزام الأعضاء داخل الحكومتين بالمواقف الحزبية. وفوق كل شيء، شعر المنتمون إلى الحركة من خارج جنوب السُّودان بالفزع بسبب فشل المؤتمر العام في التعبير عن رسالةٍ سياسيةٍ متماسكةٍ تتناول، ليس فقط مُسّتقبل جنوب السُّودان بعد الاستفتاء، ولكن أيضاً مستقبل البلد بأكمله بعد الاستفتاء والفترة الانتقاليَّة. حتى لو أعطى المرء منفعة الشك لمُؤتمر الحركة الشعبيَّة لأنَّ المُؤتمر أصدر تعليمات لمجلس التحرير القومي للتفصيل في هذه القضايا، فسيكون من الصَّعب للغاية إيجاد عُذر للأمانة العامة للحركة التي فشلت في عقد اجتماع واحد لمجلس التحرير بعد المُؤتمر وحتى الاستفتاء، بل وحتى إعلان الاستقلال» (منصور خالد، نفس المصدر، 2015، ص 260). جبال النوبة والنيل الأزرق في حرب التحرير تحت عنوان “حرب الاستنزاف” في الكتاب، يتناول د. منصور علاقة جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق بالحركة الشعبيَّة واشتراك شعبي المنطقتين في حرب التحرير. فعلى الرَّغم من أنَّ جبال النوبة والنيل الأزرق هما جزأً من الشمال الجُغرافي، جنباً إلى جنب مع أبيي، إلَّا أنَّ تلك المناطق كانت غارقة في الحرب الأهليَّة الثانية في السُّودان عندما انضمَّت أعدادٌ كبيرة من أبنائهم وبناتهم إلى الحركة الشعبيَّة/الجيش الشعبي لتحرير السُّودان. وبالنظر إلى رُؤية الحركة التي تسلط الضُّوء في برنامجها السياسي على تهميش المناطق الريفيَّة في السُّودان من قبل مركزٍ مُهيمن، لم يكن مفاجئاً أنها قرَّرت وضع القضيَّة على رأس جدول أعمالها التفاوُضي. وكانت تلك المناطق التي تمتد عبر الحُدود بين الشمال والجنوب موطناً لشُعُوب النوبة المُتنوِّعة في جنوب كُردُفان والفونج في النيل الأزرق. فهُم كلا الشخصين مظالم جنوب السُّودان من خلال تجربتهما الخاصة. أصبح هؤُلاء الأشخاص الذين يعيشون على خط المُواجهة، في النزاع المُسّلح بين الحُكومة وجنوب السُّودان، عرضةً لأنواعٍ مختلفةٍ من القمع والبطش من قِبل حُكومة الخُرطوم، ممَّا جعلهم قابلين للالتحاق بالحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان. ومن المُفارقات، في الحرب الأهليَّة الأولى في السُّودان (1955-1972) كان جُنود النوبة يُمثلون العمود الفقري للجيش السُّوداني الذي يقاتل في جنوب السُّودان. نظراً لأنَّ الحرب الأهليَّة الأولى كانت تدور من أجل قضيَّة جنوبيَّة على وجه التحديد دون أي هدفٍ قومي، فقد كان من الصَّعب على محاربي جنوب السُّودان استمالة النوبة إلى جانبهم. وهكذا، عندما بدأت الحرب الأهليَّة الثانية، لم يكن التضامُن بين النوبة وجيرانهم الجنوبيين غائباً فحسب، بل كان هناك أيضاً شقاقٌ بينهم. ومع ذلك، فمنذ منتصف الستينيات فصاعداً، بدأ النشّطاء السياسِّيون من النوبة في تأكيد حُقوقهم ضدَّ الخُرطوم ودعوا إلى اللامركزية والعدالة الإقليميَّة. جَعّلهم ذلك أقرب إلى جنوب السُّودان في السَّاحة السياسيَّة، لا سيَّما في مختلف البرلمانات السُّودانيَّة حيث شكَّلت الجماعتان، إلى جانب البجا في شرق السُّودان والفور في غرب السُّودان، ائتلافاتٍ تطالب بلامركزيَّة نظام الحُكم والتوزيع العادل للموارد الطبيعيَّة. المظالم الأساسيَّة التي عبَّر عنها النوبة وشعب النيل الأزرق تتعلق بالأمن، واحترام الهُويَّة الثقافيَّة، والتهميش الاقتصادي، ويرمز الأخير بشّكلٍ رئيسي إلى مصادرة الأراضي. يقول د. منصور: «في حالة النوبة، جاء الإعلان عن هذه المظالم قبل حرب عام 1987 التي أشعلتها كتيبة البُركان التابعة للجيش الشعبي لتحرير السُّودان بقيادة يوسف كُوا مكي وعبدالعزيز آدم الحلو. في عام 1965، فاجأ النوبة النُخبة السياسيَّة النائمة في الخُرطوم بتشكيل الاتحاد العام لجبال النوبة بقيادة الأب فيليب عباس غابوش، وهو رجُلُ دين تحوَّل إلى سياسي. وكما هُو متوقعاً، كانت أجندة الاتحاد تدور حول التهميش الاجتماعي والاقتصادي. لكن مع استيلاء الجبهة الإسلاميَّة القوميَّة على الحُكم عام 1989، أخذ نمط التهميش مُنعطفاً نحو الأسوأ بإضافة عُنصُر الدين الذي انعكس في سياسة الجبهة الإسلاميَّة في الأسلمة القسريَّة. النوبة اسمٌ جماعي لما يقرُب من مائة مجموعة إثنيَّة، ولكُلٍ منها لغتها الخاصة. بينما تحوَّل بعض النوبة إلى الإسلام واعتنق البعض الآخر المسيحيَّة، استمرَّ عددٌ كبير في ممارسة الديانات الأفريقيَّة التقليديَّة. ومع ذلك، فإنَّ سياسات الجبهة لتدمير النسيج الثقافي للنوبة جعلت شباب النوبة ينجذبون بشكلٍ متزايد نحو الحركة الشعبيَّة/الجيش الشعبي لتحرير السُّودان. في الواقع، تشير روايات الإبادة الجماعيَّة التي اُرتُكِبَت ضدَّ النوبة إلى أنها أفظع من أعمال العُنف التي شُوهدت أثناء الصِّراع في دارفور. حشدت الخُرطوم ميليشيات إثنيَّة من القبائل العربيَّة، الحوازمة والمسيريَّة، لمهاجمة النوبة الذين عارضوا الجبهة الإسلاميَّة، واعتنقوا آراء الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان، أو حتى من يُشتبه في تعاطُفِهِم مع الحركة. وفي أبريل 1992، أصدر عُلماء الجبهة الإسلاميَّة فتوى تُعلن أنَّ المُسلمين الذين انضموا إلى الحركة الشعبيَّة يُعتبرون مُرتدِّين عن الإسلام. ولأنَّ اثنين من القيادات السياسيَّة للنوبة من المُسلمين (يوسف كُوَّة وعبدالعزيز الحلو)، لم يكن لدى الجبهة الإسلاميَّة أي وسيلة لإعلانهم أعداء للإسلام، لذلك اختارت شيطنتهم» (منصور خالد، نفس المصدر، 2015، ص 208). من ناحية أخرى، فإنَّ شُعُوب جنوب النيل الأزرق لديهم تاريخ مُعقد فيما يتعلق بكُلٍ من تكويناتهم الإثنيَّة وارتباطهم بالإسلام. ومع ذلك، فإنَّ معظمهم من المُسلمين منذ أن كانت أرضهم مهد أوَّل مملكة إسلاميَّة في شمال شرق السُّودان (مملكة الفونج). على الرغم من أنَّ عدداً من مجموعات السُكان الأصليَّة تشترك في ولاية النيل الأزرق، إلا أنَّ أكبرها وأكثرها هيمنة هي مجموعة الأنقسنا. وتشمل المجموعات الإثنيَّة الأخرى: برتا، بورون، قوموز، جمجام، وأودك، من بين آخرين. وبسبب رُؤيتهم قصيرة النظر وضيقة الأفق للسُّودان، ألحق المستعمرون جنوب النيل الأزرق، بغالبية سكان المنطقة المُسلمين، بجنوب السُّودان بموجب قوانين المناطق المقفولة (1914-1946)، والتي عزلت الشمال عن الجنوب تقريباً. جاءت هذه السياسة بنتائج عكسيَّة لأنها حكمت على المنطقة بتخلُّفٍ اقتصادي واجتماعي مُتزايد، حيث لم يُسمح لها بالاستفادة من الفُرص التي توفرها الخدمات المتقدِّمة نسبياً في التعليم والصحَّة المتوفرة في الشمال، والتعليم التي يُقدِّمه المُبشِّرون في جنوب السُّودان. ومن ثمَّ، عانت المنطقة على خُطوط المواجهة الأماميَّة للحرب الأهليَّة مع جنوب السُّودان قبل، وخاصةٍ بعد، وصول الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة إلى السُّلطة. في العُقود الأولى بعد الاستقلال، ظلت المنطقة هادئة وكان سُكَّانها، على عكس البجا والنوبة والفور، لم ينخرطوا في المقاومة ضدَّ الحكومة في الخُرطوم. امتثالهم للتأثيرات السياسيَّة من الخُرطوم واستجابتهم لها، جعلهم يحتضنون بانتظام المُرشحين البرلمانيين من وسط السُّودان للانتخابات في البرلمانات السُّودانيَّة المتعاقبة، مع أن بعض المُرشحين لم تطأ أقدامهم المنطقة قط. هذا هو السبب الذي جعل المُمثلين البرلمانيين عن منطقة النيل الأزرق يُسجِّلون غياباً واضحاً عن التحالُفات التي جمعت بين السُّودانيين الجنوبيين والنوبة والبجا وابدارفوريين في البرلمانات السُّودانيَّة خلال عقد الستينيات. فقط بعد ظهور الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان وتعبئة جبال النوبة خلفها، بدأ النشطاء السِّياسيُّون من المنطقة بقيادة مالك عقار ينخرطون في النضال المُسلح. نتيجة لذلك، منذ منتصف الثمنينيات من القرن الماضي فصاعداً، أصبحت مدينة الكُرمُك ذات القيمة الإستراتيجيَّة، على الحُدود مع إثيوبيا، مسرحاً عنيفاً للنزاع المُسلح بين الحركة الشعبية/ الجيش الشعبي وحكومة الخُرطوم وحُلفائهما. وعلى الرغم من ذلك، كانت مكافحة التمرُّد الوحشيَّة للحكومة ضدَّ السُكَّان المدنيين ، المُتهمين بالدعاية العرقيَّة والدينيَّة ، والتي ضمنت أنَّ شعوب جنوب النيل الأزرق يتجهون بشكلٍ مُتزايد إلى الحركة الشَّعبية/الجيش الشعبي لتحرير السُّودان والنضال الذي كان يقوده. حقق الجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان تقدماً عديداً في جنوب النيل الأزرق خلال الثمانينيات، ومرَّة أخرى، جنباً إلى جنب مع الحُلفاء في التجمُّع الوطني الدِّيمُقراطي، في أواخر التسعينيات. ففي عام 1987 سيطرت الحركة/الجيش الشعبي على الكُرمُك وقيسان والمناطق المحيطة بها، وهدَّدت خزان الرُوصيرص الحيوي استراتيجياً ومحطة الطاقة الكهرومائيَّة القريبة من عاصمة الولاية الدَّمازين. تنبُع أهميَّة المنطقتين، جنوب كُردُفان والنيل الأزرق، بجانب أبيي، للطرفين المُتنازعين، الحكومة والحركة، من عدة أسباب، من ضمنها: 1) تخطيها للحدود الشماليَّة – الجنوبيَّة، 2) شمولها لأراضي الرَّعي التي يستخدمها الرُّعاة على جانبي الحدود بين الشمال والجنوب، 3) ثرائها بالأراضي الزراعيَّة والتعدين (جبال النوبة والنيل الأزرق) والنفط في “أبيي”؛ و4) تمثيلها للخط الفاصل بين جيشين مُتواجهين: القُوَّات المسلَّحة السُّودانيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان. لكُلِّ هذه الأسباب، سعت الحركة الشعبيَّة منذ البداية إلى تمثيل مصالح المناطق الثلاث في جميع مفاوضات السَّلام مع الحُكومة، خاصة بعد أن اختارت تلك المناطق الانضمام إلى الحركة والجيش الشعبي.