يقول المفكر السوداني الإنساني محمود محمد طه صاحب مشروع الفهم الجديد للإسلام ، الذي هو، كما وصفه صاحبه، دعوة ومناصرة للمستضعفين، والمرأة، عنده، أكبر من استضعف في الأرض عبر التاريخ، ولا تزال، يقول: "التاريخ كله ضد المرأة، لكن عهدنا الجايي [القادم]، عنوانه المرأة" . حقاً لقد أصبحنا نشهد مع صباح كل يوم جديد تجسيد هذه المقولة، ليس كمبادرات فردية نظرية، مع الأهمية البالغة للمبادرات الفردية، وإنما في صورة عمل من أجل التغيير، تقوده المرأة، وهي تنشد الحرية، والإنصاف، والمساواة، وتدعو للقيام بواجب البناء الجماعي للأوطان والإنسان والسلام. فلقد كانت ثورة ديسمبر المجيدة التي اندلعت في السودان (19 ديسمبر 2018 - 11 أبريل 2019)، أنصع دليل على تجسيد تلك المقولة، فقد كانت المرأة السودانية عنواناً للثورة. استطاعت الثورة أن تغير أعتى نظام حكم (1989- 2019) كان جباراً ومستبداً، بيد أنها تنتظر فكرنة/ عقلنة المسار، الذي مِسبَره انصاف المرأة، لأنها صاحبة حق، فضلاً عن كونها أكبر مظهر للمجتمع الناهض، المنمى، في كمه وكيفه . لقد ظلت هذه المرأة الثائرة المستنيرة، والتي أصبحت عنواناً لثورات التغيير، ولا ريب في أنها ستكون عنواناً لعهدنا القادم بفوق مما نتصور، مكبلة بتشريعات ظالمة، ومقيدة بتقاليد بالية، ومحجمة بفهم ديني متخلف، ظل يحط من كرامتها، وينال من إنسانيتها، ويقزم من دورها العظيم والمتعاظم، الأمر الذي يجعل من واجب الأحرار، نساءً ورجالاً، العمل من أجل التحرير "حتى تنهض المرأة، وتتصرف كإنسان، لا كأنثى". يقيني إن هذا الكتاب الذي يجيء بعنوان: في سيرة المرأة الإنسان: الفكر والحياة الزوجية وخلق الجمال، هو من جنس العطاء العملي الذي يصب في تحرير المرأة، وتنمية الوعي، ويساهم بقوة في فكرنة الثورة وأشواق التغيير، وهو يقدم نموذجاً عملياً للمرأة الجديدة، المرأة الإنسان، عنوان عهدنا القادم. هذا الكتاب جديد في بابه وموضوعه، وجديد كذلك هو مؤلفه، وغريبة هي مرجعتيه الفكرية. فالمؤلف هو المهندس جبريل محمد الحسن، وموضوع الكتاب زوجه التومة عوض الشيخ عبد السيد، وكلاهما من الإخوان الجمهوريين، تلاميذ المفكر السوداني الإنساني محمود محمد طه. انتقلت التومة إلى الرفيق الأعلى يوم الثلاثاء غرة سبتمبر 2020، ليأتي زوجها جبريل وعبر هذا الكتاب، ليقدم لنا شهادته بكل تواضع عن زوجته التومة، ورحلة حياته معها، في رحاب أبيهما الروحي وأستاذهما محمود محمد طه، وهما من ثماره. قدم جبريل عبر هذا الكتاب العزاء، برؤية جديدة، لنفسه، ولبناته: فاطمة وآمنة ومنهل وصفاء، ولإخوانه الجمهوريين ولأخواته الجمهوريات، وللمرأة حيثما كانت. سكب ذاته في هذا الكتاب، وهو يحكي قصة تجسيده لمعنى السجود وهو داخل على باب المرأة، كما دعا لذلك أستاذه محمود محمد طه، كما ورد في صدر هذا الكتاب، فقد دعا، قائلاً: "هذا باب المرأة.. وهو باب نحب أن يدخله الداخلون سجداً، ذلك لأنه يعالج شأناً هو أخطر شئون الأرض على الإطلاق، وهو المرأة"، فعبَّر جبريل بنهج جديد عن احترامه، وحبه، وأدبه، وتحياته لزوجته التومة، وهي في برزخها العامر بإذن الله. جعل جبريل من سيرة زوجته كتاباً مفتوحاً لتعليم الأجيال، ودعوة مبثوثة إلى إنصاف المرأة، فقدم لنا نموذجاً عملياً للرجل الجديد، الذي يؤمن بكرامة المرأة وحريتها وإنسانيتها ومساواتها بالرجل، انطلاقاً من مرجعية الرسالة الثانية من الإسلام، فعاش ما يدعو له ويؤمن به مع زوجته، عملاً وفكراً وروحاً، لا مجازاً أو أحلاماً أو تمنيات. خاطب جبريل الرجال والنساء والأجيال الجديدة في مختلف الثقافات والبلدان، من خلال هذا الكتاب، متحدثاً لهم عن الحياة الزوجية في رحاب الرسالة الثانية من الإسلام، وقصة إعادة ميلاده وميلاد زوجته في معية الأستاذ محمود محمد طه. كما فصَّل في طبيعة شراكته مع زوجته، وسرد طرفاً من السيرة الفكرية لحياتهما. كتب داعياً إلى إكرام المرأة وإنصافها، ومنادياً بما عاشه مع زوجته ويعشيه الآن مع بناته، وظل يدعو له، وهو المساواة التامة بين النساء والرجال. دفع بهذا الكتاب ليُودَع في مجلد الحياة السودانية والإنسانية كذلك، وهو بمثابة الاحتفاء والإعزاز لزوجته، ففازت زوجته بأن كانت من الأوائل، إن لم تكن أول امرأة في السودان، على أقل تقدير، حسب علمي، يكتب عنها زوجها كتاباً، إكراماً لها، وتقديراً لتضحيتها، واعترافاً بفضلها، وإيمانا بدورها. وفي هذا كان جبريل متسقاً مع أستاذه محمود محمد طه، الذي لا تجاريه ثقافة أو ديانة أو تشريعات أو أي مفكر، في مناصرة المرأة وإكرامها، حسب علمي، وقد تجلى ذلك في مواقفه وكتاباته وأحاديثه. فعندما وضع وصيته يوم السبت 13 شعبان 1370ه الموافق 19 مايو 1951، وهو لايزال في اعتكافه بمدينة رفاعة، وسط السودان، كتب بخط يده في صدر الوصية، قائلاً: "هذه وصيتي، ووكيلي على تنفيذها زوجتي بعد الله" . ففازت زوجته آمنة محمد لطفي عبد الله (1925- السبت 31 مايو 2014) بتكريم للمرأة وتشريف لقدرها ومكانتها، لم أقف على مثيل له، حسب علمي، سواء في السودان أو العالم. وقد جاء هذا التكريم من ريف السودان في منتصف القرن العشرين من مبشر وداعية ومفكر، والمرأة وقتئذ، خاصة في السودان وبلاد الإسلام، مكبلة، بأسوأ من اليوم، بالتشريعات والقيود الاجتماعية، وبالإرث الذكوري، وبالفهم الديني المتخلف، ولا تزال. ليجيء جبريل اليوم، وبعد سبعين عاماً من وصية أستاذه، ليبعث تلك الوصية، وهو يجسد التكريم للمرأة عبر زوجته من خلال هذا الكتاب. تهيكل الكتاب في ثمانية فصول، ومقدمة وخاتمة، إلى جانب الملاحق والفهارس وقائمة بالمصادر والمراجع. تناول جبريل في الفصل الأول مرض التومة وملازمته لها منذ لحظات ظهور المرض في السعودية ومراحل علاجه فيها، وأشد أيام الابتلاء على التومة، ثم انتقالهما من أجل العلاج إلى مصر حيث توفيت، وحتى لحظات الوداع الأخيرة عند قبرها في مقابر حمد النيل بأم درمان في صبيحة يوم الجمعة 4 سبتمبر 2020. ووقف مع الموت عند الجمهوريين، الذي هو ميلاد جديد في حيز جديد، وقيمة الحزن النبيل، ومشاركة المرأة في صلاة الجنازة والدفن، ثم قدم طرفاً من تصور الفكرة الجمهورية للحياة في البرزخ، وأجاب عن سؤال جديد بإجابة قد تكون جديدة، أيضاً، لدى الكثير من الناس، والسؤال هو هل يعمل البرزخيون في برزخهم؟ ثم خصص الفصل الثاني عن رحلة التومة من حياة السائد والمألوف، ما عليه الناس، الرسالة الأولى من الإسلام، إلى حياة الفكر: في رحاب الفكرة الجمهورية، حيث الرسالة الثانية من الإسلام. روى قصة التزامها ومعيتها للأخوات الجمهوريات والإخوان الجهوريين، ومؤاخاة الأستاذ محمود محمد طه بينها وبين السيدة أمينة جعفر الطيب (1943- 2020) زوج الأستاذ عبد اللطيف عمر حسب الله (1933- 2015)، ومؤاخاتها كذلك مع السيدة سعاد سليمان (1964- 2020)، زوج الطيار محمد عبد الباقي، وتحدث عن مفهوم المؤاخاة في الفكرة الجمهورية. وأشار إلى نقد الأستاذ محمود محمد طه إلى عنوان كتاب: الإنسان روح لا جسد، وهو كتاب يتكون من ثلاثة أجزاء، أصدره الدكتور رؤوف عبيد (ت 1989)، ونشرت طبعته الثانية عام 1966، كما وقف جبريل عند عبارة "أعلم شيء في كل حي جسده". وتناول في الفصل الثالث "حياة الخلوة في السجن: الاعتقال بسجن كوبر"، فشرح مفهوم السجن عند الجمهوريين، وحكى قصة اعتقال الجمهوريين والجمهوريات، كما تحدث عن اللقاء بالسيد الصادق المهدي (1935- 2020) في المعتقل وإطلاق السراح. قدم في الفصل الخامس شهادته حول تفاني التومة في خدمة الاسرة، وتواضعها، وشجاعتها، وقوة ذاكرتها، وقوة الملاحظة، وغزارة معلوماتها المطبخية، ومنهجها في تربية بناتها، كما ضمَّن الكتاب شهادات بناته الأربع عن أمهن. وركز في الفصل السادس على زياراتهما للنبي الكريم في المدينة المنورة، وأتحف القراء بالحديث عن الأدب مع النبي الكريم في الفكرة الجمهورية. وحكي جبريل في الفصل السابع عن الزواج عند الجمهورين في المرحلة، وكرامة المرأة، ووقف عند إدخال الفكر في الحياة الزوجية، والفكر والزواج والسلوك، وتناول العاطفة باعتبارها وقود الفكر، وناقش مرتكزات العلاقة الزوجية الناضجة، وأجاب عن أسئلة عديدة منها، ما شروط العلاقة الزوجية الناضجة؟ وكيف تكون معاملة الزوجة؟ وما معنى المرأة مكانها البيت؟ وتناول العبادة والطاقة الجنسية مشيراً لمحاولة العُباد اخراج الشهوة من الجسد لتستقر في العقل. ووقف في الفصل الثامن عند مرجعية التكوين الصوفي عند التومة من خلال سيرة جدها الشيخ عبد السيد محمد بخيت (.......–1931)، وفصل في ذلك، وغشي تأييد الشيخ عبد السيد للفكرة الجمهورية من برزخه. وألحق بالكتاب نماذج من شهادات كتبت في حق التومة من صديقاتها، وهن من جنسيات مختلفة، أيام إقامتها بمدينة الرياض، بالمملكة العربية السعودية، فضلاً عن كتابات عنها كتبت بعد انتقالها. يؤرخ هذا الكتاب لطرف من المجتمع الجمهوري، الذي مثَّل الحاضنة الفكرية والتربوية لجبريل والتومة وأسرتهما. وهو مجتمع أقامه المفكر السوداني الإنساني محمود محمد طه وأخضعه لرعايته وتربيته، وقد طبق عليه وفيه أفكاره بعد أن عاشها أولاً. يتكوَّن المجتمع الجمهوري من الإخوان الجمهوريين والأخوات الجمهوريات، وقد جاء أعضاؤه من مختلف أنحاء السودان، ونشأ على هدى الرسالة الثانية من الإسلام، وقامت العلاقات فيه على تعاليمها. ولهذا فإن الانتماء له والفاعلية فيه مسؤولية، وتترتب عليه واجبات، ويتطلب استحقاقاً، يكون بالمجهود الفرد، وفقاً للرسالة الثانية من الإسلام، من أجل إحراز الكمالات الفردية. لقد التقى جبريل المولود في مدينة كسلا بشرق السودان، وقد أصبح جمهورياً عام 1972، بالتومة المولودة في مدينة ود مدني، بوسط السودان، والتي أصبحت جمهورية عام 1974، في رحاب المجتمع الجمهوري، وتزوجا وفقاً لتعاليمه المرحلية في الزواج، والتي تقوم على مشروع صدر في كتاب بعنوان: خطوة نحو الزواج في الإسلام، (1971). وهو كتاب مستمد ومستند على الشريعة الإسلامية السلفية، ولم يخرج عنها، إلا أنه خرج عن السائد وعما ألف الناس من هذه الشريعة. وقد كشف الجمهوريون من خلاله عن مؤامرة صمت المعنيين من المختصين والفقهاء والقضاة الشرعيين عن حقوق المرأة وكرامتها. والمشروع يسعى لإعادة تكوين الأسرة على الكرامة، فالأسرة هي المجتمع الأول، والفرد، امرأة أو رجل، دوماً هو الأصل، والمرأة هي الأحق بالكرامة، كونها تنجب وتربي الأبناء والبنات، ولهذا فإن شروط الزواج فيه تقوم على إعادة بعض الكرامة للمرأة، بنيلها حق الموافقة على شريكها، وحق الطلاق، حيث يجب أن تكون العصمة بيد المرأة، كما هي بيد الرجل، ولها الحق في رفض التعدد عليها بعدم إشراك امرأة أخرى معها في زوجها إلا برضائها وتحت ظروف قاهرة. وتثبت هذه الشروط في وثيقة تعاقد الزواج، وتلزم الطرفين قضاءً، لحماية هذا الزواج والمؤسسة الأسرية، وقد فصَّل جبريل في الحديث عن مشروع خطوة نحو الزواج في الإسلام، الذي يمثل خطوة انتقالية ضرورية، للاستعداد لدخول عهد كرامة الرجل، وكرامة المرأة، كما يقول الأستاذ محمود محمد طه، تلك الكرامة التي يدخرها الإسلام للرجال، والنساء، والأطفال، في جميع مناشط حياتهم، والتي ستظهر جلياً في كتاب: تطوير شريعة الأحوال الشخصية (1971)، حيث الزواج وفقاً لشريعة الأصـول (آيات الأصول، الآيات المكية)، وهي مستوى الرسالة الثانية من الإسلام. قدم الجمهوريون عبر التطبيق العملي لمشروع خطوة نحو الزواج في الإسلام في المجتمع الجمهوري، نموذجاً عملياً للمرأة العصرية، كما هي التومة، التي بيدها حق العصمة والطلاق ورفض التعدد، كما أصبح المجتمع الجمهوري مرجعاً في هذه التجربة الجديدة والفريدة، وغيرها من التجارب في تنمية المجتمع وتحرير الفرد. ينطوي المجتمع الجمهوري، الذي مثَّل الحاضنة للتومة وجبريل، على الكثير من المعاني والقيم الإنسانية، فهو ميدان فريد لتطبيق تعاليم الرسالة الثانية من الإسلام. ولا تزال ثمار ذلك التطبيق لتلك التعاليم تتدفق وتتجلى جمالاً، وهي تنتظر منا الدراسة والتحليل حتى نسترشد ونهتدي بها. أذكر أنني كنت أتحدث في محاضرة عن كتاب: محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان (2021)، مع التركيز على الفصل السابع منه وهو بعنوان: " المرأة أكبر من هُمش في الأرض"، عبر تطبيق زووم على منصة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن زُهر، المغرب، في إطار درس سوسيولوجيا النوع الاجتماعي، الذي تُشرف عليه الدكتورة كنزة القاسمي، رئيسة قسم علم الاجتماع بالجامعة. وتطرقت في حديثي إلى شروط الزواج في مشروع خطوة نحو الزواج في الإسلام، وعددت الشروط، وكان من بينها، كما ورد آنفاً، يجب أن يكون حق العصمة بيد المرأة، كما هو بيد الرجل، حتى لا يستأثر بها أحدهما. وبعد فتح فرص النقاش. قالت إحدى الحاضرات هل تعتقد أن المرأة إذا أعطيت لها العصمة هل ستقبل بها؟ وكيف ستكون النتائج والعواقب؟ فالمرأة حينما تعطى حق العصمة فأننا لا نستطيع أن نضمن نتائجه إذا ما تم تطبيقه. كان هذا هو معنى وملخص السؤال. وعندما أتيت للإجابة على هذا السؤال، لم أذهب بعيداً، فقد أسعفني المجتمع الجمهوري بالإجابة الوافية والعلمية والعملية، وقلت في الإجابة إن شروط الزواج في مشروع خطوة نحو الزواج في الإسلام، ليست طرحاً نظرياً، وإنما طرح عملي تم تطبيقه منذ العام 1971، ولدينا الآن الأخوات الجمهوريات في السودان تزوجن وفقاً لهذا المشروع، وبيدهن العصمة، كما هي لدى أزواجهن الجمهوريين. هذا من حيث إمكانية التطبيق، أما من حيث العواقب والنتائج للتطبيق، فحسب علمي، فإن الزيجات الجمهورية اتسمت بالاستقرار وتدفق الجمال. وما يؤكد ذلك، حسب علمي، أن جل الأخوات الجمهوريات ظللن يحرصن على زواج بناتهن، حتى اليوم، وفقاً لشروط المشروع آنفة الذكر، وظل جل الإخوان الجمهوريين كذلك يحرصون على استيفاء تلك الشروط في زواج بناتهم، فالتطبيق للمشروع لا يزال مستمراً. وهنا، وحتى يكتسب الأمر العلمية المطلوبة والدقة اللازمة، وحتى تكتمل إجابتي من واقع التجربة، فإنني أستميح القراء والقارئات عذراً، بأن أوجه الدعوة لأحد الباحثين أو إحدى الباحثات للقيام بدراسة عن هذا الموضوع، الذي تساءلت عنه الأستاذة في المحاضرة آنفة الذكر، حتى نقف وفقاً للدراسة العلمية على عواقب حق العصمة حينما يكون بيد المرأة، وانعكاس ذلك على العلاقة بين المرأة والرجل، وكيف تعاطت المرأة مع نيليها لحق العصمة؟ وكيف قابل الرجل تلك الشراكة في العصمة مع المرأة؟ وما مدى الأثر على استقرار الزواج والأسرة؟ وما هو موقف المجتمع السوداني منها؟ وما مدى التزام الأزواج بتلك الشروط من حيث الطلاق وتعدد الزوجات؟ وهل هناك حالات استفادت منها المرأة في تطبيق حق العصمة؟ وغيرها من الأسئلة، وبالطبع سيكون المجتمع الجمهوري هو ميدان الدراسة، كون الأعضاء فيه ظلوا يطبقون مشروع خطوة نحو الزواج في الإسلام، وبما اشتمل عليه من شروط على مدى نصف قرن من الزمان، ولا يزال. على الرغم من أن هذا الكتاب هو أول كتاب يصدره جبريل، إلا أن جبريل ليس غريباً على الفضاء الثقافي والفكري في السودان، فإلى جانب نشره العديد من المقالات، فقد كان من كبار الإخوان الجمهوريين الذين قادوا الحوار في أكبر تجربة منابر ميدانية حرة من أجل تنمية الوعي والتوعية الشعبية وخدمة التنوير شهدها السودان، وقد عرفت بأركان النقاش. فلقد ابتدع الجمهوريون أركان النقاش ولأول مرة في تاريخ السودان، وكانت تقام في الهواء الطلق، واتخذوها كآلية من آليات التعريف بمشروع الفهم الجديد للإسلام واتاحة الحوار حوله. تتلخص فكرة أركان النقاش في أن الناس يكونون في حلقة من أجل الحوار الذي يشارك فيه الجميع بحرية، ويترأس الحلقة متحدث أو متحدثة، وهو المبتدر للنقاش والمجيب عن أسئلة الحضور. بدأ الجمهوريون أركان النقاش أول مرة بجامعة الخرطوم في العام 1972 ثم شهد العام 1974 البداية الفعلية حيث أصبح لركن النقاش مكان وزمان معلومين. انتقلت التجربة بعد ذلك إلى الجامعات والمعاهد والمدارس، ومن ثم إلى الطرقات والميادين العامة وساحات الأسواق والحدائق العامة والأحياء في مدن العاصمة الثلاث: الخرطوم، بحري، أم درمان، ثم إلى مدن أخرى في السودان. كما أقام الجمهوريون أركان نقاش خارج السودان (على سبيل المثال في هايد بارك Hyde Park، لندن). لقد كانت المرأة الجمهورية حاضرة وبقوة في هذه المنابر الحرة. لقد وصف الأستاذ محمود محمد طه فكرة المنابر الحرة مشيراً لدور المرأة فيها، قائلاً: "هذه الفكرة وهذه الظاهرة، ظاهرة المنابر الحرة، جديدة كل الجدة وبخاصة عندما نعتبر أن الحوار في الدين تجريه الفتاة السودانية في هذه المنابر الحرة" . دخلت النساء الجمهوريات، كما يقول الأستاذ محمود محمد طه: "ليقومن بالمنابر في المدن الواحدة تقف في وسط الحلقة وتناقش الناس بعلم في الدين في السياسة في الاقتصاد، وتنهض بحجتها وقوة عارضتها وبيانها حتى يهرب الرجال من مواجهتها يهربوا إلى الشغب في وشها [وجهها] عشان [حتى] ما تُبَيِّن ما يكشف جهلهم هم. فالمنابر هذه ما حصلت في التاريخ" . من المهم الإشارة إلى أنه وعلى الرغم من أن أركان النقاش بدأت في السبعينات من القرن الماضي، إلا أن مصطلح ركن النقاش في الفكر الجمهوري يعود إلى الخمسينات من القرن الماضي. فقد أقام الأستاذ محمود محمد طه، كما أوردت صحيفة أنباء السودان، في مايو 1958، "ركن نقاش" تحدث فيه عن الموقف السياسي الراهن في الخارج والداخل، وذلك بدار الحزب الجمهوري بمدينة مدني . أيضاً، وفي إطار نشاط الحزب الجمهوري في الخمسينات من القرن الماضي، والذي كان رئيسه محمود محمد طه، أوردت صحيفة الاستقلال، بأن الأستاذ ذا النون جبارة الطيب (1918- 1974) أقام "ركن نقاش" عن مشكلة الجنوب بنادي العمال بالخرطوم، وذلك في 20 سبتمبر 1955م . كان الأستاذ ذا النون عضواً بالحزب الجمهوري منذ أربعينات القرن الماضي، ثم سافر إلى السعودية فمصر، وبعد عودته من مصر عام 1954 واصل نشاطه في الحزب الجمهوري، ثم أصبح سكرتيراً للجان الفرعية بالحزب . كان جبريل من أولئك الذين قادوا الحوار حول مشروع الفهم الجديد للإسلام في أركان النقاش، إذ كان لديه ركن نقاش ثابت ويومي بمدينة الخرطوم بحري (تحت عمارة إبراهيم طلب حولي الساعة 6:30- 8:30 مساء)، كما كان يقدم أركان نقاش بجامعة الخرطوم في أحيان مختلفة. ساهم جبريل، كما هو حال الإخوان الجمهوريين والأخوات الجمهوريات، من خلال أركان النقاش، في الحوار حول قضايا الفكر والسياسة والاقتصاد، وفي نشر الوعي الديني الصحيح، المنطلق من مشروع الفهم الجديد للإسلام، وقاد المصاهلات الفكرية حول ذلك، كما ساهم في دفع حركة التوعية الشعبية، وإشاعة روح الحوار بين أفراد الشعب، فضلاً عن تسييل القيم الإنسانية والوطنية. لقد توقف جبريل عن المشاركة في أركان النقاش مع توقف الجمهوريين عنها بعد تجسيد أستاذهم المفكر السوداني الإنساني محمود محمد طه لمعارفه على منصة الإعدام في صبيحة الجمعة 18 يناير 1985. لا جدال في أن أركان النقاش قدمت إسهاماً عظيماً في التوعية والتنوير في الفضاء السوداني، فلقد كانت بمثابة الجامعة الشعبية، اتاحت فرص الحوار الحر في الهواء الطلق بين الأستاذات والأساتذة والطالبات والطلاب جنباً إلى جنب مع غمار الناس. وفي هذا فقد ساهمت أركان النقاش في تحرير الفضاء السوداني من الإرث الاستعماري والذي يتجلى في صفوية مزاج المثقفين، وانقطاعهم عن الواقع وعن إقامة الحوار بالشراكة غمار الناس. فلقد تعلم الكثير من الناس من أركان النقاش، وقد شهد بذلك عدد من المثقفين السودانيين، ولا يزال تأثيرها حاضراً حتى تاريخ اليوم، سواء فيما تعلمه الناس منها، أو في استمرار هذه السنة التنويرية الجديدة الفريدة في السودان حتى تاريخ اليوم. يعود جبريل مرة ثانية، بعد توقف دام نحو (36) عاماً عن الحديث في أركان النقاش، ليدعو، عبر التطبيق العملي لما ظل يدعو له نظرياً، الشعب السوداني، وشعوب الإسلام والإنسانية جمعاء، فيقدم هذا الكتاب، هدية بالشراكة مع زوجته التومة من برزخها العامر، إلى كنداكات ثورة ديسمبر المجيدة، وإلى بناتهما الأربع، وإلى المرأة الجمهورية، وإلى المرأة حيثما كانت، وإلى الرجال حيثما كانوا، وإلى الشباب والشابات من الأجيال الجديدة، وإلى الأجيال القادمة، ولسان حالهما يقول إن هذا الكتاب هو قصة حياتنا الزوجية بمعية أبينا وأستاذنا محمود محمد طه في رحاب الرسالة الثانية من الإسلام، التي هي المعين الصافي لحياة الكرامة والعزة للنساء والرجال على السواء، وهي السبيل كذلك لخلق الجمال في النفس والمحيط. في تقديري إن هذا الكتاب، وهو يقدم نموذجاً تطبيقياً لإدخال الفكر في الحياة الزوجية بما يحقق إعادة بناء الأسرة على الكرامة، يُعد مصدراً من مصادر الفكرة الجمهورية، ويمثل إضافة حقيقة للمكتبة السودانية والإسلامية والعربية. فهو، في تقديري، يؤرخ لثورة في عالم المرأة فجرها في السودان دعاتها الإخوان الجمهوريون والأخوات الجمهوريات، انطلاقاً من الرسالة الثانية من الإسلام. كما قدم صورة حية للتطبيق العملي لتلك الثورة ومبادئها، مصحوبة بشهادة في حق دعاتها، الإخوان الجمهوريين والأخوات الجمهوريات، كيف أنهم، بشأن حقوق المرأة، ظلوا يعيشون ما يقولون، ويطبقون ما يدعون إليه. كذلك مثَّل الكتاب آلية جديدة للدعوة للرسالة الثانية من الإسلام، حيث الدعوة عبر التجسيد للأفكار والمعارف، لنقف أمام نموذج الرجل الجديد، الرجل الجمهوري، وهو يدلو بشهادته في حق زوجته، المرأة الجمهورية، ويقيني أنها هي المرأة الجديدة، المرأة الإنسان. ختاماً لقد اتصلت أسباب هذا الكتاب بي، كما أشار المؤلف في مقدمته، والواقع أنه يجمعني مع جبريل والتومة نسب فكري وروحي، وقد ظل التواصل بيننا هاتفياً، وتوج باللقاء الحسي مع جبريل، غير أني لم ألتق بالتومة حسياً. كانت آخر محادثة تلفونية بيننا، هي على فراش المرض في القاهرة، وأنا في مدينة كالجاري، بكندا. وعلى الرغم من اشتداد المرض عليها، شهدت وتابعت معنا، جبريل وشخصي، ندوة كانت نظمتها الجامعة المستنصرية، بغداد، بالتعاون مع الجامعة الأمريكية في بيروت، على منصتها الإلكترونية الدولية، حول مشروع الفهم الجديد للإسلام للمفكر السوداني محمود محمد طه (قراءة في ضوء العلوم الاجتماعية)، وذلك في 2 يوليو 2020. وقد كنت متحدثاً فيها مع آخرين، وكان جبريل من المعقبين على الندوة ضمن آخرين . وعلى الرغم من اشتداد المرض عليها، إلا أنها تابعت الندوة كأنها من الأصحاء. كما تابعت معنا إعدادي وإرسالي لخمس رسائل كانت إلى الأزهر، مصر، ورابطة العالم الإسلامي، وجامعة أم القرى، بالمملكة العربية السعودية، وجامعة أم درمان الإسلامية، السودان، ووزير الشؤون الدينية والأوقاف، السودان. وعندما هاتفها، لم تكن مشغولة بمرضها الذي كان في مراحله الأخيرة، وإنما كانت تتحدث عن الندوة والرسائل وعن الفكرة الجمهورية، ليست كالمريضة وإنما كالداعية في أقوى وأفصح حالاتها، وهي تقول لي: الفكرة الجمهورية هي خير الدينا والآخرة، وليس هناك سواها. كنت أستمع لها بنهم، وهي في أشد حالات المرض، غير أني لم أر تحدياً للمرض وقدرة على تجاوزه، مثل الذي كان لدى التومة. أكثر ما أحزنني، حزناً نبيلاً، أنني كنت قد نويت مغادرة كندا إلى قطر حيث أعمل، عبر مدينة القاهرة، حتى التقى بالتومة وجبريل، فإذا بجبريل ينقل لي خبر انتقالها إلى الرفيق الأعلى. إني أرجو أن يكون هذا التقديم بمثابة تحية لروحها في عليائها، واحتفاء بفضل معرفتها، ومعرفة جبريل، التي أتيحت لي، ووفاء لتلك الحالة التي تركتني عليها مع آخر محادثة تلفونية بيننا. فلقد ظل صوتها مصنفاً في ذاكرتي، ولا تزال كلماتها تدثرني وتمدني بالكثير من المعاني والدلالات والمضامين. وها هي تمنحني من برزخها العامر وبالشراكة مع جبريل، الفرصة لتطهير نفسي وعقلي وجسدي وروحي، من خلال كتابة هذا التقديم.
عبد الله الفكي البشير الدوحة، دولة قطر الثلاثاء 4 مايو 2021