العودة لمنصة التأسيس على “مركب على الله” !! قبل الاصطفاف للجولة الثالثة
عز الدين صغيرون
29 May, 2021
29 May, 2021
منذ وقت ليس بالقصير من توصل الثوار إلى قناعة مؤكدة بفشل جميع مكونات السلطة الانتقالية وعجزها عن تحقيق الحد الأدنى من أهداف الثورة التي بهرت العالم تعالت الأصوات التي تنادي بالاصطفاف لخوض الجولة الثالثة في مواجهة النظام الإسلاموي. وأعلى الأصوات كانت تلك التي تدعو للعودة لمنصة تأسيس الثورة والانطلاق منها لتصحيح المسار.
بالنسبة لي تمثل هذه الدعوة قمة الإفلاس السياسي، ودليل قاطع على عقم الخيال الثوري، بغض النظر عن طبيعة النوايا. لأن هذه الدعوة تتجاهل، أو تغفل عدة تغييرات طرأت على المشهد السياسي وفي المعطيات التي قادتنا إلى هذا النفق المظلم والطريق المغلق. والمنطق العقلاني يقول بأن تكرار وإعادة تكرار نفس التجربة مع توقع نتائج مختلفة غباء مطبق، إذ يفترض قبل تكرار التجربة الفاشلة أن يتم تغيير موازين المعادلة بين أطراف القوى، وأن تتم مراجعة أسباب الفشل ومعالجتها.
(2)
وتستطيع عبر طرح عدد من الأسئلة أن تكتشف عبثية وعدم جدوى هذه العودة لمنصة التأسيس:
- هل تغيرت القوى السياسية المدنية بكل مكوناتها، والقوى العسكرية بجناحيها الرسمي وحركات ساحات الخرطوم المسلحة، وهي التي تقود قاطرة الفشل هذه؟.
- ما الذي تغير في رؤية ومواقف وممارسات هذه القوى حتى نأمل في تغيير الواقع ؟.
فإذا كانت النخب التي ظلت تقود قاطرة الثورة من محطة فشل إلى محطة فشل أخرى هي نفسها ...
وإذا كانت رؤيتها للثورة كـ"غنيمة" وأسلاب، وفرصة للقفز على مقعد السلطة والسيطرة بالتآمر والتحايل والخداع هي نفسها..
أفلا تكون العودة لمنصة التأسيس في ظل المعطيات نفسها، إعادة تدوير لعملية الفشل، وإعادة إنتاج لنفس مخرجاتها ؟.
(3)
على جانبي هذه العودة لمنصة التأسيس تُطرح حلول – لا تقلّ تزييفاً – كأهداف إجرائية لتحقيق مطلوبات الثورة، تتلخص في:
- الانتقال الديمقراطي.
- تكوين المجلس التشريعي.
- إجراء الانتخابات.
ولتجنب المماحكات يمكنك القول أن الانتقال الديمقراطي يمر عبر محطتي تكوين المجلس التشريعي كسلطة تشريعية انتقالية، في ظلها تُجرى انتخابات حرة، بها تكتمل عملية الانتقال الديمقراطي، وتنتهي (الحدوته).
واليوم (الاثنين 17 مايو 2021) يُعقد في باريس مؤتمر لدعم الاقتصاد السوداني تحت لافتة تحقيق "الانتقال الديمقراطي". أي أن القوى الدولية المتنفذة الكبرى تبارك وتدعم هذا التوجه. ما يدعو للتساؤل حول دورها وأهدافها غير المعلنة.
وهنا الفخ الذي سقط، وظل يسقط في حبائل شراكه الجميع عبر تاريخنا الحديث والمعاصر. فبعد إسقاط الحكم العسكري الأول في أكتوبر 1964، وبعد إسقاط ديكتاتورية جعفر نميري في مارس/ أبريل 1985 رفعت القوى السياسية نفس هذه المطلوبات الثلاث على اعتبار أنها ستؤسس نظاماً سياسياً تتحقق فيه الدولة الديمقراطية المستدامة.
فما الذي حدث ؟.
لقد حدث في التجربتين السابقتين نفس ما يحدث الآن بعد أن نجحت قوى الثورة الحيَّة في الإطاحة بالديكتاتورية الثالثة !.
إذ سرعان ما تم رفع المطلوبات الثلاث التي أشرنا إليها والتعامل معها وكأنها غاية الثورة وهدفها النهائي.
بل وحتى هذه المطلوبات تم رميها في القمامة وانهمكت مكونات القوى السياسية والنخب الاجتماعية والثقافية في صراع وجودي انتحاري بينها على السلطة والمكاسب الذاتية الأنانية. وأسقطت في صراعها هذه المطلوبات، وأسقطت معها الديمقراطية الوليدة، ويعود بعدها الشعب إلى مربع انقلاب عسكري وديكتاتورية جديدة، تتكئ في إحكام سيطرتها على تحالف بعض هذه القوى ذاتها، مع الكاكي الذي لم يكن له من فضل في إجهاض التجربة الديمقراطية أكثر مما للأحزاب والنخب التي تحالفت معه، أو ضده.
(4)
والجديد في هذه الثورة الأخيرة أن بعض بقايا النظام الذي تمت الإطاحة به لم يتم اقتلاعها من مفاصل الدولة، وفي أكثر قطاعاتها حساسية وخطورة، ونعني القطاع العسكري والأمني وقطاع الخدمة المدنية في مؤسسات الدولة الحكومية، وقطاع المال والأعمال في القطاعين الخاص والطوعي غير الربحي. بل أكثر من ذلك، أن بقايا النظام الإسلاموي تحكم قبضتها بشكل مطلق في المؤسسات الأمنية والعسكرية، ومن خلالها تكاد تحتكر إدارة الفترة الانتقالية. وهي لن تسمح بقيام دولة مدنية ديمقراطية بأي حال من الأحوال. لأن قاعة محكمة لاهاي تنتظر كل من يثبت تورطه في الجرائم التي ارتكبت ليس خلال سنوات الإنقاذ الغبراء بل حتى من أجرموا بعد زواله.
وما تراه الآن من استخذاء القيادات العسكرية في مجلسهم العسكري وفي مجلس السيادة، ومن ضعف واستكانة وتذلل لأمريكا لإسرائيل ومحاولة إرضائهما حتى لو كان الثمن تسليمهم البلد كله، ما هو إلا هروب للأمام طلباً للنجاة الشخصية، والتشبث بالسلطة بأي شكلٍ كان. ويحسبون أنهم سينجون بما كسبت أيديهم من آثام.
وينسون في هذه الهرولة المجنونة أن أمريكا هذه سبق ونفضت يديها من أقوى حليفيها وعميليها في المنطقة: الشاه محمد رضا بهلوي في إيران، والرئيس محمد أنور السادات في مصر، ولم تستطع أن تنقذهما لا من غضب الشعب الإيراني، ولا من غضب وغدر الإسلامويون في مصر. وهم الذين تحالف معهم السادات مستنصراً بهم ضد الناصريين والقوميين العرب واليساريين، فضربت (طناش) عنهما أمريكا.
فمات الشاه في مصر لاجئاً عند السادات بعد أن رفضته أمريكا لاجئاً، ومات السادات مقتولاً بيد حلفائه.
وتلك من آيات التاريخ التي لا يغفل عنها إلا من كان أعمى فهم وبصيرة.
(5)
في ظل هذه المعطيات تبدو البيانات التي تدعو لإسقاط الحكومة والعودة لمنصة تأسيس الثورة كما لو كانت صادرة من صبية يمارسون أحلام اليقظة، تفتقر إلى الموضوعية والمسؤولية ولا يمكن التعامل معها بجدية. وأوضح ما يكشف عبثية هذا النوع من الطرح السياسي آخر بيان أو تصريح للحزب الشيوعي يؤكد فيه بأن الدعوة لإسقاط الحكومة مفتوحة (هكذا!).
لم يحدد أي كان من هؤلاء الدعاة أي مرحلة من مراحل الثورة يمكن الانطلاق منها كنقطة تأسيس؟.
هل ينطلق الناس من مرحلة المطالب والاحتجاجات الاقتصادية والمعيشية التي بدأت من القضارف وعطبرة؟.
أم نبدأ من محطة الاعتصام أمام القيادة العامة؟.
أم نؤسس لحراكنا الثوري انطلاقاً من جريمة فض الاعتصام؟
أم ندع كل أولئك، لننطلق من لحظة تحرك طوفان الجماهير الذي أعقب المجزرة وأطاح بابن عوف كمنصة للانطلاق؟.
أم نعود بعقارب الساعة إلى الجلسات المتطاولة بين المجلس العسكري وتحالف المدنيين، وما تمخض عنها من وثيقة دستورية؟.
أم نعتبر الوثيقة ذاتها منصة انطلاق للجولة الثالثة في مشوار الثورة؟.
لا أحد يحدد لك المنصة التي يجب أن ننطلق منها. رغم أن تحديد نقطة الانطلاق هو الذي سيحدد لك الأهداف وخارطة الطريق والبرامج.
(يلاكم نطلع الشارع والله بحلها) هكذا يقول لسان حال دعوى الخروج للتظاهر، والعودة لمنصة التأسيس وإسقاط الحكومة، بهذه العشوائية الفطيرة.
(6)
صحيح أن شرارة الثورة تنطلق بعفوية، تلتف فيها كل قوى المجتمع حول مطلب بسيط. ولكن هذه الجماهير نفسها تقوم أثناء معارك الفعل الثوري بإفراز قياداتها الميدانية، وتنظيم حراكها، بإعداد حزمة مطالب وأهداف أكثر جذرية، تستهدف إعادة تأسيس النظام السياسي برمته، (يقطع دابر) المظالم كافة ويقيم نظاماً جديداً يحقق حلم الناس بدولة الحرية والعدالة والرفاه للجميع.
والحال أن من يطلقون هذا النداء يتغافلون عن أن الشارع الآن، لم يعُد الشارع الذي كان عليه فجر انطلاق الثورة عام 2018 وما بعدها إلى لحظة التوقيع على الوثيقة الدستورية وتقاسم السلطة بين المكونات التي وقعت على الوثيقة.
فهناك الآن أكثر من شارع وفصيل، اختلط حابل أصيلها بنابل مزيفها وباطلها، وكلهم يدعي حبه لليلى، وانتماءه للثورة (التي كانت) بالأمس.
بل وصل بنا الحال أن رأينا (الكيزان ذاتهم) صاروا فصيلاً من فصائل الثورة، يرفعون شعاراتها (حرية سلام وعدالة) التي صارت (قميص عثمان) يرفعه كل طامع في السلطة.
دع عنك (على جنب) خطب حميدتي قائد مليشيا الجنجويد التي ارتكبت مجزرة فض الاعتصام، بمشاركة جيش اللجنة الأمنية، أو بتواطؤه، أو بعلمه (ما فارقة كتير). حميدتي الذي ما دعي إلى وليمة أو افطار رمضاني أو جماعة متناثرة من جماعات الإدارة الأهلية إلا وتحدث ناصحاً ومحذراً من التشتت والفرقة والخيانة وفتنة (الطابور الخامس) المندس بين الثوريين الذي سيقودنا إلى فزَّاعة ما حدث ويحدث في ليبيا وسوريا !!.
(7)
- فهل راجع من يروجون للعودة لمنصة التأسيس مواقفهم – ولا نقول نقدهم الذاتي – ودورهم في (فركشة) التجمع المدني وتشتيت قواه بمواقفهم المريبة؟.
- وهل حدد لنا أصحاب هذه الدعوة ما هي القوى التي ستقوم بهذه المهمة، وهل هي جاهزة لها؟.
- هل تواصلوا مع تنسيقيات لجان المقومة في كل الولايات والأحياء والتنسيق معهم بعد الاستماع إليهم، وهم في الواقع (أصحاب جتة الثورة ورأسها)، وأحق من جميع الذين يحتلون مقاعدها الأمامية بالكلام النهائي والرأي القاطع؟.
- هل حددوا موقفهم من قوى الثورة المضادة داخل السلطة الانتقالية/ شركاؤهم؟. هل تواصلوا معهم وطرحوا بشفافية رؤيتهم وموقفهم لهم. ومعرفة من سينضم إليهم ومن سيكون ضدهم؟.
- وما هي أهداف، وخارطة طريق، وبرامج الجولة الثالثة في مواجهة دولة الإسلامويين، وتأسيس الدولة البديلة.
- وهل تم التوافق بين جميع قوى الثورة الحيَّة على أسس هذه الدولة؟
- هل حددوا التكلفة المتوقعة لهذه العودة، أم أن كل المسألة هي الرجوع للمربع الأول كمغامرة عدمية (والباقي على الله)؟.
تباً لهذا النوع من العقليات، وسحقاً لأفكارها العبثية اللامسؤولة.
آخر الكلام
يتصدر المشهد الانتقالي بعد الثورة، ويحتكر الكلام باسمها أمثال البرهان وكباشي وعقد لجنة البشير الفريد، وحميدتي، والأحزاب بما فيها الحزب الشيوعي، ومناوي والكوز جبريل وكافة حركات ساحات الخرطوم المسلحة. بينما يجلس صامتون في مقاعد المتفرجين من فتحوا صدورهم عارية للرصاص وتّرسوا الشوارع وماتوا أمام تروسهم صامدين، من ناموا وصحوا معتصمين، وتبادلوا الحوار والأفكار والأشعار، ومن تقاسموا (الجغمة واللقمة) وما في الخاطر والجيب، وتقاسموا الأغنية والهتاف، والضحكة والدمعة ...!!.
أي عدل؟ أي عقل؟ أي أمة نحن ؟!! .
مالكم، كيف تحكمون ؟؟!!.
izzeddin9@gmail.com
بالنسبة لي تمثل هذه الدعوة قمة الإفلاس السياسي، ودليل قاطع على عقم الخيال الثوري، بغض النظر عن طبيعة النوايا. لأن هذه الدعوة تتجاهل، أو تغفل عدة تغييرات طرأت على المشهد السياسي وفي المعطيات التي قادتنا إلى هذا النفق المظلم والطريق المغلق. والمنطق العقلاني يقول بأن تكرار وإعادة تكرار نفس التجربة مع توقع نتائج مختلفة غباء مطبق، إذ يفترض قبل تكرار التجربة الفاشلة أن يتم تغيير موازين المعادلة بين أطراف القوى، وأن تتم مراجعة أسباب الفشل ومعالجتها.
(2)
وتستطيع عبر طرح عدد من الأسئلة أن تكتشف عبثية وعدم جدوى هذه العودة لمنصة التأسيس:
- هل تغيرت القوى السياسية المدنية بكل مكوناتها، والقوى العسكرية بجناحيها الرسمي وحركات ساحات الخرطوم المسلحة، وهي التي تقود قاطرة الفشل هذه؟.
- ما الذي تغير في رؤية ومواقف وممارسات هذه القوى حتى نأمل في تغيير الواقع ؟.
فإذا كانت النخب التي ظلت تقود قاطرة الثورة من محطة فشل إلى محطة فشل أخرى هي نفسها ...
وإذا كانت رؤيتها للثورة كـ"غنيمة" وأسلاب، وفرصة للقفز على مقعد السلطة والسيطرة بالتآمر والتحايل والخداع هي نفسها..
أفلا تكون العودة لمنصة التأسيس في ظل المعطيات نفسها، إعادة تدوير لعملية الفشل، وإعادة إنتاج لنفس مخرجاتها ؟.
(3)
على جانبي هذه العودة لمنصة التأسيس تُطرح حلول – لا تقلّ تزييفاً – كأهداف إجرائية لتحقيق مطلوبات الثورة، تتلخص في:
- الانتقال الديمقراطي.
- تكوين المجلس التشريعي.
- إجراء الانتخابات.
ولتجنب المماحكات يمكنك القول أن الانتقال الديمقراطي يمر عبر محطتي تكوين المجلس التشريعي كسلطة تشريعية انتقالية، في ظلها تُجرى انتخابات حرة، بها تكتمل عملية الانتقال الديمقراطي، وتنتهي (الحدوته).
واليوم (الاثنين 17 مايو 2021) يُعقد في باريس مؤتمر لدعم الاقتصاد السوداني تحت لافتة تحقيق "الانتقال الديمقراطي". أي أن القوى الدولية المتنفذة الكبرى تبارك وتدعم هذا التوجه. ما يدعو للتساؤل حول دورها وأهدافها غير المعلنة.
وهنا الفخ الذي سقط، وظل يسقط في حبائل شراكه الجميع عبر تاريخنا الحديث والمعاصر. فبعد إسقاط الحكم العسكري الأول في أكتوبر 1964، وبعد إسقاط ديكتاتورية جعفر نميري في مارس/ أبريل 1985 رفعت القوى السياسية نفس هذه المطلوبات الثلاث على اعتبار أنها ستؤسس نظاماً سياسياً تتحقق فيه الدولة الديمقراطية المستدامة.
فما الذي حدث ؟.
لقد حدث في التجربتين السابقتين نفس ما يحدث الآن بعد أن نجحت قوى الثورة الحيَّة في الإطاحة بالديكتاتورية الثالثة !.
إذ سرعان ما تم رفع المطلوبات الثلاث التي أشرنا إليها والتعامل معها وكأنها غاية الثورة وهدفها النهائي.
بل وحتى هذه المطلوبات تم رميها في القمامة وانهمكت مكونات القوى السياسية والنخب الاجتماعية والثقافية في صراع وجودي انتحاري بينها على السلطة والمكاسب الذاتية الأنانية. وأسقطت في صراعها هذه المطلوبات، وأسقطت معها الديمقراطية الوليدة، ويعود بعدها الشعب إلى مربع انقلاب عسكري وديكتاتورية جديدة، تتكئ في إحكام سيطرتها على تحالف بعض هذه القوى ذاتها، مع الكاكي الذي لم يكن له من فضل في إجهاض التجربة الديمقراطية أكثر مما للأحزاب والنخب التي تحالفت معه، أو ضده.
(4)
والجديد في هذه الثورة الأخيرة أن بعض بقايا النظام الذي تمت الإطاحة به لم يتم اقتلاعها من مفاصل الدولة، وفي أكثر قطاعاتها حساسية وخطورة، ونعني القطاع العسكري والأمني وقطاع الخدمة المدنية في مؤسسات الدولة الحكومية، وقطاع المال والأعمال في القطاعين الخاص والطوعي غير الربحي. بل أكثر من ذلك، أن بقايا النظام الإسلاموي تحكم قبضتها بشكل مطلق في المؤسسات الأمنية والعسكرية، ومن خلالها تكاد تحتكر إدارة الفترة الانتقالية. وهي لن تسمح بقيام دولة مدنية ديمقراطية بأي حال من الأحوال. لأن قاعة محكمة لاهاي تنتظر كل من يثبت تورطه في الجرائم التي ارتكبت ليس خلال سنوات الإنقاذ الغبراء بل حتى من أجرموا بعد زواله.
وما تراه الآن من استخذاء القيادات العسكرية في مجلسهم العسكري وفي مجلس السيادة، ومن ضعف واستكانة وتذلل لأمريكا لإسرائيل ومحاولة إرضائهما حتى لو كان الثمن تسليمهم البلد كله، ما هو إلا هروب للأمام طلباً للنجاة الشخصية، والتشبث بالسلطة بأي شكلٍ كان. ويحسبون أنهم سينجون بما كسبت أيديهم من آثام.
وينسون في هذه الهرولة المجنونة أن أمريكا هذه سبق ونفضت يديها من أقوى حليفيها وعميليها في المنطقة: الشاه محمد رضا بهلوي في إيران، والرئيس محمد أنور السادات في مصر، ولم تستطع أن تنقذهما لا من غضب الشعب الإيراني، ولا من غضب وغدر الإسلامويون في مصر. وهم الذين تحالف معهم السادات مستنصراً بهم ضد الناصريين والقوميين العرب واليساريين، فضربت (طناش) عنهما أمريكا.
فمات الشاه في مصر لاجئاً عند السادات بعد أن رفضته أمريكا لاجئاً، ومات السادات مقتولاً بيد حلفائه.
وتلك من آيات التاريخ التي لا يغفل عنها إلا من كان أعمى فهم وبصيرة.
(5)
في ظل هذه المعطيات تبدو البيانات التي تدعو لإسقاط الحكومة والعودة لمنصة تأسيس الثورة كما لو كانت صادرة من صبية يمارسون أحلام اليقظة، تفتقر إلى الموضوعية والمسؤولية ولا يمكن التعامل معها بجدية. وأوضح ما يكشف عبثية هذا النوع من الطرح السياسي آخر بيان أو تصريح للحزب الشيوعي يؤكد فيه بأن الدعوة لإسقاط الحكومة مفتوحة (هكذا!).
لم يحدد أي كان من هؤلاء الدعاة أي مرحلة من مراحل الثورة يمكن الانطلاق منها كنقطة تأسيس؟.
هل ينطلق الناس من مرحلة المطالب والاحتجاجات الاقتصادية والمعيشية التي بدأت من القضارف وعطبرة؟.
أم نبدأ من محطة الاعتصام أمام القيادة العامة؟.
أم نؤسس لحراكنا الثوري انطلاقاً من جريمة فض الاعتصام؟
أم ندع كل أولئك، لننطلق من لحظة تحرك طوفان الجماهير الذي أعقب المجزرة وأطاح بابن عوف كمنصة للانطلاق؟.
أم نعود بعقارب الساعة إلى الجلسات المتطاولة بين المجلس العسكري وتحالف المدنيين، وما تمخض عنها من وثيقة دستورية؟.
أم نعتبر الوثيقة ذاتها منصة انطلاق للجولة الثالثة في مشوار الثورة؟.
لا أحد يحدد لك المنصة التي يجب أن ننطلق منها. رغم أن تحديد نقطة الانطلاق هو الذي سيحدد لك الأهداف وخارطة الطريق والبرامج.
(يلاكم نطلع الشارع والله بحلها) هكذا يقول لسان حال دعوى الخروج للتظاهر، والعودة لمنصة التأسيس وإسقاط الحكومة، بهذه العشوائية الفطيرة.
(6)
صحيح أن شرارة الثورة تنطلق بعفوية، تلتف فيها كل قوى المجتمع حول مطلب بسيط. ولكن هذه الجماهير نفسها تقوم أثناء معارك الفعل الثوري بإفراز قياداتها الميدانية، وتنظيم حراكها، بإعداد حزمة مطالب وأهداف أكثر جذرية، تستهدف إعادة تأسيس النظام السياسي برمته، (يقطع دابر) المظالم كافة ويقيم نظاماً جديداً يحقق حلم الناس بدولة الحرية والعدالة والرفاه للجميع.
والحال أن من يطلقون هذا النداء يتغافلون عن أن الشارع الآن، لم يعُد الشارع الذي كان عليه فجر انطلاق الثورة عام 2018 وما بعدها إلى لحظة التوقيع على الوثيقة الدستورية وتقاسم السلطة بين المكونات التي وقعت على الوثيقة.
فهناك الآن أكثر من شارع وفصيل، اختلط حابل أصيلها بنابل مزيفها وباطلها، وكلهم يدعي حبه لليلى، وانتماءه للثورة (التي كانت) بالأمس.
بل وصل بنا الحال أن رأينا (الكيزان ذاتهم) صاروا فصيلاً من فصائل الثورة، يرفعون شعاراتها (حرية سلام وعدالة) التي صارت (قميص عثمان) يرفعه كل طامع في السلطة.
دع عنك (على جنب) خطب حميدتي قائد مليشيا الجنجويد التي ارتكبت مجزرة فض الاعتصام، بمشاركة جيش اللجنة الأمنية، أو بتواطؤه، أو بعلمه (ما فارقة كتير). حميدتي الذي ما دعي إلى وليمة أو افطار رمضاني أو جماعة متناثرة من جماعات الإدارة الأهلية إلا وتحدث ناصحاً ومحذراً من التشتت والفرقة والخيانة وفتنة (الطابور الخامس) المندس بين الثوريين الذي سيقودنا إلى فزَّاعة ما حدث ويحدث في ليبيا وسوريا !!.
(7)
- فهل راجع من يروجون للعودة لمنصة التأسيس مواقفهم – ولا نقول نقدهم الذاتي – ودورهم في (فركشة) التجمع المدني وتشتيت قواه بمواقفهم المريبة؟.
- وهل حدد لنا أصحاب هذه الدعوة ما هي القوى التي ستقوم بهذه المهمة، وهل هي جاهزة لها؟.
- هل تواصلوا مع تنسيقيات لجان المقومة في كل الولايات والأحياء والتنسيق معهم بعد الاستماع إليهم، وهم في الواقع (أصحاب جتة الثورة ورأسها)، وأحق من جميع الذين يحتلون مقاعدها الأمامية بالكلام النهائي والرأي القاطع؟.
- هل حددوا موقفهم من قوى الثورة المضادة داخل السلطة الانتقالية/ شركاؤهم؟. هل تواصلوا معهم وطرحوا بشفافية رؤيتهم وموقفهم لهم. ومعرفة من سينضم إليهم ومن سيكون ضدهم؟.
- وما هي أهداف، وخارطة طريق، وبرامج الجولة الثالثة في مواجهة دولة الإسلامويين، وتأسيس الدولة البديلة.
- وهل تم التوافق بين جميع قوى الثورة الحيَّة على أسس هذه الدولة؟
- هل حددوا التكلفة المتوقعة لهذه العودة، أم أن كل المسألة هي الرجوع للمربع الأول كمغامرة عدمية (والباقي على الله)؟.
تباً لهذا النوع من العقليات، وسحقاً لأفكارها العبثية اللامسؤولة.
آخر الكلام
يتصدر المشهد الانتقالي بعد الثورة، ويحتكر الكلام باسمها أمثال البرهان وكباشي وعقد لجنة البشير الفريد، وحميدتي، والأحزاب بما فيها الحزب الشيوعي، ومناوي والكوز جبريل وكافة حركات ساحات الخرطوم المسلحة. بينما يجلس صامتون في مقاعد المتفرجين من فتحوا صدورهم عارية للرصاص وتّرسوا الشوارع وماتوا أمام تروسهم صامدين، من ناموا وصحوا معتصمين، وتبادلوا الحوار والأفكار والأشعار، ومن تقاسموا (الجغمة واللقمة) وما في الخاطر والجيب، وتقاسموا الأغنية والهتاف، والضحكة والدمعة ...!!.
أي عدل؟ أي عقل؟ أي أمة نحن ؟!! .
مالكم، كيف تحكمون ؟؟!!.
izzeddin9@gmail.com