خيارات السلمية لا تحصى، وأسلحة المقاومة لا تنفذ: هل تستخدم قوى الثورة الحيَّة أوراق الثورة المضادة، ضدها ؟!. 

 


 

 

وجهة نظر:

قد تبدو هذه الدعوة غريبة – إن لم نقل مريبة – حين تُطرح الآن، وفي هذا الليل المدلهم، الذي تكاد تنعدم فيه الرؤية الواضحة لكل النخب السياسية والاجتماعية، التي تتصدر المشهد السياسي، عسكرية سواء كانت أم مدنية. وكما ترى، ويشهد العالم كله، أنهم يسيرون كالنائم، لا يتبين اتجاه سيره، ولا إلى أين تقوده أقدامه.


(2)

وتسأل نفسك: ما هي الخيارات المتاحة أمامهم جميعاً؟. ولا تجد سوى خيارين ونتيجتين، لا ثالث لهما:

- حكم عسكري، قمعي، بتحالف مع الحركات المسلحة (بتاعت جوبا). حاضنته السياسية فلول الكيزان، بخبرتهم التخريبية، وأموالهم، وتغلغلهم في كل مفاصل الدولة، مدعوماً من الإمارات ودولة الاحتلال/ مصر.

- أو مواجهات دامية بين قوى "الثورة المضادة" التي تسعى بإصرار على إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل الثورة، والتي تخوض صراعها بروح قاتل أو مقتول، كما عبَّر عن ذلك حميدتي. وبين "شباب عزلاً" لا يتسلحون سوى بالنبل والهتاف وبالنشيد، وبإرادة فولاذية ، وتصميم صارم، و"قوة راس"، وعناد  لا يساوم ولا يهادن في تحقيق دولتهم الجديدة.

ما يزيد المشهد تعقيداً على تعقيد. أن ثورة ديسمبر انتصرت بسلميتها في مواجهة الإسلامويين بتوحد إرادة جميع التيارات المدنية والمسلحة.

أي أنها كانت معركة شعب في مواجهة نظام حكم أوليغارشي (أقلية).

واليوم لم تعد هذه القوى متوحدة، بعد أن انقسمت إلى ثلاث فصائل أو فرق.

- فريق (المحلس المركزي لقوى الحرية) يدعو للعودة إلى الوثيقة واستئناف ما قبل انقلاب 25 أكتوبر، والتفاوض حول الإصلاحات المقترحة من الإنقلابيين.

- وفريق (تخاف المهنيين) يعمل على تجاوز الوثيقة التي مزقها البرهان بانقلابه ويطالب بمحاكمة المكون العسكري على هذا الخرق، وعلى جريمة فض الاعتصام وما بعدها.

- وفريق (جماعة اعتصام القصر) يرى ضرورة الانطلاق من قرارات 25 أكتوبر، ويتماهى مع العسكر في تعريف ما حدث بأنه (تصحيح) وليس انقلاباً.

وبالطبع سيكون لهذا الانقسام والتشرذم تأثيراته السلبية في قوة وفعالية القوى التي تسعى لترجيح كفة التغيير الجذري، وبناء الدولة المدنية الحديثة.

أكثر من ذلك. لا يبدو في الأفق مجرد احتمال أن تقدم أي من القوى المتنازعة على تنازلات جوهرية يمكن أن تلتقي عندها. خاصة والبرهان والقوى التي تسانده يمضي قدماً في تنفيذ ترتيبات الانتقال لعسكرة الدولة بغطاء مدني، "يختاره" وفق المواصفات التي تكرس سيطرته وهيمنته على الحكم منفرداً.

وواهم من يظن بأن البرهان وحميدتي ولجنة البشير الأمنية سيرجعون خطوة لما قبل 25 أكتوبر، ليس لأنهم لا يرغبون، ولكن لأنهم لا يستطيعون.

فلإنقلاب العسكري والإطاحة بنظام دستوري والزج برئيس الوزراء وطاقمه في السجون، وإقالة الولاة ووكلاء الوزارات، واعتقال المئات ...الخ من الإجراءات التي تعيد تشكيل  السلطة وهويتها ليست بـ"لعب عيال أو هزار"، فقد ترتب على هذا فقد أرواح أكثر من عشرة أشخاص، وجرح المئات .

فبأي صفة سيعودون وكأن شيئاً لم يكن؟. وهل سيتجاوز الناس لهم ما فعلوا؟.

يجب أن تضع في الاعتبار أن أفراد هذا المكون العسكري في رقابهم الكثير من الدماء، وأن واحداً من أقوى تشبثهم بالسلطة هو خوف المساءلة حين يأتي يوم حساب الشعب. وأن دافع الانقلاب الأول كان هو هذا الخوف.

أما جماعة اعتصام/ ضيافة القصر وقادتهم أمثال الثلاثي جبريل/ مناوي/ أردول، فإنهم لن يرجعوا لما قبل الانقلاب الذي فتح الباب واسعاً (أو هكذا يظنون على الأقل) لإشباع طموحاتهم السلطوية.

وهل ستتجاوز قوى الحرية والتغيير غدر شركائهم وزجهم في السجون ومبلغ الإذلال والإهانات التي تلقوها على أيديهم؟.

ثم ماذا؟.

ولا تسل عن موقف شباب لجان المقاومة الذين يتربصون بالجميع، وهم يطالبون بالاقتصاص من قتلة إخوانهم في ساحة الاعتصام.


(3)

وكما ترى فإن جميع هذه القوى المتنازعة، وبخياراتها الصفرية تلك، تسير كما النائم، في طريق لن يقود سوى إلى الجحيم وتفكيك الدولة. وفي ظروف إقليمية ودولية لا تقدم سوى المزيد من الحطب للنار المشتعلة.

فما هو الطريق الثالث الذي يحفظ السودان ويجنِّبه خطر التفكك وكيد المؤامرات الخارجية، ويجنِّبّ الشعب الصابر أذى الساسة والعسكر ويحقن دماء شبابه الزكيَّة الطاهرة؟.

حسناً.

ألم يكن – وظلّ دائماً – إجراء انتخابات مبكرة، قبل انقضاء الفترة الانتقالية، هو السيف الذي تشهره قوى الثورة المضادة – سواء في المكون العسكري أو قوى الهبوط الناعم، بل وتشهره حتى أحزاب "الفكة"، وتلك التي لا تتجاوز عضويتها مكتبها السياسي – في وجه قوى الثورة والتغيير ؟.

فلتكن إذن الانتخابات المبكرة.

شريطة أن يشرف على تنفيذها المجتمع الدولي (والسودان أصلاً تحت فصله السادس) وأن يتم وضع قانونها بالشراكة الدولية ذات الاختصاص، بالتوافق التام بين مختلف القوى السياسية والمدنية. على أن لا يكون للعسكر أي دور، لا في وضع قانونها، ولا في الإشراف على إجرائها.


(4)

ويطرأ على ذهنك السؤال: ولماذا انتخابات مبكرة؟

ما الفائدة منها وجدواها؟. وكيف يمكن لها أن تكون حلاً يفتح هذا الأفق السياسي المغلق؟.

فالانتخابات المبكرة ستفض هذا الاشتباك وتخرجنا من هذه الحلقة اللعينة الدائرية وتنقل الاحتقان وصراعه إلى فضاء آخر، لن يكون العسكر طرفاً فيه. فالاحتكام فيه ليس للبندقية، وإنما لإرادة المدنيين وصوتهم الانتخابي، الذي تحسمه صناديق الاقتراع.

بمعنى أنها ستنقل التنافس والصراع من المجال السلطوي الذي يحتكم إلى القوة العمياء، إلى مجاله السياسي المفتوح، الاحتكام فيه إلى الوسائل المدنية السلمية في التنافس لكسب المؤيدين. من برامج (أغلبها على الورق)، ووعود (أغلبها كاذبة). ولكن التفضيل فيها يتوقف على مستوى وعي المواطن.

ويجدر التذكير عند هذه النقطة بمسألة في غاية الأهمية، وهي، أن الوضع على هذا الشكل يفتح باباً أمام قوى الثورة والتغيير، ستكون له نتائجه وآثاره المستقبلية لكسب معركتها وهو رهانها على نشر ورفع وتطوير مستويات الوعي والعقلانية على أوسع نطاق بين الناس.

وهي معركة تنويرية بطلها قوى الثورة والتغيير بامتياز.

والتنوير سلاحٌ، ليس لقوى الأمر الواقع والمحافظة نصيب فيه. وكل ما تملكه في معركة التنوير هذه القوى، هو أسلحة ماضوية لا تستجيب لتحديات الحاضر. بل وتتقاصر عن الإجابة على أسئلة الواقع/ المتغير دائب الحركة. وأقصى ما تبلغه هذه الأسلحة الصدئة يتمثل في محاولاتها تغبيش الرؤية وتزييف الوعي.


(5)

وما يلفت النظر، أنه ما أن يلوّح البرهان، أو أحد الأحزاب التقليدية، أو حتى غير التقليدية الموالية له مهدداً بورقة الانتخابات، حتى تسارع قوى "التغيير التقليدية" في الأحزاب اليسارية إلى الاحتجاج والثورة والهيجان ناشرين بين الناس بأن هذا الاتجاه إنما هو من تدابير الرجعية وقوى التخلف والثورة المضادة ..الخ، لفرملة مسار عجلة التغيير، دون أن يبذلوا أدنى جهد لقراءة الواقع.

لماذا يفعلون ذلك؟.

لأنهم أسرى تاريخ تجاربهم الماضوية.

لقد عايشوا في شيابهم تجربتي ديمقراطيتين وثورتين، وشهدوا تلاعب الأحزاب بالديمقراطية الأولى بعد جلاء الاستعمار، وكيف أن صراعات الأحزاب فيما بينها للانفراد بسلطة الحكم دفعت بعضها للاستنصار بالمؤسسة العسكرية. فسلم الرئيس عبدالله بك خليل (حزب الأمة) السلطة للفريق إبراهيم عبود، حيث استمر الحكم العسكري من سنة ذ958 حتى أطاحت به ثورة 21 أكتوبر 1964.

فتآمرت أحزاب اليمين التقليدية مرة أخرى، مثلما فعلت في الفترة الانتقالية، ما بين جلاء الاستعمار والديمقراطية الثانية. وهذه المرة تحالفت على قوى اليسار وعلى رأسها الحزب الشيوعي والقوى الحديثة في حكومة أكتوبر الأولى، في الفترة الانتقالية وأطاحا بحكومة سر الختم الخليفة الانتقالية، لإجراء انتخابات باكرة. فازوا بمقاعدها الجغرافية، إلا أن الحزب الشيوعي حظي بأغلبية دوائر الخريجين.

ولأن أحزابنا، شأن الأحزاب في دول العالم الثالث، لم يترسخ في وعيها مفهوم الديمقراطية في الدولة الحديثة، فإنها تجيد التغني بالديمقراطية دون أن تشم عطر ريحها داخل حيشانها. لذا لم تطق الأحزاب اليمينية التقليدية وجود حتى هذا العدد الضئيل من عضوية الحزب الشيوعي تشاركها البرلمان، فدبروا مسرحية دينية لطردهم.

ومرة أخرى دبر – أو تعاون أو تواطأ – حزب سياسي، وكان هذه المرة الحزب الشيوعي والقوميون العرب مع العسكر (العقيد جعفر نميري) للإطاحة بالنظام الديمقراطي عام (1969)، ليدخلوا من النافذة بعد أن طردتهم قوى التحالف اليميني بالباب. ليحكم منفرداً ستة عشر عاماً حتى أطاحت به ثورة شعبية عام (1985).

ما حدث بعدها لسخرية الأقدار كان تكراراً لذات السيناريو. تآمر حزب الجبهة القومية الإسلامية وبعض القوى التقليدية بالصمت مع العسكر (الجنرال سوار الذهب) بتهيئة المسرح السياسي خلال عام الفترة الانتقالية لتفوز بانتخاباتها مرة ثالثة قوى الثورة المضادة.

ومرة ثالثة تتغلب متلازمة السلطوية ليقلب الإسلامويون الطاولة على الجميع وينفذوا انقلاباً على النظام الديمقراطي (العميد عمر حسن) في عام 1989، ويحكموا قبضتهم على السلطة لمدة استطالت لثلاثة عقود انتهت عام 2019.

هل انتهت بالفعل؟. أم لا زالت في جسدها بقية أنفاس لم تلفظها بعد؟. وأيضاً بسبب الأحزاب والعسكر؟.


(6)

ماذا كانت حصيلة هذه التجارب التي تستنسخ كل تجربة منها، التجربة السابقة عليها؟.

إن تكرار التجربة على النحو الذي ذكرنا ترسخ كنسق نمطي يفسر كل لاحق من الأحداث، وكقناعة لا تتزحزح في وعي النخب السياسية.

لقد تم تأبيد هذا النمط/ السياق في واعية النخب السياسية والاجتماعية.

وتخشب وعي هذه النخب وتوقف تماماً في محطة تجاربه الماضوية، وأصيب بالشلل، وفقد القدرة على الحركة لملاحقة تغيرات الواقع وديناميته الحركية.

عجز عن رؤية أن هناك أجيال نشأت وعاشت في ظل جحيم الإنقاذ و وحشيته، حينما كانت الأحزاب في متاهة العجز والحيرة. وأن هؤلاء الشباب استطاعوا أن يطوروا وعيهم بعيداً عن وصاية الكبار الذين خذلوهم. كما استطاعوا أن يطوروا وسائل وأساليب وأدوات مقاومة برؤية ثقافية كونية ساعدتهم عليها ثورة الاتصال ومنصات التواصل التي أتقنوا التعامل مع تقنياتها الحديثة وبرعوا فيها.

لقد بعدت الشقة بينهم وبين الآباء. وبالتالي اختلفت الأحلام والأهداف.

فمن ولدوا صبيحة انقلاب الإنقاذ عام 1989 صرن/ وصاروا في نهايات مرحلة الشباب، عند غروب شمسه، في الثلاثينات من أعمارهم.

في حين أن زعماء الأحزاب ممن عاشوا تحت ظلال ديكتاتورية مايو النميرية، وتناوبوا على مقاعد سلطته المطلقة كيفما شاء، بدءاً باليساريين، مروراً بمن وصفوا بالتكنوقراط والخبراء. انتهاءٍ بالإخوان المسلمين، والطائفية السياسية، ودرويش الطرق الصوفية. وعاصروا أحداث ثورة 1964، كانوا حينها رجالاً في منتصف العمر. وعندما أزفت ساعة زوال الإنقاذ كانوا كهولاً.


(7)

لم تكن وحدها الشقة بين أعمار الآباء والأبناء ملبرة فجر اندلاع شرارات الثورة عام 2018.

بل ما هو أخطر من ذلك كان اختلاف التجربة، واختلاف الوعي بينهما.

كان حلم الآباء سلطوياً.

فقد كانوا يحلمون بوراثة الإنقاذ ليحكموا.

أما الأبناء فكانوا يحلمون بدولة بديلة. بعكس الآباء الذين يسعون للإبقاء على نفس الدولة مع تبديل كابينة قيادتها.

لذا تجد مقابل هتاف "تسقط بس" القاطع. منطق عقلية المساومات عند الآباء.

واليوم (الثلاثاء 9/ 10) بينما تدعو لجان المقاومة لمليونية إسقاط العسكر من معادلة الحكم، تجد قوى الحرية والتغيير تبحث عن رؤية توافقية حول الأزمة، وتعلن موافقتها على الشراكة بين المكونين المدني والعسكري ، وتتحدث عن عودة حمدوك لرئاسة مجلس الوزراء. في الوقت الذي يماطل البرهان في إرجاء مفاوضات الوساطة حتى إعلان رئيس الحكومة، ويشكل لجنة لمراجعة واستلام الأموال المستردة من لجنة التفكيك !.

فهل تحتاج قوى الحرية والتغيير لبيان أوضح من ذلك لعودة حكم الإنقاذ ؟!.

هذا الاختلاف بين الرؤيتين هو ما يسميه العقلاء بغياب المشروع الوطني الجامع الذي يناط وضعه بقوى التغيير.

وإذا أردنا أن نكون أكثر صراحة في الإجابة على السؤال: في هذا التنازع على وضع أسس المشروع الوطني من الذي يملك المشروعية؟. فإن الإجابة بدون أدنى شك: الشباب الذين أشعلوا شرارة الثورة وفجروها وفتحوا صدورهم العارية من أجل تحقيق أهدافها واستشهدوا بشجاعة ونبل هم الذين يملكون تحديد أهداف المشروع الوطني. خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أنهم يمثلون أكثر من 70% من إجمالي سكان السودان، أي أنهم أكثر الحاضر وكل المستقبل. ورغم أنهم إضافة إلى ذلك يمثلون سلطة الشارع بلا منازع إلا أنهم بعيدون عن مواقع سلطة القرار.

وهنا تحديداً تكمن أهمية وضرورة الانتخابات المبكرة، وفي هذا الوقت بالذات.


(8)

لم تحاول النخب – التي تتصدى لقيادة المرحلة سياسياً واجتماعياً – أن تتعرف على طبيعة التحولات والتغييرات العميقة التي حدثت في وعي القوى الاجتماعية التي أحدثت الزلزال السبتمبري، ومكَّنته من تغيير المشهد السياسي باقتلاع سلطة شمولية وحشية أحكمت قبضتها على الكيان السوداني وعاثت فيه فساداً وتخريباً.

ولو أنهم بذلوا هذا الجهد لتبيَّن لهم أن بوصلة الولاء والانتماء السياسي قد تغيَّر اتجاه مؤشرها من الأحزاب التقليدية، إلى اتجاه لم يتبلور بعد في كيان سياسي محدد، ولكنه واضح لا تخطئه العين، في الأهداف والشعارات يكاد يترجم نفسه تلقائياً في برامج سياسية واضحة المعالم.

ولو كانت قيادات الأحزاب التي تنادي بمدنية الدولة على شيء من الذكاء لتبنت هذه الأهداف والشعارات فعلاً لا قولاً. ولكن هذه القيادات، ولسبب ما، سعت إلى ترويج بضاعتها "البائرة" القديمة التي لم تعد لتناسب أو تلبي حاجات الشباب، ولم يعد سوق الشباب في حاجة إليها.

وما فشل في ملاحظته الآباء في الأحزاب والحركات والقيادة العسكرية، أن المكون الحقيقي للسلطة الانتقالية يتمثل في شباب لجان المقاومة، والذي كان يُنظر إليه كلاعب احتياط في فريق الثورة أصبح دون أن ينتبهوا إلى أنه هو راس الحربة في فريق التغيير.

وهكذا، بدلاً من أن يتم دمج أصوات المكونات الثورية التي تؤمن بالتغيير وإعادة يناء الدولة على أسس جديدة تضمن استدامتها لتشكل بتكاملها سيمفونية تعزف لحناً واحداً بتناغم آلاتها وأصواتها المتنوعة. صار فريق يدعو للعودة إلى ما قبل الانقلاب، وفريق يدعو إلى فض الشراكة مع العسكر ومحاكمتهم.

وفي المقابل كلما قدمت قوى الحرية والتغيير تنازلاً تشدد العسكر ورفعوا من سقف شروطهم ومطالبهم، وآخر تنازلاتها الموافقة على أن يحتل حمدوك المقعد الخامس عشر في مجلس السيادة، وحتى هذا رفضه فريق من المكون العسكري، ما يعزز الشك في أن العسكر لن يقبلوا بغير السيطرة الكاملة على كل مؤسسات الدولة !.

وهم يراهنون، كما هو واضح، على عامل الزمن، في الوقت الذي يواصلون فيه ترسيخ سلطة النظام البائد، وذلك عبر عمليات إقالات وتعيينات، وإبدال وإحلال في مفاصل الدولة. وما تجميد مؤسسة التفكيك، وإخضاعها لما سمي بمراجعة قراراتها، ووضع اليد على ما صادرته من أموال، سوى خطوة في اتجاه إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل الثورة، وإعادة إنتاج نظام الإنقاذ2.


(9)

إذن السؤال الآن هو: كيف يمكن إنقاذ الثورة وإطلاقها من شباك هذا الفخ الذي تضافرت عدة عوامل وقوى سياسية واجتماعية في نسجه؟.

أولاً، وقبل كل شيء آخر، ينبغي عدم اللجوء إلى ما سبق تجربته من حلول، لم تثبت حتى الآن سوى فشلها في إخراجنا من هذا النفق المظلم.

يجب التفكير خارج الصندوق بعقل منفتح، بجسارة،  وثقة في النفس.

وإذن أين مفتاح الحل؟.

إنه الشارع وقوى الثورة الحية، وعلى رأسها شباب لجان المقومة الأطهار، فهم المفتاح.

ولو لاحظ زعماء الأحزاب المتطلعة للتغيير، وقيادات منظمات المجتمع المدني والطلاب بأن نداءات قوى التغيير وتجمع المهنيين لخروج الملايين في كل مدن  وقرى، بل وفي معسكرات اللجوء والنزوح، دائما تجد الاستجابة الفورية، لتأكد لهم بأن كتل الثورة متحدة متراصة ومتلاحمة حتى دون وجود كيانات تنظيمية تنتظمها. وأن مجرد النداء يكفي لخروجها، لعلم هؤلاء يقيناُ أن مفتاح الخروج من النفق بأيديهم.

كيف ذلك؟.


(10)

إن الخطأ الاستراتيجي لقيادة الثورة هو أنها منذ البدء تموضعت في الموقع الخطأ حين استبدلت مقعدها بمقعد الثورة المضادة، وحاصرت نفسها في زاوية "الدفاع" عن النفس والذي هو الموقع الطبيعي عقلاً ومنطقاً لقوى الثورة المضادة.

ووضح  ذلك في المفاوضات الأولى بين المكونين لصيغة مشروع الشراكة، قبل صياغة مسودة الوثيقة الدستورية، والتي كانت أولى مؤشرات التراجع. وظلت بعدها سلطة حكومة الثورة وحاضنتها السياسية، تواصلان خطوات التراجع في مواجهة قوى الثورة المضادة داخل حلبة السلطة، في مواجهة المكون العسكري وحلفائه. لأنها منذ البدء اختارت زاوية الدفاع كاستراتيجية.

وبالتالي أصبح حتى خيار الذهاب لانتخابات مبكرة كرتاً بيد المكون العسكري وحلفائه في السلطة وخارجها يهدد به قوى الثورة الحية، وهو الذي – لغفلة وسوء تقدير قياداتها الحزبية – يمكن أن يكون سلاحاً بيد قوى الثورة الحية إذا أحسنت اللعب به.

ولكنها غفلت، أو أغفلت ذلك، لأن تنظيماتها السياسية بلا استثناء – يمينها ممثلاً بحزب الأمة ووسطاً ممثلاً بالمؤتمر السوداني ويساراً بالشيوعي – كانت أسيرة تجاربها الماضوية، كانت أعينهم تنظر إلى الوراء، ذاهلة عن حركة الواقع الذي تجري أمواجه أمام أعينهم.

تُرى هل يحتاج أحد ليؤكد لهم بأن قوى الثورة الحية التي تدعو لتنزيل شعارات الثورة: حرية، سلام، وعدالة، والمدنية خيار الشعب، هم الشعب. لأنهم الأغلبية شبه المطلقة، وأمامهم شواهد المليونيات المتواترة التي تؤكد ذلك ؟!.

فإذا رفعت قوى الثورة المضادة – وهم الأقلية شبه المطلقة – ورقة الانتخابات المبكرة فلنسارع نحن إليها. وإذا لم يرفعوها يجب أن نرفعها نحن. فباب السلمية مفتوح لخيارات لا تحد ولا تحصى. وأسلحة المقاومة السلمية لا تنفذ.

وحزب بقاء وعزة واستدامة السودان هم الغالبون.




izzeddin9@gmail.com

 

آراء