في اختبار الشرعية، لم ينجح أحد (2): الحواضن خانت الشارع، وتنازعوا الفراخ قبل أن يفقس البيض 

 


 

 

"هل تمتلك الحواضن السياسية الشاخصة في واجهة المشهد هذه الشرعية التي تجعلها تفتي في شأن مستقبل ما بعد الثورة منفردة وعلى كيفها؟".

كان هذا هو السؤال الذي طرحناه في حديثنا السابق بعد أن انتهينا إلى أن المكون العسكري ووراءه لجنة البشير الأمنية لا تمتلك من الشرعية لقيادة هذه المرحلة الانتقالية منفردة، إلا ما يوحيه خيال وهواجس وطموحات ومخاوف أفراد القيادة العسكرية. وهذه لا تعطي الشرعية لأياً كان، وبأي شكل كان..


(2)

ولا تقل الحاضنة السياسية، متمثلة في قيادة المكون المدني في افتقارها لشرعية التحدث باسم الثور والثوار وهي التي كانت حاضنة سياسية من قبل، وصارت فيما بعد حواضن شتى، عن رصيفها – أو خصمها – المكون العسكري.

فهم مثل قيادة العسكر في اختطافهم صوت من فجروا الثورة وضحوا بأرواحهم وصنعوا الانتصار، وادعاء تمثيلهم.

نعم لقد محضهم الثوار ثقتهم فجر انتصار الثورة ليفاوضوا لجنة البشير الأمنية نيابة عنهم. ولكنهم خانوا هذه الثقة. وحين يأتي يوم الحساب، فإن الثوار أنفسهم لن ينجوا من مسؤولية هذه الثقة "المجانية". ولكنه تقاسم الأدوار كان بين صفوف معسكرهم الواسع، والذي اشتمل على كل مكونات الشعوب السودانية، شرقها وغربها كما شمالها وجنوبها ووسطها في وحدة ذابت فيها كل التناقضات الإثنية الثقافية والاجتماعية، ما اقتضى وجود قلة تنتدب للتفاوض بالضرورة.

خيانة ثقة الثوار التي كان يمكن أن تجرد قيادة الحرية والتغيير من مشروعية تمثيل الثورة والثوار وتمثيلهم والتحدث باسمهم، وضحت جلية في مخرجات نتيجة التفاوض بينهم وبين المكون العسكري منذ الوهلة الأولى، متمثلة، هذه النتيجة في الوثيقة الدستورية بثقوبها التي فتحت لعسكر البشير نوافذ واسعة، يتسللون عبرها ليحكموا قبضتهم على مفاتيح السلطة.


(3)

دعنا – جرياً مع حسن الظن السوداني العتيد – ننسب غفلتهم إلى تأثير المناخ النفسي الضاغط الذي تمت فيه المفاوضات.

فالتأثير النفسي لصدمة فض الاعتصام كانت قوية بجد وفوق ما يمكن أن يتصور خيال السودانيين. فرغم تمرسهم بالثورات واعتيادهم على عنف السلطة في وجه احتجاجاتهم السلمية، إلا أن عنف فض الاعتصام كان نوعياً في وحشيته. فلأول مرة تقيد أيادي وأرجل المحتجين ويتم رميهم أحياء في النيل مقيدون وهم شباب في مقتبل أعمارهم، ولأول في كل عصور تاريخ السودان القديم والحديث يتم اغتصاب الشباب من الجنسين في احتجاجات سياسية داخل العاصمة.

نعم. لقد سمع الناس عن هذا النوع من الانتهاكات الوحشية في مناطق مثل غرب السودان، ولكنها كانت نرجع في أسبابها لنزاعات قبلية تنشب إما على الأرض والمواشي، وإما للثأر، وكانت تنسب دائماً مثل هذه الوحشية لأجناس من خارج النسيج السوداني بدول الجوار. ولكنه كان في مخيلة الناس مثل الحكايات التي يتساوى تصديقها مع تكذيبها.

وتحت تأثير صدمة فض الاعتصام كان مندوبو الثوار يفاوضون العسكر، وعدم تكرار مشاهد المجزرة يتصدر قائمة أولوياتهم التفاوضية. ولكنهم كانوا في غفلة من أن العسكر لا يقلون عنهم خوفاً من شبح عواقب هذه المجزرة نفسها.


(4)

ورغم أن هذا كمبرر، قد يبرئ قيادة قوى الحرية والتغيير المتفاوضة من شبهة التواطؤ والتآمر مع العسكر بسوء قصد. إلا أنه كان المؤشرات الباكرة التي تدلهم على حجم الفجوة بين "جذرية" طموحات الشباب ووعيهم التام بما يتطلبه تحقيقها من تضحيات. وبين "تواضع" وتدني سقف طموحات القوى السياسية واهتزازها.

نعم كان يمكن لقيادة الحرية والتغيير أن تستقرئ مستويات وعي وطموح الشباب وعمق إيمانهم بأهداف ثورتهم ومدى استعدادهم للتضحية من أجل تحقيقها، في ردة فعلهم على مجزرة فض الاعتصام، والتي أريد لها أن تكسر إرادتهم، وتمهد للانقلاب الأول لقيادة لجنة البشير الأمنية على الثورة وإجهاضها في مهدها. وقد تمثلت ردة فعل الشباب وقوى الثورة الحيَّة في مسيرات أكثر عناداً وتصميماً في 30 سبتمبر، ونتيجتها كانت إجهاض الانقلاب لا الثورة.


(5)

وإذا كانت صدمة الاعتصام و"حقن الدماء" – المفردات التي سيستعملها حمدوك فيما بعد لإجهاض الحراك الثوري في اللحظات الأخيرة ضد انقلاب 25 أكتوبر – قد برأت آنذاك المفاوض المدني من شبهة التواطؤ وسوء القصد، أو التخاذل في أحسن الأحوال، وعزتها إلى  "غشامة" المفاوض المدني، وبررت خروجه من التفاوض بوثيقة مثقوبة، فإن ما حدث بعد ذلك من هذه القوى تصعب تسميته. ولكن يمكن وصفه في كل الأحوال بـ"خيانة التفويض"، الذي يجرد أصحابه من شرعية تمثيلهم الثورة والثوار المدعى. فقد ألقوا بأهداف الثورة وراء ظهورهم، وخاضوا، وهم يتسابقون في مارثون المكاسب في دم الشهداء بأرجلهم، وكأنما رفع لهم علم فشمروا يطلبونه.

ألا يعد ذلك كافياً لوحده لتجريدهم من شرعية تمثيلهم الثورة والثوار، ويسحب منهم صك التحدث باسمهم ؟.

جَدْ كانوا صغاراً في غاية الاستهتار والتبذل في صراعاتهم على المقاعد والنفوذ، وهم الذين طالما بذلوا الوعود بسخاء عن زهدهم في السلطة والمناصب، وعدم رغبتهم المشاركة في الحكم.

لقد فشلوا في التوحد والتوافق على أهداف وبرامج واضحة لتحقيقها، لأن الوطن السودان والدولة، والثورة وأحلام الشباب وقوى الثورة، لم تكن لتخطر لهم على بال وهم منهمكون وراء صغائر نفوسهم ومكاسبهم الحزبية، وكتبت يومها: ما أعجب هؤلاء الذين يتصارعون على الفراخ قبل أن يفقس من البيض.

أتدري ما الذي كان يحدث حينها؟.


(6)

كان المكون العسكري في غفلة هؤلاء ينسج خيوط سلطته بهدوء ومثابرة. ويطبخ على نار هادئة خلطة سيطرته على مؤسسات الدولة ومفاصلها: فقام بتعطيل قيام وتشكيل المفوضيات والمحكمة الدستورية والنيابة، واختطف منهم ملف العلاقات الخارجية، وسلطة إعلان الحرب وعقد اتفاقيات السلام. وانتزع عنوة منهم ملف التفاوض مع الحركات المسلحة، فانتقى منها تلك التي تتوافق معه في استراتيجيته الانقلابية وإعادة عقارب الساعة لما قبل الثورة، وإعادة إنتاج النظام الاسلاموي الشمولي الذي أطاحت به قوى الثورة.

وأخطر ما فعله المكون العسكري بالمتصارعين على النفوذ الشخصي والأجندة الحزبية أنه شق صفهم (وفي الأصل كان نسيجهم في غاية الاهتراء)، وزرع فيه جسم فيروسي من الحركات التي وقع معه "كارثة" جوبا (اسم الدلع: اتفاقية) ، ثم جعل منها حاضنة بديلاً ورقيباً، تعلو على حاضنتهم ، التي تمزقت، ووقفت بعض أحزابها الانتهازية بين الحاضنتين.

ولم يكن أمام الحاضنة الممزقة سوى فصل أخير يسدل بعده الستار، لتفقد نهائياً صك شرعيتها وإعلان وفاتها (لمن كانوا ينكرون موتها)، وكان انقلاب المكون العسكري في 25 أكتوبر هو مفتتح الفصل الأخير.

توقيت الانقلاب نفسه كانت له دلالاته التي كان ينبغي أن تثير انتباه الحاضنة المنهمكة في خلافاتها، حيث أن الانقلاب ترافق مع تصاعد مسيرات 31 أكتوبر التي تنادي بمدنية الدولة وتسليم رئاسة المجلس السادي للمدنيين، وهو المطلب الذي تصاعدت بسببه لهجة البرهان وحميدتي هجوماً تشنيعياً على المكون المدني واتهامهم بالتكالب على المناصب والمكاسب الحزبية !!.

في وقت كانت فيه أزمة الشرق تأخذ بخناق الجميع. ورغم أنها كانت من إنتاج وإخراج المكون العسكري الذي اختطف ملف السلام من رئيس الوزراء، لدرجة تطاول عضو السيادي الجنرال كباشي على رئيس الوزراء واصفاً لقاء حمدوك مع الحلو ووعده بطرح مسألة علمانية الدولة للنقاش بأنه عطاء من لا يملك لمن لا يستحق!!.

وكما ترى فإن الحاضنة ورئيس حكومة الثورة قد "تمصلا" من شرعية تمثيلهما الثورة ومبادئ قوى الثورة الحية، ولم يعد لهما الحق في الادعاء بتمثيلها.


(7)

أما وقد أكمل المكون العسكري بتحالفه مع حركات اتفاقية جوبا الكارثية مخططه الانقلابي، فقد كان من المتوقع أن تسارع مختلف القوى للتداعي ونبذ الخلافات. إلا أن هذه القوى والنخب بدت متفاجئة كمن أصابها شلل مفاجئ. فرغم توقعها للانقلاب، وقد تحدثت عن رصدها لكثير من مؤشراته علناً، إلا أن وقوعه كان صادماً ومفاجئاً، وله وقع الصاعقة عليها. وبالتالي تباينت ردود أفعالهم.

فبعضها كتجمع المهن أعلن رفضه المطلق لأي تفاوض او تتنازل او شراكة مع العسكر، بل ذهب ابعد وطالب بمحاكمة العسكر على جرائم قتل المتظاهرين السلميين، وعلى جريمة فض الاعتصام.

بينما نادى فريق في الحرية والتغيير الأخرى إلى عدم العودة لما قبل الانقلاب، مؤيداً لقرارات 25 أكتوبر كلها، وبلا استثناء أو تحفظ.

بينما ارتبك الفريق الثالث – مثل حزب الأمة القومي – الذي يتماهى موقف أمينه "البرير" وزوجه السيدة مريم الصادق مع الرافضين للاتفاق. بينما رئيس الحزب برمه يعلن عن موقف مناقض، ويصرح للصحف بأنه مهندس الاتفاق، وأن هذا هو رأي الحزب المتوافق عليه !!.

هذه المواقف: الرمادي بعضها، والتخاذلي بعضها من الحاضنة وقواها السياسية، كانت أكثر مما يطيق الشباب احتماله، وهم الذين يتعاملون مع ثورتهم بجدية لا تحتمل التلاعب، والمساومات، وميوعة المواقف، والتردد. وتطوق أعناقهم دماء إخوانهم وأخواتهم الذين استشهدوا، والذين تعوقوا، والمفقودون، تطالبهم بالعدالة. وقد رددوها داوية في وجه السلاح: "الدم قصاد الدم ما بنقبل الديَّة".

فشعروا – وكان لا بد أن يشعروا – بأنهم خدعوا وتمت خيانتهم بنذالة واستهتار.

فهل ثمة من يدعي بأن هذه الحاضنة استحقت شرف شرعية تمثيلهم والتحدث باسمهم وإنابة عنهم؟؟.


(كضباً كاضب والله)!.


izzeddin9@gmail.com

 

آراء