شوارد عن عـوض مالـك وأبي أمنـة حـامـد وعثمـان وقـيع الله وآخرين وزمنهم
عمر جعفر السـوري
16 March, 2022
16 March, 2022
في ذكرى رحيلهم أعيد نشر هذه العبارة التي نُشرت منذ ما يقارب عقداً من الزمان.
قدستم رفقة
.................
إن دار الليل حديث القلب إلى القلب
وتذاكر أصغرهم قدري
لاذوا بالصمت. ومن يدري؟!
قد يدرك يوما إن العالم ربح وخسارة
(النور عثمان أبكر في خاتمة المنفى والمملكة)
******************
خلال الأيام القليلة الفائتة رحل ثلاثة مبدعين في صمت مريب من السودانيين عموما ومعاصريهم على وجه الخصوص. سطور قليلة هنا وهناك في صفحات "الاجتماعيات". ولكن ألم يصبح هذا دأبنا في كل حال. حتى الدمع السخين الذي كنا نذرفه على الراحلين نضب، وجفت مآقي الباكين والمتباكين المدرارة. فقد كادت المروءة أن تفقد أهلها في سودان الحروب الضروس والمجاعة والفساد والسرقة والرجرجة والدهماء والسوقة.
اثنان من الثلاثة لبسا الرداء الرسمي بلونه الطيني ثم الأخضر الطحلبي ولكنهما كانا يخلعانه عند عتبة باب الدار ليستردا حريتهما المقيدة بنجوم مصطنعة وهما قد تجاوزا النجوم بفراسخ فلكية ودخلا مدارات عبقرية. والثالث حمل عصاه وارتحل شمالا، حينما كان أهل الشمال يهشون ويبشون للقادمين إليهم، وكانت لندن تمتلئ بأهلها قبل أن يتركوها للغرباء، وقبل أن يتدافع إلى أبوابهم سقط المتاع لينقلبوا إلى العنصرية المقيتة.
رحيل عوض مالك وأبي أمنة حامد وعثمان وقيع الله كان له وقع أليم في نفسي، وقد كنت أحدثها عن لقائهم قبل فراقهم وأحثها على ذلك. كان الثلاثة يجولون في خواطري في الشهور القليلة الماضية دونما باعث ملحاح، وبلا سبب مباشر. وفقدهم أضاع مني فرصة أن اجمع منهم بعض شعر وأدب جعفر السّورْي ورهطه الذي كتبوه لأصدقائهم يمازحونهم به وهو ما يعرف (بالحلمنتيشي). فقد كادت أن تخلو الفانية من عارفيهم والعارفين بهذا الشعر، بدءا من محمد أحمد نور الذي كتب مقدمة كتاب جعفر السوري عن شاعر البطانة الكبير الحاردلو، مرورا بجماعة أجزخانة العاصمة المثلثة التي اخذ فندق "أراك" مكانها. ومن بين الجماعة صاحب ذلك الملتقى الصيدلاني (الاجزجي) زهير صالح عبد القادر وشقيقيه السياسي والوزير الدكتور عبد الحميد صالح والشاعر الرهيب منير صالح وحتى عثمان وقيع الله ومحمد المهدي مجذوب.
عرفت الرائد عوض مالك وأنا طفل يحبو في بلاط صاحبة الجلالة الصحافة. فقبل احترافي كنت أتردد على دار الرأي العام، فألقى الترحيب من العاملين فيها ومن صحافييها وخصوصا الفاتح التيجاني وجمال عبد الملك (ابن خلدون). وقد تطوعا بنشر مقالات لي جلها عن القرن الأفريقي. ثم افرد لي مساحة – بين الفينة والأخرى -الأديب والدبلوماسي سيد أحمد الحردلو في صفحة كان يحررها في الرأي العام كل يوم أحد (إن لم تخني الذاكرة). بعيد تخرجه مباشرة من الجامعة. فور قدومه من القاهرة التحق الحردلو بوزارة التربية والتعليم التي بعثت به مدرسا للغة الإنجليزية في الأهلية الثانوية بامدرمان حيث درسّني ومجموعة طيبة من الأدباء والشعراء بينهم مأمون بابكر زروق وفتحي عبد الرؤوف الخانجي والتيجاني سعيد. ومن العسكريين/السياسيين عبد العزيز خالد. وقد ربط الشعر والأدب بيننا وبين صاحب "غدا نلتقي" و "ملعون ابوكي بلد"، فلم تقم بيننا حواجز المعلم والتلميذ بل امتدت جسور الصداقة. وفي دار الرأي العام التقيت الرائد، حينذاك، عوض مالك وتوطدت بينه والفاتح التيجاني وسيد أحمد الحردلو وبيني عرى الصداقة. كنا نلتقي كل ليلة في دار الصحيفة لننطلق حتى منتصف الليل في حدائق امدرمان الرحيبة قبل أن تصّوح أشجارها وتذبل أزهارها. ولم يكن مقرن النيلين مكانا مفضلا لنا، بل الضفة الأخرى من النيل الأبيض، فهو أقرب إلى داري في امدرمان. لقيت من الثلاثة رعاية وتشجيعا ومن عوض مالك إنصاتا لشعري.
بقي عوض مالك عندي رائدا، ليس في سلاح الإشارة الذي كان يؤدي خدمته العسكرية فيه، بل في حسن الخلق والمروءة والتسامح ورقة الحس. مد يده للكثيرين حتى يجدوا طريقهم في عالم الإبداع وسعى وراء آخرين حتى ينهضوا إلى حيث هم الآن. كان عوض مالك وراء وزير الإعلام الراحل عبدالماجد ابوحسبو ليستمع إلى المطرب محمد ميرغني ويدفع به إلى الإذاعة. تحت إلحاح عوض مالك وصديق محيسي، استقبل عبد الماجد ابوحسبو محمد ميرغني في منزله. غناه المطرب الشاب فطرب الوزير وأمر بإذاعة أغنياته. كان عوض من جماعة أدباء بحري وفنانيها. قلة تعرف إن عوض مالك كان وراء استمرار خضر بشير في الغناء، وقد ضمه إلى جماعة الخرطوم بحري.
في يوم قائظ من صيف الخرطوم اللاهب ذهبنا إلى منزل الفاتح التيجاني في الخرطوم بحري لتناول الغداء، وحينما كان بيننا وبين المنزل مسافة مئات الأمتار تناهى إلى سمعنا صوت خضر بشير يغني بصوت عالي. كان الصوت آتيا من بيت الفاتح، فبادره أحدنا بأنه قد نسي المذياع مفتوحا إلى أخره قبل خروجه وتسبب في إزعاج الجيران، إلا إن عوض مالك قال: هذا خضر بلحمه وشحمه يغني لذاته في نوبة من نوباته الروحية ووجده وانجذابه الوجداني. وهو ما وجدنا خضر بشير عليه حينما دلفنا إلى البيت الذي لم يكن بابه مغلقا. ومن كان يغلق بابه في ذلك الزمان ومما كان يخشى الناس؟! كان خضر يقف في باحة المنزل وتحت سياط أشعة الشمس الحارقة يغني طربا. أكمل غناءه ولم يأبه بدخولنا عليه. قال أحد الحاضرين: معرفة وجود خضر بشير في البيت من خلال الصوت والغناء هو نتاج خبرة تلقاها في سلاح الإشارة وتلك دربة العسكريين. بل هو حس الشاعر المرهف وأذنه “النظيفة" التي تميز بين الإنساني والآلي، كان قولي لهم.
في تلك الأيام وفد إلى الخرطوم نزار قباني فوجد فيها الشعر انهارا تفيض أكثر من النيلين على ضفاف العاصمة المثلثة. ولم يلق من جمهور الخرطوم ما تعود عليه من جماهير العواصم الاخرى. استمع إليه الناس ورحبوا به ترحابهم بالزائر الكريم والضيف العزيز، إلا إنني كنت أراه أكثر من مرة يذرع بهو فندق السودان، حيث أقام، لوحده جيئة وذهابا. مكث نزار في الخرطوم مدة ليست بالقصيرة، إلا انه لم يذكرها ضمن فتوحاته وصولاته وجولاته!
في إحدى أمسياتنا ذكرت وحدة نزار "للشلة" فأجابني عوض مالك، ما نزار إلا سقا في حارة السقايين. انشد السودانيون شعر الغزل وبرعوا فيه منذ مئات السنين، فهو في عجينتهم الثقافية وما زال. الغزل فولكلور سوداني صرف لهم فيه أساطير وملاحم وروايات وما أبا مسيكه وتاجوج إلا مثال على ذلك، فهل تجد مثلهما من حيث أتى نزار. حينما سكنت بلاد الشام ردحا من الزمن، كان هذا التعليق في خاطري، فحثيثا بحثت، فلم أجد في "العتابة" و "الميجنا" ما يشبه ارث الغزل في السودان.
وحينما افترقنا ظللت اسأل عن "الرائد" كلما التقيت صديقا يعرفه. وكانوا يجيبون بان الرائد أصبح مقدما ثم عقيدا ثم عميدا ولواءا فيما بعد. لكنني كنت أسألهم مرة اخرى عن الرائد وما كنت أعنى رتبته العسكرية، بل ريادته في غير مجال. في العام 1984 كنت في جنيف لحضور اجتماعات اتحاد البرلمانات الدولي. كان رئيس الاتحاد وقتذاك، رئيس مجلس الشعب، عزالدين السيد. والمجلس أوفد عددا من أعضائه بينهم الصديق بخاري. وفي معية الوفد أتى بعض الصحافيين والإعلاميين من بينهم الفاتح التيجاني. وجاء صحافيون سودانيون آخرون لكن صحبة وفود عربية اخرى وفيهم صهر الفاتح، الزميل عبد الله الجبلي، الذي عملت معه في وكالة أخبار الخرطوم ومع صاحبها الصحافي الجهبذ النبيل، سعد أحمد الشيخ. جاء عبد الله مع وفد الأمارات العربية المتحدة. دعانا عبد الله إلى سهرة في غرفته وكان معنا طه محمد نور، أحد القيادات التاريخية لجبهة التحرير الإرترية. فسألت الفاتح عن الرائد وأحواله. فهم من أعنى، وقال لي انه بخير وسيحدثني عنه غدا في قصر الأمم أو سهرة اخرى. ولكن بقية الحاضرين استبد بهم العجب وحركهم الفضول فجعلوا يحذرون من يكون هذا الرائد الذي كتم الفاتح التيجاني أخباره أمامهم. ذكروا أسماء الرواد المشهورين بعضهم من قادة انقلاب مايو وآخرين إليهم أقرب، ولكن لم يتبادر إلى ذهن أحد منهم اسم الشاعر الانيق عوض مالك.
في الغد، قال لي الفاتح التيجاني لنسهر أنا وأنت فقط مع ذكريات عوض مالك، فهو أحرى بسهرة لا تخالطها أية أحاديث اخرى. لكن سهرتنا تلك بدأت بشكوى سمعتها من الدكتور محسن بلال، وزير الإعلام السوري الحالي، وكان حينذاك عضوا في مجلس الشعب. الدكتور محسن بلال رجل رقيق ومرهف الشعور بالقومية العربية ويساري بطبعه ومتواضع.
لقيني في مقهى قصر المؤتمرات فطلب مني أن نتمشى حين فراغي من شرب فنجان القهوة، وقد رفض دعوتي لتناول بعضها، رغم إصراري. كان وجهه حزينا ومكتئبا. لما بدأنا نذرع أروقة القصر، بادرني بالقول انه حزين للغاية، حزنا لم يسبق أن أحس به. فهو يرى شقيقتنا البرلمانية السودانية لا تفارق الوفد الإسرائيلي منذ قدومها. عرفت من يعني وقد رأيت ذلك بنفسي. كانت، ماري سيرسيو ايرو، هذه البرلمانية الشابة ابنة سياسي وطني كبير من جنوب السودان تبوأ أعلى منصب في البلاد بعيد الاستقلال مباشرة. أخذت مني تهدئة روعه الكثير من الجهد، لا سيما بيني وبين ما جد في السودان من أحداث وتطورات عقد ونصف.
سألت الفاتح أن كان ما يحدث أصبح مقبولا في سودان جعفر نميري. فقال لي تلك قصة اخرى نأتي إليها في يوم آخر. دعنا الآن مع عوض مالك.
ولي عودة مع شعره حينما تكون هي أمام ناظري وليست خيالات في الذاكرة.
ثم رحل بعد عوض بأيام أبو أمنة حامد، شاعر اختزن ارث أهله الهدندوة وقبائل الشرق كلها ليخرجها بلسان غير لسانه وبفصاحة تضاهي من كانت العربية لغته الأم التي لا يسمع غيرها في البيت. واستطاع هذا الحامي أن ينطق لغة الساميين بلثغة محببة ويهديهم الموعظة والحكمة الحسنة. ففي بيت واحد برهن على عبقرية لا تحدها حدود:
قم صلاح الدين واشهد بعثنا يوم صافحنا جمال العربي.
هو يريد من بطل كردي أسطوري أن يشهد هذا البعث الذي يمثله هذا العربي. هذه اللوحة تلخص ثقافة السودانيين الأصيلة التي استوعبت الثقافات الأخرى وخرجت بخليط خلاق، لا ينظر إلى احن الماضي ولا إلى ما يقسم الناس عموديا، بل إلى القواسم. لعله مصطفى سند (إن اسعفتني الذاكرة) الذي قال ذات مرة: "جماع الغابة والصحراء لم يكن وديا في البداية. ولكن من رخام هذا اللقاء الشرس بين فرسان الخيول العربية وسبايا الغاب الإفريقي نحتنا وجهنا. الإنكار لا يجدي. والاعتراف عودة إلى الجذور الأصيلة المنسية."
التقيت أبو أمنة في مناسبات قليلة ونادرة ولكنها كانت حميمة. هو لم يسافر، ولم يهاجر، وأكثر من اتاح لي الوقت معرفتهم عن قرب كانوا من رواد المهاجر. قلت له ذات مرة إن شعرك بالعربية، لكنني أحس إنك تنطق بلسانك الآخر وبلغتك الصامتة. تحدثنا في تلك المرات القليلة عن شعر التقري وطلبت منه أن يروى لي بعض شعر الهدارب (أو البداويت) مع ترجمتها. فمعرفتي بهذه اللغة فقيرة على عكس التقري التي لا يتقنها هو. رويت له عن الكتاب الذي أصدرته بعثة جامعة برنستون في أخريات القرن التاسع عشر عن شعر التقري. هذا الكتاب هو أول دراسة علمية لشعر وأدب غير مكتوب في تلك المنطقة من العالم. وهي دراسة ثرة اعدتها مجموعة من الباحثين الجلدين من جامعة مات صاحب النسبية، اينشتاين، وهو يدرس فيها. هو يعرف إن الهدارب هي لغة ملوك وأمراء وأرستقراطية البني عامر. والنابتاب لا يتكلمون التقري حتى ولو كانوا يعرفونها. فهي عندهم لغة العامة التي لا تليق بهم. أنا أطرب لسماع الهدارب، رغم عدم معرفتي بها، ففيها موسيقى وإيقاع. واحسب إن شعرها كذلك. وافقني فيما ذهبت إليه. ولما قلت له إن قصيدته (سال من شعرها الذهب) تذكرني بقصيدة من شعر التقري يصف الشاعر شعر حبيبته فيها بظل جبل فلستّاي – وهو جبل عالي في أواسط ارتريا – عند المغيب يمتد إلى الأفق. أعجبه ذلك وقال: ربما كما ذكرت هي اللغة الصامتة في داخلي خرجت بغير لسان.
تحدثنا عن النابتاب وعن أصولهم التي تمتد إلى منطقة الجعليين وشمال السودان، إلا إن نسلهم لا يتكلم العربية. سكنوا الشرق أو غرب ارتريا ولعلهم تبنوا الهدارب لغة ليبقوا على تميزهم عن سكان المنطقة التي لجأوا إليها. وأثناء الحديث أشرت إلى دراسة عميقة وضافية ألقاها في نادي الخريجين بامدرمان أواخر ستينيات القرن الماضي حسب الله محمد أحمد الذي كان موظفا في السلك الإداري بوزارة الخارجية السودانية. وقد فقدت أثره بعد كتاب صدر له بداية السبيعنيات عن حضارة بلاد النوبة (لا يحضرني عنوانه الآن). في كل مرة من المرات القلائل التي التقيت فيها ابا امنة، كان ذكر حسب الله الحاج يوسف (ود محلق) حاضرا. وتلك قصة اخرى في حاجة إلى مجلدات.
كان أبو أمنه أقرب إلى الناصريين والقوميين العرب ويسارهم من أي اتجاه أخر. وليس هذا مدعاة للعجب. بل هو تأكيد على أن تلك الأفكار، في تلك المرحلة لم يكن لها علاقة بالعرق. وهاهو أحد أهم دعاة القومية العربية وفلاسفتها في مصر، الدكتور عصمت سيف الدولة، من أصل نوبي، داكن البشرة؛ ممن يطلق عليهم غوغاء القاهرة لفظ "بربري".
وبعد أيام تعد على أصابع اليد، تبعهم إلى الخلود عثمان وقيع الله الذي لم يكن خطاطا فحسب (كلوغرفيست).
هذا ظلم ما بعده ظلم لمبدع لا يشق له غبار. كان عثمان وقيع الله فنانا شاملاً بكل ما تعنيه الكلمة من معني، وكان إنسانا نبيلا مرهفا. وفي شيخوخته كان طفلا يدهشه كل ما هو جديد.
رأيت عثمان وقيع الله في دار أبي فقد كان من ندمائه. و لكن تلك الفترة لم ترسخ في الذاكرة كما يجب. ثم التقيته منتصف السبعينيات في دار شقيقه فيصل وقيع الله بدمشق، و هو فنان أخر، قارع طبول و عازف دفوف لا يبارى. لم اسمع طبلا يحدثك ويروي لك حكايا شموس مشرقة وأشجار مورقة وغابات مطيرة إلا عند فيصل وفرقة الطبول البصرية. فقد كانت فرقة البصرة للفنون الشعبية تضم مجموعة من عازفي الطبول لا يشق لهم غبار، لا يملك المرء إلا أن يكون أسير إيقاعهم حتى بعد أن ينفض السامر. و في بيت فيصل أيضا رأيت لوحاته التي جردت الحرف العربي ليكتسب قيمة جمالية تتخطى قيمته المعرفيه بأزمان و دهور. و هو رائد هذا الفن و إن نسب لغيره. و عثمان وقيع الله لم يجرد الحرف العربي فحسب، بل جسد الجملة العربية و القصيدة العربية كائنا حيا ناطقا و ليس نصا بهيما ينطقه القارئ. تجد ذلك في كل لوحاته، اذكر منها: العودة إلى سنار و هي رسم لقصيدة محمد عبدالحي التي تحمل ذات العنوان، و اللوح المحفوظ التي رسمها على لوح من ألواح الخلاوي، و الف لام ميم، و كاف لام ميم، و غيرها. إلا إن عمله الباهر هو خطه للمصحف الذي انفق فيه ما يقارب الثلاثة عقود.
في مطلع الثمانينات شرّع المتحف القومي بدمشق أبوابه لمعرض عثمان وقيع الله وجاء لافتتاحه وزير الإعلام السوري الأسبق، احمد اسكندر أحمد. وتلك نادرة للذين يعرفون تقاليد المعارض والمناسبات في سورية. وقد بهر المعرض زواره من أي جنس كانوا.
وعثمان محدث لا يُمل وراوية كأنه الأصمعي. في تلك الأيام توقفت لمدة يومين في لندن عند عودتي من أكابولكو بالمكسيك حيث انعقد الاجتماع الثاني لوكالات الأنباء العربية والأميركية اللاتينية. و كالعادة كان السودان - ممثلا بوكالة إنبائه - غائبا عن كل تلك المؤتمرات و الاجتماعات. كنت احرص على أن التقي بعثمان وقيع الله في المرات المتباعدة التي ازور فيها عاصمة الإنجليز. حينذاك اتصلت به فأنبأني بان صديقنا الشاعر الكبير محمد عبدالحي في العاصمة البريطانية للعلاج تصحبه زوجه و والدته. فطلبت منه أن يصحبني إليهم لأعوده و ازور أسرته الكريمة. كنت اسكن – كما اعتدت – في كيو غاردنز في منزل صديق و زميل صحافي اميركي، هو شارلس غلاس، تربطني به وشائج قديمة. و لشارلي كتاب حاول أن يسبر - من خلال رحلة برية قام بها - ما وراء سايكس – بيكو. "قبائل ترفع أعلاما: رحلة مبتورة من الإسكندرون إلى العقبة*" مرجع مهم لكيفية تقسيم المشرق. و قد انقطع خط رحلته عندما خطف في بيروت صحبة علي عادل عسيران، نجل رئيس البرلمان اللبناني الأسبق، ثم أطلق سراحه بعد عشرة أسابيع.
ألح أن يصحبني عثمان وقيع الله من كيوغاردنز رغم بعد المسافة إلى حيث يقيم محمد عبدالحي. و لم أتمنع كثيرا، إذ عرفت إن تنقلنا من قطار إلى حافلة حتى نصل هناك سيمتعني بطلاوة حديثه و روائع رواياته. و كان كما حسبت. كان عثمان من جيل أبي ولكنه أبى إلا أن يأتي ليصحبني بدلا من ان نلتقي عند شاعرنا الكبير.
أخر لقاء لي بعثمان وقيع الله، كان حينما زارني في منزلي بدمشق منتصف الثمانينيات مهنئا بمولد ابنتي الكبرى. أمضى معي وقتا ليس بالقصير. قبل مجيئه كنت اقرأ في ديوان المجذوب (الشرافة و الهجرة)، أهداه إلي فتحي الخانجي في زيارتي الأخيرة إلى الخرطوم. أمسك بالديوان و طلب أن اختار قصيدة أو أبيات ليرسمها لوحة هدية للمولودة. و اخترت أبياتا، ثم لم نلتق من بعد، و لا اعرف إن رسم اللوحة. قبل أن يغادر طلب أن يرى المولودة، و حينما أحضرتها إليه و كان عمرها لا يتجاوز الأسبوعين احتضنها بين ذراعية ثم قرب فاه من أذنها اليمني و رفع همسا بصوته الرخيم الآذان، و جعل ينتقل من أذن إلى اخرى حتى فرغ. كنت انظر إلى وجهها أثناء الآذان. رأيت فيه تعابير تكاد تنطق حبورا و سكينة و راحة و دعة. لم تبك رانية تلك الليلة مطلقا!
كان عثمان وقيع الله صاحب صوت رخيم شجي، يغني في مجالس بعينها، فينتشي كل من سمع الغناء حتى لو لم يعرف لغة القصيد.
يحضرني في رحيلهم هذا، بيت محمد عبدالقادر كرف و هو يرثي أحد بناة الأهلية الثانوية – لعله صديق فريد :
فيا رحمة الرحمن صوبي غمامة ويا غيث روّي القبر من مائك الجم
* Tribes with Flags, A Journey Curtailed From Alexandretta to Aqaba
عمر جعفر السّوْري
elsouri1@yahoo.com
////////////////////////////
قدستم رفقة
.................
إن دار الليل حديث القلب إلى القلب
وتذاكر أصغرهم قدري
لاذوا بالصمت. ومن يدري؟!
قد يدرك يوما إن العالم ربح وخسارة
(النور عثمان أبكر في خاتمة المنفى والمملكة)
******************
خلال الأيام القليلة الفائتة رحل ثلاثة مبدعين في صمت مريب من السودانيين عموما ومعاصريهم على وجه الخصوص. سطور قليلة هنا وهناك في صفحات "الاجتماعيات". ولكن ألم يصبح هذا دأبنا في كل حال. حتى الدمع السخين الذي كنا نذرفه على الراحلين نضب، وجفت مآقي الباكين والمتباكين المدرارة. فقد كادت المروءة أن تفقد أهلها في سودان الحروب الضروس والمجاعة والفساد والسرقة والرجرجة والدهماء والسوقة.
اثنان من الثلاثة لبسا الرداء الرسمي بلونه الطيني ثم الأخضر الطحلبي ولكنهما كانا يخلعانه عند عتبة باب الدار ليستردا حريتهما المقيدة بنجوم مصطنعة وهما قد تجاوزا النجوم بفراسخ فلكية ودخلا مدارات عبقرية. والثالث حمل عصاه وارتحل شمالا، حينما كان أهل الشمال يهشون ويبشون للقادمين إليهم، وكانت لندن تمتلئ بأهلها قبل أن يتركوها للغرباء، وقبل أن يتدافع إلى أبوابهم سقط المتاع لينقلبوا إلى العنصرية المقيتة.
رحيل عوض مالك وأبي أمنة حامد وعثمان وقيع الله كان له وقع أليم في نفسي، وقد كنت أحدثها عن لقائهم قبل فراقهم وأحثها على ذلك. كان الثلاثة يجولون في خواطري في الشهور القليلة الماضية دونما باعث ملحاح، وبلا سبب مباشر. وفقدهم أضاع مني فرصة أن اجمع منهم بعض شعر وأدب جعفر السّورْي ورهطه الذي كتبوه لأصدقائهم يمازحونهم به وهو ما يعرف (بالحلمنتيشي). فقد كادت أن تخلو الفانية من عارفيهم والعارفين بهذا الشعر، بدءا من محمد أحمد نور الذي كتب مقدمة كتاب جعفر السوري عن شاعر البطانة الكبير الحاردلو، مرورا بجماعة أجزخانة العاصمة المثلثة التي اخذ فندق "أراك" مكانها. ومن بين الجماعة صاحب ذلك الملتقى الصيدلاني (الاجزجي) زهير صالح عبد القادر وشقيقيه السياسي والوزير الدكتور عبد الحميد صالح والشاعر الرهيب منير صالح وحتى عثمان وقيع الله ومحمد المهدي مجذوب.
عرفت الرائد عوض مالك وأنا طفل يحبو في بلاط صاحبة الجلالة الصحافة. فقبل احترافي كنت أتردد على دار الرأي العام، فألقى الترحيب من العاملين فيها ومن صحافييها وخصوصا الفاتح التيجاني وجمال عبد الملك (ابن خلدون). وقد تطوعا بنشر مقالات لي جلها عن القرن الأفريقي. ثم افرد لي مساحة – بين الفينة والأخرى -الأديب والدبلوماسي سيد أحمد الحردلو في صفحة كان يحررها في الرأي العام كل يوم أحد (إن لم تخني الذاكرة). بعيد تخرجه مباشرة من الجامعة. فور قدومه من القاهرة التحق الحردلو بوزارة التربية والتعليم التي بعثت به مدرسا للغة الإنجليزية في الأهلية الثانوية بامدرمان حيث درسّني ومجموعة طيبة من الأدباء والشعراء بينهم مأمون بابكر زروق وفتحي عبد الرؤوف الخانجي والتيجاني سعيد. ومن العسكريين/السياسيين عبد العزيز خالد. وقد ربط الشعر والأدب بيننا وبين صاحب "غدا نلتقي" و "ملعون ابوكي بلد"، فلم تقم بيننا حواجز المعلم والتلميذ بل امتدت جسور الصداقة. وفي دار الرأي العام التقيت الرائد، حينذاك، عوض مالك وتوطدت بينه والفاتح التيجاني وسيد أحمد الحردلو وبيني عرى الصداقة. كنا نلتقي كل ليلة في دار الصحيفة لننطلق حتى منتصف الليل في حدائق امدرمان الرحيبة قبل أن تصّوح أشجارها وتذبل أزهارها. ولم يكن مقرن النيلين مكانا مفضلا لنا، بل الضفة الأخرى من النيل الأبيض، فهو أقرب إلى داري في امدرمان. لقيت من الثلاثة رعاية وتشجيعا ومن عوض مالك إنصاتا لشعري.
بقي عوض مالك عندي رائدا، ليس في سلاح الإشارة الذي كان يؤدي خدمته العسكرية فيه، بل في حسن الخلق والمروءة والتسامح ورقة الحس. مد يده للكثيرين حتى يجدوا طريقهم في عالم الإبداع وسعى وراء آخرين حتى ينهضوا إلى حيث هم الآن. كان عوض مالك وراء وزير الإعلام الراحل عبدالماجد ابوحسبو ليستمع إلى المطرب محمد ميرغني ويدفع به إلى الإذاعة. تحت إلحاح عوض مالك وصديق محيسي، استقبل عبد الماجد ابوحسبو محمد ميرغني في منزله. غناه المطرب الشاب فطرب الوزير وأمر بإذاعة أغنياته. كان عوض من جماعة أدباء بحري وفنانيها. قلة تعرف إن عوض مالك كان وراء استمرار خضر بشير في الغناء، وقد ضمه إلى جماعة الخرطوم بحري.
في يوم قائظ من صيف الخرطوم اللاهب ذهبنا إلى منزل الفاتح التيجاني في الخرطوم بحري لتناول الغداء، وحينما كان بيننا وبين المنزل مسافة مئات الأمتار تناهى إلى سمعنا صوت خضر بشير يغني بصوت عالي. كان الصوت آتيا من بيت الفاتح، فبادره أحدنا بأنه قد نسي المذياع مفتوحا إلى أخره قبل خروجه وتسبب في إزعاج الجيران، إلا إن عوض مالك قال: هذا خضر بلحمه وشحمه يغني لذاته في نوبة من نوباته الروحية ووجده وانجذابه الوجداني. وهو ما وجدنا خضر بشير عليه حينما دلفنا إلى البيت الذي لم يكن بابه مغلقا. ومن كان يغلق بابه في ذلك الزمان ومما كان يخشى الناس؟! كان خضر يقف في باحة المنزل وتحت سياط أشعة الشمس الحارقة يغني طربا. أكمل غناءه ولم يأبه بدخولنا عليه. قال أحد الحاضرين: معرفة وجود خضر بشير في البيت من خلال الصوت والغناء هو نتاج خبرة تلقاها في سلاح الإشارة وتلك دربة العسكريين. بل هو حس الشاعر المرهف وأذنه “النظيفة" التي تميز بين الإنساني والآلي، كان قولي لهم.
في تلك الأيام وفد إلى الخرطوم نزار قباني فوجد فيها الشعر انهارا تفيض أكثر من النيلين على ضفاف العاصمة المثلثة. ولم يلق من جمهور الخرطوم ما تعود عليه من جماهير العواصم الاخرى. استمع إليه الناس ورحبوا به ترحابهم بالزائر الكريم والضيف العزيز، إلا إنني كنت أراه أكثر من مرة يذرع بهو فندق السودان، حيث أقام، لوحده جيئة وذهابا. مكث نزار في الخرطوم مدة ليست بالقصيرة، إلا انه لم يذكرها ضمن فتوحاته وصولاته وجولاته!
في إحدى أمسياتنا ذكرت وحدة نزار "للشلة" فأجابني عوض مالك، ما نزار إلا سقا في حارة السقايين. انشد السودانيون شعر الغزل وبرعوا فيه منذ مئات السنين، فهو في عجينتهم الثقافية وما زال. الغزل فولكلور سوداني صرف لهم فيه أساطير وملاحم وروايات وما أبا مسيكه وتاجوج إلا مثال على ذلك، فهل تجد مثلهما من حيث أتى نزار. حينما سكنت بلاد الشام ردحا من الزمن، كان هذا التعليق في خاطري، فحثيثا بحثت، فلم أجد في "العتابة" و "الميجنا" ما يشبه ارث الغزل في السودان.
وحينما افترقنا ظللت اسأل عن "الرائد" كلما التقيت صديقا يعرفه. وكانوا يجيبون بان الرائد أصبح مقدما ثم عقيدا ثم عميدا ولواءا فيما بعد. لكنني كنت أسألهم مرة اخرى عن الرائد وما كنت أعنى رتبته العسكرية، بل ريادته في غير مجال. في العام 1984 كنت في جنيف لحضور اجتماعات اتحاد البرلمانات الدولي. كان رئيس الاتحاد وقتذاك، رئيس مجلس الشعب، عزالدين السيد. والمجلس أوفد عددا من أعضائه بينهم الصديق بخاري. وفي معية الوفد أتى بعض الصحافيين والإعلاميين من بينهم الفاتح التيجاني. وجاء صحافيون سودانيون آخرون لكن صحبة وفود عربية اخرى وفيهم صهر الفاتح، الزميل عبد الله الجبلي، الذي عملت معه في وكالة أخبار الخرطوم ومع صاحبها الصحافي الجهبذ النبيل، سعد أحمد الشيخ. جاء عبد الله مع وفد الأمارات العربية المتحدة. دعانا عبد الله إلى سهرة في غرفته وكان معنا طه محمد نور، أحد القيادات التاريخية لجبهة التحرير الإرترية. فسألت الفاتح عن الرائد وأحواله. فهم من أعنى، وقال لي انه بخير وسيحدثني عنه غدا في قصر الأمم أو سهرة اخرى. ولكن بقية الحاضرين استبد بهم العجب وحركهم الفضول فجعلوا يحذرون من يكون هذا الرائد الذي كتم الفاتح التيجاني أخباره أمامهم. ذكروا أسماء الرواد المشهورين بعضهم من قادة انقلاب مايو وآخرين إليهم أقرب، ولكن لم يتبادر إلى ذهن أحد منهم اسم الشاعر الانيق عوض مالك.
في الغد، قال لي الفاتح التيجاني لنسهر أنا وأنت فقط مع ذكريات عوض مالك، فهو أحرى بسهرة لا تخالطها أية أحاديث اخرى. لكن سهرتنا تلك بدأت بشكوى سمعتها من الدكتور محسن بلال، وزير الإعلام السوري الحالي، وكان حينذاك عضوا في مجلس الشعب. الدكتور محسن بلال رجل رقيق ومرهف الشعور بالقومية العربية ويساري بطبعه ومتواضع.
لقيني في مقهى قصر المؤتمرات فطلب مني أن نتمشى حين فراغي من شرب فنجان القهوة، وقد رفض دعوتي لتناول بعضها، رغم إصراري. كان وجهه حزينا ومكتئبا. لما بدأنا نذرع أروقة القصر، بادرني بالقول انه حزين للغاية، حزنا لم يسبق أن أحس به. فهو يرى شقيقتنا البرلمانية السودانية لا تفارق الوفد الإسرائيلي منذ قدومها. عرفت من يعني وقد رأيت ذلك بنفسي. كانت، ماري سيرسيو ايرو، هذه البرلمانية الشابة ابنة سياسي وطني كبير من جنوب السودان تبوأ أعلى منصب في البلاد بعيد الاستقلال مباشرة. أخذت مني تهدئة روعه الكثير من الجهد، لا سيما بيني وبين ما جد في السودان من أحداث وتطورات عقد ونصف.
سألت الفاتح أن كان ما يحدث أصبح مقبولا في سودان جعفر نميري. فقال لي تلك قصة اخرى نأتي إليها في يوم آخر. دعنا الآن مع عوض مالك.
ولي عودة مع شعره حينما تكون هي أمام ناظري وليست خيالات في الذاكرة.
ثم رحل بعد عوض بأيام أبو أمنة حامد، شاعر اختزن ارث أهله الهدندوة وقبائل الشرق كلها ليخرجها بلسان غير لسانه وبفصاحة تضاهي من كانت العربية لغته الأم التي لا يسمع غيرها في البيت. واستطاع هذا الحامي أن ينطق لغة الساميين بلثغة محببة ويهديهم الموعظة والحكمة الحسنة. ففي بيت واحد برهن على عبقرية لا تحدها حدود:
قم صلاح الدين واشهد بعثنا يوم صافحنا جمال العربي.
هو يريد من بطل كردي أسطوري أن يشهد هذا البعث الذي يمثله هذا العربي. هذه اللوحة تلخص ثقافة السودانيين الأصيلة التي استوعبت الثقافات الأخرى وخرجت بخليط خلاق، لا ينظر إلى احن الماضي ولا إلى ما يقسم الناس عموديا، بل إلى القواسم. لعله مصطفى سند (إن اسعفتني الذاكرة) الذي قال ذات مرة: "جماع الغابة والصحراء لم يكن وديا في البداية. ولكن من رخام هذا اللقاء الشرس بين فرسان الخيول العربية وسبايا الغاب الإفريقي نحتنا وجهنا. الإنكار لا يجدي. والاعتراف عودة إلى الجذور الأصيلة المنسية."
التقيت أبو أمنة في مناسبات قليلة ونادرة ولكنها كانت حميمة. هو لم يسافر، ولم يهاجر، وأكثر من اتاح لي الوقت معرفتهم عن قرب كانوا من رواد المهاجر. قلت له ذات مرة إن شعرك بالعربية، لكنني أحس إنك تنطق بلسانك الآخر وبلغتك الصامتة. تحدثنا في تلك المرات القليلة عن شعر التقري وطلبت منه أن يروى لي بعض شعر الهدارب (أو البداويت) مع ترجمتها. فمعرفتي بهذه اللغة فقيرة على عكس التقري التي لا يتقنها هو. رويت له عن الكتاب الذي أصدرته بعثة جامعة برنستون في أخريات القرن التاسع عشر عن شعر التقري. هذا الكتاب هو أول دراسة علمية لشعر وأدب غير مكتوب في تلك المنطقة من العالم. وهي دراسة ثرة اعدتها مجموعة من الباحثين الجلدين من جامعة مات صاحب النسبية، اينشتاين، وهو يدرس فيها. هو يعرف إن الهدارب هي لغة ملوك وأمراء وأرستقراطية البني عامر. والنابتاب لا يتكلمون التقري حتى ولو كانوا يعرفونها. فهي عندهم لغة العامة التي لا تليق بهم. أنا أطرب لسماع الهدارب، رغم عدم معرفتي بها، ففيها موسيقى وإيقاع. واحسب إن شعرها كذلك. وافقني فيما ذهبت إليه. ولما قلت له إن قصيدته (سال من شعرها الذهب) تذكرني بقصيدة من شعر التقري يصف الشاعر شعر حبيبته فيها بظل جبل فلستّاي – وهو جبل عالي في أواسط ارتريا – عند المغيب يمتد إلى الأفق. أعجبه ذلك وقال: ربما كما ذكرت هي اللغة الصامتة في داخلي خرجت بغير لسان.
تحدثنا عن النابتاب وعن أصولهم التي تمتد إلى منطقة الجعليين وشمال السودان، إلا إن نسلهم لا يتكلم العربية. سكنوا الشرق أو غرب ارتريا ولعلهم تبنوا الهدارب لغة ليبقوا على تميزهم عن سكان المنطقة التي لجأوا إليها. وأثناء الحديث أشرت إلى دراسة عميقة وضافية ألقاها في نادي الخريجين بامدرمان أواخر ستينيات القرن الماضي حسب الله محمد أحمد الذي كان موظفا في السلك الإداري بوزارة الخارجية السودانية. وقد فقدت أثره بعد كتاب صدر له بداية السبيعنيات عن حضارة بلاد النوبة (لا يحضرني عنوانه الآن). في كل مرة من المرات القلائل التي التقيت فيها ابا امنة، كان ذكر حسب الله الحاج يوسف (ود محلق) حاضرا. وتلك قصة اخرى في حاجة إلى مجلدات.
كان أبو أمنه أقرب إلى الناصريين والقوميين العرب ويسارهم من أي اتجاه أخر. وليس هذا مدعاة للعجب. بل هو تأكيد على أن تلك الأفكار، في تلك المرحلة لم يكن لها علاقة بالعرق. وهاهو أحد أهم دعاة القومية العربية وفلاسفتها في مصر، الدكتور عصمت سيف الدولة، من أصل نوبي، داكن البشرة؛ ممن يطلق عليهم غوغاء القاهرة لفظ "بربري".
وبعد أيام تعد على أصابع اليد، تبعهم إلى الخلود عثمان وقيع الله الذي لم يكن خطاطا فحسب (كلوغرفيست).
هذا ظلم ما بعده ظلم لمبدع لا يشق له غبار. كان عثمان وقيع الله فنانا شاملاً بكل ما تعنيه الكلمة من معني، وكان إنسانا نبيلا مرهفا. وفي شيخوخته كان طفلا يدهشه كل ما هو جديد.
رأيت عثمان وقيع الله في دار أبي فقد كان من ندمائه. و لكن تلك الفترة لم ترسخ في الذاكرة كما يجب. ثم التقيته منتصف السبعينيات في دار شقيقه فيصل وقيع الله بدمشق، و هو فنان أخر، قارع طبول و عازف دفوف لا يبارى. لم اسمع طبلا يحدثك ويروي لك حكايا شموس مشرقة وأشجار مورقة وغابات مطيرة إلا عند فيصل وفرقة الطبول البصرية. فقد كانت فرقة البصرة للفنون الشعبية تضم مجموعة من عازفي الطبول لا يشق لهم غبار، لا يملك المرء إلا أن يكون أسير إيقاعهم حتى بعد أن ينفض السامر. و في بيت فيصل أيضا رأيت لوحاته التي جردت الحرف العربي ليكتسب قيمة جمالية تتخطى قيمته المعرفيه بأزمان و دهور. و هو رائد هذا الفن و إن نسب لغيره. و عثمان وقيع الله لم يجرد الحرف العربي فحسب، بل جسد الجملة العربية و القصيدة العربية كائنا حيا ناطقا و ليس نصا بهيما ينطقه القارئ. تجد ذلك في كل لوحاته، اذكر منها: العودة إلى سنار و هي رسم لقصيدة محمد عبدالحي التي تحمل ذات العنوان، و اللوح المحفوظ التي رسمها على لوح من ألواح الخلاوي، و الف لام ميم، و كاف لام ميم، و غيرها. إلا إن عمله الباهر هو خطه للمصحف الذي انفق فيه ما يقارب الثلاثة عقود.
في مطلع الثمانينات شرّع المتحف القومي بدمشق أبوابه لمعرض عثمان وقيع الله وجاء لافتتاحه وزير الإعلام السوري الأسبق، احمد اسكندر أحمد. وتلك نادرة للذين يعرفون تقاليد المعارض والمناسبات في سورية. وقد بهر المعرض زواره من أي جنس كانوا.
وعثمان محدث لا يُمل وراوية كأنه الأصمعي. في تلك الأيام توقفت لمدة يومين في لندن عند عودتي من أكابولكو بالمكسيك حيث انعقد الاجتماع الثاني لوكالات الأنباء العربية والأميركية اللاتينية. و كالعادة كان السودان - ممثلا بوكالة إنبائه - غائبا عن كل تلك المؤتمرات و الاجتماعات. كنت احرص على أن التقي بعثمان وقيع الله في المرات المتباعدة التي ازور فيها عاصمة الإنجليز. حينذاك اتصلت به فأنبأني بان صديقنا الشاعر الكبير محمد عبدالحي في العاصمة البريطانية للعلاج تصحبه زوجه و والدته. فطلبت منه أن يصحبني إليهم لأعوده و ازور أسرته الكريمة. كنت اسكن – كما اعتدت – في كيو غاردنز في منزل صديق و زميل صحافي اميركي، هو شارلس غلاس، تربطني به وشائج قديمة. و لشارلي كتاب حاول أن يسبر - من خلال رحلة برية قام بها - ما وراء سايكس – بيكو. "قبائل ترفع أعلاما: رحلة مبتورة من الإسكندرون إلى العقبة*" مرجع مهم لكيفية تقسيم المشرق. و قد انقطع خط رحلته عندما خطف في بيروت صحبة علي عادل عسيران، نجل رئيس البرلمان اللبناني الأسبق، ثم أطلق سراحه بعد عشرة أسابيع.
ألح أن يصحبني عثمان وقيع الله من كيوغاردنز رغم بعد المسافة إلى حيث يقيم محمد عبدالحي. و لم أتمنع كثيرا، إذ عرفت إن تنقلنا من قطار إلى حافلة حتى نصل هناك سيمتعني بطلاوة حديثه و روائع رواياته. و كان كما حسبت. كان عثمان من جيل أبي ولكنه أبى إلا أن يأتي ليصحبني بدلا من ان نلتقي عند شاعرنا الكبير.
أخر لقاء لي بعثمان وقيع الله، كان حينما زارني في منزلي بدمشق منتصف الثمانينيات مهنئا بمولد ابنتي الكبرى. أمضى معي وقتا ليس بالقصير. قبل مجيئه كنت اقرأ في ديوان المجذوب (الشرافة و الهجرة)، أهداه إلي فتحي الخانجي في زيارتي الأخيرة إلى الخرطوم. أمسك بالديوان و طلب أن اختار قصيدة أو أبيات ليرسمها لوحة هدية للمولودة. و اخترت أبياتا، ثم لم نلتق من بعد، و لا اعرف إن رسم اللوحة. قبل أن يغادر طلب أن يرى المولودة، و حينما أحضرتها إليه و كان عمرها لا يتجاوز الأسبوعين احتضنها بين ذراعية ثم قرب فاه من أذنها اليمني و رفع همسا بصوته الرخيم الآذان، و جعل ينتقل من أذن إلى اخرى حتى فرغ. كنت انظر إلى وجهها أثناء الآذان. رأيت فيه تعابير تكاد تنطق حبورا و سكينة و راحة و دعة. لم تبك رانية تلك الليلة مطلقا!
كان عثمان وقيع الله صاحب صوت رخيم شجي، يغني في مجالس بعينها، فينتشي كل من سمع الغناء حتى لو لم يعرف لغة القصيد.
يحضرني في رحيلهم هذا، بيت محمد عبدالقادر كرف و هو يرثي أحد بناة الأهلية الثانوية – لعله صديق فريد :
فيا رحمة الرحمن صوبي غمامة ويا غيث روّي القبر من مائك الجم
* Tribes with Flags, A Journey Curtailed From Alexandretta to Aqaba
عمر جعفر السّوْري
elsouri1@yahoo.com
////////////////////////////