توفيق الحكيم .. النخبة والجماهير
د. أحمد الخميسي
12 July, 2022
12 July, 2022
ahmadalkhamisi2012@gmail.com
في 26 يوليو الجاري تحل ذكرى رحيل توفيق الحكيم الخامسة والثلاثون. وقد أشار نجيب محفوظ إلى دور الحكيم حين فاز بجائزة نوبل فقال إنه لو كان الحكيم حيا لكان هو الأجدر بتلك الجائزة. بهذه المناسبة تحضرني عبارة كالصيحة أطلقها الحكيم ذات يوم حين كتب: " انتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم"، وأردف يوضح :" لقد أخذ لاعب كرة في سنة واحدة ما لم يأخذه كل أدباء مصر من أيام إخناتون"!! بكلماته تلك طرح الحكيم سؤالا يلح علي من يومها: هل جانب الصواب النخبة الثقافية التي وهبت العالم عصارة قلبها وعقلها فكرا وفنا وفلسفة بينما لم يلق إبداعها على مدى التاريخ اهتماما يذكر من الجماهير؟ بل وفضلت الجماهير دائما أن تمنح مالها واعجابها ونظراتها للاعبي كرة القدم والمطربين ونجوم السينما؟ هل كانت الجماهير على حق في إيمانها الواعي أو غير الواعي، المعلن أوغير المعلن، بأنه لاينبغي اهدار الحياة في كدح الهموم الفكرية، وأن الحياة لحظة لابد من أن نغتنمها ونستمتع خلالها باللهو وألعاب الحظ والصور المتحركة والأغاني والرقص؟. ترى من كان على حق؟ النخبة؟ أم الجماهير؟ لم يحيا توفيق الحكيم إلى وقتنا ليرى لاعب كرة القدم"كيليان مبابي" يحصل على مليون جنيه استرليني في الأسبوع! بينما لم يجدوا تحت وسادة عباس العقاد حين توفي سوى ربع جنيه فقط لا غير! ولم يكن الحكيم ليصدق أن اللاعب ليونيل ميسي يتقاضى 960 ألف استرليني في الأسبوع؟! بينما عاش الأديب العظيم فيودور دوستويفسكي يكتب رواياته فصلا بعد الآخر للمجلات الأسبوعية ليسدد ما عليه من الديون التي تطارده. وعلى حين يبلغ دخل مغني الراب الأمريكي" شون كومبس" مئة وثلاثين مليون دولار سنويا، كان نجيب محفوظ مضطرا لكتابة سيناريوهات أفلام لأن راتبه لا يكفي لسد احتياجات المعيشة. والسبب الرئيسي في تلك الهوة الشاسعة بين شظف حياة الأدباء ورفاهية حياة نجوم الفنون الجماهيرية يرجع إلى الجموع التي تحيط نجوم تلك الفنون بعنايتها ولا تبخل عليهم بآخر ما في المحفظة من مال. أليس ذلك اعلانا بما يأتي لدي الجماهير في المقام الأول؟ واعلانا بأن الانسان لم يخلق لمعاناة الإبداع بل للراحة واللهو والتسلي بالحياة. من الذي جانبه الصواب؟ النخبة؟ أم الجماهير؟ تطرح أجور النجوم الخرافية ذلك السؤال بقوة. وعلى سبيل المثال فقد بلغ أجر الممثل محمد رمضان بقدراته المتواضعة خمسة وأربعين مليون جنيه عن مسلسل"موسى"! بينما عاش الأديب مارك توين حياة قاسية مثل مثل معظم الكتاب، وحين سألهم أحدهم ذات مرة:" ماذا تفعل هذه الأيام؟". أجابه:"أؤلف القصص"، فعاد يسأله:" وهل بعت شيئا؟". أجابه مارك توين:" نعم. بعت ساعة يدي وقريبا سوف أبيع ثيابي"! ولو كانت الجماهير تحسب أو تؤمن بأن للأدب والفكر دوره وأهميته، لأحاطت الأدباء وأعمالهم برعايتها، لكن الجماهير حتى حين تشترى شيئا من الأدب فإنها تشتري روايات " أجاثا كريستي" وهي الأكثر مبيعا في تاريخ الرواية، لأنها مسلية وشيقة! في المقابل سنجد كاتبا كبيرا هو جيمس جويس يلخص الهوة بين النخبة والجماهير حين يقول: " يظل الكاتب يكتب لأن حاجته إلى التأليف توازي حاجته إلى التنفس، يظل يكتب رغم الوحدة والفقر وأكوام رسائل الرفض من دور النشر، ورغم الأهل الذين يقولون له : لماذا لا تزاول وظيفة حقيقية أيها الأحمق؟". هل اختارت النخبة طريقا مسدودا حين راحت تبذل عصارة خيالها وقلبها وعقلها لترتقي بالشعور والفكر؟ ينما تؤكد الجماهير كل يوم أنها لا تعبأ بذلك الجهد. عندنا يمكنك أن تسأل أي عابر طريق عن عمرو دياب وعبد القادر المازني، وسوف تقودك الاجابة إلى التساؤل نفسه: من كان على حق؟ ومن جانبه الصواب؟ الأحلام أم الواقع اليومي؟ الأقلام؟ أم الأقدام؟
د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري
//////////////////////////
في 26 يوليو الجاري تحل ذكرى رحيل توفيق الحكيم الخامسة والثلاثون. وقد أشار نجيب محفوظ إلى دور الحكيم حين فاز بجائزة نوبل فقال إنه لو كان الحكيم حيا لكان هو الأجدر بتلك الجائزة. بهذه المناسبة تحضرني عبارة كالصيحة أطلقها الحكيم ذات يوم حين كتب: " انتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم"، وأردف يوضح :" لقد أخذ لاعب كرة في سنة واحدة ما لم يأخذه كل أدباء مصر من أيام إخناتون"!! بكلماته تلك طرح الحكيم سؤالا يلح علي من يومها: هل جانب الصواب النخبة الثقافية التي وهبت العالم عصارة قلبها وعقلها فكرا وفنا وفلسفة بينما لم يلق إبداعها على مدى التاريخ اهتماما يذكر من الجماهير؟ بل وفضلت الجماهير دائما أن تمنح مالها واعجابها ونظراتها للاعبي كرة القدم والمطربين ونجوم السينما؟ هل كانت الجماهير على حق في إيمانها الواعي أو غير الواعي، المعلن أوغير المعلن، بأنه لاينبغي اهدار الحياة في كدح الهموم الفكرية، وأن الحياة لحظة لابد من أن نغتنمها ونستمتع خلالها باللهو وألعاب الحظ والصور المتحركة والأغاني والرقص؟. ترى من كان على حق؟ النخبة؟ أم الجماهير؟ لم يحيا توفيق الحكيم إلى وقتنا ليرى لاعب كرة القدم"كيليان مبابي" يحصل على مليون جنيه استرليني في الأسبوع! بينما لم يجدوا تحت وسادة عباس العقاد حين توفي سوى ربع جنيه فقط لا غير! ولم يكن الحكيم ليصدق أن اللاعب ليونيل ميسي يتقاضى 960 ألف استرليني في الأسبوع؟! بينما عاش الأديب العظيم فيودور دوستويفسكي يكتب رواياته فصلا بعد الآخر للمجلات الأسبوعية ليسدد ما عليه من الديون التي تطارده. وعلى حين يبلغ دخل مغني الراب الأمريكي" شون كومبس" مئة وثلاثين مليون دولار سنويا، كان نجيب محفوظ مضطرا لكتابة سيناريوهات أفلام لأن راتبه لا يكفي لسد احتياجات المعيشة. والسبب الرئيسي في تلك الهوة الشاسعة بين شظف حياة الأدباء ورفاهية حياة نجوم الفنون الجماهيرية يرجع إلى الجموع التي تحيط نجوم تلك الفنون بعنايتها ولا تبخل عليهم بآخر ما في المحفظة من مال. أليس ذلك اعلانا بما يأتي لدي الجماهير في المقام الأول؟ واعلانا بأن الانسان لم يخلق لمعاناة الإبداع بل للراحة واللهو والتسلي بالحياة. من الذي جانبه الصواب؟ النخبة؟ أم الجماهير؟ تطرح أجور النجوم الخرافية ذلك السؤال بقوة. وعلى سبيل المثال فقد بلغ أجر الممثل محمد رمضان بقدراته المتواضعة خمسة وأربعين مليون جنيه عن مسلسل"موسى"! بينما عاش الأديب مارك توين حياة قاسية مثل مثل معظم الكتاب، وحين سألهم أحدهم ذات مرة:" ماذا تفعل هذه الأيام؟". أجابه:"أؤلف القصص"، فعاد يسأله:" وهل بعت شيئا؟". أجابه مارك توين:" نعم. بعت ساعة يدي وقريبا سوف أبيع ثيابي"! ولو كانت الجماهير تحسب أو تؤمن بأن للأدب والفكر دوره وأهميته، لأحاطت الأدباء وأعمالهم برعايتها، لكن الجماهير حتى حين تشترى شيئا من الأدب فإنها تشتري روايات " أجاثا كريستي" وهي الأكثر مبيعا في تاريخ الرواية، لأنها مسلية وشيقة! في المقابل سنجد كاتبا كبيرا هو جيمس جويس يلخص الهوة بين النخبة والجماهير حين يقول: " يظل الكاتب يكتب لأن حاجته إلى التأليف توازي حاجته إلى التنفس، يظل يكتب رغم الوحدة والفقر وأكوام رسائل الرفض من دور النشر، ورغم الأهل الذين يقولون له : لماذا لا تزاول وظيفة حقيقية أيها الأحمق؟". هل اختارت النخبة طريقا مسدودا حين راحت تبذل عصارة خيالها وقلبها وعقلها لترتقي بالشعور والفكر؟ ينما تؤكد الجماهير كل يوم أنها لا تعبأ بذلك الجهد. عندنا يمكنك أن تسأل أي عابر طريق عن عمرو دياب وعبد القادر المازني، وسوف تقودك الاجابة إلى التساؤل نفسه: من كان على حق؟ ومن جانبه الصواب؟ الأحلام أم الواقع اليومي؟ الأقلام؟ أم الأقدام؟
د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري
//////////////////////////