معاوية نور ١٩٠٨-١٩٤١ينقد الإدارة الأهلية في السودان

 


 

 

abdelatifelfaki56@gmail.com
الجزء الأول
1- عزيزنا معاوية، أنت نشرتَ في ٢٧ فبراير سنة ١٩٣٣ مقالاً – في جريدة الجهاد المصرية – بعنوان "الإدارة الأهلية آخر تجربة في سياسة الاستعمار". وكنتَ تشير بعبارة ’آخر تجربة‘ في عنوانك إلى أن هذه التجربة ستنتهي بانتهاء الاستعمار، وقيام "الوطنيات القومية بعد فترة طويلة أو قصيرة من حكمهم للمستعمرات" (ص. ٢٧٠). لذلك قمتَ بوصفها بأنها ’آخر‘ ولن ’تُجرَّب‘ مرة أخرى بذهاب الاستعمار. ولكن لم يَخطر ببال وطنيتك يا معاوية نور أنَّ هناك مستعمر من نوع آخر لا يُريد للوطنية أن تتأسَّس في وطنك الذي كنتَ تنشُد.
2- هذا المستعمر التالي يا عزيزي معاوية من أبناء البلد مولداً، لكنَّ حكومتهم ١٩٨٩- ....؟ عميلة لآخرين. فهم عملاء مهما برروا عمالتهم بأشياء لا تهم حياة المواطن اليومية. لذلك ففي الداخل هم أقرب إلى الإدارة الأهلية، وتمكين القبائل. ومن وراء ذلك ليس لهم هَمَّاً آخر إلاَّ وهم يخربون كل صغيرة وكبيرة فيما يقود للوطن وحق المواطنة بهوس مبالغ فيه. وفوق ذلك في هذه الفترة لا يهتمون بشيء سوى ألا يجد الوطنيون من أمثالك دولة يحكمونها. نعم، ألا تجد أنت بالذات – يا معاوية - دولة تنحاز مؤسساتها لوطنيتك. لا ولن تجدها لأنهم دمروا مؤسساتها الصغيرة والكبيرة التي تقود إلى ذلك بمقاصد لا تخطر على بال. لكن ما تظل باقية – يا أيها الوطني الرائد معاوية – هي جذوة الإرادة يحملها شباب وشابات شعوب السودان في مختلف أقاليمه.
3- نعم، أنا الآن أستمع إلى إشارتك وأنت تقول منذ ذلك الوقت، بل بالأحرى كأن لسانك هو لسانها اليوم. لسان جذوة الإرادة يحملها شباب وشابات شعوب السودان على لسانك. نعم، أسمعك. حسناً أقول لك، "ويظهر أن معظم كتاب الإنجليز الإداريين الذين اشتغلوا في إدارة البلاد الشرقية والأفريقية على اتفاق بأن عنصر الشباب المتعلم وفق المناهج الحديثة هو الذي يسبب متاعبهم ويقلق راحتهم"؛ وأريد "ومن هنا كثرت مراقبتهم للتعليم والمتعلمين والتضييق عليهم" (ص. ٢٧٠). أتُصَدِّقُ – يا معاوية – أن أول مؤسسة تم تخريبها وخصخصتها هي التعليم؟ فَدُمِّرَتْ المدارس والجامعات والمعاهد العليا تدميراً كاملاً، على المستويين: مستوى المباني ومستوى مناهج التعليم. ومن بعد، تلاحقت مختلف المؤسسات الواحدة تلو الأخرى – صغيرها وكبيرها – في الوقوع في حفرة التدمير.
4- أراك تتأهب لاستطرادٍ ما. نعم، "أرى لزاماً عليَّ أن [أقول كلمة لهؤلاء الشباب والشابات] عن ماهية هذه الإدارة الأهلية ودائرة اختصاصها" (ص. ٢٧٠). فأقول لكم "الإدارة الأهلية هي الرجوع بالسلطة الحكومية إلى أول حياة القبلية devolution، هو أن تعطي كامل السلطة من قضائية وتنفيذية وتشريعية وما يختص بالتعليم والأمن وإدارة البلاد عامة إلى النُّـظَّار والعُمَد والمشايخ، وأن يحكم كل ناظر قبيلته على حِدَة، وأن يُصَرِّفَ شئون أهليها بما يـُمليه عليه علمه أو جهله والعادات والتقاليد، لا يستند إلى قانون حديث أو دستور نظامي سوى العادة العتيقة وسطوة العمدة أو الناظر. وهذا هو النظام الإقطاعي في أبشع صوره" (ص. ص. ٢٧٠-٢٧١). وما هي الفائدة التي يتحصل عليها المستعمر من كل ذلك؟ أقول لكم "على هذا يأمن المستعمر أن كل قبيلة تُساس على حِدَة، لا علاقة لها بالقبيلة الأخرى، ولا مشاركة بينهما في الشعور أو الوحدة القومية. وعلى هذه الصورة يصعب قيام أمة ذات شعور واحد أو مصالح مشتركة، بل ربما نتج عن ذلك التحاسد والتنافس بين هذه القبائل" (ص. ٢٧١). يا إلـهي! كأني سألتك عن زمننا الحالي والذين خلقوه وما زالوا يخلقوه ولم أسألك عن الاستعمار.
5- ولكن قُلْ لي – ولنترك الفائدة من حكومات هذا الإقطاع القبلي جانباً – كيف خطرت الفكرة أصلاً للمستعمر، إنها فكرة مجنونة. لا، بالنسبة إلى المستعمر ليست مجنونة؛ فالفكرة ترجع إلى منشأين اثنين: المنشأ الأول عن طريق ما أطلقتُ عليهم "كُتَّاب الإنجليز" ومنهم اللورد لوجارد الذي يرى أن الأنظمة السياسية الحديثة كما في أوروبا لا تصلح مع الشعوب الآسيوية والأفريقية، (ن. ص. ٢٧١) "وأن التعليم أو الثقافة الأوروبية لا تنتج خيراً في العقول الأفريقية، وأن خير عمل هو أن تبقى الجماعات الأفريقية على ما كانت عليه سابقاً، وأن تتقدم وفق عاداتها وتقاليدها من تلقاء نفسها، ولذلك وجب على الإنجليز أن تعمل على تثبيت حياة القبلية" (ص. ٢٧١). هنا شيئان: المستشرقون أو كُتَّاب الإنجليز هم يمثلون الشعوب السودانية ويتكلمون بالنيابة عنهم لأنهم لا يستطيعون أن يُـمُـثِّلوا أنفسهم. لكن دعني أقول لك المنشأ الثاني وسأدعك تُكمل. تماماً حسناً. المنشأ الثاني لأصل الفكرة حدث بعد سنة ١٩٢٤ "وكان ليس للمشايخ والعُمَد سلطة (ص. ٢٧١). فالسودان لم يعرف الإدارة الأهلية قبل ١٩٢٤ (ص. ٢٧٤). فحوادث ١٩٢٤ نبهتم إلى الأخذ بهذه السياسة التي تُستعمل في بعض بلدان أفريقيا كنيجيريا ويوغندا وتنجانيقا، ولقد نبههم إلى ذلك اللورد ملنر، فغيروا سياستهم في إدارة البلاد، حتى لا يقعوا في المشاكل القومية التي يخافونها ويعملون على تلافيها" (ص. ٢٧١). قلت لك، قبل ذلك، بذكر شيئين هما ما زالا يعملان: عندكم كان جانبُ المستشرقين المنافحين لهذه السياسة، وعندنا – ما زال يعمل – هذا الشيء. هذا الشيء الذي يطابق أولئك المستشرقين يمثله المارقون عن مبادئ ثورة الشباب وهم يعززون موقف يضاد تلك المبادئ. ويطلقون على أنفسهم الكفاح المسلح. أصبحت سلة الجوع والقهر والقتل تضمهم مع حكومة ١٩٨٩- ....؟
6- نعم معاوية، أراك تريد أن تقول شيئاً. حسناً أسألك "ماذا هم فاعلون مع الأحزاب الوطنية التي تتألف عادة من الشبان المتعلمين" (ص, ٢٧٠)؟ كان ذلك في خيالك الوطني الجميل. وفي الأصل السياسي المتمرسة وطنيته هو – دائماً – ذو خيال يستبصر المستقبل، كمثل سؤالك هذا. سؤالك تطرحه وهو في عام ١٩٣٣. أي قبل تكوين الأحزاب أنفسها. ولكن كما قلتُ لك بخيالك العضوي ترى أول تكوين للأحزاب هو بنيوياً لا تتكوَّن إلا من فئة الشباب المتعلمة. وهنا عاملان: عامل الشباب حيث رؤيته إلى المستقبل لا الماضي، وعامل التعليم حيث إنشاد التقدم لبلد في مراحله الأولى التي لا تحتاج إلا إلى تعمير المكان بصورة علمية ناهضة لتأسيس البُنَى التحتية. لذلك سؤال (ماذا هم فاعلون مع الأحزاب الوطنية)؟ ودعني أطرحه عَلَىْ من هم – كما أطلقتُ عليهم – في السلة الثلاثية الأضلاع: (ماذا أنتم فاعلون)؟ يا أصحاب سلَّةِ أضلاع الجوع والقهر والقتل. هذا السؤال سؤالك يخصهم [هُمْ] بالذات. لكن إذا نظرنا إلى تفعيل أضلاع هذه السَّلة، فلا يقول لك إلاَّ: تجويع وقهر وأية احتجاجات فلا شيء سوى القتل. في الجهة المقابلة لسؤالك (مع الأحزاب الوطنية)، كنتُ من المفترض أن أقول لك إن الأحزاب منذ تكوينها في الأربعينات – بعد موتك بقليل – لا تزال تحتفظ كلُّها بالشباب المتعلمين. ولكن تأتي الرياح بما لا يشتهي الوطنُ!! لا أعرف ما أقول لك. الأحزاب تنبذ الشباب وتجتر ماضيها. لأن صفة الوطنية التي أطلقتها على الأحزاب لا تشتغل على المكان المحدد بالوطن، بل تشتغل على معانٍ ليس ذلك المكان جزءاً منها. يحمل الشباب ثقافة المكان وتحمل الأحزاب اجترار ماضي الزمان. هذه القطيعة الثقافية بين حمل عبء ثقافة المكان واجترار ماضي الزمان لا ترتق ولا تُجبر إلا بأن يتولى هؤلاء قيادتها. أي من مرحلة النبذ إلى مرحلة القيادة. لذلك حين تقول يا معاوية بأن الحاجة إلى استعمال الاستعمار للإدارة الأهلية ما هو إلا "وليدة القضاء على مستقبل السودان السياسي من قِبَل حركة قومية مستنيرة يقودها الرأي العام السوداني المستنير" (ص. ٢٧٤). هنا تلك القطيعة الثقافية التي ذكرتها لك قبل قليل ما هي إلا آثار لضياع ما قلته أنت (حركة قومية مستنيرة يقودها الرأي العام السوداني المستنير).
7- ولكن لنرجع قليلاً ممسكين بنفس الحبل. حَبْلِ الأفكار التي تدور حول الإدارة الأهلية. قفُلْ لي كيف يبررون نوع هذه الحكومة القَبَلِيَّــة الإقطاعية في أبشع صورها للمجتمع الأوروبي هناك. وهم من قبل قد اشتكى التقدميون منهم استعمال الرقيق في السودان حين رأى أحدهم ذلك جهة الباقير، وأدَّت شكواهم دورها هنا؟ هم يقولون "في مَعْرِضِ الدفاع عن الإدارة الأهلية – أمام الرأي الأوروبي – إنهم قد أعطوا السلطة لذويها، وإنهم لا يحكمون هذه الشعوب مباشرة. (ص. ٢٧٢). فالسودان يحكم نفسه بنفسه (ص. ٢٧٤)". هذا التبرير في مواجهة التقدميين في الغرب، ليؤكدوا معنى كلمة استعمار في الجانب الإيجابي للتعمير. ولكن كيف يؤكدون طول استمرارهم وجلب موارد بلاد المستعمرات لأولئك المؤيدين لذلك؟ يقولون لهم إنهم بهذا "قد قطعوا خط الرجعة لأي حزب وطني يقوم في المستقبل لينادي بأن السودان للسودانيين" (ص. ٢٧٢). مما يضمن البقاء لأطول فترة يحتكرون مصادر الإنتاج الرأسمالي. نتيجة ذلك أريد أن أقول لك شيئاً يا صاحبي. بكل تأكيد تفضل ــــــ معاوية. أقول: إن ذلك التبرير للتقدميين في الغرب كما وصفتهم أنتَ يا صاحبي، وتلك الإغراءات لأولئك المؤيدين للاستعمار يشتغل معهم من الجانبين: جانبٍ إذا قام وطنيون وأحزاب وطنية تنادي السودان للسودانيين، "سيجيبون قائلين وهو كذلك، ويشيرون إلى الإدارة الأهلية، والمحاكم القروية وما إليها" (ص. ٢٧٢). أما للذين يؤيدون الاستعمار وجلب موارد الإنتاج جزءاً من رأسمال بلادهم يقولون إن نظام الإدارة الأهلية "قليل التكاليف من الناحية المالية، وحكم مباشر لصالح الأهالي" (ص. ٢٧٢). هذا صحيح، ولكن دعني أأكد لك شيئاً ولهؤلاء الشباب أشياء أخرى. . . مهلاً مهلاً معاوية قبل أن تؤكد كلامك أريد أن أقول لك هذا بالضبط ما يبرر استعمارنا للجوئهم للإدارة الأهلية. الآن اِكْمِلْ: نعم، أقول وهذه الآن خمس سنوات وأنا شاهد عِيان من ١٩٢٤ إلى ١٩٢٩ حين غادرتُ السودان أوَّلَ مرَّة. الشيء الذي أأكده لك هو قولي "إن الإدارة الأهلية تجربة فاشلة في السودان، ولا يمكن إلا أن تفشل، وإنها بدلاً من أن تُـثـبِّتَ النظام الحاضر في السودان وتنشر الأمن والرخاء في البلاد قد خلقت موجة جديدة من الاستياء وشعوراً شديداً بالمرارة في النفوس وعدم اطمئنان للمستقبل، ونفوراً من الأهالي وسخطاً وتأففاُ لا يوصف من جانب المتعلمين" (ص. ٢٧٢). أما الأشياء التي أأكدها لهؤلاء الشباب تأكيداً يجعل فشل الإدارة الأهلية الإقطاعية في أدنى دناءة صورها لا محالة آتٍ هي "أن السودان في تاريخه الحديث – على الأقل – لم تكن إدارة شئونه كدولة يتعهدها النظار والمشايخ والعمد الذين كانت قدرة سلطتهم في حدود محليتهم الخاصة في سابق الأزمان" (ن. ص. ٢٧٢ وكذلك ص ٢٧٥). إن منطق التاريخ – يا صاحبي – لا يرجع القهقرى إلى "سابق الأزمان"، بعد أن تعودوا من هم على وتيرته في حداثة تعليم اعتادوه من "الحكم الإنجليزي الأخير" (ص. ٢٧٢). إنني أرى أن استعماركم – يا معاوية كما قلت لي قبل قليل – يحس أن ما يفعله برجوع التاريخ للوراء في جعل الحكم عند الإدارة الأهلية فيما بعد ١٩٢٤ شيئاً يخالف منطق ذلك التاريخ؛ ولكن رغم ذلك ينتج لغة تنكر ما يفعله فعلاً سواء أكان نكراناً لأولئك التقدميين من الإنجليز في إنجلترا، أم أكان استحلاءً لما هم يؤيدونه؟
8- بهذا الاستفهام كَمُلَ الجزء الأول ويليه الجزء الثاني.

////////////////////////////////

 

آراء