مِنْ ثقافتهم (1) (المُسدار) .. يكتبها: عبيد الطيب “ودالمقدم”
عبيد الطيب "ودالمقدم"
9 November, 2022
9 November, 2022
البحث عن تاريخ إستخدام لفظ"مُسدار" في الشعر الشعبي،نادر جدا،إن لم يك مستحيلا
وجدت أبيات لشاعرة من ديار الشايقية في زمنٍ بعيد، أوردها الباحث النابه
الأستاذ عبدالرحمن مساعد الكتيابي:
(وَلَّفْت مُسداري
فوق عبدالرحمن جاري
اللوح أب حِفظ قاري)
وكذا لفظ(مُسدار) ورد عند شعراء المديح منذ السلطنة مرورا بالتركية والمهدية ....الخ
مثالا الشيخ صالح الأمين:(صالح المُسدارو تم)
حاج الماحي:( شيلولي مسداري)
وقيل أن الخليفة عبدالله في "عرضة"جيوسة بالبقعة،كان شعراءه ينشدون ضرب من الغنا،يسمونه(المُسدار).
ومن هنا يتضح أن لفظ(مُسدار) ورد في الشعر الشعبي السوداني منذ القدم،بثقافة مختلفة بإختلاف البيئة والجغرافيا،وتبقى الحقيقة،أن من المستحيل إتفاق كل البيئة الثقافية.
ولدي ملاحظة أريد أن ألفت لها الباحثين والدارسين مصدرها المعايشة والثقافة وتخص مدلول لفظ "مُسدار" بالبادية الغربية خاصة وإلي يومنا هذا، وكل بوادي السودان قبل أن تصبح قرى وحلّال واشباه مدن.
مادام الفن يحمل هويتنا وثقافتنا ويعبر عن أحاسيسنا وجغرافيتنا وتاريخنا وبه يكون تفاعلنا وأفراحنا وأحزاننا وبطرنا ومعزتنا ،فإن المُسدار في ذاكرتي خصائصة مختلفة تماما.
ماسموه الباحثين بمسدار حسب معايشتي ومن البيئة التي نشأت بها لا أسميه مسدارلأنه لايحمل خصائص المسدار ولاتضاريسه ولاجغرافيته ولامحمولاته ولاحتي أحاسيسه،وإنما هو (رحلة شيوم)،وحتي ماذكره شعراء المديح عندي رحلة.
أهل البادية لهم لغة تحمل جغرافيتهم وتضاريسهم وضمنوها أحاسيسهم،فإطلاق لفظ مسدار لرحلة شيوم لمحبوبة شوّش علي ذاكرتي وربما علي الذاكرة الجمعية للبوادي وأخص الغربية ومن الإجحاف بمكان،وظنّي حتي في سائر البوادي الأخرى أطلقه الأفندية فقط.
حياة البادية كلها ترحال ورحلة ولكن لكل رحلة إسم يحمل تضاريس معينة وكذا حس شعوري.
مثلا رحيل (التّقيلة) من الفرقان رحلة ولكن يسمونه (النشوغ)
رجوع البادية من النشوغ نحو المدامِر ،رحلة ولكن يسمونه (الموطى)
ذهاب مجموعة ببهائمهم للاسواق رحلة ويسمونه (الجلب)
ذهاب مجموعة نحو أسواق المزارع لجلب الذرة رحلة ويسمونه (السَّافورة) ويقولون فلان سفر/سفروا،لاحظ إختلاف الثقافة في لفظ(سفر/سفروا) وكذا الجمع (سافورة/مسافرين).
ذهاب البهائم من "المُشرع"المورد، نحو الفلاة يسمونه"المُسدار" ويقولون:
(ألبل/الغنم/) سدرن وحتي الراوية من رّيْ يقولون: الراوية/الرّيْ"سَدر" "سدرت".
وهي بمعناها الفصيح (صدر) ولكن بقلب الصاد سين.
وفي القرآن الكريم:( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ)
يقول الشاعر:
(فارْتَجِي أَن أَكونَ منكِ قريباً فاسْأَلِى الصَّادِرِين والوُرَّادا)
لذا تسمية رحلة لمحبوبة"شيوم" شوّش علي ذاكرتي ولاتعجبني هذه التسمية بل تنفر منها ذائقتي،لأن "مُسدار"بالذاكرة الجمعية للبادية تحمل ماتحمل من مدلول اللفظ من عز وبطر وإيثار وتاريخ وتضاريس وجغرافية ومروءة وإستبسال ....الخ.
وللمسدار حس شعوري عميق للبادية ومايزيد عن 90% من حركة البادية تكون بالمسدار ونحو المسدار وحول المسدار "الفلاة" والمسدار بالنسبة لهم وثيقة لحياتهم،وعميق في ثقافتهم.
و(الفلاة) هي الحقل الثقافي والدلالي للبوادي.
يقول الشاعر وداللّعسر:
(هبّارْة الزِّرار يا العادِي ما بِتَنقَدْري
بلا ولدا بِخاطْرِك ب النِّجُوع في السّدْرِي
فكّالْهَا الطّبَق ل الهيجة ماضاق فَدْرِي
كدَمَت قشّة العاتول ولِقْحت بَدري)
يقول شاعرهم:
(أبَت الضُّلْ وفي الحَرْ قَيْلَت مِنصفِّي
سَدرت غالّي من العِد وقايمي مِقَفِّي
ليها مِصدِّغ الفي كل حار مِدفِّي
سرجو بعفِّس المن النقيق متحفِّي)
يقول الشاعر الرائع أدم ودسند:
(يابِت المَشكِّم للجري ومنشول
بصادملك مطابقا ما سَدَرْهِن زول
بسوّيلك شرايط تلبسيهن صول
لي منك حنون درّة ونخيبة شول)
فكيف تقبل ذاكرتي وذائقتي أن تكون "الفلاة "رحلة لفتاة!!!؟
يقول الشاعر الفلتة فضل السيد ودمضعن:
(قشّك في العِريد غنّامو سادر ووارد
نفاع مو فيهو عيل بسقِيهن ألْمِي البارد
ياطرّادة ل الشَّالو الرّهاب مِتزارد
شَرفك كلّو ل العقرو أبجناحن شارد)
ويقول آخر:
(مُسدارَك علي ناس أم عَمَد وأم حايْمي
نايبك كك بشيل عضم الضّهر والقايْمِي
تسدّد في قضاياك والكبابيش نايْمِي
جيتن جيت تهبِّط ها النِّفوس القايْمِي)
وتقول شاعرتهم أمنة بت أبوريدة ومن غنا الجراري:
(المِرقوبات من زَمن
فوق في سِدورهِن رمَن
مَحل نيرانك حِمَن
ترا المامات ما انضمَن)
وكثيرا ماتكون المعارك في "المُسدار" لذا قالت:(فوق في سدورهن رمن)
أحاسيس في المكان الإتجاه "المسدار" وفي الزمان(صيف)
لاحظوا هذه المطولة ولفظ ومدلول"المسدار" بها
يقول عمنا شيخ جامع علي التوم في مطولة من خرائدة وكلها توثق لثقافة المسدار:
(بقّــاقاً طلع بى الدَّو ابو كتّــار
دى على ود حمد سايق الحنينها كبار
واصبح بى البييّح والصنقّــر فار
بلا الرَّوسى المخشّب ما معاهو وزّار
وديك أم سبعة ها الشقّــت عديل تندار
والدِّكتور براها وقـدّت (المُسدار)
على تقنور بشوف لجّــاج حَمار وشَقار
دى كرموش مع بت ناقة ود بّـــرار
وود عبدالله فوق ابوروبه تلّا النار
وبى الدَّبسة ام نخرتَن زرقة أصبح جار
ويامولاى تربِّيلْها الرِّقاق وصغار
محمد موسى يبقالهن دليل وحَدار
وياستّار على ناس كِينقو ياستّار
الولد البِقيم الليل بشيلو سهار
سلف بت أم جرس يادوب لِقالو خَطار
مادام نــوّى بى دُوانه وعِـــنى الدرّار
وعلى ناقة دويح يالسانى جيب مُشكار
وحت ساقنو بارود القبيل صوقار؟
إت ناس سعد الرِّبيع تب أنقو من الدار؟
وبعيد بلدأم خريس حت ماها فى الدوّار؟
شرق الحمرة جنب القبّــة قعدو جوار
يوم الجمعة تلقاهن مع الزّوَار
(بِسدْرُو) مصبّحين فوق دكّــة ام شوقار
وخاف صادّين على ناس جبره وام نوّار؟
إتُّو لى الناقة أم وتيد مالقيتو لى أخبار؟
نعــل ما اتيامنت بى القاشطه فوق مرمار!
وين باقى النِّعوم وينهن بنى جـرّار؟
ووينهن ناس قِديل أهل العمودها يسار؟
قعدن عيل يحوسَن من دِيار لى ديّار؟
ومَرْعاهن فَضَالى المِعزه والحَمّار؟
وينو أمحمد شوين وينهنّ ناس حقّــار!؟
(مسدارهن) قريب ما بقدّن المشوار
وفى الدِّكة إن صنطتَ بتسمع القرقار
يا حنّان ويا حِس كيرهن الهدّار
وأم إتنين تجَقْلِب فاقده ابو شنّأر
وين دار ام بخيت ووينهن اهل كدوار؟
مادين ام عرض وإتوجهو المدمار
ترا الوَحَشى البِفَرطِق قِدّة الكوتار
غبرتوهو بى الشـنّان أبو خرخار!
وياالمامونه ها غناكى الطَّلَعِلى بــزار
لا جيماّ متــكّل ولا بِزِر كُسّــار
خبار ألبل بجن لى الدَّامرى فى الافطار
لاجاهن غزو ولا جوهن الثوّار
ولا كتلن رمم حام فوقهن الصقّــار
حليل زمن المسقّى ولى الفقر كبّار
وحليل زمن البكسرولو الرّباعى هِجار
حليل زمن أب سبيب ياحليل زمان عصّــار)
*أنظروا للدلالات الصوتية هنا:
(وفى الدِّكة إن صنطتَ بتسمع القرقار
يا حنّان ويا حِس كيرهن الهدّار
وأم إتنين تجَقْلِب فاقده ابو شنّار)
بالربعين الأولين دلالات صوتية عجيبة بها سخرية في معزة لأنهم رباعته،ولكنهم لم يسلموا من لسانه،لأنهم قصّروا (المُسدار)،أي جعلوه قصيرا،و(حاسُوا) حول تخوم الفرقان.
وفي الربع الثالث:(أم إتنين تجقلب فاقدة أبو شنّار)
أيضا سخرية بمعزة،وهنا دلالات الصوت ،(تجقلب فاقدة أبوشنار) عن العشب القش،وتحديدا العشب الذي ينبت في(مسادير الغرب) من منطقة الشاعر،حيث العفو وهنا حدّد قش (البِغيل) "أبوشنّار"،وقوله"تجقلب" نفهم من دلالة الصوت كأن الناقة معنوفة عنف من
(سدور الغرب/ )(صدور الغرب)،والشاعر كل دلالاته النفسية والشعورية مع ناقته.
خلاصة قولي: حسب ذائقتي وذاكرتي، أنّ إختزال (المسدار) بمدلوله العميق والضارب بتضاريسه في حياة البادية،ومحمولاته(برحلة شيوم)،فهذا لعمري تبسيط مُخل من الذين كتبوا عن(المسدار) ووثقوا له.
ما سموه الباحثين (بمسدار) عندي لايحمل خصائص المسدار،ولاتضاريسه ولا محمولاته ولاجغرافيته ولا أحاسيسه و....الخ،وإنما هو (رحلة شيوم) فقط،وثقافتي ترفض أن يكون(مسدار الفلاة) (رحلة لفتاة) وأتقبل الثقافات الأخرى ،ولكن سؤالي هل التسمية،أطلقها أهل البوادي ؟أم الأفندية!!؟
ثم السؤال الآخر هل تسمية(المُسدار) لرحلة محبوبة طمست مدلول لفظ يحمل تاريخ مجتمع وجفارفيتة وتاريخه!!؟
الشعراء الذين أبدعوا في مايسمي (فن المسدار)،شعراء مبدعون،جميل فنون خيالهم والتكنيك وطرائق الصياغة والدرامة أحيانا،والجمع بين القص والشعر،لا أتحدث عن
(النص الفني)،ولكنني أختلف في التسمية،التي أطلقها الباحثون،بل عنفوها عنف.
أعلم جيدا أن من يجعل قيمة الفن تكمن في لفظ(مُسدار) يرتكب خطأ،لكنني أيضا أعرف أن (المُسدار) مرتبط بصور نفسية وذهنية ودلالات شعورية،وصور من عمق مجتمع البادية،وتصوير لحياتهم والحركة به جمعية،وشاملة(نِعَم/بشر) لذا حركته أصيله وبها وفيها تكمن (هوية فنهم) الأصيل المتوازن،والذي يحمل قيم فنيّه وإنسانية راقيه،(المسدار) روح البادية (الوعي الجمعي) (الوجدان الجمعي)(الذاكرة الجمعية)(الذائقة الجمعية)(الحس الشعوري الجمعي) (هوية فنهم).
ولتعرف أن (المُسدار) هو روح البادية ومسرح تاريخها الإجتماعي وهويّة فنها،نجد أن الإبل في حركتها وتضاريسها وجغرافيتها هي عماد إقتصاد البوادي،ورمز الفخر والعز والرفعةوالجمال وأروع شعر البادية الشعبي حولها،وكثير من الظواهر الإجتماعية بالبادية،مرتبطة بها إرتباطا وثيقا،وخاصة في (المُسدار)،مثالا (الدّليل) (الرّبيع) (المهاجري)
(الدّليل) من الشخصيات ذات البعد الإجتماعي ،وهو رئيس مجموعة الأنعام،وكل الحركة تدور حوله،والأوامر تصدر منه،والدليل يبحث عن المراعي الخصبة لإبله،يمتطي الشوح ويركب دور،والدليل الحاذق،أحيانا يرحل نهارا،ويسري ليلا،ويصبح ترعى نوقه وتختلط مع المها والجآذر في (المُسدار) (الفلاة) أو كما تقول المنفلة بت جلي:
(ويوما لقوح الريل بصبح معاهن).
يقول الشاعر الغوث عبدالوهاب ودالسميتاوي:
(دليلنا مو الحرس البنات ل الوّرْدِي
لفح أم بُهيه فوق ضهر أب سبيبةً قَردِي
بِلّي رماها جادول عند زريدة البَرْدِي
ولّا تكاها من كنوش وعاني التُّرْدِي)
سجال ثقافي إجتماعي وثورة مضادة،لظاهرة وحشية منبوذة،إتحول لفعل عام من ناحية إسلوبية لذهنية الشاعر العالية.
والدليل كل نفله يكون بالمُسدار يقول شاعرهم:
(سيد الرّيدة مو العرضان أبومريكيب
رجلة وجُود شوفتو إتطيّب المابطيب
ونستو الجِرَّه صرجيب الجمال النّيب
وزرو أم تاج مع ست بيتو واللّنقيب)
إبداع شاعر رائع في ممدوح دليل مميز،مدح البدوي بالبداوة،ومدح وهجاء لحالة منبوذة في المجتمع،ومعالجة لظاهرة وحشية بذهنية وتكنيك.
(الرّبيع) براء مرققة،أهل البادية في نجوعهم ونشوغهم ودمرهم،يطلقون لفظ (الرّبيع) علي الرجل الغير من فخذ قبيلتك،أو لم يك من منطقتك،ولكن جاورك،بنعمه إن كانت إبل أو غنم،ومن جمال هذه "الرّبعة" تتطور إلي صداقه صادقة وعميقة جدا،و(الرّبيع) (الرباعة) من مصطلحات البادية ذات المردود الإجتماعي العميق،حيث يبزل الربيع الغالي والنفيس لربيعه،ويساعده في كل شئ،بل تمتد الصداقة سنينا،إلي الأحفاد،وسائر فخوذ القبائل،فأهل البادية،أستقوا،أعرافهم الجميلة،وقيمهم النبيلة،من سماحتهم وتداخلهم،في حلهم وترحالهم،و(المُسدار) هو مسرح هذا المصطلح النبيل.
قال شاعرهم:
(ربيعي الفنجري الفارقتو عيل ب الزّيني
أوكت جاني خبرو النوم غرز من عيني
غرارة العبوس عندك نفيلةً شيني
شلتي الفارس البفدوهو ب راجليني)
(المهاجري) أو (الهمباتي) جل مسرحه هو المُسدار،قال شاعرهم المهاجري النبيل
يوسف ودعبشبيش :
(ديدان كولي مابنسوق جمال القيد
بنسوق البتسدُر في الشواقي بعيد)
ويقيني أن الفن الشعبي للبوادي،هو فن روابط إجتماعية،ونصه الفني يكون عبر هذا:
(الإقتران الزماني والمكاني/وَعي الذاكرة/التضاد أو التباين)
والحقل الدلالي لذلك هو (المُسدار).
لفظ(مُسدار)عميق وضارب بجذوره وغني بثقافته ذات المدلول الإجتماعي والفني،وحتي هذه المجتماعات المدنية التي سطت علي هذا المصطلح الإجتماعي،نجدها تتشوق إلي النفسية البدوية المبدعة،ولقد ذكر الأستاذ الباحث مكي الجبيل:
(أن المجتماعات المعاصرة،دائما في إنتظار النفسية البدوية)
قد يقول قائل :(أنّ "المُسدار"،مثله ولفظ "الدوبيت"،الذي صار بديلا للفظ الغنا،وقبلته الذائقة والذائقة بمرور الزمن.
لكنني أقول: (أنّ الأمر مختلف جدا) .
وختاما أتمثل بمقولة الدكتور إحسان عباس:
(الباحث لايعلم ومطلوب منه الإستنتاج لا الإجابة)
اللهم علمنا ماجهلنا.
aubaidmagadam@hotmail.com
وجدت أبيات لشاعرة من ديار الشايقية في زمنٍ بعيد، أوردها الباحث النابه
الأستاذ عبدالرحمن مساعد الكتيابي:
(وَلَّفْت مُسداري
فوق عبدالرحمن جاري
اللوح أب حِفظ قاري)
وكذا لفظ(مُسدار) ورد عند شعراء المديح منذ السلطنة مرورا بالتركية والمهدية ....الخ
مثالا الشيخ صالح الأمين:(صالح المُسدارو تم)
حاج الماحي:( شيلولي مسداري)
وقيل أن الخليفة عبدالله في "عرضة"جيوسة بالبقعة،كان شعراءه ينشدون ضرب من الغنا،يسمونه(المُسدار).
ومن هنا يتضح أن لفظ(مُسدار) ورد في الشعر الشعبي السوداني منذ القدم،بثقافة مختلفة بإختلاف البيئة والجغرافيا،وتبقى الحقيقة،أن من المستحيل إتفاق كل البيئة الثقافية.
ولدي ملاحظة أريد أن ألفت لها الباحثين والدارسين مصدرها المعايشة والثقافة وتخص مدلول لفظ "مُسدار" بالبادية الغربية خاصة وإلي يومنا هذا، وكل بوادي السودان قبل أن تصبح قرى وحلّال واشباه مدن.
مادام الفن يحمل هويتنا وثقافتنا ويعبر عن أحاسيسنا وجغرافيتنا وتاريخنا وبه يكون تفاعلنا وأفراحنا وأحزاننا وبطرنا ومعزتنا ،فإن المُسدار في ذاكرتي خصائصة مختلفة تماما.
ماسموه الباحثين بمسدار حسب معايشتي ومن البيئة التي نشأت بها لا أسميه مسدارلأنه لايحمل خصائص المسدار ولاتضاريسه ولاجغرافيته ولامحمولاته ولاحتي أحاسيسه،وإنما هو (رحلة شيوم)،وحتي ماذكره شعراء المديح عندي رحلة.
أهل البادية لهم لغة تحمل جغرافيتهم وتضاريسهم وضمنوها أحاسيسهم،فإطلاق لفظ مسدار لرحلة شيوم لمحبوبة شوّش علي ذاكرتي وربما علي الذاكرة الجمعية للبوادي وأخص الغربية ومن الإجحاف بمكان،وظنّي حتي في سائر البوادي الأخرى أطلقه الأفندية فقط.
حياة البادية كلها ترحال ورحلة ولكن لكل رحلة إسم يحمل تضاريس معينة وكذا حس شعوري.
مثلا رحيل (التّقيلة) من الفرقان رحلة ولكن يسمونه (النشوغ)
رجوع البادية من النشوغ نحو المدامِر ،رحلة ولكن يسمونه (الموطى)
ذهاب مجموعة ببهائمهم للاسواق رحلة ويسمونه (الجلب)
ذهاب مجموعة نحو أسواق المزارع لجلب الذرة رحلة ويسمونه (السَّافورة) ويقولون فلان سفر/سفروا،لاحظ إختلاف الثقافة في لفظ(سفر/سفروا) وكذا الجمع (سافورة/مسافرين).
ذهاب البهائم من "المُشرع"المورد، نحو الفلاة يسمونه"المُسدار" ويقولون:
(ألبل/الغنم/) سدرن وحتي الراوية من رّيْ يقولون: الراوية/الرّيْ"سَدر" "سدرت".
وهي بمعناها الفصيح (صدر) ولكن بقلب الصاد سين.
وفي القرآن الكريم:( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ)
يقول الشاعر:
(فارْتَجِي أَن أَكونَ منكِ قريباً فاسْأَلِى الصَّادِرِين والوُرَّادا)
لذا تسمية رحلة لمحبوبة"شيوم" شوّش علي ذاكرتي ولاتعجبني هذه التسمية بل تنفر منها ذائقتي،لأن "مُسدار"بالذاكرة الجمعية للبادية تحمل ماتحمل من مدلول اللفظ من عز وبطر وإيثار وتاريخ وتضاريس وجغرافية ومروءة وإستبسال ....الخ.
وللمسدار حس شعوري عميق للبادية ومايزيد عن 90% من حركة البادية تكون بالمسدار ونحو المسدار وحول المسدار "الفلاة" والمسدار بالنسبة لهم وثيقة لحياتهم،وعميق في ثقافتهم.
و(الفلاة) هي الحقل الثقافي والدلالي للبوادي.
يقول الشاعر وداللّعسر:
(هبّارْة الزِّرار يا العادِي ما بِتَنقَدْري
بلا ولدا بِخاطْرِك ب النِّجُوع في السّدْرِي
فكّالْهَا الطّبَق ل الهيجة ماضاق فَدْرِي
كدَمَت قشّة العاتول ولِقْحت بَدري)
يقول شاعرهم:
(أبَت الضُّلْ وفي الحَرْ قَيْلَت مِنصفِّي
سَدرت غالّي من العِد وقايمي مِقَفِّي
ليها مِصدِّغ الفي كل حار مِدفِّي
سرجو بعفِّس المن النقيق متحفِّي)
يقول الشاعر الرائع أدم ودسند:
(يابِت المَشكِّم للجري ومنشول
بصادملك مطابقا ما سَدَرْهِن زول
بسوّيلك شرايط تلبسيهن صول
لي منك حنون درّة ونخيبة شول)
فكيف تقبل ذاكرتي وذائقتي أن تكون "الفلاة "رحلة لفتاة!!!؟
يقول الشاعر الفلتة فضل السيد ودمضعن:
(قشّك في العِريد غنّامو سادر ووارد
نفاع مو فيهو عيل بسقِيهن ألْمِي البارد
ياطرّادة ل الشَّالو الرّهاب مِتزارد
شَرفك كلّو ل العقرو أبجناحن شارد)
ويقول آخر:
(مُسدارَك علي ناس أم عَمَد وأم حايْمي
نايبك كك بشيل عضم الضّهر والقايْمِي
تسدّد في قضاياك والكبابيش نايْمِي
جيتن جيت تهبِّط ها النِّفوس القايْمِي)
وتقول شاعرتهم أمنة بت أبوريدة ومن غنا الجراري:
(المِرقوبات من زَمن
فوق في سِدورهِن رمَن
مَحل نيرانك حِمَن
ترا المامات ما انضمَن)
وكثيرا ماتكون المعارك في "المُسدار" لذا قالت:(فوق في سدورهن رمن)
أحاسيس في المكان الإتجاه "المسدار" وفي الزمان(صيف)
لاحظوا هذه المطولة ولفظ ومدلول"المسدار" بها
يقول عمنا شيخ جامع علي التوم في مطولة من خرائدة وكلها توثق لثقافة المسدار:
(بقّــاقاً طلع بى الدَّو ابو كتّــار
دى على ود حمد سايق الحنينها كبار
واصبح بى البييّح والصنقّــر فار
بلا الرَّوسى المخشّب ما معاهو وزّار
وديك أم سبعة ها الشقّــت عديل تندار
والدِّكتور براها وقـدّت (المُسدار)
على تقنور بشوف لجّــاج حَمار وشَقار
دى كرموش مع بت ناقة ود بّـــرار
وود عبدالله فوق ابوروبه تلّا النار
وبى الدَّبسة ام نخرتَن زرقة أصبح جار
ويامولاى تربِّيلْها الرِّقاق وصغار
محمد موسى يبقالهن دليل وحَدار
وياستّار على ناس كِينقو ياستّار
الولد البِقيم الليل بشيلو سهار
سلف بت أم جرس يادوب لِقالو خَطار
مادام نــوّى بى دُوانه وعِـــنى الدرّار
وعلى ناقة دويح يالسانى جيب مُشكار
وحت ساقنو بارود القبيل صوقار؟
إت ناس سعد الرِّبيع تب أنقو من الدار؟
وبعيد بلدأم خريس حت ماها فى الدوّار؟
شرق الحمرة جنب القبّــة قعدو جوار
يوم الجمعة تلقاهن مع الزّوَار
(بِسدْرُو) مصبّحين فوق دكّــة ام شوقار
وخاف صادّين على ناس جبره وام نوّار؟
إتُّو لى الناقة أم وتيد مالقيتو لى أخبار؟
نعــل ما اتيامنت بى القاشطه فوق مرمار!
وين باقى النِّعوم وينهن بنى جـرّار؟
ووينهن ناس قِديل أهل العمودها يسار؟
قعدن عيل يحوسَن من دِيار لى ديّار؟
ومَرْعاهن فَضَالى المِعزه والحَمّار؟
وينو أمحمد شوين وينهنّ ناس حقّــار!؟
(مسدارهن) قريب ما بقدّن المشوار
وفى الدِّكة إن صنطتَ بتسمع القرقار
يا حنّان ويا حِس كيرهن الهدّار
وأم إتنين تجَقْلِب فاقده ابو شنّأر
وين دار ام بخيت ووينهن اهل كدوار؟
مادين ام عرض وإتوجهو المدمار
ترا الوَحَشى البِفَرطِق قِدّة الكوتار
غبرتوهو بى الشـنّان أبو خرخار!
وياالمامونه ها غناكى الطَّلَعِلى بــزار
لا جيماّ متــكّل ولا بِزِر كُسّــار
خبار ألبل بجن لى الدَّامرى فى الافطار
لاجاهن غزو ولا جوهن الثوّار
ولا كتلن رمم حام فوقهن الصقّــار
حليل زمن المسقّى ولى الفقر كبّار
وحليل زمن البكسرولو الرّباعى هِجار
حليل زمن أب سبيب ياحليل زمان عصّــار)
*أنظروا للدلالات الصوتية هنا:
(وفى الدِّكة إن صنطتَ بتسمع القرقار
يا حنّان ويا حِس كيرهن الهدّار
وأم إتنين تجَقْلِب فاقده ابو شنّار)
بالربعين الأولين دلالات صوتية عجيبة بها سخرية في معزة لأنهم رباعته،ولكنهم لم يسلموا من لسانه،لأنهم قصّروا (المُسدار)،أي جعلوه قصيرا،و(حاسُوا) حول تخوم الفرقان.
وفي الربع الثالث:(أم إتنين تجقلب فاقدة أبو شنّار)
أيضا سخرية بمعزة،وهنا دلالات الصوت ،(تجقلب فاقدة أبوشنار) عن العشب القش،وتحديدا العشب الذي ينبت في(مسادير الغرب) من منطقة الشاعر،حيث العفو وهنا حدّد قش (البِغيل) "أبوشنّار"،وقوله"تجقلب" نفهم من دلالة الصوت كأن الناقة معنوفة عنف من
(سدور الغرب/ )(صدور الغرب)،والشاعر كل دلالاته النفسية والشعورية مع ناقته.
خلاصة قولي: حسب ذائقتي وذاكرتي، أنّ إختزال (المسدار) بمدلوله العميق والضارب بتضاريسه في حياة البادية،ومحمولاته(برحلة شيوم)،فهذا لعمري تبسيط مُخل من الذين كتبوا عن(المسدار) ووثقوا له.
ما سموه الباحثين (بمسدار) عندي لايحمل خصائص المسدار،ولاتضاريسه ولا محمولاته ولاجغرافيته ولا أحاسيسه و....الخ،وإنما هو (رحلة شيوم) فقط،وثقافتي ترفض أن يكون(مسدار الفلاة) (رحلة لفتاة) وأتقبل الثقافات الأخرى ،ولكن سؤالي هل التسمية،أطلقها أهل البوادي ؟أم الأفندية!!؟
ثم السؤال الآخر هل تسمية(المُسدار) لرحلة محبوبة طمست مدلول لفظ يحمل تاريخ مجتمع وجفارفيتة وتاريخه!!؟
الشعراء الذين أبدعوا في مايسمي (فن المسدار)،شعراء مبدعون،جميل فنون خيالهم والتكنيك وطرائق الصياغة والدرامة أحيانا،والجمع بين القص والشعر،لا أتحدث عن
(النص الفني)،ولكنني أختلف في التسمية،التي أطلقها الباحثون،بل عنفوها عنف.
أعلم جيدا أن من يجعل قيمة الفن تكمن في لفظ(مُسدار) يرتكب خطأ،لكنني أيضا أعرف أن (المُسدار) مرتبط بصور نفسية وذهنية ودلالات شعورية،وصور من عمق مجتمع البادية،وتصوير لحياتهم والحركة به جمعية،وشاملة(نِعَم/بشر) لذا حركته أصيله وبها وفيها تكمن (هوية فنهم) الأصيل المتوازن،والذي يحمل قيم فنيّه وإنسانية راقيه،(المسدار) روح البادية (الوعي الجمعي) (الوجدان الجمعي)(الذاكرة الجمعية)(الذائقة الجمعية)(الحس الشعوري الجمعي) (هوية فنهم).
ولتعرف أن (المُسدار) هو روح البادية ومسرح تاريخها الإجتماعي وهويّة فنها،نجد أن الإبل في حركتها وتضاريسها وجغرافيتها هي عماد إقتصاد البوادي،ورمز الفخر والعز والرفعةوالجمال وأروع شعر البادية الشعبي حولها،وكثير من الظواهر الإجتماعية بالبادية،مرتبطة بها إرتباطا وثيقا،وخاصة في (المُسدار)،مثالا (الدّليل) (الرّبيع) (المهاجري)
(الدّليل) من الشخصيات ذات البعد الإجتماعي ،وهو رئيس مجموعة الأنعام،وكل الحركة تدور حوله،والأوامر تصدر منه،والدليل يبحث عن المراعي الخصبة لإبله،يمتطي الشوح ويركب دور،والدليل الحاذق،أحيانا يرحل نهارا،ويسري ليلا،ويصبح ترعى نوقه وتختلط مع المها والجآذر في (المُسدار) (الفلاة) أو كما تقول المنفلة بت جلي:
(ويوما لقوح الريل بصبح معاهن).
يقول الشاعر الغوث عبدالوهاب ودالسميتاوي:
(دليلنا مو الحرس البنات ل الوّرْدِي
لفح أم بُهيه فوق ضهر أب سبيبةً قَردِي
بِلّي رماها جادول عند زريدة البَرْدِي
ولّا تكاها من كنوش وعاني التُّرْدِي)
سجال ثقافي إجتماعي وثورة مضادة،لظاهرة وحشية منبوذة،إتحول لفعل عام من ناحية إسلوبية لذهنية الشاعر العالية.
والدليل كل نفله يكون بالمُسدار يقول شاعرهم:
(سيد الرّيدة مو العرضان أبومريكيب
رجلة وجُود شوفتو إتطيّب المابطيب
ونستو الجِرَّه صرجيب الجمال النّيب
وزرو أم تاج مع ست بيتو واللّنقيب)
إبداع شاعر رائع في ممدوح دليل مميز،مدح البدوي بالبداوة،ومدح وهجاء لحالة منبوذة في المجتمع،ومعالجة لظاهرة وحشية بذهنية وتكنيك.
(الرّبيع) براء مرققة،أهل البادية في نجوعهم ونشوغهم ودمرهم،يطلقون لفظ (الرّبيع) علي الرجل الغير من فخذ قبيلتك،أو لم يك من منطقتك،ولكن جاورك،بنعمه إن كانت إبل أو غنم،ومن جمال هذه "الرّبعة" تتطور إلي صداقه صادقة وعميقة جدا،و(الرّبيع) (الرباعة) من مصطلحات البادية ذات المردود الإجتماعي العميق،حيث يبزل الربيع الغالي والنفيس لربيعه،ويساعده في كل شئ،بل تمتد الصداقة سنينا،إلي الأحفاد،وسائر فخوذ القبائل،فأهل البادية،أستقوا،أعرافهم الجميلة،وقيمهم النبيلة،من سماحتهم وتداخلهم،في حلهم وترحالهم،و(المُسدار) هو مسرح هذا المصطلح النبيل.
قال شاعرهم:
(ربيعي الفنجري الفارقتو عيل ب الزّيني
أوكت جاني خبرو النوم غرز من عيني
غرارة العبوس عندك نفيلةً شيني
شلتي الفارس البفدوهو ب راجليني)
(المهاجري) أو (الهمباتي) جل مسرحه هو المُسدار،قال شاعرهم المهاجري النبيل
يوسف ودعبشبيش :
(ديدان كولي مابنسوق جمال القيد
بنسوق البتسدُر في الشواقي بعيد)
ويقيني أن الفن الشعبي للبوادي،هو فن روابط إجتماعية،ونصه الفني يكون عبر هذا:
(الإقتران الزماني والمكاني/وَعي الذاكرة/التضاد أو التباين)
والحقل الدلالي لذلك هو (المُسدار).
لفظ(مُسدار)عميق وضارب بجذوره وغني بثقافته ذات المدلول الإجتماعي والفني،وحتي هذه المجتماعات المدنية التي سطت علي هذا المصطلح الإجتماعي،نجدها تتشوق إلي النفسية البدوية المبدعة،ولقد ذكر الأستاذ الباحث مكي الجبيل:
(أن المجتماعات المعاصرة،دائما في إنتظار النفسية البدوية)
قد يقول قائل :(أنّ "المُسدار"،مثله ولفظ "الدوبيت"،الذي صار بديلا للفظ الغنا،وقبلته الذائقة والذائقة بمرور الزمن.
لكنني أقول: (أنّ الأمر مختلف جدا) .
وختاما أتمثل بمقولة الدكتور إحسان عباس:
(الباحث لايعلم ومطلوب منه الإستنتاج لا الإجابة)
اللهم علمنا ماجهلنا.
aubaidmagadam@hotmail.com