اِنْهض فِي غضب وَأمَل
عثمان محمد حمدان
28 January, 2023
28 January, 2023
osmanhamdan72@gmail.com
اِنْهض فِي غضب وَأمَل: كَيْف يُمْكِن لِلاحْتجاجات البركانية أن تَدفَع بالقضايَا اَلملِحة إِلى مَركَز النِّقَاش السِّياسيِّ دِيفيد بالومْبو لِيو [أُسْتاذ الأدب الإنْجليزيِّ، جَامِعة سِتانْفورْد] يَتَحدَّث عن الإحتجاج الاسْتراتيجيِّ كَقوَّة تَرجمَة إِليكترونيَّة بتصرف عُثْمان مُحمَّد حَمْدان فِي مَقالَة رَائِعة لِلْكاتبة والنَّاشطة جُون جُورْدَان بِعنْوَان "اَلحُروب الأهْليَّة "تَحكِي عن نَفَاد صبْرهَا حِيَال القادة المزْعومين، ذَوِي اَلمُيول لِاحْتكار القيادة والنَّشاط، وتقْديرهَا لِلطَّاقة المتفجِّرة لِانْتفاضة مِيامي عام 1980، اَلتِي أَعقَبت تَبرِئة أَربَعة مِن ضُبَّاط الشُّرْطة، كَانُوا قد أوْسعوا اَلمُجند السَّابق فِي البحْريَّة الأميركيَّة، آرْثر ماكْدوفي، البالغ مِن اَلعُمر 33 عامًا، ضرْبًا حَتَّى الموْتِ: "لَقد كَانَت أخْبارًا جَيدَة. أخيرًا اِنتهَى الصَّمْتُ اَلذِي اِسْتطَال أَمدُه! تمَّ وَضْع المجاملات الزَّائفة جانبًا. لَم يَكُن هُنَاك ثَمَّة قَادَة. لَم تَكُن هُنَاك مُنَظمَة ولَا مُتَحدث بِاسْمِهَا. لَم يَكُن هُنَاك جَدوَل أَعمَال. لَم تَكُن هُنَاك اِجْتماعات ولَا مُفاوضات. قام الأشْخاص المنْتهكين بِالْعنْف، والْعَوز، وأقْصى دَرَجات الإهْمال، والْقَمْع العنْصريُّ، بِردِّ فِعْل مُنَاسِب ومتطَرِّف: صَرخَة مُدَويَة لِلانْتقام، والتَّدْمير مُقَابِل حَياتِهم المدمِّرة، وَتعطِيل لِلْمارَّة مُقَابِل أَجيَال مُعَطلَة بِسَبب الازْدراء وعوائق الفقْر. كَانَت مِيامي غَيْر مُهَذبَة تمامًا . "
فِي رِواية جُورْدَان، تَتَزامَن هَذِه اللَّحْظة المتفجِّرة مع خِلَاف طَارِئ حال دون تواصلها مع زميلتهَا النَّاشطة فرانْسيس فُوكْس بِيفن. ومع ذَلِك، اٌختتَمت المقَال بتصوير هذه اللَّحْظة: “قَررَت أن أَترُك خِلافنَا كمَا هُو: أن أَترُك عثرة الصَّداقة قَائِمة وأن أَتَواصَل رغم ذلك مع فرانْسيس لنقاش تكْتيكات النِّضَال . . . إِذَا كان جَوهَر الحرَكة الجماهيرية هُو عفْويَّتهَا، كيْف يُمْكننَا الحفَاظ على اِسْتمْراريَّتهَا؟ لَكننِي تَرددَت. فَكرَت مَرَّة أُخرَى فِي كُلِّ الأشْياء اَلأُخرى اَلتِي لَن نَتَحدَّث عَنهَا والجدال الذي سيتواصل بيْننَا، وَكَان شُعوريٌّ "ما الذي يمكن أن أخسره! إِخفَاق الصَّداقة لَيسَ مَأْسَاة. يُمْكننَا أن نَكُون مُهذَّبِين." وَلذَا اِتصلَت بِهَا لِلتَّحَدُّث حول مجالات الاهتمام المشتركة الراهنة.
يَنتَقِل مَقَال جُورْدَان بِشَكل جميل على هذَا المسَار الموازي، بَيْن الصَّداقة والتَّحالف، بَيْن اللُّغة والكياسة المعتادة وهي تثمن الكلام غير المنمق والنشاط المتفجر وتضفي علىى ’عدم اللياقة’ قِيمة شَخصِية وسياسيَّة أَساسِية. وَبذَا يُكوِّن اَلرَّد الأخْلاقيُّ اَلصحِيح اَلوحِيد على أَعمَال الإسْكات والْأَذى المتكرِّرة هُو "التَّحَدُّث خَارِج المكَان، فِي الأماكن غير اَلمُصرح التَّحَدُّث فِيهَا". وَلكِن مِن الأهمِّيَّة بِمكان أيْضًا اللَّحْظة اَلتِي تَحْتاج فِيهَا طاقات الاحْتجاجالبرْكانيَّة إِلى التوجيه والاسْتدامة. وَلأَن جُورْدَان تُدْرِك ذَلِك، فَإِنهَا تَتَواصَل مع بِيفن.
فِي كِتابِهَا "تحدِّي السُّلْطة"، تَتَناوَل بِيفن على وَجْه التَّحْديد ظَاهِرة الاحْتجاجات البرْكانيَّة، اَلَّتِي شَاهَدْنَاهَا بَعْد مَقتَل جُورْج فُلويد فِي مَايُو 2020. فِي تلك اللَّحظات تُلَاحِظ أنَّ النَّاس "ينْتفضون فِي غضب وَأمَل، يتحدَّوْن القواعد المتعارفة اَلتِي تَحكُم حياتَهم عَادَة، وَبذَلِك يُعطِّلون أَعمَال المؤسَّسات اَلتِي يرْتبطون بِهَا . . . إِنَّ دِرامَا مِثْل هَذِه الأحْداث، جنْبًا إِلى جَنْب مع اَلْفَوضى اَلتِي تَنتِج عَنهَا، تَدفَع بِقضايَا جَدِيدَة إِلى مَركَز النِّقَاش السِّياسيِّ ". وَبِسبَب اِمْتلاك المحتجين القليل من الموارد ومِن البنْية التَّحْتيَّة التَّنْظيميَّة اَلتِي يُمْكِن الاعْتماد عليْهَا، إِنَّ وَجدَت، تُجْدِهم يسْتخْدمون " أَسلِحة الضُّعفاء" مِثْل المقاطعة، وإغْلَاق الطُّرق السَّريعة، والتَّوقُّف عن دَفْع الإيجارات. وهكذا يحْظوْن بِاهْتمام وَسائِل الإعْلام ويسْتخْدمون وَسائِل التَّواصل الاجْتماعيِّ أيْضًا. تراهم يسْتدْعون ويوبِّخون الأشْخاص السَّيِّئين والْممارسات السَّيِّئة فِي كُلٍّ مِن الخطَاب التَّقْليديِّ وغيْر التَّقْليديِّ. كمَا تُؤكِّد الصَّحفيَّة سَارَّة جَافِي: "المفْتاح لِفَهم كَيفِية إِحدَاث التَّغْيير هُو فَهْم آليَّة عمل القوة. إِنَّ اَلقُدرة على تبَرُّع [الأثرياء] بِالْملايين لِمرشَّح وَاحِد هِي قُوَّة، وبالمثل قدرة النُّشطاء على إغلاق مِنطَقة التَّسَوُّق الأكْثر اِزْدحامًا فِي شِيكاغو فِي أَكثَر أَيَّام التَّسَوُّق حركة فِي اَلْعام، كمَا فعلوا فِي عام 2015 لِلاحْتجاج على إِطلَاق الشُّرْطة النَّار على لِأكْوَان ماكْدونالْد، حيث أشارت التَّقْديرات إِلى أنَّ هذَا الإجْراء قد كَلَّف تُجَّار التَّجْزئة 25 إِلى 50 فِي المائة مِن مبيعاتهم فِي ذَلِك اليوْم. إِنَّ رَفْض دَفْع مَلايِين الدُّولارات مِن الدُّيون، بِشَكل جَماعِي، هُو أيْضًا قُوَّة، وَكذَلِك إِغلَاق المدارس فِي دِيتْرويتْ لِعدَّة أَيَّام بِحجج " مَرَضيَّة " فِي نَوْع مِن الإضْراب غَيْر اَلرسْمِي ضِدَّ الظُّروف المزْرية، كمَا فعل المعلِّمون فِي مطلع عام 2016. التمرد الذي يسبب الاضْطراب هُو اَلقُوة عِنْدمَا يَتِم اِسْتخْدامهَ بشكل اِسْتراتيجيٍّ ."
يَصِف العالم السِّياسيُّ أريسْتيد زُولْبِرْغ هَذِه الحالات غَيْر النَّمطيَّة والْمتفجِّرة بِأنَّهَا "لَحَظات مِن اَلجُنون" ، يَقصِد بِذلك فَتَرات الوفْرة السِّياسيَّة عِنْدمَا "يَعتَقِد البشر الَّذين يعيشون فِي المجْتمعات الحديثة أنَّ "كُلَّ شَيْء مُمْكِن". غالبًا مَا يَستشْهِد النَّاشطون المخضْرمون بِمثْل هَذِه اللَّحظات بِاعْتبارهَا حَاسِمة فِي تَشكِيل اِلتزاماتهم السِّياسيَّة الخاصَّة، وَيمكِن أن تُؤدِّي إِلى بِنَاء علاقَات مُشتركَة ومنظَّمات وحركَات طَوِيلَة الأجل ومسْتدامة. مَرَّة أُخرَى، مع اِحْتجاجات حَركَة ’حَيَاةَ اَلسُّودِ مُهِمَّةَ’ عام 2020، شَهِدنَا تغيُّرًا كبيرًا فِي المواقف العامَّة فِيمَا يَتَعلَّق بِعنْف الشُّرْطة. لَقد تَحوَّل التَّشْكيك اَلقدِيم حيال الحركة إِلى إِيمَان رَاسِخ بِعدالتهَا، وَهُو تَغيِير فِي الشُّعور لَم يَحدُث فقط بِسَبب اَلأدِلة الوحْشيَّة الموْضوعة أَمَام أَعيُن النَّاس، وَلكِن أيْضًا بِسَبب حَقِيقَة أَنَّه عِنْدمَا رأى النَّاس الحشود الغاضبة بسبب جريمة القتْل، اِكْتسبوا اَلثقَة فِي إِعادة تقْييمهم لِلْحرَكة . لَا يَنبَغِي التَّغاضي عن حَقِيقَة أنَّ الاحْتجاجات اَلتِي اِنْدلَعتْ فِي اَلمُدن والضَّواحي والْمناطق الرِّيفيَّة وَفِي كُلِّ وِلاية مِن وِلايَات أَمرِيكا أَلهَمت المتظاهرين مِن كُلِّ الأعْراق والْأعْمار، أكثر من ذلك تَمددَت المظاهرات خَارِج حُدودِ امريكا، حَتَّى فِي خِضمِّ جَائِحة عَالمِية جَعلَت التَّجمُّعات العامَّة مَصدَر خطر.
وَبَينمَا شَهِد النَّاس فِي مُخْتَلِف أَنحَاء العالم تفجر هَذِه الأزْمة فِي أَميرِكا، نزِل عَشَرات الآلَاف مِنْهم إِلى الشَّوارع، ليس تضامنًا مع الضَّحايَا الأمْريكيِّين فحسْب؛ بل رَبطُوا مُمارسات الدَّوْلة العنْصريَّة فِي أَمرِيكا بِتلْك الموْجودة فِي بُلْدانهم - أُسْترالْيَا وبريطانْيَا وَفَرنسَا وألْمانْيَا وأماكن أُخرَى. الاحْتجاج اَلذِي بدأ فِي مِينْيابوليس أَصبَح اِسْتفْتاء على عُنْف الشُّرْطة فِي كُلِّ مَكَان، كُلُّ ذَلِك مِن خِلَال اَلقُوة والطَّاقة الأخْلاقيَّة لِلاحْتجاجات. عِنْدمَا يُحَاسِب السِّياسيُّون والْحكومات على التَّخَلُّف عن الوفَاء بِوعودهم بِدَعم الدِّيمقْراطيَّة وممارستهَا، تُصْبِح الشَّوارع مكانًا يُمْكِن أن تَجرِي فِيه اِسْتفْتاءات غَيْر رَسمِية وَلَكنهَا وَاضِحة لِلْغاية. والْجدير بِالذِّكْر أنَّ يُونْيو 2019 شَهِد مُظاهرات على نِطَاق عَالَمِي غَيْر مَسبُوق، فِي أَماكِن نَائِية مِثْل تِشيكوسلوفاكْيَا وهونْغ كُونْغ وكازاخسْتان وفلسْطين. كمَا لَاحَظ الباحثون فِي مَعهَد Tricontinental: مِن المسْتحيل ت اَلتَّنَبُّؤِ بالشَّرارة اَلتِي تُشْعِل نار التَّمَرُّد . فِي لُبْنان، كَانَت الضَرِيبَة على اِسْتخْدام تَطبِيق الواتساب؛ فِي تِشيلي، كان الارْتفاع فِي أَسعَار مِتْرو الأنْفاق؛ فِي الإكْوادور وَهايِتي، كان خَفْض دَعْم الوقود. كُلٌّ مِن هَذِه الظُّروف أَخرَجت النَّاس إِلى الشَّوارع ومن ثم، عِنْدمَا فَاضَت الشَّوارع بِالْمتظاهرين، اِنْضمَّ إِليْهم اَلمزِيد والْمزيد. لَم يَأتُوا مِن أَجْل الواتساب أو تذاكر مِتْرو الأنْفاق. لَقد جَاءُوا لِأنَّهم مُحْبطون وغاضبون لِأنَّ التَّاريخ كما يبدو يتجاهلهم ويحابي وينحاز للطَّبَقة الحاكمة بِاسْتمْرار. "مِن اَلمهِم أن نَسأَل لِماذَا خرج النَّاس إِلى الشَّوارع، وأن نَسأَل عن توجُّهاتهم السِّياسيَّة . فِي كُلٍّ مِن هَذِه الحالات - تِشيلي والْإكْوادور وَهايِتي ولبْنَان - اَلقضِية الأساسيَّة هِي أنَّ شُعُوب هَذِه البلْدان قد تمَّ الاحْتيال عليْهَا مِن قَبْل بُرْجوازيَّة بُلْدانهَا وَمِن قِبل قُوَى خَارجِية (بِشَكل وَاضِح، الشَّركات مُتَعددَة الجنْسيَّات) . لَقد اِسْتهْدفتْ الاحْتجاجات حُكوماتهم، هَذِه اِحْتجاجات تُريد دَعْم الدِّيمقْراطيَّة ضِدَّ الرَّأْسماليَّة."
لَا يُخْطِئن أحد، فَمِن المسْتحيل التَّنَبُّؤ بِالْآثار قَصِيرَة الأجل أو طَوِيلَة الأجل لِمثْل هَذِه الاحْتجاجات. لَا يَنصَب ترْكيزي هُنَا على العلامات السِّياسيَّة التَّقْليديَّة (وَغالِبا مَا تَكُون قَصِيرَة النَّظر) لِلنَّجَاح أو الفشل، وَلكِن أركز على السُّؤَال الأكْبر المتمثِّل فِي تَغيِير أدراك النَّاس لقُدْرتِهم على التَّحَدُّث وفرض الاسْتماع إِليْهم، بِطرق تقْليديَّة وغيْر تقْليديَّة. فِي حِين أَنَّه مِن الحماقة المبالغة فِي تَقدِير التَّغْييرات الإدْراكيَّة أو حالات الأمل العابرة، إِلَّا أنَّ التَّاريخ يعلمنا أنَّ التحولات الكبيرة يُمْكِن أن تَظهَر تدْريجيًّا مِن الأشْياء الصَّغيرة. وَكمَا يَقُول النَّاقد جُون بِيرْغر فِي مقالَته عام 1968 بعنوان "طَبِيعَة المظاهرات الجماهيريَّة": "المظاهرة، مَهمَا كَانَت عفْويَّتهَا، هِي حدث يَتِم تنظيمه وصِناعَته، حدث يَفصِل نَفسَه بِشَكل تَعسفِي عن الحيَاة العاديَّة. قِيمته هِي نَتِيجَة صناعته، لِأَنه هُنَا تَكمُن إِمْكانيَّاته التَّنبُّئيَّة والتَّمرينيَّة . . . المظاهرة الجماهيريَّة تَميَّز نفْسهَا عن اَلحُشود الجماهيريَّة اَلأُخرى لِأنَّهَا تَحتَشِد فِي الأماكن العامَّة لتشكيل مُهمتهَا، بدلا مِن تَشكلِها اِسْتجابة لِمهمَّة ما"
خِتامًا أُريد أن أَولَى اِهْتمامًا خاصًّا لِتأْكِيد بِيرْغر على أنَّ المظاهرة هِي شَيْء "يَفصِل نَفسَه عن الحيَاة العاديّة" بِالنِّسْبة لِحجَّتي فِي هذَا الكتَاب، فَإِن " الحيَاة العاديَّة " هِي الحيَاة اَلتِي اِعْتدْنَا عليْهَا - والْعادات اَلتِي تبنَّيْناهَا تَشمَل "مَعرِفة مَكانِنا" [أيْ اِلتزامنَا الحدودالْمعينة لَنَا مِن السُّلْطة]. المظاهرات تنحِّي جانبًا هَذِه العادات. المظاهرات الجيِّدة تَطمِس وتلغي الحدود الْمعينة لَنَا مِن قِبل السُّلْطة.
* أُسْتاذ الأدب الإنْجليزيِّ فِي جَامِعة سِتانْفورْد، يَكتُب فِي عدد مِن المواقع والدَّوْريَّات
////////////////////////////
اِنْهض فِي غضب وَأمَل: كَيْف يُمْكِن لِلاحْتجاجات البركانية أن تَدفَع بالقضايَا اَلملِحة إِلى مَركَز النِّقَاش السِّياسيِّ دِيفيد بالومْبو لِيو [أُسْتاذ الأدب الإنْجليزيِّ، جَامِعة سِتانْفورْد] يَتَحدَّث عن الإحتجاج الاسْتراتيجيِّ كَقوَّة تَرجمَة إِليكترونيَّة بتصرف عُثْمان مُحمَّد حَمْدان فِي مَقالَة رَائِعة لِلْكاتبة والنَّاشطة جُون جُورْدَان بِعنْوَان "اَلحُروب الأهْليَّة "تَحكِي عن نَفَاد صبْرهَا حِيَال القادة المزْعومين، ذَوِي اَلمُيول لِاحْتكار القيادة والنَّشاط، وتقْديرهَا لِلطَّاقة المتفجِّرة لِانْتفاضة مِيامي عام 1980، اَلتِي أَعقَبت تَبرِئة أَربَعة مِن ضُبَّاط الشُّرْطة، كَانُوا قد أوْسعوا اَلمُجند السَّابق فِي البحْريَّة الأميركيَّة، آرْثر ماكْدوفي، البالغ مِن اَلعُمر 33 عامًا، ضرْبًا حَتَّى الموْتِ: "لَقد كَانَت أخْبارًا جَيدَة. أخيرًا اِنتهَى الصَّمْتُ اَلذِي اِسْتطَال أَمدُه! تمَّ وَضْع المجاملات الزَّائفة جانبًا. لَم يَكُن هُنَاك ثَمَّة قَادَة. لَم تَكُن هُنَاك مُنَظمَة ولَا مُتَحدث بِاسْمِهَا. لَم يَكُن هُنَاك جَدوَل أَعمَال. لَم تَكُن هُنَاك اِجْتماعات ولَا مُفاوضات. قام الأشْخاص المنْتهكين بِالْعنْف، والْعَوز، وأقْصى دَرَجات الإهْمال، والْقَمْع العنْصريُّ، بِردِّ فِعْل مُنَاسِب ومتطَرِّف: صَرخَة مُدَويَة لِلانْتقام، والتَّدْمير مُقَابِل حَياتِهم المدمِّرة، وَتعطِيل لِلْمارَّة مُقَابِل أَجيَال مُعَطلَة بِسَبب الازْدراء وعوائق الفقْر. كَانَت مِيامي غَيْر مُهَذبَة تمامًا . "
فِي رِواية جُورْدَان، تَتَزامَن هَذِه اللَّحْظة المتفجِّرة مع خِلَاف طَارِئ حال دون تواصلها مع زميلتهَا النَّاشطة فرانْسيس فُوكْس بِيفن. ومع ذَلِك، اٌختتَمت المقَال بتصوير هذه اللَّحْظة: “قَررَت أن أَترُك خِلافنَا كمَا هُو: أن أَترُك عثرة الصَّداقة قَائِمة وأن أَتَواصَل رغم ذلك مع فرانْسيس لنقاش تكْتيكات النِّضَال . . . إِذَا كان جَوهَر الحرَكة الجماهيرية هُو عفْويَّتهَا، كيْف يُمْكننَا الحفَاظ على اِسْتمْراريَّتهَا؟ لَكننِي تَرددَت. فَكرَت مَرَّة أُخرَى فِي كُلِّ الأشْياء اَلأُخرى اَلتِي لَن نَتَحدَّث عَنهَا والجدال الذي سيتواصل بيْننَا، وَكَان شُعوريٌّ "ما الذي يمكن أن أخسره! إِخفَاق الصَّداقة لَيسَ مَأْسَاة. يُمْكننَا أن نَكُون مُهذَّبِين." وَلذَا اِتصلَت بِهَا لِلتَّحَدُّث حول مجالات الاهتمام المشتركة الراهنة.
يَنتَقِل مَقَال جُورْدَان بِشَكل جميل على هذَا المسَار الموازي، بَيْن الصَّداقة والتَّحالف، بَيْن اللُّغة والكياسة المعتادة وهي تثمن الكلام غير المنمق والنشاط المتفجر وتضفي علىى ’عدم اللياقة’ قِيمة شَخصِية وسياسيَّة أَساسِية. وَبذَا يُكوِّن اَلرَّد الأخْلاقيُّ اَلصحِيح اَلوحِيد على أَعمَال الإسْكات والْأَذى المتكرِّرة هُو "التَّحَدُّث خَارِج المكَان، فِي الأماكن غير اَلمُصرح التَّحَدُّث فِيهَا". وَلكِن مِن الأهمِّيَّة بِمكان أيْضًا اللَّحْظة اَلتِي تَحْتاج فِيهَا طاقات الاحْتجاجالبرْكانيَّة إِلى التوجيه والاسْتدامة. وَلأَن جُورْدَان تُدْرِك ذَلِك، فَإِنهَا تَتَواصَل مع بِيفن.
فِي كِتابِهَا "تحدِّي السُّلْطة"، تَتَناوَل بِيفن على وَجْه التَّحْديد ظَاهِرة الاحْتجاجات البرْكانيَّة، اَلَّتِي شَاهَدْنَاهَا بَعْد مَقتَل جُورْج فُلويد فِي مَايُو 2020. فِي تلك اللَّحظات تُلَاحِظ أنَّ النَّاس "ينْتفضون فِي غضب وَأمَل، يتحدَّوْن القواعد المتعارفة اَلتِي تَحكُم حياتَهم عَادَة، وَبذَلِك يُعطِّلون أَعمَال المؤسَّسات اَلتِي يرْتبطون بِهَا . . . إِنَّ دِرامَا مِثْل هَذِه الأحْداث، جنْبًا إِلى جَنْب مع اَلْفَوضى اَلتِي تَنتِج عَنهَا، تَدفَع بِقضايَا جَدِيدَة إِلى مَركَز النِّقَاش السِّياسيِّ ". وَبِسبَب اِمْتلاك المحتجين القليل من الموارد ومِن البنْية التَّحْتيَّة التَّنْظيميَّة اَلتِي يُمْكِن الاعْتماد عليْهَا، إِنَّ وَجدَت، تُجْدِهم يسْتخْدمون " أَسلِحة الضُّعفاء" مِثْل المقاطعة، وإغْلَاق الطُّرق السَّريعة، والتَّوقُّف عن دَفْع الإيجارات. وهكذا يحْظوْن بِاهْتمام وَسائِل الإعْلام ويسْتخْدمون وَسائِل التَّواصل الاجْتماعيِّ أيْضًا. تراهم يسْتدْعون ويوبِّخون الأشْخاص السَّيِّئين والْممارسات السَّيِّئة فِي كُلٍّ مِن الخطَاب التَّقْليديِّ وغيْر التَّقْليديِّ. كمَا تُؤكِّد الصَّحفيَّة سَارَّة جَافِي: "المفْتاح لِفَهم كَيفِية إِحدَاث التَّغْيير هُو فَهْم آليَّة عمل القوة. إِنَّ اَلقُدرة على تبَرُّع [الأثرياء] بِالْملايين لِمرشَّح وَاحِد هِي قُوَّة، وبالمثل قدرة النُّشطاء على إغلاق مِنطَقة التَّسَوُّق الأكْثر اِزْدحامًا فِي شِيكاغو فِي أَكثَر أَيَّام التَّسَوُّق حركة فِي اَلْعام، كمَا فعلوا فِي عام 2015 لِلاحْتجاج على إِطلَاق الشُّرْطة النَّار على لِأكْوَان ماكْدونالْد، حيث أشارت التَّقْديرات إِلى أنَّ هذَا الإجْراء قد كَلَّف تُجَّار التَّجْزئة 25 إِلى 50 فِي المائة مِن مبيعاتهم فِي ذَلِك اليوْم. إِنَّ رَفْض دَفْع مَلايِين الدُّولارات مِن الدُّيون، بِشَكل جَماعِي، هُو أيْضًا قُوَّة، وَكذَلِك إِغلَاق المدارس فِي دِيتْرويتْ لِعدَّة أَيَّام بِحجج " مَرَضيَّة " فِي نَوْع مِن الإضْراب غَيْر اَلرسْمِي ضِدَّ الظُّروف المزْرية، كمَا فعل المعلِّمون فِي مطلع عام 2016. التمرد الذي يسبب الاضْطراب هُو اَلقُوة عِنْدمَا يَتِم اِسْتخْدامهَ بشكل اِسْتراتيجيٍّ ."
يَصِف العالم السِّياسيُّ أريسْتيد زُولْبِرْغ هَذِه الحالات غَيْر النَّمطيَّة والْمتفجِّرة بِأنَّهَا "لَحَظات مِن اَلجُنون" ، يَقصِد بِذلك فَتَرات الوفْرة السِّياسيَّة عِنْدمَا "يَعتَقِد البشر الَّذين يعيشون فِي المجْتمعات الحديثة أنَّ "كُلَّ شَيْء مُمْكِن". غالبًا مَا يَستشْهِد النَّاشطون المخضْرمون بِمثْل هَذِه اللَّحظات بِاعْتبارهَا حَاسِمة فِي تَشكِيل اِلتزاماتهم السِّياسيَّة الخاصَّة، وَيمكِن أن تُؤدِّي إِلى بِنَاء علاقَات مُشتركَة ومنظَّمات وحركَات طَوِيلَة الأجل ومسْتدامة. مَرَّة أُخرَى، مع اِحْتجاجات حَركَة ’حَيَاةَ اَلسُّودِ مُهِمَّةَ’ عام 2020، شَهِدنَا تغيُّرًا كبيرًا فِي المواقف العامَّة فِيمَا يَتَعلَّق بِعنْف الشُّرْطة. لَقد تَحوَّل التَّشْكيك اَلقدِيم حيال الحركة إِلى إِيمَان رَاسِخ بِعدالتهَا، وَهُو تَغيِير فِي الشُّعور لَم يَحدُث فقط بِسَبب اَلأدِلة الوحْشيَّة الموْضوعة أَمَام أَعيُن النَّاس، وَلكِن أيْضًا بِسَبب حَقِيقَة أَنَّه عِنْدمَا رأى النَّاس الحشود الغاضبة بسبب جريمة القتْل، اِكْتسبوا اَلثقَة فِي إِعادة تقْييمهم لِلْحرَكة . لَا يَنبَغِي التَّغاضي عن حَقِيقَة أنَّ الاحْتجاجات اَلتِي اِنْدلَعتْ فِي اَلمُدن والضَّواحي والْمناطق الرِّيفيَّة وَفِي كُلِّ وِلاية مِن وِلايَات أَمرِيكا أَلهَمت المتظاهرين مِن كُلِّ الأعْراق والْأعْمار، أكثر من ذلك تَمددَت المظاهرات خَارِج حُدودِ امريكا، حَتَّى فِي خِضمِّ جَائِحة عَالمِية جَعلَت التَّجمُّعات العامَّة مَصدَر خطر.
وَبَينمَا شَهِد النَّاس فِي مُخْتَلِف أَنحَاء العالم تفجر هَذِه الأزْمة فِي أَميرِكا، نزِل عَشَرات الآلَاف مِنْهم إِلى الشَّوارع، ليس تضامنًا مع الضَّحايَا الأمْريكيِّين فحسْب؛ بل رَبطُوا مُمارسات الدَّوْلة العنْصريَّة فِي أَمرِيكا بِتلْك الموْجودة فِي بُلْدانهم - أُسْترالْيَا وبريطانْيَا وَفَرنسَا وألْمانْيَا وأماكن أُخرَى. الاحْتجاج اَلذِي بدأ فِي مِينْيابوليس أَصبَح اِسْتفْتاء على عُنْف الشُّرْطة فِي كُلِّ مَكَان، كُلُّ ذَلِك مِن خِلَال اَلقُوة والطَّاقة الأخْلاقيَّة لِلاحْتجاجات. عِنْدمَا يُحَاسِب السِّياسيُّون والْحكومات على التَّخَلُّف عن الوفَاء بِوعودهم بِدَعم الدِّيمقْراطيَّة وممارستهَا، تُصْبِح الشَّوارع مكانًا يُمْكِن أن تَجرِي فِيه اِسْتفْتاءات غَيْر رَسمِية وَلَكنهَا وَاضِحة لِلْغاية. والْجدير بِالذِّكْر أنَّ يُونْيو 2019 شَهِد مُظاهرات على نِطَاق عَالَمِي غَيْر مَسبُوق، فِي أَماكِن نَائِية مِثْل تِشيكوسلوفاكْيَا وهونْغ كُونْغ وكازاخسْتان وفلسْطين. كمَا لَاحَظ الباحثون فِي مَعهَد Tricontinental: مِن المسْتحيل ت اَلتَّنَبُّؤِ بالشَّرارة اَلتِي تُشْعِل نار التَّمَرُّد . فِي لُبْنان، كَانَت الضَرِيبَة على اِسْتخْدام تَطبِيق الواتساب؛ فِي تِشيلي، كان الارْتفاع فِي أَسعَار مِتْرو الأنْفاق؛ فِي الإكْوادور وَهايِتي، كان خَفْض دَعْم الوقود. كُلٌّ مِن هَذِه الظُّروف أَخرَجت النَّاس إِلى الشَّوارع ومن ثم، عِنْدمَا فَاضَت الشَّوارع بِالْمتظاهرين، اِنْضمَّ إِليْهم اَلمزِيد والْمزيد. لَم يَأتُوا مِن أَجْل الواتساب أو تذاكر مِتْرو الأنْفاق. لَقد جَاءُوا لِأنَّهم مُحْبطون وغاضبون لِأنَّ التَّاريخ كما يبدو يتجاهلهم ويحابي وينحاز للطَّبَقة الحاكمة بِاسْتمْرار. "مِن اَلمهِم أن نَسأَل لِماذَا خرج النَّاس إِلى الشَّوارع، وأن نَسأَل عن توجُّهاتهم السِّياسيَّة . فِي كُلٍّ مِن هَذِه الحالات - تِشيلي والْإكْوادور وَهايِتي ولبْنَان - اَلقضِية الأساسيَّة هِي أنَّ شُعُوب هَذِه البلْدان قد تمَّ الاحْتيال عليْهَا مِن قَبْل بُرْجوازيَّة بُلْدانهَا وَمِن قِبل قُوَى خَارجِية (بِشَكل وَاضِح، الشَّركات مُتَعددَة الجنْسيَّات) . لَقد اِسْتهْدفتْ الاحْتجاجات حُكوماتهم، هَذِه اِحْتجاجات تُريد دَعْم الدِّيمقْراطيَّة ضِدَّ الرَّأْسماليَّة."
لَا يُخْطِئن أحد، فَمِن المسْتحيل التَّنَبُّؤ بِالْآثار قَصِيرَة الأجل أو طَوِيلَة الأجل لِمثْل هَذِه الاحْتجاجات. لَا يَنصَب ترْكيزي هُنَا على العلامات السِّياسيَّة التَّقْليديَّة (وَغالِبا مَا تَكُون قَصِيرَة النَّظر) لِلنَّجَاح أو الفشل، وَلكِن أركز على السُّؤَال الأكْبر المتمثِّل فِي تَغيِير أدراك النَّاس لقُدْرتِهم على التَّحَدُّث وفرض الاسْتماع إِليْهم، بِطرق تقْليديَّة وغيْر تقْليديَّة. فِي حِين أَنَّه مِن الحماقة المبالغة فِي تَقدِير التَّغْييرات الإدْراكيَّة أو حالات الأمل العابرة، إِلَّا أنَّ التَّاريخ يعلمنا أنَّ التحولات الكبيرة يُمْكِن أن تَظهَر تدْريجيًّا مِن الأشْياء الصَّغيرة. وَكمَا يَقُول النَّاقد جُون بِيرْغر فِي مقالَته عام 1968 بعنوان "طَبِيعَة المظاهرات الجماهيريَّة": "المظاهرة، مَهمَا كَانَت عفْويَّتهَا، هِي حدث يَتِم تنظيمه وصِناعَته، حدث يَفصِل نَفسَه بِشَكل تَعسفِي عن الحيَاة العاديَّة. قِيمته هِي نَتِيجَة صناعته، لِأَنه هُنَا تَكمُن إِمْكانيَّاته التَّنبُّئيَّة والتَّمرينيَّة . . . المظاهرة الجماهيريَّة تَميَّز نفْسهَا عن اَلحُشود الجماهيريَّة اَلأُخرى لِأنَّهَا تَحتَشِد فِي الأماكن العامَّة لتشكيل مُهمتهَا، بدلا مِن تَشكلِها اِسْتجابة لِمهمَّة ما"
خِتامًا أُريد أن أَولَى اِهْتمامًا خاصًّا لِتأْكِيد بِيرْغر على أنَّ المظاهرة هِي شَيْء "يَفصِل نَفسَه عن الحيَاة العاديّة" بِالنِّسْبة لِحجَّتي فِي هذَا الكتَاب، فَإِن " الحيَاة العاديَّة " هِي الحيَاة اَلتِي اِعْتدْنَا عليْهَا - والْعادات اَلتِي تبنَّيْناهَا تَشمَل "مَعرِفة مَكانِنا" [أيْ اِلتزامنَا الحدودالْمعينة لَنَا مِن السُّلْطة]. المظاهرات تنحِّي جانبًا هَذِه العادات. المظاهرات الجيِّدة تَطمِس وتلغي الحدود الْمعينة لَنَا مِن قِبل السُّلْطة.
* أُسْتاذ الأدب الإنْجليزيِّ فِي جَامِعة سِتانْفورْد، يَكتُب فِي عدد مِن المواقع والدَّوْريَّات
////////////////////////////