الانْتفاضة العالميَّة ضِدَّ النِّيوليبراليَّة وسياساتهَا التَّقشُّفيَّة
عثمان محمد حمدان
7 February, 2023
7 February, 2023
osmanhamdan72@gmail.com
بْن إِهْرنرايش يكتب في The Nation عن المَوضُوع المُشتَرَك في الانْتفاضات اَلتِي هَزَّت بُوليفْيَا ولبْنَان والسودان وعشرَات البلْدان اَلأُخرى، بِالرَّغْم مِن التَّباين فِي الشَّكْل شَيْء مَا - شَخْص مَا - يَستَمِر فِي الطُّرق على اَلْباب. اَلجَو بَارِد بِالْخارج وَيصبِح أَكثَر بُرُودَة، لَكِن الأشْخاص بِالدَّاخل يَشعُرون بِالرَّاحة على الأريكة يشاهدون التِّلفاز وبطانيَّة على أحْضانهم. وَلكِن الآن هُنَاك أَكثَر مِن طَارِق: عِنْد اَلْباب الأماميِّ، ثُمَّ آخر عِنْد اَلْباب الجانبيِّ، ثُمَّ مِن نَاحِية اَلْباب اَلخلْفِي. رُبمَا هِي الرِّيح. في هذه اللحظة هُنَاك مِن يَقرَع على نَوافِذ اَلمنْزِل وَسقفِه وجدْرانه - من كان يَعلَم أَنهَا وَاهِية جِدًّا إلى هذا الحد؟ مِن الصَّعْب أن نَفهَم: كَيْف يُمْكِن لِهَذا العدد اَلكبِير مِن النَّاس أن يَطرُقوا هَكذَا دُفعَة وَاحِدة؟ لَكِنهم بِالْفِعْل يَطرُقون، وتزْدَاد حِدَّة طَرقهِم. فِي الأسْبوع الماضي كان بِإمْكانك سَمَاع اَلضجِيج فِي كُولومْبيَا - فِي بُوغوتَا، وَكالِي، وِكارْتاخينَا، وبارانْكويلَا، وْميديلين، وأعْلن حَظْر تَجوُّل، والْجَيْش فِي الشَّوارع - وَفِي الأسْبوع اَلذِي سبق ذَلِك فِي إِيرَان، اِنْتشَرتْ اِحْتجاجات تنتشر بِسرْعة إِلى أَكثَر مِن 100 مَدِينَة. قُتِل مَا لَا يَقِل عن 100 مُتَظاهِر حَتَّى الآن. مِن الصَّعْب مَعرِفة مَا إِذَا كان هُنَاك اَلمزِيد من القتلى، أو مَا يَحدُث بِالضَّبْط حيث أَغلَقت الحكومة الإنْترْنت فِي اليوْم الثَّاني لِلاحْتجاجات. وَلكِن حَتَّى عِنْدمَا يَتَوفَّر الإنْترْنت، يَكُون مِن الصَّعْب الاحاطة بكُلِّ ذَلِك: فقد كَانَت الاحْتجاجات تَجْتاح الجزائر وبوليفْيَا وتشيلي وكولومْبيَا والْإكْوادور ومصْر وَفَرنسَا وألْمانْيَا وغينْيَا وَهايِتي وهنْدوراس وهونْغ كُونْغ وَالهِند وإنْدونيسْيَا، وإِيرَان، والْعراق، ولبْنَان، وهولنْدَا، وإسْبانْيَا، والسُّودان، والْممْلكة المتَّحدة، وزيمْبابْوي - أنَا مُتَأكد مِن أَننِي سأنْسى مكانًا مَا - وَهذَا مُنْذ سِبْتمْبر فقط. كَانَت بَعْض هَذِه الاحْتجاجات مِن النَّوْع العابر والرُّوتينيِّ اَلذِي يُعطِّل حَركَة اَلمُرور لِيَوم وَاحِد. البعْض الآخر يُشْبِه الثَّوْرات، كَبِيرَة بِمَا يَكفِي لِإسْقَاط الحكومات، وإغْلَاق أُمَم بِأكْملهَا.
فِي ظَاهِر الأمْر، يَبدُو أنَّ هُنَاك اَلقلِيل اَلذِي يُوحِّد هذه الاحتجاجات. فِي إِيرَان، أَدَّى الإعْلان عن رَفْع أَسعَار الوقود بِنسْبة 50 فِي اَلمِئة إِلى اِندِلاعها. فِي ألْمانْيَا وهولنْدَا وَفَرنسَا، قام المزارعون بِإغْلَاق الطُّرق السَّريعة لِلاحْتجاج على الضَّوابط البيئيَّة. بدأ الغضب في هُونْغ كُونْغ بِالتَّشْريع المقْترح اَلذِي كان سيسْمح بِتسْلِيم الأفراد إِلى الصِّين للمحاكمة. فِي تِشيلي، كَانَت الشَّرارة عِبارة عن اِرتِفاع فِي تَكلِفة النَّقْل اَلْعام، وَفِي إِنْدونيسْيَا مَشرُوع قَانُون جَنائي قَمعِي، فِي لُبْنان إِعلَان ضَرائِب جَدِيدَة على كُلِّ شَيْء مِن البنْزين إِلى مُكالمات WhatsApp.
بَعْض هَذِه الاحْتجاجات نظَّمتْهَا نِقابَات أو أَحزَاب مُعَارضَة رَسمِية، لَكِن اَلعدِيد مِنهَا كان أُفقِيا بِلَا قِيادة (“كُنَّ مِثْل اَلْماء"، على حدِّ تَعبِير المتظاهرين فِي هُونْغ كُونْغ، مستوحيين بُرُوس لِي*.) لَا تُوجَد أيْديولوجيَّة ثَورِية شَامِلة توحُّدهم. لَا يُوجَد حِزْب طَليعِي يَندَفِع إِلى الأمَام. لَم يَعُد المحْور اَلوحِيد مِن اليسَار والْيمين اَلذِي اِنقسَم عليْه العالم مُعظَم القرْن الماضي مُفيدًا دائمًا. فَبَينمَا هَلَّل اليمينيُّون، وَحكُومة الولايات المتَّحدة، لِلتَّطلُّعات الدِّيمقْراطيَّة لِلْمتظاهرين فِي هُونْغ كُونْغ وإيرَان وبوليفْيَا، أَبدَوا بِشَكل أو بِآخر اِحْتقارهم أو تجاهلهم لِلْمتظاهرين فِي كُلِّ مَكَان آخر. بالمقابل تَوجسَت الأوْساط اليساريَّة الأكْثر دُوغْماتيَّة مِن التَّدَخُّل الإمْبرْياليِّ وَرَاء اِحْتجاجات هُونْغ كُونْغ وإيرَان بيْنمَا أَكدَت شَرعِية كُلِّ حَركَة شَعبِية أُخرَى على ظَهْر هذَا اَلْكَوكب.
إِذَا تَمكنَت مِن تَجاوُز حجْب الدُّخَّان المتصاعد مِن مَتارِيس الاحْتجاجات، تَتَبدَّى لَك القواسم المشْتركة بيْنهَا. فِي تِشيلي، كشف الغضب على زِيادة أُجرَة المتْرو أنَّ السُّكَّان مُرْهقون لِلْغاية بِسَبب التَّقَشُّف، مُتأثِّرون بِشدَّة جَرَّاء اَلأُجور المنْخفضة وساعَات العمل الطَّويلة والدُّيون، لِذَا سَئمُوا جشع وَعمَى اَلقِلة اَلغنِية الَّذين يُديرون البلَاد لِدرجة أَنهُم كَانُوا كَذلِك على اِسْتعْداد لِحَرق كُلِّ شَيْء تقْريبًا. بُعْد ساعات قَلِيلَة مِن إِعلَان حَالَة الطَّوارئ وإرْسَال الجيْش إِلى الشَّوارع، ظُهْر اَلرئِيس الملْيارْدير سِباسْتيان بِينيرَا على شَاشَة التِّلفزْيون لِتذْكِير المواطنين بِأنَّ " الدِّيمقْراطيَّة المسْتقرَّة " والاقْتصاد المتنامي فِي تِشيلي يجْعلانهَا "وَاحَة حَقيقِية" فِي قَارَّة فَوضوِية. لَاحظتْ الإيكونوميسْتْ بِفتور أنَّ "الممارسات اَلتِي يَقُوم عليْهَا الرَّخَاء لَا تَحظَى بِشعْبِيَّة“.
فِي رُكْن آخر مِن العالم يَتَردَّد رَجْع الصَّدى: بَعْد فَترَة قَصِيرَة مِن اِعتِقال الشُّرْطة المصْريَّة لِلْآلَاف مِمَّن تجرَّؤوا على التَّظاهر فِي سِبْتمْبر، أَعرَب وزير الماليَّة اَلمصْرِي عن أَسفِه لِأنَّ "ثِمَار الإصْلاح الاقْتصاديِّ فِي مِصْر لَم يَستَفِد مِنهَا النَّاس العاديُّون". وقد أَدَّت الإجْراءات اَلتِي فرضهَا صُنْدُوق النَّقْد اَلدوْلِي فِي الواقع إِلى اِرتِفاع التَّضَخُّم بِنسْبة 60 فِي اَلمِئة على مدى ثَلَاث سَنَوات، مِمَّا أَدَّى إِلى إِغرَاق الملايين فِي بَراثِن الفقْر. هذَا مَا أَطلَق عليْه مُحلِّل فِي مُورجَان سِتانْلي مُؤَخرا "أَفضَل قِصَّة إِصلَاح فِي الشَّرْق اَلْأَوسط".
إنَ الانفصامَ بينَ تصورِ النخبةِ والتجربةِ الجماهيريةِ لهوَ واسعٍ النطاقِ بقدرِ ما هوَ أساسيٌ: جميعُ البلدانِ التي شهدتْ مؤخرا ثوراتِ شعبيةً - وكذا بقيةُ العالمِ - يتحكمَ فيها على مدى عقودِ نموذجٍ اقتصاديٍ واحدٍ، حيثُ "النموّ الاقتصاديُ" الذي تحتفي بهِ قلةً ضئيلةً منْ الطبقةِ العليا المتميزةِ، يعني البؤسُ للكثيرينَ، ويقود، بشكلٍ مؤكدٍ، إلى تدفق رؤوس الأموالِ إلى الحساباتِ الأمريكيةِ والأوروبيةِ، أشبه بتدفقِ مياهِ الصرفِ الصحيِ إلى أسفلِ المنحدراتِ. كانتْ شيلي معملاً مبكرا سيئ السمعةِ: عملتْ فرقُ الاغتيالِ التابعةِ لبينوشيهْ جنبا إلى جنبٍ معَ الاقتصاديينَ المدربينَ في شيكاغو لخلقِ "معجزةٍ اقتصاديةٍ" مدعاةَ لا يقدرها إلا المحظوظونَ وعديمو الضميرَ عمي البصيرةَ. إذا فشلتْ التعبئةُ الشعبيةُ في بوليفيا في عكسِ اتجاهِ انقلابِ 10 نوفمبرَ، فعلي الشعب البوليفي توقعُ غضبةٍ إلهيةٍ مماثلةٍ.
كَلمَة النِّيوليبراليَّة اَلتِي يَتِم تداولهَا كثيرًا هَذِه الأيَّام، هي منهج قَابِل لِلتَّطْبيق عَالمِيا لِلْحفَاظ على الاخْتلال السَّاحق الحاليِّ فِي اَلقُوة. على نِطَاق عَالَمِي مُصغَّر تَعمَل النِّيوليبراليَّة على مُستَوَى المحلِّيَّات - البلديَّات – حَيْث تَنْهار شَبَكات المواصلات العامَّة، بيْنمَا يَقفِز الملْيارْديرات فِي طائرَات الهليكوبْتر مِن الأسْطح إِلى الأسْطح. وَعلَى نِطَاق عَالَمِي مُكبِّر تَتَجسَّد النِّيوليبراليَّة فِي تَواطُؤ النُّخب الوطنيَّة مع الشَّركات مُتَعددَة الجنْسيَّات والمؤسَّسات الماليَّة الدَّوْليَّة لِإبْقَاء اَليَد العاملة رَخِيصَة، والثَّرْوة والْموارد مَحصُورة فِي أَيدِي عدد قليل مِن الفئَات والْقنوات الرَّاسخة.
كَانَت وَفرَة رَأْس اَلْمال الصِّينيِّ وارْتفاع أَسعَار السِّلع الأساسيَّة مِثْل النِّفْط والْغَاز والْمعادن والْمنْتجات الزِّراعيَّة خلال معظم العقْد الأوَّل مِن القرْن الحادي والْعشْرين تَعنِي أنَّ بَعْض البلْدان الفقيرة تملك بعض الخِيارَات. لِفتْرة وَجِيزَة، كان بِإمْكانهم تَجنُّب مَصايِد "الإصْلاح" القاسية المرْتبطة بِقروض صُنْدُوق النَّقْد اَلدوْلِي: وَصفَة التَّقَشُّف المعْتادة المتمثِّلة فِي تَقلِيص القطَاع اَلْعام، وَخَصخصَة الموارد الممْلوكة لِلدَّوْلة، وَتدمِير تَدابِير حِماية اَلعُمال بِاسْم "التَّحْرير". فِي أَمرِيكا اللَّاتينيَّة، اِنْتصَرتْ الحكومات اليساريَّة، وانْخَفض الفقْر وَعدَم المساواة. لَكِن طَفرَة السِّلع تَلاشَت، وَتَوقَّف الاقْتصاد الصِّينيُّ، وبعْد سَنَوات مِن المراجعات، عاد صُنْدُوق النَّقْد اَلدوْلِي بِنَفس اَلحُلول القديمة اَلتِي فَقدَت مِصْداقيَّتهَا.
للحفاظِ على تدفقِ الأموالِ تخلتْ النخبُ المحليةُ في سرورٍ عنْ مكتسباتِ شعوبها. في مارسَ 2019، وقعَ الرئيسُ الإكوادوريُ لينينْ مورينو صفقةٍ معَ صندوقِ النقدِ الدوليِ للحصولِ على قرضٍ بقيمةِ 4.2 مليارِ دولارٍ، وفي أكتوبرَ، استجابةٌ لطلبِ الصندوقِ، قام بخفضِ أجورِ القطاعِ العامِ ودعمِ الوقودِ، مما تسببَ في تضاعفِ سعرِ الديزل- وتسببَ في نزولِ عدةِ آلافِ منْ السكانِ الأصليينَ الإكوادوريينَ للشوارعِ. (سرعانَ ما فرَ مورينو منْ العاصمةِ ووافقَ على التخلي عنْ حزمةِ التقشفِ). في لبنانَ، أعلنَ رئيسُ الوزراءِ سعدْ الحريري عنْ سلسلةٍ منْ الضرائبِ الجديدةِ - على الوقودِ والتبغِ والمكالماتِ الهاتفيةِ التي تتمُ عبرَ خدماتِ الإنترنت - كجزءٍ منْ حزمةِ خفضِ العجزِ التي يطلبها المقرضونَ الأجانبُ للحصولِ على قرضٍ بقيمةِ 11 مليارَ دولارٍ. بعدُ 12 يوما منْ الاحتجاجاتِ التي شاركَ فيها ما يصلُ إلى ربعِ سكانِ لبنانَ، استقالَ الحريري. لكنَ المتظاهرونَ لمْ ينسحبوا.
ينطبقَ النموذجُ نفسهُ حتى في البلدانِ التي يحظرُ فيها نشاطُ صندوقِ النقدِ الدوليِ والبنكِ الدوليِ: إيران، التي تعثرتْ بسببِ أربعةِ عقودِ منْ العقوباتِ الأمريكيةِ، تحولتْ لسنواتِ إلى تطبيقِ حزمةِ إجراءاتِ التقشفِ المعتادةِ. إذا فشلتْ إجراءاتِ التقشفِ على نطاقٍ واسعٍ في توفيرِ العلاجِ الاقتصاديِ الشاملِ الموعود، فيمكنها على الأقلِ بشكلٍ موثوقٍ توفيرِ الوقايةِ للنخبةِ الحاكمةِ، وتحميلَ الطبقاتِ التي تعتبرُ غيرَ ضروريةٍ عبءَ المعاناةِ. إلى أنَ عجزت النخبة الحاكمة عنْ مواصلةٍ تلك السياسات.
الكرامةُ شأْنهَا طريفْ: بمجردَ استردادها، يصبح الاستسلامُ أكثرَ صعوبةٍ. توسعتْ مطالب المحتجينَ في كلِ مكانِ تقريبا إلى ما هوَ أبعدُ بكثيرٍ منْ الغضبِ الأصليِ الذي أشعلَ فتيلهمْ. في هونغْ كونغْ، قررَ المتظاهرونَ بسرعةِ أنَ سحبَ مشروعِ قانونِ تسليمِ المحكومينَ للصينِ لمْ يكنْ كافيا: لقدْ أرادوا الاقتراعُ العامُ أيضا. (يتمَ انتخابُ نصفِ المقاعدِ في المجلسِ التشريعيِ للمدينةِ بشكلٍ مباشرٍ منْ قبلِ "دوائرَ انتخابيةٍ وظيفيةٍ"، مثلُ المصرفيينَ والملاكُ الصناعيينَ والمقاولينَ العقاريينَ؛ عدمَ المساواةِ وتكاليفِ الإسكانِ أعلى منْ أيِ مكانٍ في العالمِ.) في تشيلي، توسعتْ مطالب المحتجينَ منْ إلغاءِ الزياداتِ في تذاكرِ المواصلاتِ لإلغاءِ دستورِ حقبةٍ بينوشيهْ في البلادِ. (يبدو أن المحتجين سيحصلون على كلا الأمرينِ - فقدْ أَلغَى بينيرا الزيادة في تذاكرِ المواصلاتِ ووافقَ على إجراءِ استفتاءٍ على دستورٍ جديدٍ.) في لبنانَ، يناقشَ المتظاهرونَ الآنِ ما إذا كانتْ حركتهمْ تعتبرُ ثورةً. (لا ينبغي أنْ يكونَ مفاجئا أنَ مثل هذهِ الاحتجاجاتِ الشرسةِ قدْ اندلعتْ في بيروت وهونغْ كونغْ وتشيلي، وهيَ بعضُ أكثرِ الأماكنِ خصخصةً على وجهِ الأرضِ). في السودانِ، انتفاضةٌ بدأتْ عندما قطعتْ حكومةَ عمرْ البشيرْ القمحِ ودعمِ الوقودِ - بناءٌ على اقتراحِ " شركاءِ الإقراضِ الدوليينَ"، على حدِ التعبيرِ المهذبِ لصحيفةِ نيويورك تايمزْ - انتهى بها الأمرُ إلى الإطاحةِ بنظامهِ الذي دامَ ثلاثينَ عاما، ولمْ تتوقفْ بعدٌ. في هايتي أيضا، بدأتْ الاحتجاجاتُ منذُ أكثرَ منْ عامِ عندما رفعَ الرئيسُ جوفينيلْ مويسْ أسعارِ الوقودِ بشكلٍ متهورٍ لإرضاءِ صندوقِ النقدِ الدوليِ. سرعانَ ما طالبَ المتظاهرونَ باستقالةِ مويسْ المدعومِ منْ الولاياتِ المتحدةِ ولم يتنازلوا عن مطلبهم هذا منذُ ذلكَ الحينِ.
مِن الصَّعْب أَلَّا نُلَاحِظ أَنَّه لَيْس فقط فِي هَايتِي، وَلكِن فِي سِتَّة بُلْدان على الأقلِّ مِن الإكْوادور إِلى زِيمْبابْوي اِنْدلَعتْ الاحْتجاجات بِسَبب اِرتِفاع أَسعَار البنْزين. لَيْس سِرًّا أَنَّه يَتَعيَّن عليْنَا أن نَبدَأ فِي فِطَام أَنفسِنا عن الوقود الأحْفوريِّ على الفوْر إِذَا أردْنَا أن يَكُون لَديْنَا أيُّ أمل فِي الحفَاظ على نُسخَة يُمْكِن تَحَملهَا مِن الحيَاة البشريَّة على الأرْض، وَلكِن على الرَّغْم مِن أنَّ جميع هَذِه البلْدان تقْريبًا قد تَضررَت مِن جَرَّاء أَزمَة اَلمُناخ - والْمواطنون الأكْثر ضعْفًا هُم الأكْثر تضرُّرًا - لَم تَكُن هَذِه الزِّيادات فِي الوقود تَتَعلَّق بِالْحدِّ مِن الانْبعاثات. كثيرًا مَا يَربُط صُنْدُوق النَّقْد اَلدوْلِي اَلقُروض بِخَفض دَعْم الطَّاقة، وَتعَد ضَرائِب الوقود طَرِيقَة سَهلَة وَإِن اِرْتداديَّة لِتحمُّل الدَّيْنِ اَلْعام: تكْتيكان لِإقْنَاع الفقراء، وجميع أُولئك الَّذين لَم يلْغُوا فِي الفسَاد اَلرسْمِي، لِإنْقَاذ أُولئك الَّذين وَلغُوا فِيه.
على الجانبِ الآخرِ منْ الانقسامِ العالميِ، شهدتْ البلدانُ الأوروبيةُ الغنيةُ احتجاجاتٍ مرتبطةً ارتباطا مباشرا بسياسةِ المناخِ - إما لأنَ الحكوماتِ تفعلُ القليلَ جدا، كما هوَ الحالُ في المملكةِ المتحدةِ، أوْ لأنَ الإجراءاتِ التي تتخذُ توزعَ الحكوماتِ أعباءها بشكلٍ غيرِ متساوٍ، كما هوَ الحالُ في هولندا وألمانيا، حيثُ استجابَ المزارعونَ للقيودِ المفروضةِ على مبيداتِ الآفاتِ وانبعاثاتِ النيتروجين منْ خلالِ إغلاقِ الطرقِ السريعةِ بآلافِ الجراراتِ، وفرنسا، حيثُ أدتْ ضريبةَ الوقودِ ذاتِ الدوافعِ البيئيةِ إلى جانبِ التخفيضاتِ الضريبيةِ للأثرياءِ إلى اندلاعِ القتالِ في الشوارعِ لما يفوقُ السنةَ.
الدروس هنا واضحةً جدا منْ كلا الجانبينِ. أولاً، أنَ أيَ محاولةٍ لمعالجةِ أزمةِ المناخِ لا تأخذُ أيضا الاحتياجاتِ الأساسيةَ للغالبيةِ العظمى منْ سكانِ الأرضِ ستفشلُ بشكلٍ كارثيٍ. وثانيا، أنَ تلكَ الاحتياجاتِ الأساسيةِ لا تشملُ فقطْ الغذاءَ والرعايةَ الصحيةَ والإسكانَ، بلْ تشملُ أيضا الكرامةَ وأشكالَ التضامنِ التي يبذلُ النظامُ الحاليُ كلَ ما في وسعهِ لتدميرها.
فهلْ منْ الغريبِ أنَ العديدَ منْ الانتفاضاتِ، التي تعمُ العالمَ دفعةً واحدةً، بالكادِ تذكر في الأخبارِ التلفزيونيةِ؟ في وقتٍ سابقٍ منْ هذا الشهرِ، كتبَ الروائيُ Dominique Edde عنْ الانتفاضاتِ الشعبيةِ في لبنانَ أنهُ "كما لوْ أنَ مئاتِ الآلافِ منْ الأشخاصِ المنفردينَ اكتشفوا في نفسِ الوقتِ، بعدُ سباتٍ لا نهايةَ لهُ، أنهمْ ليسوا وحدهمْ“. إذا تمعنا، فسنرى أنَ نفسَ الشيءِ يحدثُ في جميعِ أنحاءِ العالمِ، يستيقظَ الناسُ معا، ينظرونَ حولهمْ، ويجدونَ بعضهمْ البعضَ يبادلونَ النظرُ.
تشملَ أحدثَ كتبِ بنْ إهرنرايشْ The Way to the Spring، استنادا إلى تقاريرهِ منْ الضفةِ الغربيةِ، وDesert Notebooks: A Road Map for the End of Time، والذي حصلَ على جائزةِ الكتابِ الأمريكيِ في عامِ 2021.
* نجمَ فنونَ الدفاعِ عنْ النفسِ، بروسْ لي، صارتْ مقولتهُ "كنَ الماء يا صديقي" نداءً قويا وملهما للمتظاهرينَ الشبابِ، كنايةٌ عنْ براعتهمْ في استخدامِ تقنياتِ الاتصالِ الحديثةِ للتحركِ في شكلِ موجاتٍ غيرِ متوقعةٍ يصعبُ التحكمُ فيها ومحاصرتها، تتدحرجُ كالماءِ منْ مكانٍ إلى آخرَ.
//////////////////////////
بْن إِهْرنرايش يكتب في The Nation عن المَوضُوع المُشتَرَك في الانْتفاضات اَلتِي هَزَّت بُوليفْيَا ولبْنَان والسودان وعشرَات البلْدان اَلأُخرى، بِالرَّغْم مِن التَّباين فِي الشَّكْل شَيْء مَا - شَخْص مَا - يَستَمِر فِي الطُّرق على اَلْباب. اَلجَو بَارِد بِالْخارج وَيصبِح أَكثَر بُرُودَة، لَكِن الأشْخاص بِالدَّاخل يَشعُرون بِالرَّاحة على الأريكة يشاهدون التِّلفاز وبطانيَّة على أحْضانهم. وَلكِن الآن هُنَاك أَكثَر مِن طَارِق: عِنْد اَلْباب الأماميِّ، ثُمَّ آخر عِنْد اَلْباب الجانبيِّ، ثُمَّ مِن نَاحِية اَلْباب اَلخلْفِي. رُبمَا هِي الرِّيح. في هذه اللحظة هُنَاك مِن يَقرَع على نَوافِذ اَلمنْزِل وَسقفِه وجدْرانه - من كان يَعلَم أَنهَا وَاهِية جِدًّا إلى هذا الحد؟ مِن الصَّعْب أن نَفهَم: كَيْف يُمْكِن لِهَذا العدد اَلكبِير مِن النَّاس أن يَطرُقوا هَكذَا دُفعَة وَاحِدة؟ لَكِنهم بِالْفِعْل يَطرُقون، وتزْدَاد حِدَّة طَرقهِم. فِي الأسْبوع الماضي كان بِإمْكانك سَمَاع اَلضجِيج فِي كُولومْبيَا - فِي بُوغوتَا، وَكالِي، وِكارْتاخينَا، وبارانْكويلَا، وْميديلين، وأعْلن حَظْر تَجوُّل، والْجَيْش فِي الشَّوارع - وَفِي الأسْبوع اَلذِي سبق ذَلِك فِي إِيرَان، اِنْتشَرتْ اِحْتجاجات تنتشر بِسرْعة إِلى أَكثَر مِن 100 مَدِينَة. قُتِل مَا لَا يَقِل عن 100 مُتَظاهِر حَتَّى الآن. مِن الصَّعْب مَعرِفة مَا إِذَا كان هُنَاك اَلمزِيد من القتلى، أو مَا يَحدُث بِالضَّبْط حيث أَغلَقت الحكومة الإنْترْنت فِي اليوْم الثَّاني لِلاحْتجاجات. وَلكِن حَتَّى عِنْدمَا يَتَوفَّر الإنْترْنت، يَكُون مِن الصَّعْب الاحاطة بكُلِّ ذَلِك: فقد كَانَت الاحْتجاجات تَجْتاح الجزائر وبوليفْيَا وتشيلي وكولومْبيَا والْإكْوادور ومصْر وَفَرنسَا وألْمانْيَا وغينْيَا وَهايِتي وهنْدوراس وهونْغ كُونْغ وَالهِند وإنْدونيسْيَا، وإِيرَان، والْعراق، ولبْنَان، وهولنْدَا، وإسْبانْيَا، والسُّودان، والْممْلكة المتَّحدة، وزيمْبابْوي - أنَا مُتَأكد مِن أَننِي سأنْسى مكانًا مَا - وَهذَا مُنْذ سِبْتمْبر فقط. كَانَت بَعْض هَذِه الاحْتجاجات مِن النَّوْع العابر والرُّوتينيِّ اَلذِي يُعطِّل حَركَة اَلمُرور لِيَوم وَاحِد. البعْض الآخر يُشْبِه الثَّوْرات، كَبِيرَة بِمَا يَكفِي لِإسْقَاط الحكومات، وإغْلَاق أُمَم بِأكْملهَا.
فِي ظَاهِر الأمْر، يَبدُو أنَّ هُنَاك اَلقلِيل اَلذِي يُوحِّد هذه الاحتجاجات. فِي إِيرَان، أَدَّى الإعْلان عن رَفْع أَسعَار الوقود بِنسْبة 50 فِي اَلمِئة إِلى اِندِلاعها. فِي ألْمانْيَا وهولنْدَا وَفَرنسَا، قام المزارعون بِإغْلَاق الطُّرق السَّريعة لِلاحْتجاج على الضَّوابط البيئيَّة. بدأ الغضب في هُونْغ كُونْغ بِالتَّشْريع المقْترح اَلذِي كان سيسْمح بِتسْلِيم الأفراد إِلى الصِّين للمحاكمة. فِي تِشيلي، كَانَت الشَّرارة عِبارة عن اِرتِفاع فِي تَكلِفة النَّقْل اَلْعام، وَفِي إِنْدونيسْيَا مَشرُوع قَانُون جَنائي قَمعِي، فِي لُبْنان إِعلَان ضَرائِب جَدِيدَة على كُلِّ شَيْء مِن البنْزين إِلى مُكالمات WhatsApp.
بَعْض هَذِه الاحْتجاجات نظَّمتْهَا نِقابَات أو أَحزَاب مُعَارضَة رَسمِية، لَكِن اَلعدِيد مِنهَا كان أُفقِيا بِلَا قِيادة (“كُنَّ مِثْل اَلْماء"، على حدِّ تَعبِير المتظاهرين فِي هُونْغ كُونْغ، مستوحيين بُرُوس لِي*.) لَا تُوجَد أيْديولوجيَّة ثَورِية شَامِلة توحُّدهم. لَا يُوجَد حِزْب طَليعِي يَندَفِع إِلى الأمَام. لَم يَعُد المحْور اَلوحِيد مِن اليسَار والْيمين اَلذِي اِنقسَم عليْه العالم مُعظَم القرْن الماضي مُفيدًا دائمًا. فَبَينمَا هَلَّل اليمينيُّون، وَحكُومة الولايات المتَّحدة، لِلتَّطلُّعات الدِّيمقْراطيَّة لِلْمتظاهرين فِي هُونْغ كُونْغ وإيرَان وبوليفْيَا، أَبدَوا بِشَكل أو بِآخر اِحْتقارهم أو تجاهلهم لِلْمتظاهرين فِي كُلِّ مَكَان آخر. بالمقابل تَوجسَت الأوْساط اليساريَّة الأكْثر دُوغْماتيَّة مِن التَّدَخُّل الإمْبرْياليِّ وَرَاء اِحْتجاجات هُونْغ كُونْغ وإيرَان بيْنمَا أَكدَت شَرعِية كُلِّ حَركَة شَعبِية أُخرَى على ظَهْر هذَا اَلْكَوكب.
إِذَا تَمكنَت مِن تَجاوُز حجْب الدُّخَّان المتصاعد مِن مَتارِيس الاحْتجاجات، تَتَبدَّى لَك القواسم المشْتركة بيْنهَا. فِي تِشيلي، كشف الغضب على زِيادة أُجرَة المتْرو أنَّ السُّكَّان مُرْهقون لِلْغاية بِسَبب التَّقَشُّف، مُتأثِّرون بِشدَّة جَرَّاء اَلأُجور المنْخفضة وساعَات العمل الطَّويلة والدُّيون، لِذَا سَئمُوا جشع وَعمَى اَلقِلة اَلغنِية الَّذين يُديرون البلَاد لِدرجة أَنهُم كَانُوا كَذلِك على اِسْتعْداد لِحَرق كُلِّ شَيْء تقْريبًا. بُعْد ساعات قَلِيلَة مِن إِعلَان حَالَة الطَّوارئ وإرْسَال الجيْش إِلى الشَّوارع، ظُهْر اَلرئِيس الملْيارْدير سِباسْتيان بِينيرَا على شَاشَة التِّلفزْيون لِتذْكِير المواطنين بِأنَّ " الدِّيمقْراطيَّة المسْتقرَّة " والاقْتصاد المتنامي فِي تِشيلي يجْعلانهَا "وَاحَة حَقيقِية" فِي قَارَّة فَوضوِية. لَاحظتْ الإيكونوميسْتْ بِفتور أنَّ "الممارسات اَلتِي يَقُوم عليْهَا الرَّخَاء لَا تَحظَى بِشعْبِيَّة“.
فِي رُكْن آخر مِن العالم يَتَردَّد رَجْع الصَّدى: بَعْد فَترَة قَصِيرَة مِن اِعتِقال الشُّرْطة المصْريَّة لِلْآلَاف مِمَّن تجرَّؤوا على التَّظاهر فِي سِبْتمْبر، أَعرَب وزير الماليَّة اَلمصْرِي عن أَسفِه لِأنَّ "ثِمَار الإصْلاح الاقْتصاديِّ فِي مِصْر لَم يَستَفِد مِنهَا النَّاس العاديُّون". وقد أَدَّت الإجْراءات اَلتِي فرضهَا صُنْدُوق النَّقْد اَلدوْلِي فِي الواقع إِلى اِرتِفاع التَّضَخُّم بِنسْبة 60 فِي اَلمِئة على مدى ثَلَاث سَنَوات، مِمَّا أَدَّى إِلى إِغرَاق الملايين فِي بَراثِن الفقْر. هذَا مَا أَطلَق عليْه مُحلِّل فِي مُورجَان سِتانْلي مُؤَخرا "أَفضَل قِصَّة إِصلَاح فِي الشَّرْق اَلْأَوسط".
إنَ الانفصامَ بينَ تصورِ النخبةِ والتجربةِ الجماهيريةِ لهوَ واسعٍ النطاقِ بقدرِ ما هوَ أساسيٌ: جميعُ البلدانِ التي شهدتْ مؤخرا ثوراتِ شعبيةً - وكذا بقيةُ العالمِ - يتحكمَ فيها على مدى عقودِ نموذجٍ اقتصاديٍ واحدٍ، حيثُ "النموّ الاقتصاديُ" الذي تحتفي بهِ قلةً ضئيلةً منْ الطبقةِ العليا المتميزةِ، يعني البؤسُ للكثيرينَ، ويقود، بشكلٍ مؤكدٍ، إلى تدفق رؤوس الأموالِ إلى الحساباتِ الأمريكيةِ والأوروبيةِ، أشبه بتدفقِ مياهِ الصرفِ الصحيِ إلى أسفلِ المنحدراتِ. كانتْ شيلي معملاً مبكرا سيئ السمعةِ: عملتْ فرقُ الاغتيالِ التابعةِ لبينوشيهْ جنبا إلى جنبٍ معَ الاقتصاديينَ المدربينَ في شيكاغو لخلقِ "معجزةٍ اقتصاديةٍ" مدعاةَ لا يقدرها إلا المحظوظونَ وعديمو الضميرَ عمي البصيرةَ. إذا فشلتْ التعبئةُ الشعبيةُ في بوليفيا في عكسِ اتجاهِ انقلابِ 10 نوفمبرَ، فعلي الشعب البوليفي توقعُ غضبةٍ إلهيةٍ مماثلةٍ.
كَلمَة النِّيوليبراليَّة اَلتِي يَتِم تداولهَا كثيرًا هَذِه الأيَّام، هي منهج قَابِل لِلتَّطْبيق عَالمِيا لِلْحفَاظ على الاخْتلال السَّاحق الحاليِّ فِي اَلقُوة. على نِطَاق عَالَمِي مُصغَّر تَعمَل النِّيوليبراليَّة على مُستَوَى المحلِّيَّات - البلديَّات – حَيْث تَنْهار شَبَكات المواصلات العامَّة، بيْنمَا يَقفِز الملْيارْديرات فِي طائرَات الهليكوبْتر مِن الأسْطح إِلى الأسْطح. وَعلَى نِطَاق عَالَمِي مُكبِّر تَتَجسَّد النِّيوليبراليَّة فِي تَواطُؤ النُّخب الوطنيَّة مع الشَّركات مُتَعددَة الجنْسيَّات والمؤسَّسات الماليَّة الدَّوْليَّة لِإبْقَاء اَليَد العاملة رَخِيصَة، والثَّرْوة والْموارد مَحصُورة فِي أَيدِي عدد قليل مِن الفئَات والْقنوات الرَّاسخة.
كَانَت وَفرَة رَأْس اَلْمال الصِّينيِّ وارْتفاع أَسعَار السِّلع الأساسيَّة مِثْل النِّفْط والْغَاز والْمعادن والْمنْتجات الزِّراعيَّة خلال معظم العقْد الأوَّل مِن القرْن الحادي والْعشْرين تَعنِي أنَّ بَعْض البلْدان الفقيرة تملك بعض الخِيارَات. لِفتْرة وَجِيزَة، كان بِإمْكانهم تَجنُّب مَصايِد "الإصْلاح" القاسية المرْتبطة بِقروض صُنْدُوق النَّقْد اَلدوْلِي: وَصفَة التَّقَشُّف المعْتادة المتمثِّلة فِي تَقلِيص القطَاع اَلْعام، وَخَصخصَة الموارد الممْلوكة لِلدَّوْلة، وَتدمِير تَدابِير حِماية اَلعُمال بِاسْم "التَّحْرير". فِي أَمرِيكا اللَّاتينيَّة، اِنْتصَرتْ الحكومات اليساريَّة، وانْخَفض الفقْر وَعدَم المساواة. لَكِن طَفرَة السِّلع تَلاشَت، وَتَوقَّف الاقْتصاد الصِّينيُّ، وبعْد سَنَوات مِن المراجعات، عاد صُنْدُوق النَّقْد اَلدوْلِي بِنَفس اَلحُلول القديمة اَلتِي فَقدَت مِصْداقيَّتهَا.
للحفاظِ على تدفقِ الأموالِ تخلتْ النخبُ المحليةُ في سرورٍ عنْ مكتسباتِ شعوبها. في مارسَ 2019، وقعَ الرئيسُ الإكوادوريُ لينينْ مورينو صفقةٍ معَ صندوقِ النقدِ الدوليِ للحصولِ على قرضٍ بقيمةِ 4.2 مليارِ دولارٍ، وفي أكتوبرَ، استجابةٌ لطلبِ الصندوقِ، قام بخفضِ أجورِ القطاعِ العامِ ودعمِ الوقودِ، مما تسببَ في تضاعفِ سعرِ الديزل- وتسببَ في نزولِ عدةِ آلافِ منْ السكانِ الأصليينَ الإكوادوريينَ للشوارعِ. (سرعانَ ما فرَ مورينو منْ العاصمةِ ووافقَ على التخلي عنْ حزمةِ التقشفِ). في لبنانَ، أعلنَ رئيسُ الوزراءِ سعدْ الحريري عنْ سلسلةٍ منْ الضرائبِ الجديدةِ - على الوقودِ والتبغِ والمكالماتِ الهاتفيةِ التي تتمُ عبرَ خدماتِ الإنترنت - كجزءٍ منْ حزمةِ خفضِ العجزِ التي يطلبها المقرضونَ الأجانبُ للحصولِ على قرضٍ بقيمةِ 11 مليارَ دولارٍ. بعدُ 12 يوما منْ الاحتجاجاتِ التي شاركَ فيها ما يصلُ إلى ربعِ سكانِ لبنانَ، استقالَ الحريري. لكنَ المتظاهرونَ لمْ ينسحبوا.
ينطبقَ النموذجُ نفسهُ حتى في البلدانِ التي يحظرُ فيها نشاطُ صندوقِ النقدِ الدوليِ والبنكِ الدوليِ: إيران، التي تعثرتْ بسببِ أربعةِ عقودِ منْ العقوباتِ الأمريكيةِ، تحولتْ لسنواتِ إلى تطبيقِ حزمةِ إجراءاتِ التقشفِ المعتادةِ. إذا فشلتْ إجراءاتِ التقشفِ على نطاقٍ واسعٍ في توفيرِ العلاجِ الاقتصاديِ الشاملِ الموعود، فيمكنها على الأقلِ بشكلٍ موثوقٍ توفيرِ الوقايةِ للنخبةِ الحاكمةِ، وتحميلَ الطبقاتِ التي تعتبرُ غيرَ ضروريةٍ عبءَ المعاناةِ. إلى أنَ عجزت النخبة الحاكمة عنْ مواصلةٍ تلك السياسات.
الكرامةُ شأْنهَا طريفْ: بمجردَ استردادها، يصبح الاستسلامُ أكثرَ صعوبةٍ. توسعتْ مطالب المحتجينَ في كلِ مكانِ تقريبا إلى ما هوَ أبعدُ بكثيرٍ منْ الغضبِ الأصليِ الذي أشعلَ فتيلهمْ. في هونغْ كونغْ، قررَ المتظاهرونَ بسرعةِ أنَ سحبَ مشروعِ قانونِ تسليمِ المحكومينَ للصينِ لمْ يكنْ كافيا: لقدْ أرادوا الاقتراعُ العامُ أيضا. (يتمَ انتخابُ نصفِ المقاعدِ في المجلسِ التشريعيِ للمدينةِ بشكلٍ مباشرٍ منْ قبلِ "دوائرَ انتخابيةٍ وظيفيةٍ"، مثلُ المصرفيينَ والملاكُ الصناعيينَ والمقاولينَ العقاريينَ؛ عدمَ المساواةِ وتكاليفِ الإسكانِ أعلى منْ أيِ مكانٍ في العالمِ.) في تشيلي، توسعتْ مطالب المحتجينَ منْ إلغاءِ الزياداتِ في تذاكرِ المواصلاتِ لإلغاءِ دستورِ حقبةٍ بينوشيهْ في البلادِ. (يبدو أن المحتجين سيحصلون على كلا الأمرينِ - فقدْ أَلغَى بينيرا الزيادة في تذاكرِ المواصلاتِ ووافقَ على إجراءِ استفتاءٍ على دستورٍ جديدٍ.) في لبنانَ، يناقشَ المتظاهرونَ الآنِ ما إذا كانتْ حركتهمْ تعتبرُ ثورةً. (لا ينبغي أنْ يكونَ مفاجئا أنَ مثل هذهِ الاحتجاجاتِ الشرسةِ قدْ اندلعتْ في بيروت وهونغْ كونغْ وتشيلي، وهيَ بعضُ أكثرِ الأماكنِ خصخصةً على وجهِ الأرضِ). في السودانِ، انتفاضةٌ بدأتْ عندما قطعتْ حكومةَ عمرْ البشيرْ القمحِ ودعمِ الوقودِ - بناءٌ على اقتراحِ " شركاءِ الإقراضِ الدوليينَ"، على حدِ التعبيرِ المهذبِ لصحيفةِ نيويورك تايمزْ - انتهى بها الأمرُ إلى الإطاحةِ بنظامهِ الذي دامَ ثلاثينَ عاما، ولمْ تتوقفْ بعدٌ. في هايتي أيضا، بدأتْ الاحتجاجاتُ منذُ أكثرَ منْ عامِ عندما رفعَ الرئيسُ جوفينيلْ مويسْ أسعارِ الوقودِ بشكلٍ متهورٍ لإرضاءِ صندوقِ النقدِ الدوليِ. سرعانَ ما طالبَ المتظاهرونَ باستقالةِ مويسْ المدعومِ منْ الولاياتِ المتحدةِ ولم يتنازلوا عن مطلبهم هذا منذُ ذلكَ الحينِ.
مِن الصَّعْب أَلَّا نُلَاحِظ أَنَّه لَيْس فقط فِي هَايتِي، وَلكِن فِي سِتَّة بُلْدان على الأقلِّ مِن الإكْوادور إِلى زِيمْبابْوي اِنْدلَعتْ الاحْتجاجات بِسَبب اِرتِفاع أَسعَار البنْزين. لَيْس سِرًّا أَنَّه يَتَعيَّن عليْنَا أن نَبدَأ فِي فِطَام أَنفسِنا عن الوقود الأحْفوريِّ على الفوْر إِذَا أردْنَا أن يَكُون لَديْنَا أيُّ أمل فِي الحفَاظ على نُسخَة يُمْكِن تَحَملهَا مِن الحيَاة البشريَّة على الأرْض، وَلكِن على الرَّغْم مِن أنَّ جميع هَذِه البلْدان تقْريبًا قد تَضررَت مِن جَرَّاء أَزمَة اَلمُناخ - والْمواطنون الأكْثر ضعْفًا هُم الأكْثر تضرُّرًا - لَم تَكُن هَذِه الزِّيادات فِي الوقود تَتَعلَّق بِالْحدِّ مِن الانْبعاثات. كثيرًا مَا يَربُط صُنْدُوق النَّقْد اَلدوْلِي اَلقُروض بِخَفض دَعْم الطَّاقة، وَتعَد ضَرائِب الوقود طَرِيقَة سَهلَة وَإِن اِرْتداديَّة لِتحمُّل الدَّيْنِ اَلْعام: تكْتيكان لِإقْنَاع الفقراء، وجميع أُولئك الَّذين لَم يلْغُوا فِي الفسَاد اَلرسْمِي، لِإنْقَاذ أُولئك الَّذين وَلغُوا فِيه.
على الجانبِ الآخرِ منْ الانقسامِ العالميِ، شهدتْ البلدانُ الأوروبيةُ الغنيةُ احتجاجاتٍ مرتبطةً ارتباطا مباشرا بسياسةِ المناخِ - إما لأنَ الحكوماتِ تفعلُ القليلَ جدا، كما هوَ الحالُ في المملكةِ المتحدةِ، أوْ لأنَ الإجراءاتِ التي تتخذُ توزعَ الحكوماتِ أعباءها بشكلٍ غيرِ متساوٍ، كما هوَ الحالُ في هولندا وألمانيا، حيثُ استجابَ المزارعونَ للقيودِ المفروضةِ على مبيداتِ الآفاتِ وانبعاثاتِ النيتروجين منْ خلالِ إغلاقِ الطرقِ السريعةِ بآلافِ الجراراتِ، وفرنسا، حيثُ أدتْ ضريبةَ الوقودِ ذاتِ الدوافعِ البيئيةِ إلى جانبِ التخفيضاتِ الضريبيةِ للأثرياءِ إلى اندلاعِ القتالِ في الشوارعِ لما يفوقُ السنةَ.
الدروس هنا واضحةً جدا منْ كلا الجانبينِ. أولاً، أنَ أيَ محاولةٍ لمعالجةِ أزمةِ المناخِ لا تأخذُ أيضا الاحتياجاتِ الأساسيةَ للغالبيةِ العظمى منْ سكانِ الأرضِ ستفشلُ بشكلٍ كارثيٍ. وثانيا، أنَ تلكَ الاحتياجاتِ الأساسيةِ لا تشملُ فقطْ الغذاءَ والرعايةَ الصحيةَ والإسكانَ، بلْ تشملُ أيضا الكرامةَ وأشكالَ التضامنِ التي يبذلُ النظامُ الحاليُ كلَ ما في وسعهِ لتدميرها.
فهلْ منْ الغريبِ أنَ العديدَ منْ الانتفاضاتِ، التي تعمُ العالمَ دفعةً واحدةً، بالكادِ تذكر في الأخبارِ التلفزيونيةِ؟ في وقتٍ سابقٍ منْ هذا الشهرِ، كتبَ الروائيُ Dominique Edde عنْ الانتفاضاتِ الشعبيةِ في لبنانَ أنهُ "كما لوْ أنَ مئاتِ الآلافِ منْ الأشخاصِ المنفردينَ اكتشفوا في نفسِ الوقتِ، بعدُ سباتٍ لا نهايةَ لهُ، أنهمْ ليسوا وحدهمْ“. إذا تمعنا، فسنرى أنَ نفسَ الشيءِ يحدثُ في جميعِ أنحاءِ العالمِ، يستيقظَ الناسُ معا، ينظرونَ حولهمْ، ويجدونَ بعضهمْ البعضَ يبادلونَ النظرُ.
تشملَ أحدثَ كتبِ بنْ إهرنرايشْ The Way to the Spring، استنادا إلى تقاريرهِ منْ الضفةِ الغربيةِ، وDesert Notebooks: A Road Map for the End of Time، والذي حصلَ على جائزةِ الكتابِ الأمريكيِ في عامِ 2021.
* نجمَ فنونَ الدفاعِ عنْ النفسِ، بروسْ لي، صارتْ مقولتهُ "كنَ الماء يا صديقي" نداءً قويا وملهما للمتظاهرينَ الشبابِ، كنايةٌ عنْ براعتهمْ في استخدامِ تقنياتِ الاتصالِ الحديثةِ للتحركِ في شكلِ موجاتٍ غيرِ متوقعةٍ يصعبُ التحكمُ فيها ومحاصرتها، تتدحرجُ كالماءِ منْ مكانٍ إلى آخرَ.
//////////////////////////