روح قرطبة .. مائدة أفلاطون
عمـر جعـفر السّــــــوْري
10 February, 2023
10 February, 2023
عفو الخاطر:
يا شـام إن جراحي لا ضفاف لـها
فمسحي عن جبيني الحزن والتعب
وأرجعيـني الى أســوار مدرسـتي
وأرجعي الحبـر والطبشـور والكُتبا
تلك الزواريب كم كنز طمرت بها
وكم تركـت عليها ذكـريات صـبا
"نزار قباني"
يوم اندلعت حرب السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 1973 بُعيد الظهر بساعتين ونيف كان الصحافيون الأجانب يتدفقون على دمشق. لم يبق في بيروت مراسل أجنبي وصحافي لبناني وعربي الاّ وشد الرحال الى عاصمة الامويين بدون إذن ولا دستور. كانت وجهتهم الأولى وزارة الاعلام التي وجهتهم الى مبنى الوكالة العربية السورية للأنباء (سانا) الصغير في حي المزرعة المجاور لمصرف سورية المركزي الذي أصبح منذ بداية الحرب وحتى بعد أن صمتت المدافع ودخلت الطائرات الى حظائرها مقراً ومنطلقاً لهم ومصدر اخبار لأجهزتهم. خلت بيروت من الصحافيين الأجانب وبقيت مكاتبهم في يد مساعدي مساعديهم الذين قام العاملون منهم في شبكات التلفزة الأميركية والأوربية بتلقي الشرائط التلفزيونية من المراسلين في سورية وارسالها الى شبكاتهم. لم تكن الأقمار الاصطناعية متاحة يومئذ الا للدول والتلفزيونات الرسمية وفي ساعات محددة وبصعوبة بالغة خصوصاً في أيام هذا الضغط المتواصل.
ازداد حشد الصحافيين والمراسلين الأجانب، إذ تدفقوا بعد يومين من بدء الحرب من مقار اقاماتهم في دولهم ودول المحيط براً من بيروت وعمان وإسطنبول، وجواً من قبرص واليونان وما ورائهما، وازدادت شهيتهم لتغطية الاخبار من مصادرها ومن مصادرهم وسفاراتهم التي كانت تراقب سير المعارك، ومن مشاهداتهم في الشام وحولها. لم يكن الذهاب الى جبهة الجولان حيث تدور معارك ضارية ميسوراً ولا مسموحاً، فإدارة الاعلام العسكري لم تسمح لهم بتجاوز محيط العاصمة السورية وحدودها الجغرافية الاّ الى العاصمة اللبنانية أو العاصمة الاردنية. هنا ازدهرت أعمال "أجنحة العرب"، شركة الطيران الخاصة الاردنية. استأجرت طائراتها الصغيرة، بأي مبلغ تطلبه، شبكات التلفزيون لتحمل شرائطها المصورة الى محطات الأقمار الاصطناعية في بيروت وعمان ونيقوسيا وبثها من هناك الى مراكزها. جاء بعضهم مع زوجه يحمل أكداساً من التبرعات العينية للهلال الأحمر السوري من بينها الاغطية والضمادات والأدوية. من هؤلاء أتى الكندي بيتر جيننغز، مدير مكتب شبكة آي بي سي في بيروت والشرق الأوسط، الذي أصبح نجم الشبكة فيما بعد وذاع صيته؛ جاء مع زوجه المصرية، وهي أولى زوجاته؛ كما جاء دين بريلس، مدير مكتب شبكة سي بي اس في بيروت ثم انتقل الى مجلة تايم الأميركية حين اغراه بالانضمام اليها مراسل المجلة في الشرق الأوسط، كريستن براغر، بعد أن خَبِر أدائه حينما التقيا أثناء الحرب في فندق سمير أميس بدمشق. بعد انتقاله الى مجلة تايم عاد مرة أخرى الى الشام، ولكن هذه المرة طلباً للمساعدة في الذهاب الى الأراضي الارترية المحررة مع جيش التحرير الارتري فرتبت له الامر مع مكتب جبهة التحرير الارترية بدمشق. عاد برلس من هناك ليكتب عن رحلته في صفحات المجلة الأميركية ذائعة الصيت ذات النفوذ والتأثير.
كان من بين أعضاء طاقم جيننغز شارلز قلاس الذي ألف كتباً عددا، أولها كتابه الشهير: "قبائل لها رايات: رحلة مبتورة". (1) هو كتاب رحلات يتحدث فيه عن اقتفاء أثر جزء من طريق تقسيم ممتلكات الدولة العثمانية وتجزئة سورية الكبرى وتقطيع أوصال الهلال الخصيب وذلك حينما أبرم الدبلوماسي والرحالة الإنجليزي مارك سايكس مع الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا بيكو اتفاقية تقسيم المشرق في العام 1916 التي عرفت فيما بعد باتفاقية سايكس – بيكو وأعلن في أعقابها وعد بلفور المشؤوم ليكتمل المخطط المرسوم. جزأت الاتفاقية أقطار الشرق الى مناطق نفوذ بين القوتين الاستعماريتين الكبريين حينذاك: بريطانيا وفرنسا. استعار قلاس عنوان كتابه من عبارة قالها له الدبلوماسي المصري الضليع الراحل تحسين بشير، وهو أخ غير شقيق للملحن المرهف محمد الموجي. كان تحسين بشير متزوجاً من السيدة سناء حسن التي انتقلت الى فلسطين المحتلة وألفت كتاباً عن تجربتها هناك بعنوان "العدو في أرض الميعاد" (2). قال تحسين بشير لقلاس "ليس في البلاد العربية دولة راسخة الجذور منذ القدم سوى مصر، فالبقية قبائل صنعت لها رايات". أليس ما يحدث اليوم في السودان وما حدث من قبل وتداعياته يذكر بهذه الاتفاقية ومفاعيلها وكيفية ابرامها وما ترتب عليها من صراع لم تنته فصوله بعد ويعيد الى الذاكرة دماء جرت سيولاً ولم تجف بعد؟ فتقسيم السودان لم يبدأ بانفصال الجنوب بل بسلخ إقليم بني شنقول، وتسليم جمبيلا غداة الاستقلال دون مفاوضات الى اثيوبيا، ثم التخلي السكوتي الأليم عن منطقة حلايب وشلاتين بعد احتلالها، وغض النظر عن احتلال الفشقة لعقود مضت وواقع مرير لم يزل مستمراً، والبقية تأتي إن لم يفق القوم من سبات أهل الكهف ويحزموا أمرهم بنسيان عداواتهم والتخلي عن مصالحهم الشخصية والحزبية الضيقة.
ظل تدفق الصحافيين العرب والأجانب متواصلاً طيلة أيام الحرب. ولأن العدد كان كبيراً قررت كغيري من الزملاء الصحافيين وغير الصحافيين ممن يتقنون اللغات الأجنبية التطوع لدى وكالة سانا مساعدة لهم في تقديم الخدمة الإخبارية واللوجستية بلغات هؤلاء القوم في تلك الأيام العصيبة، وحمل جزء من المهمة الثقيلة غير المسبوقة التي أُلقيت على أكتافهم من غير انذار مسبّق، فساعة اندلاع الحرب وتوقيتها كانت سر الاسرار وطي الكتمان. فوجئت اثناء وجودي في سانا بدخول الزميل الراحل ادريس حسن مبنى الوكالة مبعوثاً من جريدة الأيام السودانية. لم تعتد صحف السودان على ارسال مبعوثين لها الى مواقع الاحداث الجسام، بل كانت تكتفي بما يردها من أخبار عبر المبرقات وأجهزة المذياع. مرات نادرة الحدوث ذهب فيها زملاء سودانيون للإتيان بتحقيقات صحافية كانت جلها من بلدان أفريقية. فقد ذهب الراحل كامل حسن محمود الى زنزبار بُعيد المجزرة وعاد بتحقيقات مِن وعن "جزيرة القرنفل"؛ وذهب الصحافي الجهبذ الراحل محجوب عثمان، رئيس تحرير الأيام وأحد أصحابها الى روديسيا أيام إيان اسمث قبل بدء الكفاح المسلح ضد النظام العنصري فأُحتجز في مطارات أفريقية عددا؛ ودخل أحمد طيفور مع الثوار الى ارتريا حيث عاد بحصيلة وافرة أضاع مجدها بعد أن استولى الملحق العسكري الاثيوبي، ترقي، على روحه وجسده كما فعل مفستوفوليس بالدكتور فاوست.
انتابني فرح غامر لرؤية صحافي سوداني بين هذا الكم الهائل من الصحافيين عرباً وأتراكاً واوربيين وامريكان وغيرهم. قدمته باعتزاز الى مدير الوكالة، مروان حموي، الذي قضى بعد ذلك سنين طويلة في سجن المزة سيْ السمعة ضحية صراع اجنحة حزب البعث ولأنه ختم مقاله الأسبوعي الأخير في جريدة "الثورة" الرسمية بعبارة "وسقط الخليفة على قفاه" وهي عبارة حمالة أوجه؛ كما قدمته الى رئيس التحرير قاسم ياغي ورؤساء الأقسام الذين رحبوا به ترحيباً حاراً وشعروا بالسعادة لان إعلام السودان أتى من خلال الزميل ادريس حسن ليشاركهم هذه الأيام المجيدة.
أرادت سورية أن تخوض الحرب الإعلامية بكل ما تملك من امكانيات وأن تبذل في سبيلها كل ما تستطيع من قدرات مستعينة بأشقاء وأصدقاء متطوعين أكفاء ذوي خبرة. كان ادريس حسن يمتلك ويرأس تحرير وكالة الانباء المحلية، وكان أحد اثنين في الصحافة السودانية يعرفان حق المعرفة ويتقنان أصول صوغ الخبر كما يجب أن يُصاغ، أما الثاني فهو الراحل سعد أحمد الشيخ صاحب ورئيس تحرير وكالة اخبار الخرطوم ومراسل رويتر، وهو شقيق الراحل مصطفى أحمد الشيخ، الأمين العام لاتحاد الشباب السوداني في ستينيات القرن الماضي، عضو قيادة اتحاد الشباب العالمي في براغ والقيادي في الحزب الشيوعي السوداني. حينما كتم العقيد جعفر نميري، قائد انقلاب 25 مايو/ أيار 1969 أنفاس الصحافة السودانية بالتأميم استولت اجهزته على الوكالتين ووكالات محلية أخرى إلى جانب الصحف والمجلات وشرد صحافيين كثر فتلاشى هامش الحرية وانطفأ بصيص ضوء كان يعكس حرية التعبير وحرية الرأي وتعذر الحصول على الخبر الصادق من مصادر مختلفة.
أقنعت الزميل ادريس حسن بترك الفندق والإقامة معي في سكني عند الطرف الغربي لحي الشعلان قريباُ من سفارة اندونيسيا وعلى مرمى حجر من حديقة الحسن بن هاني (أبي نواس) في مواجهة حي أبي رمانة الفاخر يفصلنا عنه الشارع المسمى باسم الحي. كان المركز الثقافي السوفيتي يقع في الجانب الشرقي من أبي رمانة، قريباً من مسكني، لما أمطرته طائرات الفانتوم بوابل من الصواريخ لتحيله إلى ركام وتصيب السفارة الأردنية والمركز الثقافي الألماني الشرقي القريبين منه. كانت طائرة الفانتوم الأميركية هي الأحدث في ترسانة العدو العسكرية، حلقت في أجواء سورية بدون انقطاع لتسقط المضادات الأرضية السورية معظمها وتأسر طياريها الذين هُرع هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي الأميركي في عهد إدارة الرئيس نيكسون، فور وقف إطلاق النار، لتخليصهم من الأسر (وتلك قصة أخرى). عُرضت بُعيد الحرب مسرحية تصور سقوط طائرات الفانتوم وأسر طياريها بعنوان "أول فواكي الشام يا فانتوم!" عوضاً عن نداء شهير لأصحاب عربات الخضار حينما يهل موسم اللوز الأخضر في بداية شهر فبراير/ شباط ويملأ الطرقات: "أول فواكي الشام يا عوجه!". لم تكن شقتي بعيدة عن مبنى سانا في حي المزرعة مما حدانا أن نذهب راجلين اليها صباحاً ونعود مشياً على الاقدام في المساء إن لم يكن هناك ما يستدعي بقائي. كنت أتأخر في كثير من الأحايين الى الفجر في الوكالة لمساعدة مراسل هنا وشبكة تلفزيونية هناك يفصلنا عنها فرق التوقيت فيتبرع سائقو الوكالة بتوصيله الى المنزل في المساء.
في خضم هذه الحركة التي لا تهدأ على مدار الساعة أطلت علينا إكرام انطاكي (1948 – 2000) بهدوء ومن غير جلبة وبصوت أقرب الى الهمس قالت انها جاءت لتقدم المساعدة وتسهم ولو بالقليل القليل في معركة التحرير! استرعت عيناها الانتباه. لولا تلك العيون الواسعة لما أحس بها أحد وهي تدخل الوكالة وتتجول بين مكاتبها بدون جلبة، إذ أن هناك الكثير من الزميلات السوريات ومن جنسيات عربية أخرى والاجنبيات في خلية النحل هذه لم يلفتوا النظر ولم يلحظهم الكثيرون. كانت لديها العينان التي وصفهما على بن الجهم بعد اقامته في بساتين بغداد ونسيان البادية وحياة البداوة حينما قال:
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
كانت عيناها الواسعتان اللتان تزينان وجهها النحيل الجميل تضفيان عليه اشراقاً ونضارة وألقاً. تلك العينان ترجمتا لي قول وردي في "القمر بوبا" (العيون شبه الفناجين). جاءت إكرام يومئذٍ من باريس الى مسقط رأسها دمشق في عطلة قصيرة. حينها كانت تعد رسالة دكتوراه عن دروز جبل العرب في سورية وعن عقائد بني معروف الباطنية وتأثيرها على القوم وحياتهم، كما تصفحت، على مهل، كتاب الحكمة ورسائل حمزة بن علي بن أحمد وفلسفة الاغريق خصوصاً ارسطوطاليس وأفلاطون، إلى جانب سبر غور ارتباطهم الوثيق بالحاكم بأمر الله الذي حرّم أكل الملوخية ثم عاد هو وخلفاؤه عن هذا التحريم لكن بقي الموحدون الدروز يحرّمون أكل الملوخية حتى يوم الناس هذا. خاضت إكرام ببحثها الأكاديمي ذاك في مياه عميقة مضطربة وأبحرت في محيطات أمواجها عالية كالجبال وشديدة الخطورة، فبعض أجزاء رسالتها لم يسبقها اليه أحد؛ إذ أن لبني معروف الدروز تفسيرهم الباطني للكتب الدينية ومحافظتهم على سرية المعتقد، فهم يسلطون الضوء على دور العقل والصدق ويؤمنون بالظهور الإلهي والتناسخ أو التقمص الذي يتلخص مفهومه في عودة الروح الى الحياة في جسد آخر، وهي فكرة فلسفية ودينية مرتبطة بالجسد والروح والذات حسب معتقداتهم، يخالفهم في ذلك الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشيل سير- صاحب كتاب "الابهام أو الاصبع الصغير" الذي أثار نقاشا واسعاً وما زال يثير جدلاً أكثر من كتبه الأخرى التي تجاوزت الستين كتاباً (3) - بقوله "الروح هي هذه الطريق التي تقطعها بين ولادتك وموتك". لكن الموحدون الدروز يعلنون في ذات الوقت على رؤوس الأشهاد ايمانهم بالشهادتين وبالقرآن والقضاء والقدر واليوم الآخر. في أيام الخليفة المأمون كانوا قريبين من المعتزلة وجماعة أخوان الصفا، وعلى غرار بعض الصوفية يؤمن الدروز بالتجلي أو الظهور الإلهي، الا أن غالباً ما يساء مفهوم التجلي حين مقارنته واقترانه بمفهوم التجسد، فهما مفهومان مختلفان. هم يقسمون فهم الكتب والتعاليم المقدسة الى ثلاث طبقات:
* الواضح أو الظاهر حيث يمكن لأي شخص ما أن يقرأ أو يسمع.
* الباطن وهو في متناول مَن هم على استعداد للبحث والتعلم من خلال مفهوم التفسير.
* الخفي وهو ما لا يمكن لجميع الافراد الوصول اليه باستثناء بعض المستنيرين بحق والذين يفهمون بصدق طبيعة الكون. وهم يقولون إذا كان التفسير الباطني للطهارة هو نقاء القلب والروح فذلك لا يعني أن باستطاعة الشخص تجاهل طهارة الجسد. لهم سبعة أركان معروفة غير تلك المخفية وهي:
1- صدق اللسان 2- حفظ الاخوان 3- ترك عبادة العدم والبهتان 4- البراءة من الابالسة والطغيان 5- التوحيد لمولانا (الله) في كل عصر وزمان 6- الرضى بفعل مولانا كيفما كان 7- التسليم لأمر مولانا في السر والحدثان.
الموحدون الدروز مقاتلون أشاوس، أقوياء ذوي شكيمة وبأسهم لا نظير له. كانوا العامل الحاسم في دحر الصليبيين حينما حاربوا مع صلاح الدين الأيوبي لتحرير واسترداد بيت المقدس، وذبّوا عن ثغور بلاد المسلمين وديار العرب في عين جالوت وغيرها في العصور الغابرة كما في العصر الحديث. حاربوا القوى الاستعمارية حينما أعلن سلطان باشا الأطرش الكفاح في سورية ضد الفرنسيين. زرت الباشا في معقله ببلدة القِريّات مراراً مع زملاء وأصدقاء. كان صافي الذهن، حاضر البديهة، قوياً، يده لم ترتجف أبداً وهو يمسك بفنجان القهوة العربية رغم السنين والتجاعيد، كأنه قُد من صخر هذا الجبل الاشم. تمسك الموحدون الدروز بعروبتهم طيلة تاريخهم، فهاهم في الجولان المحتل يذيقون الصهاينة الأمرين برفضهم سياسات التجنيس وفرق تسد والتجنيد الاجباري في جيش الاحتلال. أليس سميح القاسم منهم وفيهم؟ لكنهم لم يجدوا الا النكران حينما تسكن العواصف فتعرضوا لحملات إبادة وقتل جماعي بعضها بفتاوى مثل فتوى ابن تيمية بتكفيرهم وبعضها طمعاً وحسداً وغيرة. في العام 1860 حدثت المجزرة الكبرى في جبل لبنان كانوا هم أكثر ضحاياها. كتب الدبلوماسي والموسيقي والمؤرخ اللبناني، ميخائيل مشاقة، عن المجزرة وغيرها من أحداث جسام في كتابه " الجواب على اقتراح الاحباب" (3) بالمحكية اللبنانية فلم يجرؤ أحد في لبنان على نشره على الملأ كاملاً، بل نُشرت منه منتخبات، خشية ايقاظ الفتنة وتأجيج لهيبها ونكأ الجراح والاحتراب مرات ومرات كما لم يفعلوا من قبل. جاء حفيد مشاقة وزوجه وطفلته بعد تخرجه من الجامعة الأميركية ببيروت الى النهود وعمل بها طبيباً ثم ذهبوا الى الخرطوم قبل أن يغادروا الى بغداد. كانت لابنته مربية من منطقة النهود اسمها حليمة مازالت السيدة ليلى التي شارفت على المائة من عمرها المديد وتقيم في مونتريال تذكرها الى اليوم. كلما لقيتها تستعيد حكاية حليمة وتتوهج عيناها وتشرق ابتسامتها وتتحسر على ماضي الأيام، ثم تصمت برهة، وسرعان ما تقول: "رزق الله! ما أحلاها من أيام!"
الموحدون الدروز لا ينسون ظلماً تعرضوا له. لهم ذاكرة فيل، يطلبون ثأرهم ممن اعتدى عليهم إن عاجلاً أو آجلاً. طاردوا العقيد الشيشكلي الذي قاد انقلاباً في سورية ثم جرد حملة عسكرية على جبل العرب بدون مسوغ حيث ارتكب الجنود خلالها الفظائع. وفي البرازيل حيث لجأ بعد اطاحته أردوه قتيلاُ فاقتصوا منه. كما لاحقوا وتتبعوه زهير محسن، زعيم قوات الصاعقة الفلسطينية التابعة لسورية، الى أن قتلوه في نيس بالريفيرا الفرنسية وهو عائد من مونروفيا التي شارك في أعمالها رفقة الوفد الفلسطيني في مؤتمر القمة الافريقي. اتهم الدروز زهيراً بقتل زعيم الحزب الاشتراكي الديموقراطي اللبناني، كمال جنبلاط، وهو أيضاً زعيم الدروز الجنبلاطيين.
كانت إكرام تعرف كل ذلك، هي التي اعتنقت الماركسية وانضوت كما اخوتها في صفوف الحزب الشيوعي السوري قبل أن يتركوه جميعاً الى (فضاء اليسار الإنساني) بعد أن نخرته آفة الانقسام حتى النخاع فتفرق شيعا. أسس الحزب الشيوعي السوري – اللبناني فؤاد الشمالي ويوسف يزبك والارمني ارتين مادويان في العام 1924 يوم كانت دولة لبنان الكبير تخرج من رحم الغيب وتتشكل بعد أن نجح الفرنسيون في استيلادها وفق معاهدة سايكس - بيكو، فلبنان هو خاصرة سورية الرخوة التي لابد من الاستيلاء عليها؛ ثم انقسم الحزب الواحد الى حزبين في خريف العام 1964 سوري لبناني. روى لي المفكر السوري الراحل، مؤرخ الحزب الشيوعي، الياس مرقص، حينما دعاني للعشاء في اللاذقية في بداية سبعينيات القرن المنصرم مستفهماً عما حدث في السودان بعد مأساة 19 يوليو/ تموز 1971 خفايا انقسام الحزب الشيوعي الى حزبين ومعناه وخلفياته ومن خلفه. امتد بنا العشاء الى أن أزف وقت الفطور فافترقنا على أمل اللقاء مرة أخرى. بعدها توالت الانقسامات فخرجت جماعة يوسف نمر، وجماعة مراد يوسف، وجماعة رياض الترك، وجماعة بدر الدين السباعي، ثم كان الانقسام الخامس في العام 1986 حينما خرج يوسف فيصل الذي كان الذراع الأيمن لزعيم الحزب ومَن يدير أعماله اليومية لما كان خالد بكداش يتنقل بين عواصم الدول الاشتراكية منذ أيام الوحدة السورية – المصرية تفاديا للاعتقال والسجن! بعد ذلك خرجت مجموعة الدكتور منير صبحي عروقة ونصر الأحمد على الحزب الشيوعي الموحد الذي يقوده يوسف فيصل لعدم رضاهم عن أداء التنظيم الجديد. لكن أكثر التنظيمات الماركسية تعرضاً للاضطهاد التي ذاقت العسف والتنكيل والقتل كانت رابطة العمل الشيوعي فهي لم تخرج من تحت عباءة الحزب بل تأسست بعيداً عن ظلاله الوارفة. أُعدم بعض قادتها يوم زيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون لدمشق في العام 1974، وعُلقت عضواته من أثدائهن على المراوح. حينما توفي خالد بكداش ورثت أرملته وصال الفرحة بكداش ما تبقى من الحزب فأصبحت هي الآمين العام مما زاد الغليان بين صفوف الشيوعيين السوريين. يبدو أن توريث الأحزاب والحكم والدولة في سورية ولبنان والبلاد العربية عامة وغيرها صبغة جينية! فما جرى من قبل ويجري اليوم في السودان من وراثة للزعامات والحكم لا سيما عند الأحزاب التقليدية شاهد على ذلك وعلى مدى صفاقة واستهتار وازدراء أصحاب الإرث بالناس وحقوقهم.
في فرنسا أرادت إكرام مواصلة سيرتها وارتباطها التنظيمي بالماركسية اللينينة فالتحقت بالحزب الشيوعي الفرنسي، لكنها خرجت عليه لما رأت الرفاق يتغزلون في ربطات عنق الأمين العام، جورج مارشيه، وأناقته – وقد كان فائق الاناقة – بدلاً من التأمل في فحوى خطاباته وكلماته؛ ثم انخرطت في موطنها الجديد الذي اختارته خبط عشواء في أنشطة الحزب الشيوعي المكسيكي قبل أن تتركه وتنفصل عن زوجها الشيوعي من المواطنين الأصليين لا المهاجرين وتتفرغ لعملها الثقافي متعدد الأوجه لترفد الثقافة الإنسانية بأعمال دسمة، تسعد الروح المُعنى وبلغات عددا. غالب كتبها بالإسبانية لكنها تُرجمت الى أكثر اللغات الحية ولقيت ترحيباً واحتفاء ما بعده ترحيب واحتفاء. في المكسيك وفي اجتماعات الحزب التقت بزوجها وهو من سكان المكسيك الأصليين. اقترنا وانجبت منه ابنها الوحيد، مروان. أعطته هذا الاسم تيمناً بمروان بن الحكم الذي ازدهر في عهده العلم ووجدت الثقافة رواجاً في دولة بني أمية، ولتؤكد صلتها بالشام وبأصولها العربية – الإسلامية وحضارتها وميراثها الثقافي. تابع مروان سوتو أنطاكي السير على درب والدته فانغمس في التأليف والفن والبحث العلمي، أخرج للسينما وكتب الرواية.
وُلدت إكرام في حي القصاع بدمشق تحيط به ثلاثة من أبوابها العريقة السبعة التي كانت تحمي المدينة من الأعداء والغزاة: باب شرقي وباب توما وباب السلام، وتصونها كنائسها وكاتدرائياتها بتراتيلها ونواقيسها من شر حاسد إذا حسد. كان جدها لأبيها بطريركاً لأنطاكيه وأبوها محافظاً للمدينة قبل الانتقال الى دمشق. ما زالت كنائس الشرق بيزنطينية كانت أو سريانية تتمسك بأنطاكية مرجعاً ومستقراً روحياً ومنطلقاً طقسياً، إذ كان اسمها القديم هو "ثيوبوليس" (مدينة الله)، وكذلك تمسكت العائلة بكنية أنطاكي حتى لا يندثر حق السوريين في لواء الإسكندرون السليب الذي ترقد معظم مدنه اليوم تحت ركام الزلازل التي هزته هزاً وأوجعت مدينة كهرمان مرعش، مركز الزلزال، وحطمتها. مثلها فعلت عوائل دمشقية عريقة تعود أصولها الى مدن الإسكندرون كعوائل اورفلي ومرعشلي ومارديني واليها تنتسب فتاتان سباحتان ظهرتا في شريط سينمائي من انتاج نيتفلكس مؤخراً بعنوان "السباحتان" ما زالت أصداء الخلافات حوله تتردد. ماردين هي توأم القدس تشبهها في كل شيء الا المسجد الأقصى، قبلة المسلمين الأولى، وكنيسة القيامة التي حظيت بالعهدة العُمرية. ومن أرسوز في الإسكندرون جاء زكي الأرسوزي (1899 – 1968)، رائد البعث العربي منادياً بشعارات الثورة الفرنسية في بلد تحتله فرنسا: الحرية والمساواة والعدالة، وأول من بشّر بالعروبة قبل ميشيل عفلق وصلاح البيطار. اليه يُنسب اسم "البعث العربي". طرح الفكرة على رفيقيه في مقهى البرازيل الصغير حيث يلتقي أهل الفكر والسياسة وحيث يقع عبر الشارع مقهى الهافانا، ملتقى الادباء والفنانين والتشكيليين والشعراء والغاوين ومنهم الشاعر العراقي الموغل في بداوته قلباً وقالباً، أحمد الصافي النجفي، الذي اتخذ من المقهى مأوىً له، ليلاً ونهاراً فقط، بعد أن اكتشف دمشق وعشقها. هو القائل:
أتيت جلّق مجتازاً على عجل فأعجبتني حتى اخترتها وطنا
ويقول:
أيقـنت أني من أهل الجنـان ففي دمشق أسكن جنات تفيض هنا
كان الارسوزي منخرطاً في علوم اللغة العربية فأصدر سفره "عبقرية اللغة العربية". رسم الصورة اللغوية للقومية العربية. كان يقول إن هوية الامة العربية تتجسد في لغتها لا اجناسها أو أعراقها أو ألوانها أو معتقداتها أو طوائفها. وصفه الرئيس حافظ الأسد بانه "أعظم مواطن سوري في زمنه".
في ذلك الحي نشأت إكرام وتلقت تعليمها في مدرسة الفرنسيسكان التي أصبح اسمها "دار السلام" بعد تأميم المدارس الأجنبية واخضاعها لسلطة وزارة التربية السورية. أتقنت الفرنسية منذ نعومة أظفارها كما العربية. لكن مدرستها ومدرسة اخوتها الاولي والأساس كان منزل والديها. كان المنزل مكتبة ضخمة تحوي كتباً في غالب الفروع ويمتلئ بكتب الماركسية وما يتعلق بها وكانت والدتها مغرمة بالأدب الروسي جمعت العديد منه. ظل الجميع يتعثر بالكتب والمجلدات المنتشرة في كل انحاء البيت وفي كل ركن من أركانه. حينما فتحت عينيها الواسعتين وقع نظرها على الكتب فحبت نحوها، وحينما فكت الخط أخذت تلتهمها التهاماً. رحلت الى فرنسا تنشد مزيدا من العلم وتضيف اليه، ثم عادت الى سورية فلم يهدأ قلقها. أرادت أن تذهب الى نهاية الأرض علها تجد مقراً ومستقراً، الاّ انها لم تعرف الى أين.
تقول عيسي وقد وافيت مبتهلاً وبانت ذرى الاعلام في عدن
أمنتهى الأرض يا هذا تريد بنا فقلت كلا ولكن منتـهى اليمـن
لم ترغب إكرام في مجاراة عمر بن أبي ربيعة فلم تسحرها اليمن ولم ترد شد الرحال الى عدن. جاءت اكرام بالبيكار (البرجل). وضعت ساقاً في دمشق وفتحته الى أقصى حد فوصلت الساق الأخرى الى المكسيك، ساعتئذٍ قررت الرحيل الى منتهى الدنيا رغم كونها لا تعرف الاسبانية ولا تملك الا القليل من المال. هناك تعلمت لغة البلاد بسرعة فائقة ثم اتقنتها فأصبحت تؤلف بها وتدرس في الجامعات، بل أعدت رسائل دكتوراه أخرى بها في الفلسفة والعلوم والفيزياء وعلم الفلك. نشرت تسعة وعشرين كتاباً جلها بالإسبانية وبعضها بالفرنسية وديوان شعر واحد باللغة العربية بعنوان "مغامرات حنا المعافى حتى موته". لجأت في نظمه الى الشعر المرسل، لكنها لم تسلك دروب جماعة مجلة شعر في ذلك النظم. ربما أقربهم اليها ابن الكفرون فؤاد رفقة الذي هجر المجلة والجماعة باكراَ وتفرغ الى ترجمة الشعر والشعراء الألمان. ألحقت ديوانها ذاك بديوان شعر بالإسبانية بعنوان "مغامرات حنا في التاريخ" و "قصيدة اليهود والعرب" وديوانين آخرين بالإسبانية أيضاً، كما كتبت القصة والرواية وتأملات في شؤون عددا وكتاب بعنوان "آخر الأنبياء هم أبناء الانترنت". أما الدراسات فقد شملت البيئة والاثنولوجيا. حصلت على جائزة الدولة "ماجدة دوناتو"، وهي أعلى جائزة أدبية تمنحها المكسيك، عن كتابها "في ثقافة العرب"، دراسة موسوعية لم تُكتب مثلها باللغة الاسبانية وربما بلغات أخرى. كرمتها المكسيك مرة أخرى حينما حازت على جائزة السنة عن كتابها "الثقافة الثالثة: حول جذورنا العربية الإسلامية". كان أهل المكسيك يعّرفون ثقافتهم وارثهم الحضاري بمزيج من ثقافة السكان الأصليين والثقافة الاسبانية حتى جاءت إكرام لتسلط الضوء في دراستها الثقافية تلك على ما نسوه أو تناسوه من ذلك المزيج وهو الجذور العربية الإسلامية التي شكلّت مع الثقافتين الاصلية والاسبانية الوجه الحضاري للمكسيك، فنالت الجائزة اعترافاً منهم بصحة ما سبقت اليه. قالت: "الحديث لا ينقطع عن التأثير الاسباني المكسيكي، فيكاد لا يًذكر شيء عن الجذور الإسلامية العربية التي هي في الواقع أصل هذا التأثير."
إلى جانب كل ذلك يظل كتابها "روح قرطبة" فتحاً جديداً رائعاً وعلامة بارزة في نتاجها الثري العميق المتنوع. روح قرطبة هي رواية بطلاها الفيلسوفان الاندلسيان ابن رشد وموسى بن ميمون اللذان عاشا في القرن الثاني عشر الميلادي؛ لكنها أبت الا أن تضم اليهما امرأة في هذا الحوار فأتت بشخصية عاشت في نهاية القرن الرابع الميلادي وبداية القرن الخامس جاءت هيباثيا، آخر أستاذة المدرسة الافلاطونية في مكتبة الإسكندرية، لتنضم الى الفيلسوفين الاندلسيين وتدلي بقولها في هذا الحوار. لقيت هيباثيا ومكتبة الإسكندرية مصيراً تراجيديّاً يمثل المأساة التي ظلت تتكرر على مدى العصور. هجم عليها الرعاع في العام 415م، قتلوها وحرقوا جسدا ثم أجهزوا على المكتبة وحرقوا الكتب. كانت تلك أولى ليالي الكريستال! تغلبت قوى الظلام على أنوار المعارف الى حين. في السودان تكرر ذلك حين هجم الرعاع والرجرجة والدهماء وأساطين الجهل فأعدم الأستاذ عبد الخالق محجوب، المستنير الذي طوّع نصوص الماركسية اللينينية وبسطها على الواقع السودان وبسّطها فأشاع الوعي بين الجماهير العريضة والشغيلة والمزارعين وحتى الصفوة؛ كما أعدم الأستاذ محمود محمد طه الذي بشر برؤية جديدة لتعاليم الإسلام تتفق مع ما أُنزل وتتوافق مع حكمة النزول، مثلما رسم طريقاً لتطبيق هذه التعاليم بعد نفض الغبار الكثيف الذي تراكم فوقها على مر العصور. هل تسود روح قرطبة بعد كل هذا الهرج الذي نشهده اليوم؟
لم تكتف إكرام بالكلمة المكتوبة المطبوعة والمحاضرات في الجامعات والمعاهد بل قدّمت برنامجاً تلفزيونيا لخمس سنوات (1996 – 2000) تحت عنوان "مائدة أفلاطون" فكان مأدبة تحفل بكل صنوف العلم والادب والشأن العام فلسفياً. كانت لوحدها في هذا البرنامج تتحدث فيه عفو الخاطر عن شؤون وشجون بطلاقة ولغة سلسة جميلة. تحلق المكسيكيون وسكان البلاد من جنسيات أخرى، من العامة والخاصة، النخبة والساسة وأهل العلم والأدب والفن والثقافة وعامة الناس حول أجهزة التلفزة ساعة اذاعة البرنامج وتابعوه بشغف. لم تشأ أن يظل البرنامج حبيس الأشرطة بعد أن عطّر الهواء فجمعته في اثني عشر مجلداً متاحاً لمن فاتته المشاهدة ساعة تقديمة. كذلك لم ترد أن ينقطع عطاؤها بعد رحيلها في العام 2000 فنُشر كتابها الأخير "عند منعطف الألفية" وأغمضت عينيها. لم يتسن لها أن تستريح في منزل ابتاعته على مشارف دمشق التي لم تفارقها قط. أرادت أن تعود الى الفيحاء وتقضي بقية حياتها هناك علها تجد الراحة التي فقدتها طيلة حياتها وربما تعطي شيئاً آخر ثرياً كما أعطت في المكسيك. لم تكن تريد أن يكون آخر ما ألفته في سورية ديوان شعرها الوحيد الذي نظمته باللغة العربية. في مقابلة مطولة لخصت بداية المشوار ونهايته بقولها: "كنا نريد كل شيء، ونحاسب العالم كله، كنا حكاماً على العالم كله، وعلى الناس، وعلى الأفكار. كنا نريد أن نصحح كل شيء". اختارتها رئاسة الجمهورية المتحدة المكسيكية مستشاراً للشؤون العربية والإسلامية فأمضت سبع سنوات تخلِص النصيحة والتوجيه للرئيس والرئاسة.
حينما أحس بالفراغ، أطفئ جهاز التلفزة وأغلق الهاتف الجوال وأدع الكتاب جانباً مفتوحاً على آخر صفحة كنت أطالعها، وأذهب الى "معابر" التي أسسها أخوها الأكبر المهندس أكرم أنطاكي. معابر واحة في صحراء جرداء قاحلة على مد البصر. معابر غنية بكل ما يخطر على بال أحدنا من ثمرات العلم والادب والفنون والفلسفة وغيرها في مختلف المجالات تقطف منها ما تشاء لتغسل ما علق بالنفس من صدأ وكآبة وتملأ الفراغ.
(1) Charles Glass: Tribes with Flags, a Curtailed Journey. لم يستطع قلاس اكمال مشواره من الإسكندرون الى العقبة، ففي بيروت اختطفته مجموعة مسلحة مع عادل عسيران، نجل رئيس البرلمان الأسبق، علي عسيران، حينما كانا سوياً. أُطلق سراح عادل عسيران بعد ثلاثة أيام. بقي قلاس في الاسر لشهرين ونيف قبل إطلاق سراحه. ناشدت المرجع الشيعي الراحل محمد حسين فضل الله، في مقال نشرته في جريدة السفير اللبنانية العمل على إطلاق سراحه. قلت له ان قلاس أميركي من طراز آخر وليس جاسوساً، بل هو عربي الهوى والعمل وعددت امثلة على ذلك. لم يمض أسبوع على ذلك المقال الا وأطلق سراحه. تسلمته القوات السورية العاملة ضمن قوات الردع العربية ونقلته الى دمشق. استقبلته مع آخرين في وزارة الخارجية السورية والتقينا في المؤتمر الصحافي الذي عقده في السفارة الأميركية ثم بعد ذلك. قطع قلاس رحلته ولم يعد الى لبنان أبداً حتى الساعة، لكنه ألف كتابه.
(2) Enemy in the Promised Land by Sana Hasan.
(3) تُرجم الكتاب وطبعته دار نشر جامعة نيويورك تحت عنوان: Murder, Mayhem, Pillage and Plunder: The History of the Lebanon in the 18th and 19th Centuries by Mikhail Mishaqa.
elsouri1@yahoo.com
يا شـام إن جراحي لا ضفاف لـها
فمسحي عن جبيني الحزن والتعب
وأرجعيـني الى أســوار مدرسـتي
وأرجعي الحبـر والطبشـور والكُتبا
تلك الزواريب كم كنز طمرت بها
وكم تركـت عليها ذكـريات صـبا
"نزار قباني"
يوم اندلعت حرب السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 1973 بُعيد الظهر بساعتين ونيف كان الصحافيون الأجانب يتدفقون على دمشق. لم يبق في بيروت مراسل أجنبي وصحافي لبناني وعربي الاّ وشد الرحال الى عاصمة الامويين بدون إذن ولا دستور. كانت وجهتهم الأولى وزارة الاعلام التي وجهتهم الى مبنى الوكالة العربية السورية للأنباء (سانا) الصغير في حي المزرعة المجاور لمصرف سورية المركزي الذي أصبح منذ بداية الحرب وحتى بعد أن صمتت المدافع ودخلت الطائرات الى حظائرها مقراً ومنطلقاً لهم ومصدر اخبار لأجهزتهم. خلت بيروت من الصحافيين الأجانب وبقيت مكاتبهم في يد مساعدي مساعديهم الذين قام العاملون منهم في شبكات التلفزة الأميركية والأوربية بتلقي الشرائط التلفزيونية من المراسلين في سورية وارسالها الى شبكاتهم. لم تكن الأقمار الاصطناعية متاحة يومئذ الا للدول والتلفزيونات الرسمية وفي ساعات محددة وبصعوبة بالغة خصوصاً في أيام هذا الضغط المتواصل.
ازداد حشد الصحافيين والمراسلين الأجانب، إذ تدفقوا بعد يومين من بدء الحرب من مقار اقاماتهم في دولهم ودول المحيط براً من بيروت وعمان وإسطنبول، وجواً من قبرص واليونان وما ورائهما، وازدادت شهيتهم لتغطية الاخبار من مصادرها ومن مصادرهم وسفاراتهم التي كانت تراقب سير المعارك، ومن مشاهداتهم في الشام وحولها. لم يكن الذهاب الى جبهة الجولان حيث تدور معارك ضارية ميسوراً ولا مسموحاً، فإدارة الاعلام العسكري لم تسمح لهم بتجاوز محيط العاصمة السورية وحدودها الجغرافية الاّ الى العاصمة اللبنانية أو العاصمة الاردنية. هنا ازدهرت أعمال "أجنحة العرب"، شركة الطيران الخاصة الاردنية. استأجرت طائراتها الصغيرة، بأي مبلغ تطلبه، شبكات التلفزيون لتحمل شرائطها المصورة الى محطات الأقمار الاصطناعية في بيروت وعمان ونيقوسيا وبثها من هناك الى مراكزها. جاء بعضهم مع زوجه يحمل أكداساً من التبرعات العينية للهلال الأحمر السوري من بينها الاغطية والضمادات والأدوية. من هؤلاء أتى الكندي بيتر جيننغز، مدير مكتب شبكة آي بي سي في بيروت والشرق الأوسط، الذي أصبح نجم الشبكة فيما بعد وذاع صيته؛ جاء مع زوجه المصرية، وهي أولى زوجاته؛ كما جاء دين بريلس، مدير مكتب شبكة سي بي اس في بيروت ثم انتقل الى مجلة تايم الأميركية حين اغراه بالانضمام اليها مراسل المجلة في الشرق الأوسط، كريستن براغر، بعد أن خَبِر أدائه حينما التقيا أثناء الحرب في فندق سمير أميس بدمشق. بعد انتقاله الى مجلة تايم عاد مرة أخرى الى الشام، ولكن هذه المرة طلباً للمساعدة في الذهاب الى الأراضي الارترية المحررة مع جيش التحرير الارتري فرتبت له الامر مع مكتب جبهة التحرير الارترية بدمشق. عاد برلس من هناك ليكتب عن رحلته في صفحات المجلة الأميركية ذائعة الصيت ذات النفوذ والتأثير.
كان من بين أعضاء طاقم جيننغز شارلز قلاس الذي ألف كتباً عددا، أولها كتابه الشهير: "قبائل لها رايات: رحلة مبتورة". (1) هو كتاب رحلات يتحدث فيه عن اقتفاء أثر جزء من طريق تقسيم ممتلكات الدولة العثمانية وتجزئة سورية الكبرى وتقطيع أوصال الهلال الخصيب وذلك حينما أبرم الدبلوماسي والرحالة الإنجليزي مارك سايكس مع الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا بيكو اتفاقية تقسيم المشرق في العام 1916 التي عرفت فيما بعد باتفاقية سايكس – بيكو وأعلن في أعقابها وعد بلفور المشؤوم ليكتمل المخطط المرسوم. جزأت الاتفاقية أقطار الشرق الى مناطق نفوذ بين القوتين الاستعماريتين الكبريين حينذاك: بريطانيا وفرنسا. استعار قلاس عنوان كتابه من عبارة قالها له الدبلوماسي المصري الضليع الراحل تحسين بشير، وهو أخ غير شقيق للملحن المرهف محمد الموجي. كان تحسين بشير متزوجاً من السيدة سناء حسن التي انتقلت الى فلسطين المحتلة وألفت كتاباً عن تجربتها هناك بعنوان "العدو في أرض الميعاد" (2). قال تحسين بشير لقلاس "ليس في البلاد العربية دولة راسخة الجذور منذ القدم سوى مصر، فالبقية قبائل صنعت لها رايات". أليس ما يحدث اليوم في السودان وما حدث من قبل وتداعياته يذكر بهذه الاتفاقية ومفاعيلها وكيفية ابرامها وما ترتب عليها من صراع لم تنته فصوله بعد ويعيد الى الذاكرة دماء جرت سيولاً ولم تجف بعد؟ فتقسيم السودان لم يبدأ بانفصال الجنوب بل بسلخ إقليم بني شنقول، وتسليم جمبيلا غداة الاستقلال دون مفاوضات الى اثيوبيا، ثم التخلي السكوتي الأليم عن منطقة حلايب وشلاتين بعد احتلالها، وغض النظر عن احتلال الفشقة لعقود مضت وواقع مرير لم يزل مستمراً، والبقية تأتي إن لم يفق القوم من سبات أهل الكهف ويحزموا أمرهم بنسيان عداواتهم والتخلي عن مصالحهم الشخصية والحزبية الضيقة.
ظل تدفق الصحافيين العرب والأجانب متواصلاً طيلة أيام الحرب. ولأن العدد كان كبيراً قررت كغيري من الزملاء الصحافيين وغير الصحافيين ممن يتقنون اللغات الأجنبية التطوع لدى وكالة سانا مساعدة لهم في تقديم الخدمة الإخبارية واللوجستية بلغات هؤلاء القوم في تلك الأيام العصيبة، وحمل جزء من المهمة الثقيلة غير المسبوقة التي أُلقيت على أكتافهم من غير انذار مسبّق، فساعة اندلاع الحرب وتوقيتها كانت سر الاسرار وطي الكتمان. فوجئت اثناء وجودي في سانا بدخول الزميل الراحل ادريس حسن مبنى الوكالة مبعوثاً من جريدة الأيام السودانية. لم تعتد صحف السودان على ارسال مبعوثين لها الى مواقع الاحداث الجسام، بل كانت تكتفي بما يردها من أخبار عبر المبرقات وأجهزة المذياع. مرات نادرة الحدوث ذهب فيها زملاء سودانيون للإتيان بتحقيقات صحافية كانت جلها من بلدان أفريقية. فقد ذهب الراحل كامل حسن محمود الى زنزبار بُعيد المجزرة وعاد بتحقيقات مِن وعن "جزيرة القرنفل"؛ وذهب الصحافي الجهبذ الراحل محجوب عثمان، رئيس تحرير الأيام وأحد أصحابها الى روديسيا أيام إيان اسمث قبل بدء الكفاح المسلح ضد النظام العنصري فأُحتجز في مطارات أفريقية عددا؛ ودخل أحمد طيفور مع الثوار الى ارتريا حيث عاد بحصيلة وافرة أضاع مجدها بعد أن استولى الملحق العسكري الاثيوبي، ترقي، على روحه وجسده كما فعل مفستوفوليس بالدكتور فاوست.
انتابني فرح غامر لرؤية صحافي سوداني بين هذا الكم الهائل من الصحافيين عرباً وأتراكاً واوربيين وامريكان وغيرهم. قدمته باعتزاز الى مدير الوكالة، مروان حموي، الذي قضى بعد ذلك سنين طويلة في سجن المزة سيْ السمعة ضحية صراع اجنحة حزب البعث ولأنه ختم مقاله الأسبوعي الأخير في جريدة "الثورة" الرسمية بعبارة "وسقط الخليفة على قفاه" وهي عبارة حمالة أوجه؛ كما قدمته الى رئيس التحرير قاسم ياغي ورؤساء الأقسام الذين رحبوا به ترحيباً حاراً وشعروا بالسعادة لان إعلام السودان أتى من خلال الزميل ادريس حسن ليشاركهم هذه الأيام المجيدة.
أرادت سورية أن تخوض الحرب الإعلامية بكل ما تملك من امكانيات وأن تبذل في سبيلها كل ما تستطيع من قدرات مستعينة بأشقاء وأصدقاء متطوعين أكفاء ذوي خبرة. كان ادريس حسن يمتلك ويرأس تحرير وكالة الانباء المحلية، وكان أحد اثنين في الصحافة السودانية يعرفان حق المعرفة ويتقنان أصول صوغ الخبر كما يجب أن يُصاغ، أما الثاني فهو الراحل سعد أحمد الشيخ صاحب ورئيس تحرير وكالة اخبار الخرطوم ومراسل رويتر، وهو شقيق الراحل مصطفى أحمد الشيخ، الأمين العام لاتحاد الشباب السوداني في ستينيات القرن الماضي، عضو قيادة اتحاد الشباب العالمي في براغ والقيادي في الحزب الشيوعي السوداني. حينما كتم العقيد جعفر نميري، قائد انقلاب 25 مايو/ أيار 1969 أنفاس الصحافة السودانية بالتأميم استولت اجهزته على الوكالتين ووكالات محلية أخرى إلى جانب الصحف والمجلات وشرد صحافيين كثر فتلاشى هامش الحرية وانطفأ بصيص ضوء كان يعكس حرية التعبير وحرية الرأي وتعذر الحصول على الخبر الصادق من مصادر مختلفة.
أقنعت الزميل ادريس حسن بترك الفندق والإقامة معي في سكني عند الطرف الغربي لحي الشعلان قريباُ من سفارة اندونيسيا وعلى مرمى حجر من حديقة الحسن بن هاني (أبي نواس) في مواجهة حي أبي رمانة الفاخر يفصلنا عنه الشارع المسمى باسم الحي. كان المركز الثقافي السوفيتي يقع في الجانب الشرقي من أبي رمانة، قريباً من مسكني، لما أمطرته طائرات الفانتوم بوابل من الصواريخ لتحيله إلى ركام وتصيب السفارة الأردنية والمركز الثقافي الألماني الشرقي القريبين منه. كانت طائرة الفانتوم الأميركية هي الأحدث في ترسانة العدو العسكرية، حلقت في أجواء سورية بدون انقطاع لتسقط المضادات الأرضية السورية معظمها وتأسر طياريها الذين هُرع هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي الأميركي في عهد إدارة الرئيس نيكسون، فور وقف إطلاق النار، لتخليصهم من الأسر (وتلك قصة أخرى). عُرضت بُعيد الحرب مسرحية تصور سقوط طائرات الفانتوم وأسر طياريها بعنوان "أول فواكي الشام يا فانتوم!" عوضاً عن نداء شهير لأصحاب عربات الخضار حينما يهل موسم اللوز الأخضر في بداية شهر فبراير/ شباط ويملأ الطرقات: "أول فواكي الشام يا عوجه!". لم تكن شقتي بعيدة عن مبنى سانا في حي المزرعة مما حدانا أن نذهب راجلين اليها صباحاً ونعود مشياً على الاقدام في المساء إن لم يكن هناك ما يستدعي بقائي. كنت أتأخر في كثير من الأحايين الى الفجر في الوكالة لمساعدة مراسل هنا وشبكة تلفزيونية هناك يفصلنا عنها فرق التوقيت فيتبرع سائقو الوكالة بتوصيله الى المنزل في المساء.
في خضم هذه الحركة التي لا تهدأ على مدار الساعة أطلت علينا إكرام انطاكي (1948 – 2000) بهدوء ومن غير جلبة وبصوت أقرب الى الهمس قالت انها جاءت لتقدم المساعدة وتسهم ولو بالقليل القليل في معركة التحرير! استرعت عيناها الانتباه. لولا تلك العيون الواسعة لما أحس بها أحد وهي تدخل الوكالة وتتجول بين مكاتبها بدون جلبة، إذ أن هناك الكثير من الزميلات السوريات ومن جنسيات عربية أخرى والاجنبيات في خلية النحل هذه لم يلفتوا النظر ولم يلحظهم الكثيرون. كانت لديها العينان التي وصفهما على بن الجهم بعد اقامته في بساتين بغداد ونسيان البادية وحياة البداوة حينما قال:
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
كانت عيناها الواسعتان اللتان تزينان وجهها النحيل الجميل تضفيان عليه اشراقاً ونضارة وألقاً. تلك العينان ترجمتا لي قول وردي في "القمر بوبا" (العيون شبه الفناجين). جاءت إكرام يومئذٍ من باريس الى مسقط رأسها دمشق في عطلة قصيرة. حينها كانت تعد رسالة دكتوراه عن دروز جبل العرب في سورية وعن عقائد بني معروف الباطنية وتأثيرها على القوم وحياتهم، كما تصفحت، على مهل، كتاب الحكمة ورسائل حمزة بن علي بن أحمد وفلسفة الاغريق خصوصاً ارسطوطاليس وأفلاطون، إلى جانب سبر غور ارتباطهم الوثيق بالحاكم بأمر الله الذي حرّم أكل الملوخية ثم عاد هو وخلفاؤه عن هذا التحريم لكن بقي الموحدون الدروز يحرّمون أكل الملوخية حتى يوم الناس هذا. خاضت إكرام ببحثها الأكاديمي ذاك في مياه عميقة مضطربة وأبحرت في محيطات أمواجها عالية كالجبال وشديدة الخطورة، فبعض أجزاء رسالتها لم يسبقها اليه أحد؛ إذ أن لبني معروف الدروز تفسيرهم الباطني للكتب الدينية ومحافظتهم على سرية المعتقد، فهم يسلطون الضوء على دور العقل والصدق ويؤمنون بالظهور الإلهي والتناسخ أو التقمص الذي يتلخص مفهومه في عودة الروح الى الحياة في جسد آخر، وهي فكرة فلسفية ودينية مرتبطة بالجسد والروح والذات حسب معتقداتهم، يخالفهم في ذلك الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشيل سير- صاحب كتاب "الابهام أو الاصبع الصغير" الذي أثار نقاشا واسعاً وما زال يثير جدلاً أكثر من كتبه الأخرى التي تجاوزت الستين كتاباً (3) - بقوله "الروح هي هذه الطريق التي تقطعها بين ولادتك وموتك". لكن الموحدون الدروز يعلنون في ذات الوقت على رؤوس الأشهاد ايمانهم بالشهادتين وبالقرآن والقضاء والقدر واليوم الآخر. في أيام الخليفة المأمون كانوا قريبين من المعتزلة وجماعة أخوان الصفا، وعلى غرار بعض الصوفية يؤمن الدروز بالتجلي أو الظهور الإلهي، الا أن غالباً ما يساء مفهوم التجلي حين مقارنته واقترانه بمفهوم التجسد، فهما مفهومان مختلفان. هم يقسمون فهم الكتب والتعاليم المقدسة الى ثلاث طبقات:
* الواضح أو الظاهر حيث يمكن لأي شخص ما أن يقرأ أو يسمع.
* الباطن وهو في متناول مَن هم على استعداد للبحث والتعلم من خلال مفهوم التفسير.
* الخفي وهو ما لا يمكن لجميع الافراد الوصول اليه باستثناء بعض المستنيرين بحق والذين يفهمون بصدق طبيعة الكون. وهم يقولون إذا كان التفسير الباطني للطهارة هو نقاء القلب والروح فذلك لا يعني أن باستطاعة الشخص تجاهل طهارة الجسد. لهم سبعة أركان معروفة غير تلك المخفية وهي:
1- صدق اللسان 2- حفظ الاخوان 3- ترك عبادة العدم والبهتان 4- البراءة من الابالسة والطغيان 5- التوحيد لمولانا (الله) في كل عصر وزمان 6- الرضى بفعل مولانا كيفما كان 7- التسليم لأمر مولانا في السر والحدثان.
الموحدون الدروز مقاتلون أشاوس، أقوياء ذوي شكيمة وبأسهم لا نظير له. كانوا العامل الحاسم في دحر الصليبيين حينما حاربوا مع صلاح الدين الأيوبي لتحرير واسترداد بيت المقدس، وذبّوا عن ثغور بلاد المسلمين وديار العرب في عين جالوت وغيرها في العصور الغابرة كما في العصر الحديث. حاربوا القوى الاستعمارية حينما أعلن سلطان باشا الأطرش الكفاح في سورية ضد الفرنسيين. زرت الباشا في معقله ببلدة القِريّات مراراً مع زملاء وأصدقاء. كان صافي الذهن، حاضر البديهة، قوياً، يده لم ترتجف أبداً وهو يمسك بفنجان القهوة العربية رغم السنين والتجاعيد، كأنه قُد من صخر هذا الجبل الاشم. تمسك الموحدون الدروز بعروبتهم طيلة تاريخهم، فهاهم في الجولان المحتل يذيقون الصهاينة الأمرين برفضهم سياسات التجنيس وفرق تسد والتجنيد الاجباري في جيش الاحتلال. أليس سميح القاسم منهم وفيهم؟ لكنهم لم يجدوا الا النكران حينما تسكن العواصف فتعرضوا لحملات إبادة وقتل جماعي بعضها بفتاوى مثل فتوى ابن تيمية بتكفيرهم وبعضها طمعاً وحسداً وغيرة. في العام 1860 حدثت المجزرة الكبرى في جبل لبنان كانوا هم أكثر ضحاياها. كتب الدبلوماسي والموسيقي والمؤرخ اللبناني، ميخائيل مشاقة، عن المجزرة وغيرها من أحداث جسام في كتابه " الجواب على اقتراح الاحباب" (3) بالمحكية اللبنانية فلم يجرؤ أحد في لبنان على نشره على الملأ كاملاً، بل نُشرت منه منتخبات، خشية ايقاظ الفتنة وتأجيج لهيبها ونكأ الجراح والاحتراب مرات ومرات كما لم يفعلوا من قبل. جاء حفيد مشاقة وزوجه وطفلته بعد تخرجه من الجامعة الأميركية ببيروت الى النهود وعمل بها طبيباً ثم ذهبوا الى الخرطوم قبل أن يغادروا الى بغداد. كانت لابنته مربية من منطقة النهود اسمها حليمة مازالت السيدة ليلى التي شارفت على المائة من عمرها المديد وتقيم في مونتريال تذكرها الى اليوم. كلما لقيتها تستعيد حكاية حليمة وتتوهج عيناها وتشرق ابتسامتها وتتحسر على ماضي الأيام، ثم تصمت برهة، وسرعان ما تقول: "رزق الله! ما أحلاها من أيام!"
الموحدون الدروز لا ينسون ظلماً تعرضوا له. لهم ذاكرة فيل، يطلبون ثأرهم ممن اعتدى عليهم إن عاجلاً أو آجلاً. طاردوا العقيد الشيشكلي الذي قاد انقلاباً في سورية ثم جرد حملة عسكرية على جبل العرب بدون مسوغ حيث ارتكب الجنود خلالها الفظائع. وفي البرازيل حيث لجأ بعد اطاحته أردوه قتيلاُ فاقتصوا منه. كما لاحقوا وتتبعوه زهير محسن، زعيم قوات الصاعقة الفلسطينية التابعة لسورية، الى أن قتلوه في نيس بالريفيرا الفرنسية وهو عائد من مونروفيا التي شارك في أعمالها رفقة الوفد الفلسطيني في مؤتمر القمة الافريقي. اتهم الدروز زهيراً بقتل زعيم الحزب الاشتراكي الديموقراطي اللبناني، كمال جنبلاط، وهو أيضاً زعيم الدروز الجنبلاطيين.
كانت إكرام تعرف كل ذلك، هي التي اعتنقت الماركسية وانضوت كما اخوتها في صفوف الحزب الشيوعي السوري قبل أن يتركوه جميعاً الى (فضاء اليسار الإنساني) بعد أن نخرته آفة الانقسام حتى النخاع فتفرق شيعا. أسس الحزب الشيوعي السوري – اللبناني فؤاد الشمالي ويوسف يزبك والارمني ارتين مادويان في العام 1924 يوم كانت دولة لبنان الكبير تخرج من رحم الغيب وتتشكل بعد أن نجح الفرنسيون في استيلادها وفق معاهدة سايكس - بيكو، فلبنان هو خاصرة سورية الرخوة التي لابد من الاستيلاء عليها؛ ثم انقسم الحزب الواحد الى حزبين في خريف العام 1964 سوري لبناني. روى لي المفكر السوري الراحل، مؤرخ الحزب الشيوعي، الياس مرقص، حينما دعاني للعشاء في اللاذقية في بداية سبعينيات القرن المنصرم مستفهماً عما حدث في السودان بعد مأساة 19 يوليو/ تموز 1971 خفايا انقسام الحزب الشيوعي الى حزبين ومعناه وخلفياته ومن خلفه. امتد بنا العشاء الى أن أزف وقت الفطور فافترقنا على أمل اللقاء مرة أخرى. بعدها توالت الانقسامات فخرجت جماعة يوسف نمر، وجماعة مراد يوسف، وجماعة رياض الترك، وجماعة بدر الدين السباعي، ثم كان الانقسام الخامس في العام 1986 حينما خرج يوسف فيصل الذي كان الذراع الأيمن لزعيم الحزب ومَن يدير أعماله اليومية لما كان خالد بكداش يتنقل بين عواصم الدول الاشتراكية منذ أيام الوحدة السورية – المصرية تفاديا للاعتقال والسجن! بعد ذلك خرجت مجموعة الدكتور منير صبحي عروقة ونصر الأحمد على الحزب الشيوعي الموحد الذي يقوده يوسف فيصل لعدم رضاهم عن أداء التنظيم الجديد. لكن أكثر التنظيمات الماركسية تعرضاً للاضطهاد التي ذاقت العسف والتنكيل والقتل كانت رابطة العمل الشيوعي فهي لم تخرج من تحت عباءة الحزب بل تأسست بعيداً عن ظلاله الوارفة. أُعدم بعض قادتها يوم زيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون لدمشق في العام 1974، وعُلقت عضواته من أثدائهن على المراوح. حينما توفي خالد بكداش ورثت أرملته وصال الفرحة بكداش ما تبقى من الحزب فأصبحت هي الآمين العام مما زاد الغليان بين صفوف الشيوعيين السوريين. يبدو أن توريث الأحزاب والحكم والدولة في سورية ولبنان والبلاد العربية عامة وغيرها صبغة جينية! فما جرى من قبل ويجري اليوم في السودان من وراثة للزعامات والحكم لا سيما عند الأحزاب التقليدية شاهد على ذلك وعلى مدى صفاقة واستهتار وازدراء أصحاب الإرث بالناس وحقوقهم.
في فرنسا أرادت إكرام مواصلة سيرتها وارتباطها التنظيمي بالماركسية اللينينة فالتحقت بالحزب الشيوعي الفرنسي، لكنها خرجت عليه لما رأت الرفاق يتغزلون في ربطات عنق الأمين العام، جورج مارشيه، وأناقته – وقد كان فائق الاناقة – بدلاً من التأمل في فحوى خطاباته وكلماته؛ ثم انخرطت في موطنها الجديد الذي اختارته خبط عشواء في أنشطة الحزب الشيوعي المكسيكي قبل أن تتركه وتنفصل عن زوجها الشيوعي من المواطنين الأصليين لا المهاجرين وتتفرغ لعملها الثقافي متعدد الأوجه لترفد الثقافة الإنسانية بأعمال دسمة، تسعد الروح المُعنى وبلغات عددا. غالب كتبها بالإسبانية لكنها تُرجمت الى أكثر اللغات الحية ولقيت ترحيباً واحتفاء ما بعده ترحيب واحتفاء. في المكسيك وفي اجتماعات الحزب التقت بزوجها وهو من سكان المكسيك الأصليين. اقترنا وانجبت منه ابنها الوحيد، مروان. أعطته هذا الاسم تيمناً بمروان بن الحكم الذي ازدهر في عهده العلم ووجدت الثقافة رواجاً في دولة بني أمية، ولتؤكد صلتها بالشام وبأصولها العربية – الإسلامية وحضارتها وميراثها الثقافي. تابع مروان سوتو أنطاكي السير على درب والدته فانغمس في التأليف والفن والبحث العلمي، أخرج للسينما وكتب الرواية.
وُلدت إكرام في حي القصاع بدمشق تحيط به ثلاثة من أبوابها العريقة السبعة التي كانت تحمي المدينة من الأعداء والغزاة: باب شرقي وباب توما وباب السلام، وتصونها كنائسها وكاتدرائياتها بتراتيلها ونواقيسها من شر حاسد إذا حسد. كان جدها لأبيها بطريركاً لأنطاكيه وأبوها محافظاً للمدينة قبل الانتقال الى دمشق. ما زالت كنائس الشرق بيزنطينية كانت أو سريانية تتمسك بأنطاكية مرجعاً ومستقراً روحياً ومنطلقاً طقسياً، إذ كان اسمها القديم هو "ثيوبوليس" (مدينة الله)، وكذلك تمسكت العائلة بكنية أنطاكي حتى لا يندثر حق السوريين في لواء الإسكندرون السليب الذي ترقد معظم مدنه اليوم تحت ركام الزلازل التي هزته هزاً وأوجعت مدينة كهرمان مرعش، مركز الزلزال، وحطمتها. مثلها فعلت عوائل دمشقية عريقة تعود أصولها الى مدن الإسكندرون كعوائل اورفلي ومرعشلي ومارديني واليها تنتسب فتاتان سباحتان ظهرتا في شريط سينمائي من انتاج نيتفلكس مؤخراً بعنوان "السباحتان" ما زالت أصداء الخلافات حوله تتردد. ماردين هي توأم القدس تشبهها في كل شيء الا المسجد الأقصى، قبلة المسلمين الأولى، وكنيسة القيامة التي حظيت بالعهدة العُمرية. ومن أرسوز في الإسكندرون جاء زكي الأرسوزي (1899 – 1968)، رائد البعث العربي منادياً بشعارات الثورة الفرنسية في بلد تحتله فرنسا: الحرية والمساواة والعدالة، وأول من بشّر بالعروبة قبل ميشيل عفلق وصلاح البيطار. اليه يُنسب اسم "البعث العربي". طرح الفكرة على رفيقيه في مقهى البرازيل الصغير حيث يلتقي أهل الفكر والسياسة وحيث يقع عبر الشارع مقهى الهافانا، ملتقى الادباء والفنانين والتشكيليين والشعراء والغاوين ومنهم الشاعر العراقي الموغل في بداوته قلباً وقالباً، أحمد الصافي النجفي، الذي اتخذ من المقهى مأوىً له، ليلاً ونهاراً فقط، بعد أن اكتشف دمشق وعشقها. هو القائل:
أتيت جلّق مجتازاً على عجل فأعجبتني حتى اخترتها وطنا
ويقول:
أيقـنت أني من أهل الجنـان ففي دمشق أسكن جنات تفيض هنا
كان الارسوزي منخرطاً في علوم اللغة العربية فأصدر سفره "عبقرية اللغة العربية". رسم الصورة اللغوية للقومية العربية. كان يقول إن هوية الامة العربية تتجسد في لغتها لا اجناسها أو أعراقها أو ألوانها أو معتقداتها أو طوائفها. وصفه الرئيس حافظ الأسد بانه "أعظم مواطن سوري في زمنه".
في ذلك الحي نشأت إكرام وتلقت تعليمها في مدرسة الفرنسيسكان التي أصبح اسمها "دار السلام" بعد تأميم المدارس الأجنبية واخضاعها لسلطة وزارة التربية السورية. أتقنت الفرنسية منذ نعومة أظفارها كما العربية. لكن مدرستها ومدرسة اخوتها الاولي والأساس كان منزل والديها. كان المنزل مكتبة ضخمة تحوي كتباً في غالب الفروع ويمتلئ بكتب الماركسية وما يتعلق بها وكانت والدتها مغرمة بالأدب الروسي جمعت العديد منه. ظل الجميع يتعثر بالكتب والمجلدات المنتشرة في كل انحاء البيت وفي كل ركن من أركانه. حينما فتحت عينيها الواسعتين وقع نظرها على الكتب فحبت نحوها، وحينما فكت الخط أخذت تلتهمها التهاماً. رحلت الى فرنسا تنشد مزيدا من العلم وتضيف اليه، ثم عادت الى سورية فلم يهدأ قلقها. أرادت أن تذهب الى نهاية الأرض علها تجد مقراً ومستقراً، الاّ انها لم تعرف الى أين.
تقول عيسي وقد وافيت مبتهلاً وبانت ذرى الاعلام في عدن
أمنتهى الأرض يا هذا تريد بنا فقلت كلا ولكن منتـهى اليمـن
لم ترغب إكرام في مجاراة عمر بن أبي ربيعة فلم تسحرها اليمن ولم ترد شد الرحال الى عدن. جاءت اكرام بالبيكار (البرجل). وضعت ساقاً في دمشق وفتحته الى أقصى حد فوصلت الساق الأخرى الى المكسيك، ساعتئذٍ قررت الرحيل الى منتهى الدنيا رغم كونها لا تعرف الاسبانية ولا تملك الا القليل من المال. هناك تعلمت لغة البلاد بسرعة فائقة ثم اتقنتها فأصبحت تؤلف بها وتدرس في الجامعات، بل أعدت رسائل دكتوراه أخرى بها في الفلسفة والعلوم والفيزياء وعلم الفلك. نشرت تسعة وعشرين كتاباً جلها بالإسبانية وبعضها بالفرنسية وديوان شعر واحد باللغة العربية بعنوان "مغامرات حنا المعافى حتى موته". لجأت في نظمه الى الشعر المرسل، لكنها لم تسلك دروب جماعة مجلة شعر في ذلك النظم. ربما أقربهم اليها ابن الكفرون فؤاد رفقة الذي هجر المجلة والجماعة باكراَ وتفرغ الى ترجمة الشعر والشعراء الألمان. ألحقت ديوانها ذاك بديوان شعر بالإسبانية بعنوان "مغامرات حنا في التاريخ" و "قصيدة اليهود والعرب" وديوانين آخرين بالإسبانية أيضاً، كما كتبت القصة والرواية وتأملات في شؤون عددا وكتاب بعنوان "آخر الأنبياء هم أبناء الانترنت". أما الدراسات فقد شملت البيئة والاثنولوجيا. حصلت على جائزة الدولة "ماجدة دوناتو"، وهي أعلى جائزة أدبية تمنحها المكسيك، عن كتابها "في ثقافة العرب"، دراسة موسوعية لم تُكتب مثلها باللغة الاسبانية وربما بلغات أخرى. كرمتها المكسيك مرة أخرى حينما حازت على جائزة السنة عن كتابها "الثقافة الثالثة: حول جذورنا العربية الإسلامية". كان أهل المكسيك يعّرفون ثقافتهم وارثهم الحضاري بمزيج من ثقافة السكان الأصليين والثقافة الاسبانية حتى جاءت إكرام لتسلط الضوء في دراستها الثقافية تلك على ما نسوه أو تناسوه من ذلك المزيج وهو الجذور العربية الإسلامية التي شكلّت مع الثقافتين الاصلية والاسبانية الوجه الحضاري للمكسيك، فنالت الجائزة اعترافاً منهم بصحة ما سبقت اليه. قالت: "الحديث لا ينقطع عن التأثير الاسباني المكسيكي، فيكاد لا يًذكر شيء عن الجذور الإسلامية العربية التي هي في الواقع أصل هذا التأثير."
إلى جانب كل ذلك يظل كتابها "روح قرطبة" فتحاً جديداً رائعاً وعلامة بارزة في نتاجها الثري العميق المتنوع. روح قرطبة هي رواية بطلاها الفيلسوفان الاندلسيان ابن رشد وموسى بن ميمون اللذان عاشا في القرن الثاني عشر الميلادي؛ لكنها أبت الا أن تضم اليهما امرأة في هذا الحوار فأتت بشخصية عاشت في نهاية القرن الرابع الميلادي وبداية القرن الخامس جاءت هيباثيا، آخر أستاذة المدرسة الافلاطونية في مكتبة الإسكندرية، لتنضم الى الفيلسوفين الاندلسيين وتدلي بقولها في هذا الحوار. لقيت هيباثيا ومكتبة الإسكندرية مصيراً تراجيديّاً يمثل المأساة التي ظلت تتكرر على مدى العصور. هجم عليها الرعاع في العام 415م، قتلوها وحرقوا جسدا ثم أجهزوا على المكتبة وحرقوا الكتب. كانت تلك أولى ليالي الكريستال! تغلبت قوى الظلام على أنوار المعارف الى حين. في السودان تكرر ذلك حين هجم الرعاع والرجرجة والدهماء وأساطين الجهل فأعدم الأستاذ عبد الخالق محجوب، المستنير الذي طوّع نصوص الماركسية اللينينية وبسطها على الواقع السودان وبسّطها فأشاع الوعي بين الجماهير العريضة والشغيلة والمزارعين وحتى الصفوة؛ كما أعدم الأستاذ محمود محمد طه الذي بشر برؤية جديدة لتعاليم الإسلام تتفق مع ما أُنزل وتتوافق مع حكمة النزول، مثلما رسم طريقاً لتطبيق هذه التعاليم بعد نفض الغبار الكثيف الذي تراكم فوقها على مر العصور. هل تسود روح قرطبة بعد كل هذا الهرج الذي نشهده اليوم؟
لم تكتف إكرام بالكلمة المكتوبة المطبوعة والمحاضرات في الجامعات والمعاهد بل قدّمت برنامجاً تلفزيونيا لخمس سنوات (1996 – 2000) تحت عنوان "مائدة أفلاطون" فكان مأدبة تحفل بكل صنوف العلم والادب والشأن العام فلسفياً. كانت لوحدها في هذا البرنامج تتحدث فيه عفو الخاطر عن شؤون وشجون بطلاقة ولغة سلسة جميلة. تحلق المكسيكيون وسكان البلاد من جنسيات أخرى، من العامة والخاصة، النخبة والساسة وأهل العلم والأدب والفن والثقافة وعامة الناس حول أجهزة التلفزة ساعة اذاعة البرنامج وتابعوه بشغف. لم تشأ أن يظل البرنامج حبيس الأشرطة بعد أن عطّر الهواء فجمعته في اثني عشر مجلداً متاحاً لمن فاتته المشاهدة ساعة تقديمة. كذلك لم ترد أن ينقطع عطاؤها بعد رحيلها في العام 2000 فنُشر كتابها الأخير "عند منعطف الألفية" وأغمضت عينيها. لم يتسن لها أن تستريح في منزل ابتاعته على مشارف دمشق التي لم تفارقها قط. أرادت أن تعود الى الفيحاء وتقضي بقية حياتها هناك علها تجد الراحة التي فقدتها طيلة حياتها وربما تعطي شيئاً آخر ثرياً كما أعطت في المكسيك. لم تكن تريد أن يكون آخر ما ألفته في سورية ديوان شعرها الوحيد الذي نظمته باللغة العربية. في مقابلة مطولة لخصت بداية المشوار ونهايته بقولها: "كنا نريد كل شيء، ونحاسب العالم كله، كنا حكاماً على العالم كله، وعلى الناس، وعلى الأفكار. كنا نريد أن نصحح كل شيء". اختارتها رئاسة الجمهورية المتحدة المكسيكية مستشاراً للشؤون العربية والإسلامية فأمضت سبع سنوات تخلِص النصيحة والتوجيه للرئيس والرئاسة.
حينما أحس بالفراغ، أطفئ جهاز التلفزة وأغلق الهاتف الجوال وأدع الكتاب جانباً مفتوحاً على آخر صفحة كنت أطالعها، وأذهب الى "معابر" التي أسسها أخوها الأكبر المهندس أكرم أنطاكي. معابر واحة في صحراء جرداء قاحلة على مد البصر. معابر غنية بكل ما يخطر على بال أحدنا من ثمرات العلم والادب والفنون والفلسفة وغيرها في مختلف المجالات تقطف منها ما تشاء لتغسل ما علق بالنفس من صدأ وكآبة وتملأ الفراغ.
(1) Charles Glass: Tribes with Flags, a Curtailed Journey. لم يستطع قلاس اكمال مشواره من الإسكندرون الى العقبة، ففي بيروت اختطفته مجموعة مسلحة مع عادل عسيران، نجل رئيس البرلمان الأسبق، علي عسيران، حينما كانا سوياً. أُطلق سراح عادل عسيران بعد ثلاثة أيام. بقي قلاس في الاسر لشهرين ونيف قبل إطلاق سراحه. ناشدت المرجع الشيعي الراحل محمد حسين فضل الله، في مقال نشرته في جريدة السفير اللبنانية العمل على إطلاق سراحه. قلت له ان قلاس أميركي من طراز آخر وليس جاسوساً، بل هو عربي الهوى والعمل وعددت امثلة على ذلك. لم يمض أسبوع على ذلك المقال الا وأطلق سراحه. تسلمته القوات السورية العاملة ضمن قوات الردع العربية ونقلته الى دمشق. استقبلته مع آخرين في وزارة الخارجية السورية والتقينا في المؤتمر الصحافي الذي عقده في السفارة الأميركية ثم بعد ذلك. قطع قلاس رحلته ولم يعد الى لبنان أبداً حتى الساعة، لكنه ألف كتابه.
(2) Enemy in the Promised Land by Sana Hasan.
(3) تُرجم الكتاب وطبعته دار نشر جامعة نيويورك تحت عنوان: Murder, Mayhem, Pillage and Plunder: The History of the Lebanon in the 18th and 19th Centuries by Mikhail Mishaqa.
elsouri1@yahoo.com