العفو أو الإفلات من العقاب؟ نقد أولي لتقرير لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا (1-5)

 


 

 

توطئة:
جاءت تجربة لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب افريقيا في سعى اهلها لتجاوز الجريمة الكبيرة التي عانوها تحت نير نظام الفصل العنصري. وهي تجربة خصت جنوب افريقيا ليس فقط لخصوصية جرائم الدولة العنصرية، وانما كذلك للملامح والمحتوى التي انتجتها تجربة لجنة الحقيقة والمصالحة.
تحتكر قضية العدالة الانتقالية المركز الرئيسي في مسعى التحول الديمقراطي الذي رنا إليه العقل السياسي للسودانيين منذ صباح الاستقلال، ولا زال. وهو التحول الديمقراطي الحقيقي تطرحه ثورة ديسمبر2018 -وهي المجيدة- في سؤال المصير، وتجاوب عليه. والعدالة الانتقالية سؤال قديم، نسبيا، انتجت المواثيق الدولية إجابة واضحة عليه. فعلت ذلك الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي. وكانت تلك الوثائق مدخلا لتجارب متعددة للعدالة الانتقالية في مناطق مختلفة من العالم.
* فما هي العدالة الانتقالية؟
تشير العدالة الانتقالية إلى مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية التي قامت بتطبيقها دول مختلفة من أجل معالجة ما ورثته من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وتتضمّن هذه التدابير الملاحقات القضائية، ولجان الحقيقة، وبرامج جبر الضرر وأشكال متنوّعة من إصلاح المؤسسات. وليست العدالة الانتقالية نوعًا «خاصًّا» من العدالة، إنّما مقاربة لتحقيق العدالة في فترات الانتقال من النزاع و/أو القمع المجرم للدولة. وتهدف الى تحقيق المحاسبة والتعويض عن الضحايا، تقدّم العدالة الانتقالية اعترافاً بحقوق الضحايا وتشجّع الثقة المدنية، وتقوّي سيادة القانون والديمقراطية.
وللعدالة الانتقالية موضوع وحيد هو إحرام الدولة: الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها الدولة بأي من مؤسساتها، جريمة الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والانتهاكات الجسيمة التي يعرفها القانون الدولي لحقوق الإنسان، الانتهاكات الخطيرة يعرفها القانون الإنساني الدولي الخاص( وتشمل جرائم الحروب، التصفية، القتل العمد، والاغتصاب الجنسي، التعذيب ، الحرمان الشديد من الحرية والإخفاء القسري)، والجرائم البالغة الخطورة ( مثل الجرائم التي تستهدف الاطفال في ظروف النزاعات المسلحة).
* وهي ليست بديلا للعدالة الجنائية، كما إنها لا تشكل نوعا خاصا من العدالة، تخص بلدا محددا دون البلاد الأخرى، وفى حالتنا هي غير مرتبطة بالاتفاق الإطاري.
* موضوع العدالة الانتقالية هو إحرام الدولة، ترتكبه في جزء من سياستها، يتم تنفيذها باستهداف منهجي واسع النطاق، ضد السكان المدنيين ترتكبه كل أو أحد من أجهزة الدولة او بعض المكونات المرتبطة بها.
* تبدأ العدالة الانتقالية (1) بتحديد بالوضعية، أي تسمية الجريمة/الجرائم والتي كانت تنفيذا لسياسة محددة. ينطبق هذا على وضعية دار فور، وضعية النيل الأزرق، وضعية مذبحة الخرطوم-القيادة والمذابح الأخرى. إلى جانب تعتبر الوضعية تعويق العدالة، ومنع التحقيق والتغطية على الجريمة والتستر على الجناة والعدوان على الجثامين، كلها تندرج ضمن عملية تحديد الوضعية.
(2) يلي تحديد الوضعية، تحديد المسئولية الجنائية، مسئولية من قام بارتكاب الجريمة، من قاموا بإعاقة التحقيق فيها وغطوا على الجرائم ضد الإنسانية (أشخاص، مؤسسات الدولة (قوات نظامية، وزارة. قبيلة/قبائل، جنجويد ...الخ. هناك تعريف معلن عنهم في تصريح كباشي المشهور).
(3) ثم تأتي استحقاقات الضحايا: ويتم التعبير عنها في: ا – ملاحقة جنائية للمتورطين (ب) الحقيقة (ج)وجبر الضرر كحقوق مستقلة. وجبر الضرر يتكون مما هو أوسع من التعويضات (فيه الاعتذار ورد الاعتبار والكرامة.. الخ). (د)ضمان عدم تكرار الجرائم ويشمل عدد من الإجراءات مثل الطرد من الخدمة، العزل السياسي، والإصلاحات القانونية والسياسية ...الخ.
القوانين المرتبطة بالوضعية او المعايير القانونية تشمل (أ) القانون الوطني: المادة 186 تعرف الجرائم ضد الإنسانية كما هي في القانون الدولي محددة بواسطة الامم المتحدة. وهو وضع قانوني يمكن من إنجار العدالة الجنائية... ينبهنا د. عشاري احمد محمود أن العملية السياسية الجارية الان في السودان، واتفاقها الإطاري وفرت ضمان الحصانة الإجرائية، ويقول هذه هو الإفلات من العقاب، وهو إفلات تمنعه العدالة الانتقالية، وتوفر عدالة تكون عملية نزيهة إذا أخذت من مصادرها المعروفة. تزويرها يجعل منها عملية غير نزيهة، يقودها الاحتيال عليها وعلى نصوصها. الملاحقة الحقيقة جبر الضرر وعدم تكرارها هي عملية تكاملية يجب تتوفر جميعها، لا تنقص بدفع النموذج السودان، لا يوجد نموذج في مكوناتها الأربعة فهي ملزمة داخل كل واحدة ممكن يختار طريقة تناسب أي ظروف، كنها لا تلغى او تستبدل.
يتحدث د. عشاري وقد استفدت من شروحه الثمينة) عن العفو المشروط، يقول إن هذه المكونات الأربعة هي نفسها مكونات العفو المشروط: تتم المحاكمة وإذا تمت إدانة، يخفف الحكم من الإعدام والسجن المؤبد مدى الحياة إلى أحكام اقل. وتستمر تنفيذ الأحكام الأخرى كمصادرة الأموال والأصول لصالح صندوق تعويضات الضحايا، كشف الحقائق، العزل السياسي والعمل العام.
* مذبحة القيادة هي المدخل لكل الجرائم الأخرى، ومحاكمة المجرمين هي مدخل تحقيق العدالة، والمضي في تأسيس بنية ديمقراطية تستطيع البقاء والاستمرار. وهي كجريمة ضد الإنسانية تشبه إلى حد ما (يقبل النقاش) تجربة جريمة الفصل العنصري، وهي الجريمة التي تناولتها لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب افريقيا في ممارسة مشوهة ومنحرفة للعدالة الانتقالية. وورقة محمود ممدانى ناقشت تلك السمات للتجربة في كتابة نقدية شاملة، تفيدنا في لجم الحماس الحقيقي او المفتعل لتك التجربة، وهو الذي دعي لاتخاذها نموذجا في بعض قول المنادين. تقول لهم ورقة ممداني مهلا، فاستمرار المناداة باتخاذها مثلا، يوقع دوافعكم في بحر الشكوك.
*****
ترجمة المقال:
تفاوض سياسي هو ما أنتج لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا، حدد شروطها ورسم حدود عملها. وحدد كذلك الحيز المتاح للجنة، تتحرك فيه لتفسير اختصاصاتها ومرجعياتها، ولتحديد جدول أعمالها. تأخذ هذه الورقة التشريع المشترك الذي أنشأ لجنة الحقيقة والمصالحة كمعطى تاريخي معين، وتركز الاهتمام على تفسير مرجعيتها وحدود اختصاصاتها.

زعمت لجنة الحقيقة والمصالحة أنها مختلفة عن سابقاتها، سواء في أوروبا اللاتينية أو الشرقية. فهي لن تمارس الإفلات من العقاب ولا الانتقام. وكان العزم قائما على تجنب مزلقين: الأول، أن تصبح احتضانا قبيحا من الشر السياسي، والثاني، ألا يتسم السعي لتحقيق العدالة بالقسوة المتصلبة، فيتحول مطلب العدالة الى مجرد ممارسة للانتقام. للقيام بذلك، ذهبت اللجنة مصممة على مخاطبة كل من “الضحايا" و "الجناة" ، وليس واحدا فقط دون الآخر.

كُتِب هذا التحديد المزدوج لأول مرة في الدستور الانتقالي، الذي مهد الطريق للتشريع الذي تكونت بموجبه لجنة الحقيقة والمصالحة. في البدء، لن يكون هناك عفو شامل. بل سيكون مشروطا. ولن يكون عفوا جماعيا. يجب تحديد هوية كل جانٍ بشكل فردي، ويجب أن يتحمل ذنبه/الحقيقة، قبل الحصول على عفو من الملاحقة القانونية. ثانيا، أي ضحية يتم الإقرار بها كذلك، ستتخلى عن الحق في مقاضاة الجاني في المحكمة. وبالتالي، فإن تحقيق العدالة للضحية لن يكون جنائيا بل تصالحيا: فالإقرار سيتبعه جبر الضرر. باختصار، العفو الفردي عن الجاني، والحقيقة للمجتمع، والاعتراف بالضحية وتعويضها-كان هذا هو الميثاق المدمج في التشريع، الذي أنشأ لجنة الحقيقة والمصالحة.

وبما أن القانون لا يقدم تعريفا واضحا "للضحية"، فإن تعريف "الجاني" كذلك شمله غياب الوضوح. وقد تركت مهمة تعريف "الضحية" و "الجاني" للجنة، وهو القرار الذي حاز على الأهمية الكبرى، وهو الذي يحدد نطاق عمل اللجنة وعمقه. فبدون اعتراف شامل بضحايا الفصل العنصري، لن يكون هناك سوى تحديد محدود للجناة، وفهم جزئي فقط للنظام القانوني الذي جعل من "الجريمة ضد الإنسانية” أمرا ممكنا. من هذا المنظور، ومن هذا المنطلق تحدد الورقة ثلاثة من أوجه القصور الرئيسية في تقرير لجنة الحقيقة والمصالحة.

أولا، عاملت لجنة الحقيقة والمصالحة ضحايا الفصل العنصري كأفراد. على الرغم من أنها اعترفت بالفصل العنصري باعتباره "جريمة ضد الإنسانية"، والتي استهدفت مجتمعات بأكملها بالتطهير العرقي والاستهداف العرقي من قبل البوليس، إلا أن غالبية اللجنة كانت مترددة في المضي قدما إلى أكثر مما يتجاوز الاعتراف الرسمي. اختزل الموقف التحليلي للجنة الفصل العنصري من علاقة بين الدولة ومجتمعات بأكملها، إلى علاقة بين الدولة والأفراد. وفي الحالات التي تقع فيها مجتمعات بأكملها ضحية لانتهاكات جسيمة للحقوق، لا تعترف اللجنة إلا بالضحايا الأفراد. إذا كانت" الجريمة ضد الإنسانية " تنطوي على استهداف مجتمعات بأكملها بالتطهير العرقي والإثني والعنف العنصري من الشرطة، فإن إضفاء الطابع الفردي على الضحية، يعمل على طمس هذا الاستهداف بالذات- وهو الذي - قد يجادل الكثيرون- مثًل سمة مركزية للفصل العنصري. اقتصر تعريف الضرر والإنصاف على الأفراد الناشطين السياسيين، الذين اعتبروا كضحايا للفصل العنصري، كما حدث بالفعل في جلسات الاستماع للضحايا. فكانت النتيجة تضييق منظور لجنة الحقيقة والمصالحة إلى مصالحة سياسية بين وكلاء الدولة والناشطين السياسيين، أفرادٌ من النخبة السياسية المتشظية، بدلا من" الوحدة الوطنية والمصالحة " التي يفرضها واستهدفها التشريع الذي أنشأها. ولمتابعة تفويضها الفعلي، تحتاج لجنة الحقيقة والمصالحة إلى توسيع منظورها: فالعمل من أجل تحقيق مصالحة اجتماعية بين الجناة والضحايا، يتطلب معالجة العلاقة بين الدولة وشعب جنوب أفريقيا بأسره.

ثانيا، من خلال التركيز على الأفراد وحجب عمليات تحويل المجتمعات إلى ضحية، لم تتمكن لجنة الحقيقة والمصالحة من تسليط الضوء على الطبيعة المتشعبة للفصل العنصري، كشكل من أشكال السلطة، التي تحكم السكان الأصليين بشكل مختلف عن غيرهم من سكان جنوب أفريقيا. إذا كانت دولة الفصل العنصري تتحدث لغة الحقوق للسكان البيض، فإنها تصنف السكان الأصليين إلى مجموعات قبلية-كل منها تدار بموجب مجموعة منفصلة من القوانين-باسم إنفاذ العرف والعادات والتقاليد. كانت الحقوق والعادات لغتين مختلفتين ومتناقضتين: الأولى ادعت أنها تحصر وتقيد السلطة، والأخيرة تمكنها. وفي حين ادًعت الأولى أنها سيادة القانون، ادعت الأخيرة شرعية العرف والتقاليد. وهنا يكمن فشل لجنة الحقيقة والمصالحة في التركيز حصريا على النظام" المدني "، وتجاهل النظام" العرفي " تماما. لا عجب إذن، أنها فشلت حتى في التوصية بإصلاحات من شأنها أن تضع نظاما وحدويا واحدا-نظام حكم القانون، الذي يفهم على أنه مساواة رسمية أمام القانون-لجميع مواطني جنوب إفريقيا في مرحلة ما بعد الفصل العنصري.

وأخيرا، وسًعت لجنة الحقيقة والمصالحة نطاق الإفلات من العقاب، ليشمل معظم جناة الفصل العنصري. ففي غياب الاعتراف الكامل من قبل ضحايا الفصل العنصري، لا يمكن أن يكون هناك تحديد كامل لمرتكبي جرائم الفصل العنصري. وبالقدر الذي لم تعترف لجنة الحقيقة والمصالحة بالحقيقة الكاملة، فإن العفو المقصود أن يكون فرديا، تحول إلى عفو جماعي. فبالنسبة لأي جانٍ لم يتم التعرف عليه، أصبح جانيا يتمتع بكامل الحصانة.

المقال منظم في أربعة أجزاء. ويتناول الجزءان 1 و2 استنتاجات اللجنة، والتعاريف التي مهدت الطريق لهذه الاستنتاجات. ويقدم الجزءان الأخيران قراءة بديلة لتقرير اللجنة، ويقترحان خطوطا كان من الممكن إعادة كتابة التقرير على أساسها، إذا حددت لجنة الحقيقة والمصالحة شروطها بما يتفق مع الاعتراف بأن الفصل العنصري، كان بالفعل "جريمة ضد الإنسانية. "وتجادل الخلاصة بأن طريقة تحليل اللجنة- أدت إلى لا تاريخية المعالجة، وجرًدت العمليات الاجتماعية من محتواها، وفي نفس الوقت قدمت النتائج في أشكال فردية، مما أدي ألي خلق نقطة التقاء لوجهتي نظر ومشروعين مختلفين جذريا: المنظور الديني السائد في لجنة الحقيقة والمصالحة، والمنظور العلماني لمجتمع حقوق الإنسان في وجوده الدولي.

1
النتائج:
عندما أصدرت لجنة الحقيقة والمصالحة تقريرها في عام 1998، انتقده بشدة قادة الأحزاب الرئيسية المشاركة في الميثاق الدستوري-الحزب الوطني وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي. وقد اعتبرت لجنة الحقيقة والمصالحة أن النقد من قبل الخصوم السياسيين السابقين كان دليلا كافيا على أن تقريرها لم يكن غير حزبي فحسب، بل كان كذلك غير سياسي. فلو كان لذلك النقد أن يعنى شيئا، يبدو انه يثًبت صحة عمل اللجنة، ويؤكد مصداقية تقريرها.
ما كان جديرا بإثارة للاهتمام، أكثر من الانتقادات من الأحزاب السياسية، صمتهم المشترك. لم يكن الأمر أن نقد لجنة الحقيقة والمصالحة ركز على النتائج التي كشفت تورط الأحزاب الرئيسية وقادتها في انتهاكات حقوق الإنسان؛ فهذه النتائج نفسها أعادت أيضا كتابة قصة الفصل العنصري بطريقة أساسية إلى حد ما، وهي حقيقة ظلت الأحزاب نفسها صامتة عنها بشكل يثير الفضول. هذه الحقيقة الأكبر لم تصبح أبدا موضوع نقاش عام. واسمحوا لي أن أنتقل إلى بعض النتائج الواردة في تقرير اللجنة لتوضيح وجهة نظري.

إحدى النتائج الكبيرة التي توصلت لها اللجنة، هي تلك التي أدت إلى انقسام معلن في اللجنة، وظهرت كوجهة نظر أقلية في التقرير، وهي أن الفصل العنصري كان في الواقع "جريمة ضد الإنسانية" [لجنة الحقيقة والمصالحة 1: 70-71,? 78]. في الوقت نفسه، اعترفت اللجنة بأكثر من 20 ألف "ضحية" للفصل العنصري، وأوصت بتعويضهم [لجنة الحقيقة والمصالحة المجلد. 5, الفصل. 2]. هل يمكن "لجريمة ضد الإنسانية" التي تنطوي على التطهير العرقي والإثني للجزء الأكبر من سكانها، أن يكون لديها فقط 20 ألف من الضحايا؟

من هم ضحايا الفصل العنصري؟ ومن هم الجناة؟ وقد كانت إجابة اللجنة موجودة في التقرير، وهي الإجابة التي تم التوصل إليها من خلال تحليل إحصائي لضحايا ومرتكبي هذه "الجريمة ضد الإنسانية". وهو تحليل يسلط الضوء على اثنين من الاستنتاجات ذات الصلة. الأول يستتبع لمحة تاريخية عن تفويض اللجنة، والتي بدأت بحظر الأحزاب بعد مذبحة شاربفيل في عام 1960، وانتهت بأول انتخابات ديمقراطية في عام 1994. قام طاقم البحث في اللجنة بتجميع قائمة بالانتهاكات، ثم قسمها إلى أربع فترات:
من عام 1960 (شاربفيل) إلى عام 1976 (انتفاضة سويتو)،
من عام 1976 إلى عام 1983 (بداية حالة الطوارئ)،
من عام 1983 إلى عام 1990 (إلغاء حظر الأحزاب السياسية)،
ومن عام 1990 إلى عام 1994 (أول انتخابات ديمقراطية).
هذه هي الطريقة التي اختتمت بها اللجنة تحليلها الإحصائي للانتهاكات: "يوضح الرسم البياني أدناه أن معظم الانتهاكات التي أبلغ عنها المسؤولون حدثت في الفترة التي أعقبت إلغاء حظر الأحزاب السياسية (1990-1994)، تليها عن كثب السنوات التي استمر فيها سريان حالات الطوارئ سارية (1983-1989)" [لجنة الحقيقة والمصالحة 1: 172، 925] (ملحوظة: الرسم ألبياني غير متوفر في النص الأصلي الذي توفر لي-المترجم). يقال إن ما يقرب من نصف جميع الانتهاكات التي سجلتها اللجنة، حدثت خلال فترة الانتقال من الفصل العنصري، و35 ٪ أخرى في ذروة النضال الشعبي ضد الفصل العنصري، إلى جانب سنوات حكم الطوارئ في المدن الصغيرة. وعلى العكس من ذلك، يقال إن 15 ٪ فقط من الانتهاكات ارتكبت في ذروة الفصل العنصري. إذا تم تصديق هذه الإحصائيات، فإن "الجريمة ضد الإنسانية" لم تحدث عندما تم تنفيذ التصميم الكبير للفصل العنصري، ولكن عندما تم الطعن فيه. فلو كان ذلك صحيحا، ألا يكون من المنطقي أن نتحدث عن الفصل العنصري، كما وعندما تنفذ، بأنه "جريمة ضد الإنسانية"؟

يتعلق الاستنتاج الثاني بعمليات القتل. يحدد التقرير منظمات الأشخاص الذين قتلوا على أنها "منظمات ضحايا"، ومنظمات الجناة على أنها "منظمات جناة." تضع قائمة" منظمات الضحايا " المؤتمر الوطني الأفريقي على رأس الضحايا، يليه حزب أنكاتا للحرية، وتحتل شرطة جنوب إفريقيا المرتبة السابعة، تليها منظمة الشعوب الآزانية (أزابو) [لجنة الحقيقة والمصالحة 3: 7، الجدول د2 أ-1-1]. وقد قيل إن حزب انكاتا للحرية هو "منظمة الجناة " الأساسية: "عدد الانتهاكات التي يزعم أنه ارتكبها تهيمن على الرسم البياني، مع بوليس جنوب أفريقيا (ساب) وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي يظهران كمرتكبي ثاني وثالث أكبر عدد من الانتهاكات المزعومة" [لجنة الحقيقة والمصالحة 3: 3,؟33]. يسرد الرسم البياني المصاحب قوات الدفاع الجنوب أفريقية (سادف) باعتبارها رابع "منظمة جناة"، تأتي خلف حزب التحرير الدولي، وساب، وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي. ثم يوضح التقرير السياق الذي برز فيه حزب الاتحاد الدولي في المقدمة -وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي في المركز الثالث - "كمنظمة جناة"، حيث يقول: "تشير غالبية التقارير عن انتهاكات حقوق الإنسان في إقليمي [ناتال وكوازولو] إلى الصراع بين مؤيدي حزب انكاتا للحرية، والمؤيدين المتحالفين مع حزب المؤتمر الوطني الأفريقي من الجبهة الديمقراطية المتحدة" [3: 162]

ذات مرة في محادثة خاصة قال لي أحد الباحثين البارزين في اللجنة: "لم أصدق أن معظم مرتكبي الفصل العنصري كانوا من السود." والملاحظة تثير سؤالا لم تطرحه اللجنة أبدا. إن كان الضحايا وكذلك معظم الجناة، من السود، فهل كانت هذه "الجريمة ضد الإنسانية" في المقام الأول قضية "أسود ضد أسود"، التي كان مرتكباها الرئيسيان هو حزب انكاتا، وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذي يحتل موقع المركز الثالث؟ هل كان المدافعون عن الفصل العنصري على حق في الادعاء، بأن ممارسة نظامهم كانت تدخلا ضروريا للجم العنف "الأسود على الأسود"، أو هل كان العنف الناتج من قبل النظام هو ما يسمى الفصل العنصري؟ أظن أن اللجنة لم تطرح السؤال أبدا، لأنها لم تكن في وضع يمكنها من الإجابة.

أزعم في هذه المقالة، أن استنتاجات اللجنة جاءت من الطريقة التي حددت بها تفويضها، خاصة من الكيفية التي انتجت تعريفها "للضحية" و " للجاني”. وهذه التعريفات لا تتعارض مع اعتراف اللجنة نفسها بأن الفصل العنصري "جريمة ضد الإنسانية “فحسب؛ بل إنها سمحت للجنة بتجنب الاعتراف بالأدلة على هذه الجريمة ذاتها-ليس لأن هذه الأدلة لم تكن متاحة ، ولكن لأن اللجنة لم تكن قادرة أو غير راغبة في التأكيد على معنى الأدلة التي جمعها موظفو البحوث التابعون لها والتي وجدوها في تقريرها. كان التحقق من صحة هذه الأدلة يتطلب فهم الفصل العنصري كشكل من أشكال الدولة، وهي سلطة منظمة لم يكن "ضحاياها" أفرادا بل مجموعات تم تصنيفها وأدارتها بذات السلطة.

2
مسألة تعريف
يقر تقرير اللجنة بمناقشتين رئيسيتين تتعلقان بتفسير اختصاصات اللجنة. واحتدمت المناقشتان داخل اللجنة وخارجها. ركزت المناقشة الأولى على فهم "الانتهاكات الجسيمة"، بينما ركزت الثانية على معنى "سوء المعاملة الشديدة".

الانتهاكات الجسيمة
ويشير الفصل الافتتاحي من المجلد الأخير من تقرير اللجنة، المؤلف من خمس مجلدات، إلى أنه" كان هناك توقع بأن تحقق اللجنة في العديد من انتهاكات حقوق الإنسان التي نتجت، على سبيل المثال، عن الحرمان من حرية التنقل من خلال قوانين المرور، وعن طريق الترحيل القسري للشعوب من أراضيها، وعن طريق حرمان المواطنين من حق عمل منشآت اقتصادية و/أو تجارية خاصة، وعن طريق معاملة عمال المزارع طرق حل المنازعات العمالية الأخرى، وعن طريق التمييز في مجالات مثل التعليم وفرص العمل. ضغطت العديد من المنظمات على اللجنة للإصرار على أن هذه القضايا يجب أن تشكل جزءا من تحقيقاتها. ورأى أعضاء اللجنة أيضا أن هذه مجالات هامة لا يمكن تجاهلها. بالرغم من انه لا يمكن تفسيرها على أنها تقع مباشرة ضمن تفويض اللجنة" [لجنة الحقيقة والمصالحة 5: 11، 148].

ولقد كانت الحجة التي سادت وجهة نظر اللجنة، موضحة في فصل" التفويض " من التقرير، ومرتكزة في المادة 1 (1) (تاسعا) من القانون الذي أنشأت بموجبه لجنة الحقيقة والمصالحة:
... "الانتهاك الجسيم لحقوق الإنسان" يعني انتهاك حقوق الإنسان من خلال - (أ) القتل،
الاختطاف أو التعذيب أو المعاملة شديدة القسوة لأي شخص; أو (ب) أي محاولة أو
مؤامرة أو تحريض أو دفع أو أمر أو دفع المال لارتكاب أي من الأفعال مشار إليها في
الفقرة (أ) ناجمة عن النزاعات التي تمت في الماضي التي ارتكبت خلال الفترة 1 مارس
1960 إلى مايو 1994، داخل أو خارج الجمهورية، وقد تم تحديد ارتكابها أو التخطيط لها
أو توجيهها أو قيادتها أو الأمر بها، من قبل أي شخص يتصرف بمقتضى دوافع سياسية
(المادة 1 (1) (تاسعا)). [لجنة الحقيقة والمصالحة 1: 60، 42، التركيز منى]

تحتوي الفقرة على ثلاثة قيود، والتي أكدتُ عليها في الاقتباس أعلاه. الأول والأكثر وضوحا هو الحد الزمني: فهو يحد من تفويض اللجنة في التحقيق في "الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان" خلال الفترة من 1 مارس 1960 حتى 10 مايو 1994. الاثنان التاليان هما قيود النطاق: أن هذه الانتهاكات "انبثقت من صراعات الماضي"، وأنها ارتكبت " بدوافع سياسية." كان القيد الزماني واضحا لا لبس فيه. لكن القيود في النطاق لم تكن كذلك: كان على اللجنة أن تقوم بتفسيرها.
وتمت مناقشة مسألة التعريفات في فصلين من التقرير المؤلف من خمسة مجلدات: الفصل الرابع في المجلد الأول، بشأن "التفويض"، والفصل الأول من المجلد الأخير، بشأن "تحليل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان" ،. يقر التقرير بأنه قد تم تعريف نطاق تحقيق اللجنة بشكل لفه الغموض لدرجة أنه تطلب تفسيرا: "قبل التوصل إلى النتائج، كان الوضوح مطلوبا فيما يخص التعريفات والمعايير "[لجنة الحقيقة والمصالحة 5: 10-11، 46-47]

صراعات الماضي. ميزت غالبية اللجنة "صراعات الماضي "عن" سياسات الفصل العنصري. ومضت قائلة إن "صراعات الماضي" استبعدت "سياسات الفصل العنصري"، مما أدى إلى تحقيق قناعاتها بأن تفويض اللجنة يتضمن الانتهاكات الناشئة عن" صراعات الماضي "، ولكن ليس "سياسات الفصل العنصري". على حد تعبير التقرير:" قصرَ هذا التعريف اهتمام اللجنة على الأحداث التي انبثقت عن صراعات الماضي، بدلا عن سياسات الفصل العنصري" [لجنة الحقيقة والمصالحة 5: 11، 148].
ولكن، لا يوجد في أي مكان في قانون إنشاء اللجنة ما قابل أو ميًزَ أو فصلَ "صراعات الماضي "عن" سياسات الفصل العنصري. "المادة 3(1) ، التي تحدد" أهداف اللجنة "، تطلبت من اللجنة أن تضع " صورة كاملة قدر الإمكان، لأسباب وطبيعة ومدى الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتكبت خلال الفترة من 1 مارس 1960 إلى الموعد المحدد ، بما في ذلك السوابق والظروف والعوامل وسياقات هذه الانتهاكات ... " وقد تطلبَ القسمُ الذي تبع ذلك من اللجنة" تسهيل ، وعند الضرورة، بدء أو تنسيق التحقيقات في - (ا) الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ، بما في ذلك الانتهاكات التي تشكل جزءا من نمط منهجي منظم من سوء المعاملة ... ."[لجنة الحقيقة والمصالحة 1: 55-56]

وعلى الرغم من التأكيد على وضع "صورة كاملة قدر الإمكان" وإبراز "نمط منهجي من الانتهاكات"، فقد ميزت اللجنة بين نوعين من الانتهاكات، هما الانتهاكات الناشئة عن "سياسات الفصل العنصري" والانتهاكات الناجمة عن "نزاعات الماضي"، وضعت الأول في سياقه، واعترفت فقط بالأخير كانتهاكات تستحق جبر الضرر. وكانت النتيجة تضييق نطاق جلسات الاستماع التي تعقدها اللجنة بشكل فوق عادي، بحيث اقتصرت المرحلة الأولى من جلسات الاستماع على ضحايا أفراد. عندما طفح الاستياء، وعدم الرضا من هذا التفسير الضيق والمحدود، وفجر الانتقادات داخل اللجنة وخارجها، ردت لجنة الحقيقة والمصالحة بسلسلة من جلسات الاستماع المؤسسية. وبدلا من توسيع تعريف الضحايا من أفراد إلى مجموعات، محددين ومستهدفين بشكل مؤسسي، قيل إن جلسات الاستماع المؤسسية تلك استخدمت كخلفية، فقط لتوفر إطارا من شأنه أن يسلط الضوء بشكل أكبر على القصص الفردية المقدمة في جلسات الاستماع للضحايا. وبعبارة أخرى، قيل إن جلسات الاستماع المؤسسية تتعلق بالسياق بدلا من الصراع، والسياسات بدلا من الانتهاكات. وبالإشارة إلى جلسات الاستماع هذه، كتبت اللجنة: "وفرت هذه التقديمات مساهمة قيمة في الجزء من التقرير النهائي، الذي يتناول السياق الواسع الذي وقعت فيه الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بالرغم من أنه لا يمكن اعتبارها جلسات استماع للضحايا. لقد أعطوا عمقا للصورة الأكبر، لكنهم ما زالوا يستبعدون الأفراد من الاعتراف وتحديد أنفسهم كضحايا، ومن الوصول إلى التعويضات، وظل الكثير من الناس مظلومين " [لجنة الحقيقة والمصالحة 5: 11, 149]. بعد رسم خريطة لطبيعة الفصل العنصري في ثلاث صفحات بلغة بليغة ولكنها موجزة، رفضَ القسم الخاص "بتفويض اللجنة "من التقرير ذلك في جملة واحدة كخلفية لعمله الحقيقي:" إن هذا الطابع المنهجي والشامل للفصل العنصري هو الذي يوفر خلفية للتحقيق الحالي. "اُختزل الفصل العنصري إلى "سياق" أو "خلفية" للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وقد تمت إزالته فعليا من تقرير لجنة الحقيقة والمصالحة.

الدافع السياسي. كان المؤهل الثاني للاعتراف بالانتهاك، هو أنه يجب أن يقوم به شخص " يتصرف بدوافع سياسية”. لكي يتأهل الجاني للحصول على العفو، لا يتعين عليه فقط "الكشف الكامل عن الحقائق ذات الصلة" ولكن يتعين عليه أيضا إثبات أن الانتهاكات المعنية قد ارتكبت "بهدف سياسي" [لجنة الحقيقة والمصالحة 1: 57، 132(د)].

لتشرع آلية لجنة الحقيقة والمصالحة في أداء عملها، كان على الشخص تقديم شكوى تحدد بأنه تعرض " لانتهاك جسيم". وبناءً على ذلك تبدأ في عملية وصولها إلى نتيجة بشأن الشكوى. أحد أسباب الوصول إلى النتيجة السلبية هو أنه "يبدو أنه لا يوجد دافع سياسي" [5: 14، 962]. ولاستيفاء معيار اللجنة القاضي بإظهار الانتهاك على أنه نتيجة لدوافع سياسية ، يتعين أن يرتكب الانتهاك "أي عضو أو مؤيد لمنظمة سياسية أو حركة تحرير معروفة علنا، باسم تلك المنظمة أو الحركة أو دعما لها ، بدافع تعزيز نضال سياسي تشنه تلك المنظمة أو الحركة (المادة 20(2)(أ))" أو يتعين أن يرتكبه "أي موظف في الدولة (أو أي دولة سابقة) أو أي فرد من أفراد قوات الأمن في الدولة (أو أي دولة سابقة) أثناء أدائه لواجباته ، بهدف مواجهة أو مقاومة ذلك النضال المذكور (القسم 20 (2)(ب)) " [لجنة الحقيقة والمصالحة 1: 82-83,?123].
ما كان يتيح اعتبار الفعل سياسيا أم لا، هو اعتماده على إجابة تخص سؤالا أكبر: ما هو الفعل السياسي، وما هو الفعل القانوني؟ هل كان الفصل العنصري نفسه مشروعا سياسيا، أو مشروعا قانونيا؟ سنرى أن هذا السؤال كان محوريا في جلسات الاستماع القانونية: هل كان الفصل العنصري يمثل سيادة او حكم القانون، أم لا؟ ماذا يحدث عندما تلجأ الدولة إلى القانون لانتهاك الحقوق؟ خمسة من كبار القضاة في جلسات النظم القانونية، حثوا اللجنة على الاعتراف "بأن الفصل العنصري هو في حد ذاته انتهاك صارخ لحقوق الإنسان" [لجنة الحقيقة والمصالحة 4: 288، [18].

وفي حين خلصت جلسات الاستماع القانونية إلى أن الفصل العنصري ليس ممارسة في سيادة القانون، فإن جلسات الاستماع الخاصة بالضحايا استمرت على افتراض ضيق، بأن مشروع الفصل العنصري- وسياساته- ليس سياسيا. لو كانت اللجنة قد قبلت تماما نتائج جلسات الاستماع القانونية، لكانت قد حددت أجندة الفصل العنصري ذاتها – وليس فقط دفوعاتها -على أنها سياسية. لكن اللجنة لم تفعل ذلك. في الوقت نفسه، لم تتمكن جلسات الاستماع القانونية من تقديم أكثر من لمحة عن النظام القانوني المتشعب (متعدد الشُعب) المعروف باسم الفصل العنصري.
ولو كانت جلسات الاستماع للضحايا مدفوعة بالتفسير الأوسع، لكانت قد عالجت جميع الانتهاكات الجسيمة، التي عانى منها شعب جنوب أفريقيا في ظل نظام الفصل العنصري-ضمن الحدود الزمنية المحددة في التشريع. بيد أن اللجنة، من خلال تأييدها لذلك التفسير الضيق، لم تعترف إلا بالانتهاكات التي يتعرض لها النشطاء السياسيون أو وكلاء الدولة. وبالتالي تجاهلت الفصل العنصري كما عانت منه الجماهير العريضة من شعب جنوب أفريقيا.

isamabd.halim@gmail.com
//////////////////////////

 

آراء