اليوم الأسود .. رثاء البروف عبد السلام جريس

 


 

 

عندما يأتي إلي مسامعك خبر محزن لمن يهمك أمره أو حلول مصيبة كبري حولك أو لقريب أو لصديق يتوشح ذلك اليوم بالسواد وتليه أيام تلو أيام كالحات السواد يصعب الخروج منها بسهولة، وهكذا الإنسان يؤمن بالله وبالأقدار الماثلة أمامه كل يوم بل كل لحظة و بين غمضة عين وإنتباهتها لكنه لا يتقبلها عن رضا ولا يصل به اليقين إلي الرضا التام فالحزن من طبيعتة يطغي علي كل شعور حتي علي اليقين ولذلك فالحزن فيه الرخصة في البكاء والبكاء إنفعال باطني لا إرادي دافعه نوع من الألم وعدم التقبل لهول المصيبة والحدث. وعندما أصاب الله، رسوله عليه أفضل السلام، ما يصيب الناس من فراق الأهل والأحباب حين توفي إبنه إبراهيم ، بكي وقال (وإنا بفرقك يا إبراهيم لمحزونون).
في اليوم الثالث من شهر رمضان المعظم الموافق السبت 25 مارس 2023 وأنا في إجازة نهاية الأسبوع وفي منتصف ذلك اليوم الرمضاني الذي بدأ بطيئا من أوله و كان يزداد بطئا وكأنه سوف يتوقف بعد لحظات، فإذا بهاتفي يرن رنات بطيئة متقطعة تفصلها ثوان معدودة " كالرنة الحزايني" في أجراس الكنائس في صبيحة يوم الأحد. ومشيت بخطي متثاقلة نحو الهاتف وهو يمتص الشاحن بنهم في زاوية الغرفة وسرعان مافصلته منه وهو مازال يصيح برناته الحزايني كطفل فطم للتو من ثدي أمه. سمعت صوت زوجتي وهي تبكي بحرقة في صمت ولا تتحدث فأدركت أن مصيبة ما قد حلت بهم.. وبين بكاءها وصمتها سمعت منها بصعوبة ثلاثة كلمات متقطعة جمعتها فإذا هي " دكتور جريس مات" وصمت الهاتف لكنها كانت كلمات كفيلة بأن تقتل الفرحة وتسقط الدموع وتفضح بكاء الرجال..أهذ مارس شهر الكوارث! ثم أصابني حزن شديد بل ذهول لفترة من الزمن. فرغم علمي بمرضه المتطور مع الأيام إلا أن حياته الطبيعية التى قاربت الثلاثون عاما بعد مرضه جعلتنا لا نفكر في موته مثله مثل كل البشر والمخلوقات أو نتصور ذلك اليوم أو تلك الساعة أو اللحظة..لا أتحدث عن نفسي بل كل أولئك الرجال الحاضرون والمسافرون والقادمون من كل فج الذين عانقوا بعضهم البعض وأمسكوا البنات والنساء وبكوا معهن كما تبكي النساء وملأوا البيت عويلا وصياحا إلي يومنا هذا..كلنا كنا نعتبر أن حياته كانت خالده وأبدية لكنها كانت مباغتة لجميع الذين سيطرت عليهم نظرية البقاء والخلود.. فمن ذا الذي سيكون مثل البروف عبد السلام جريس في شخصه وعلمه وذكائه وخلقه وأمانته وعطاءه وأبوته وصداقاته... سوف لن نجد له نديدا مهما أنجبت الأرحام !!
كان البروف عبد السلام جريس شخصية أسطورية..بمعني أنه قام فعلا بأعمال خارقة للعادة لا وجود لها إلا في الأساطير التي نقرأ ونسمع عنها منذ قديم الزمان ولا نراها.. مثل أسطورة علاء الدين والمصباح السحري وأسطورة زرقاء اليمامة وأسطورة إرم ذات العماد والإهرامات في مصر والأسطورة اليابانية يوكي أونا والإغريقية هرقل وهوميروس والأسطورة الإنجليزية روبين هود إلخ... كان أسطورة في جوانب كثيرة من حياته أو بالأحري في كل مراحلها التي إمتدت لسبع عقود. سوف أذكر هنا قليلا مما أعرفه وربما عرفتم عنه الكثير خلال الأيام القليلة الماضية عندما تباري زملاءه الأطباء في الحديث عنه وعن ذكر مناقبه قبل أن يواري الثري أو أمام منزله في صيوان العزاء كما كتب عنه أصدقاءه ومعارفه مئات المقالات المنتشرة عبر الأسافير بل كتبت عنه كتب توثق حياته وعلمه وإنجازاته. فعذرا إذا وجدتم هنا بعض التكرار.
أسطورة البروف جريس أو شخصيته الأسطورية كانت تتجلي في عدد من المحاور سوف أوجز هنا أهمها :
أولا أسطورة الأول: . إذا رجعنا إلي بداياته في أكمه وعكاشة وعبري و وادي حلفا فقد أظهر نبوغا مبكرا وهو في مرحلة الصبا وظهر ذلك النبوغ جليا في كل مراحل التعليم بتصدره أول الفصل أو أول الدفعة إلي أن أكمل مدرسة وادي سيدنا الثانوية في أمدرمان وأحرز المرتبة الأولي في إمتحان الشهادة السودانية ودخل كلية الطب جامعة الخرطوم بجدارة وتخرج منها طبيبا في عام 1968 حائزا علي المركز الأول أيضا في دفعته وحاصدا كل جوائز كلية الطب في ذلك العام. وهنا تحضرني كلمات العم الدبلوماسي الأستاذ جمال محمد أحمد، طيب الله ثراه، في رثاء شقيقه الأصغر المرحوم محجوب في ليلة أربعينيته التي لم يحضرها حين كتب عنه ( شقيقي محجوب كان يأيي أن يكون الثاني وما قنع أن يكون الأول. وعندما حن علينا جدنا المرحوم "أحمد زهرة" وسلفنا حماره لنصل به إلي المدرسة من سرة شرق إلي مدرسة سوق الخمبس الأولية في دبيرة، كانت قد بدأت نزعة محجوب للأولية ، وتلك النزعة جعلت محجوب يصر أن أكون أنا رديفه ليقود الحمار وأنا الذي أكبره بعامين !! ) فرفضت نزعته وخلقت هذه أزمة بيننا وكان حل جدي الحكيم "أحمد زهرة": أنا رديفه في الشتاء وهو رديفي في الصيف. حل الحكماء لكن رفض محجوب ذلك الحل وتململت انا. فكانت كلفة حماقتينا كبيرة... إسترجع جدي حماره وعدنا إلي شقاء مشوار السير اليومي علي الأقدام مسافة عشرة كيلومترات إلي ومن مدرسة سوق الخميس وكان جدي يوقظنا مع النجمة لنعود أول المساء.
وهكذا كان البروف جريس..يبحث عن درجة أفضل من الأول، إنه طموح عال لا يحده إلا السماء. بمقايس هذا الزمن مثل هذا النبوغ والنجاح الباهر لا بد أن يكون خلفه أب أو أم أو ولي أمر مهتم و مدرك لقيمة التعليم ومجتهد بالإضافة لا بد أن يكون خلف الطالب أيضا معلم شامل خاص و/ أو فصول تقوية خاصة مقابل مبالغ باهظة. لم يتأتي حتي واحد من كل تلك المعينات للبروف جريس أو أي من طلاب جيله... لكنه نبوغ إلهي مع تحمل مسؤولية وجهد حتي فى تلك السن المبكرة. ثم أبتعث إلي بريطانيا وأيضا برز هناك وعمل في مستشفياتها الكبري بعد نجاحه وإعتماده كطبيب مختص وعاد منها حاملا معه شهادة التخصص والزمالة الملكية في أمراض النساء والتوليد في عام 1979. وفي هذا الجانب فقد نال أيضا علي درجة الدكتوراة في هذا التخصص الذي كتب فيه عددا مقدرا من البحوث التخصصية والدراسات العلمية نشرت إقليميا وعالميا ونال عليه جوائز عالمية من بريطانيا وأمريكا ومنحته جامعة الخرطوم أيضا درجة الدكتوراة الفخرية بجانب العلمية تقديرا لجهدة وتميزه عن أقرانه في عمله داخل وخارج السودان وهذا يدل علي مساهماته المقدرة من الجامعة و الدولة و مقامه الرفيع. وهذا نتاج شخصيته وعمله ونزعته للأولية التي أصبحت أسطورة.
ثانيا أسطورة العمل: هذا النبوغ والنجاح والجهد والشهادات العلمية والجوائز التي نالها إنعكست كلها في عمله وأدائه وسلوكه تجاه المرضي فقد جاب أثناء عمله كثيرا من المدن في السودان وأطرافه طبيبا حاملا معه مشعل رعاية الأمومة والطفولة ومعالجا ومثقفا وناصحا ومرشدا كما وهب عمره لتحسين صحة المجتمع والمرأة والطفل وظل يعمل طوال أربعة عقود لخفض معدلات وفيات الأمهات والأطفال في المناطق النائية والمهمشة. وكان شعاره أن المتعلم لابد أن يضع علمه وقدراته في خدمة الشعب ولذلك أنشأ عددا من الجمعيات العلمية والتثقيفية مثل جمعية رعاية الأمومة والطفولة وكان رئيسا لها و مركز السودان للإنجاب وأطفال الأنابيب وكان سكرتيرا لها و عضوا مؤسسا لجمعية تنظيم الأسرة والجمعية الطبية السودانية وجمعية إختصاصي أمراض النساء والتوليد وهي من أكثر الجمعيات نشاطا، كما عمل مستشارا لهيئة الصحة العالمية في مجالات متعددة. بجانب عمله في المستشفيات وعيادته الخاصة، كطبيب مشخص و معالج ذاع صيته فى السودان و عمله الدءووب في الجمعيات معلما ومثقفا، وبعد حصوله علي درجة الدكتوراه العلمية عن رسالته في صحة المرأة، عمل البروف أستاذا محاضرا في كلية الطب وتخرجت علي يديه أجيال من الأطباء المنتشرين في كل أنحاء الدنيا الآن، وكان يرعاهم كأبنائه حتي يتحصلوا علي أعلي الشهادات والزمالات في تخصص أمراض النساء والتوليد. و قد كتب عنه أحد تلامذته من الأطباء المشهورين في الساحة الآن "ترددت في الكتابة عن شيخي الذي أحسبه آية من آيات الله العظمي في الطب.." لقد نبغ في مجال الطب وأحدث ثورات حقيقية و أدي رسالته المهنية علي أكل وجه في معالجة الأمهات وتخريج الأطباء وتدريب أطباء النساء والتوليد و القابلات والزائرات الصحيات والأسهام في تقليل وفيات الأمهات والأطفال حديثي الولادة.
ثالثا أسطورة المرض: في عام 1993 أصيب البروف جريس بمرض عضال نادر حصوله لأي شخص حتي علي مستوي العالم. ويعرف هذا المرض عالميا بالمتآمر، والمؤسف أن هذا المرض لم يكتشف له علاج طبي حتي الآن وكما يؤسف له أيضا أنه أصيب يهذا المرض العضال في عنفوان شبابه ونشاطه الذي لم يتوقف.. يصيب هذا المرض ضمور عضلات الجسم التدريجي، بدأ المرض عند البروف ممسكا حباله الصوتية ثم تطور تدريجيا إلي بقية أعضاء الجسم حتي أصيب بشلل في الأرجل واليدين حتي توقف عن الحركة الذاتية إلا معتمدا علي الآخرين ، هن بناته وأزواجهن والكرسي المتحرك. كطبيب كان يدرك تماما مدي تطور ذلك المرض الذي لم يكتشف علاجه حتي الآن لكنه لم ينهزم للمرض ولم يحبطه العجز و صعوبة الحركة منذ بدايته بل حاول كل السبل ليوقف تطور المرض في مرحلته التي وصلها في جسمه، وسافر إلي بريطانيا وأندونيسيا وأمريكا وحتي الصين باحثا عن ذلك و إستمر في العلاج الطبيعي المكثف الذي كان يسافر إليه سنويا إلي بريطانيا. الشاهد حتي مرضه في حد ذاته كان أسطوره فرغم تطور مراحل الطب المختلفة والعلاجات إلا أن هذا المرض هزم العلماء والباحثون والأطباء والصيادلة إلا أنه لم يهزم البروف جريس الذي تحدي المرض بل هزم كل نظريات الكتب و نبوءات الأطباء وعاش حياته إلي أن قضي أيامه المكتوبة في الدنيا ولحق بربه راضا مرضيا. إلي هنا لم تنتهي أسطورة مرضه الغريب الذى هزم الجبابرة في العالم. بقية الأسطورة والأهم أنه رغم هذا المرض الذي أقعده علي كرسي متحرك عاش حياته حياة طبيعية. لم يتوقف عن ممارسة عمله في عيادته بواسطة ممرضة متخصصة تدري مايريد وما يقول..لم يتوقف يوما في أداء مهنته في تدريس طلاب كلية الطب وكذلك الخريجون في دراساتهم العليا. كان حتي آخر لحظة من حياته يوجه ويراجع ويصحح مشاريع التخرج وشهادات الدراسات العليا وحتي البحوث المقدمة في المؤتمرات الطبية و ورش العمل كان لا بد أن يراجعها ويوافق عليها. ولم يألوا جهدا في مساعدة الأطباء بعلاقاته ومكانته العلمية لدي الكلية الملكية ببريطانيا والذين كانوا يزورونه في الخرطوم ويناقشون معه البحوث الطبية العلميه والمقررات و أوراق الإمتحانات من وقت لآخر وقد رأيتهم في منزله مرات عديدة ملبين دعوته للعشاء والحفل الذي يتبعه. لم يتوقف عن حضور أي مؤتمر أو ورشة عمل في طب النساء والتوليد في السودان أو خارج السودان إلا وقدم ورقته مساهما في تطور هذا التخصص. ولم يمنعه المرض من العمل العام فكان رئيسا لجمعية الأمومة والطفولة التي تعني بصحة الأم والطفل وكان يولي هذا الجانب إهتماما شديدا وبعلاقاته العالمية ومعرفته جلب كثيرا من المساعدات المادية و المواد التثقيفية العالمية لهذه الجمعية وكان هو الراعي والأب الروحي لهذه الجمعية إلي أن رحل. وقد كتب أحد الأطباء الخريجين أننا أصبحنا يتامي بعد البروف فمن ذا الذي سوف يهتم بنا ويرشدنا ويوصي علينا ويتابعنا ويفهم ويحل مشاكلنا لدي الجامعة والكلية الملكية ببريطانيا وكنا نلتحق بها وننجح فيها بتفوق بفضل علمه ونصائحه.
الجانب الآخر أن المرض لم يقعده حتي عن حياته الأجتماعية وعلاقاته الواسعة بالأسرة والأهل و بالمجتمع من حوله. لا يترك أي مناسبة فرحا كان أم كرها إلا وهو أول الحضور رغم عمله الشاق ومسؤولياته وصعوبة الحركة وجلسته الطويلة علي الكرسي المتحرك ورغما عن ذلك كان يتفاعل مع المناسبة ويساهم فيها. حتي عندما إشتد عليه المرض لم يترك هذا الفرض.. فعندما توفي والدي، طيب الله ثراه، في عام 2009 جاء بسيارته التي وقفت أمام منزلنا خلف صيوان العزاء وذهبنا إليه وعزي معي ومع إخواني وإخواتي وهو داخل السيارة يبكي ولا يقوي على الحركة. هكذا كان البروف جريس في كل خطواته، صاحب عزيمة وأمل وقوة خارقة و]يمان لا مستحيل عنده.
رابعا أسطورة زهرات البروف جريس: "الثقة بالله وحسن الظن فيه يؤتكم خير مما أخذ منكم" إذا جاءت سيرة البروف جريس و تعداد مناقبه فلا مناص أن نذكر زهراته، وهن جزء من تلك المناقب، دكتورة سلمي و سحر و ندي ورفينا وعزه وياسمين ماشاء الله..فقد وهب ألله البروف جريس زهرات يحجبن عنه قرص الشمس إذا أردن. وهبن حياتهن للبروف، لا يبعدن عنه لحظة إلا بالتناوب، فقد كن الأم والأب والبنت والولد.. فهن السر الكامن في سير حياة البروف حياة طبيعية، فقد كن لا يدعنه حتي يطلب، كن يقرأن أفكاره ويعرفن ماذا يريد ومتي يريد..
ما سمعناه عنهن كثير وما رأيته بعيني أيضا كثير . كنت أتابع كيف يساعدن البروف في الصعود والنزول من السيارة، فقد كن يتعمدن أن يضع البروف قدميه علي راحة كفهن حتي لا يصيبه مكروه لم يكن في الحسبان. مع العلم ان مشاويره كانت كثيرة و يومية. كن هن لسانه الذي يتحدث بها ويده التي تكتب وبوقه الذي يشرح، كن حلقة الوصل التي لا تنقطع بينه وبين الآخرين، لا تفوتهن أن يخبروه بكل الأخبار اليومية والبرامج وهو يرتب لهن ما يجب فعله وينفذن. كان قدوتهن في العمل والعطاء وتحمل الصعاب وحب الناس ومساعدتهم، كن معه أينما ذهب في حله وترحاله داخل وخارج السودان في أسفاره المتعددة والبعيدة وفي كل المناسبات الإجتماعية. لقد فتن مرحلة البر بالوالدين ووصلن إلي درجة ملائكة الرحمة.
من هنا رسالة شكر وإعجاب لكن وازواجكن وأولادكن فقد أصبحتن مثلا نادرا و قدوة رائعة لكثير من الأجيال ولأبناءكن وبناتكن ولكل من سمع عنكن أيتها الزهرات الجميلات.
خامسا أسطورة التقدير: لم أري إمرءا يقدر لك أو لغيرك حتي أبسط الأشياء دعك من نجاحك أو تفوقك. وكان رقيقا حد البكاء وكما قال الشاعر إدريس جماع : " هين تستخفه بسمة الطفل...قويا يصارع الأجيالا " فإذا سألت عنه من علي البعد بكي تقديرا لك، إذا زرته في منزله يبكي شاكرا لك. إذا سمع عنك فرحا أو كرها يبكي مشاركا لك. دموعه وتعابير وجهه كانا هما الوسيلة التي يعبر به تقديره لك ورقته بعد أن فقد حاسة الكلام والكتابة.
وكانت هناك مناسبات كثيره لتكريمه، وفي كل مناسبة كان البروف يبكي وتنهمر دموعه تقديرا للمناسبة والحاضرين الشىء الذي كان يبكي كل من حضر أو رأي أو سمع. سوف أختصرها في أربع مناسبات دون ترتيب زمني:
- في عام 2016 عندما إشتد المرض علي البروف جريس نوم في مستشفي رويال كير للعلاج الذي إستمر لفترة. زارته فرقة البلابل في المستشفى للإطمئنان علي صحته وعندما جلسن معه في سريره الأبيض فرح رغم وضعه الصحي الحرج آنذاك. و في بادرة غير مسبوقة بدأت البلابل في الغناء النوبي في غرفته بالمستشفى وصار يردد معهن وتفتحت أساريره وكانت أروع ملحمة نوبية مع البروف في المستشفي حتي صار يبكي كالطفل الرضيع تقديرا للبلابل لهذا الموقف... ويقال أن روحة المعنوية إرتفعت إلي القمة وكانت هذه روشتة علاجه وشفاءه ومغادرته للمستشفي في اليوم التالي.
- في مناسبة أخري في عام 2006 عندما نافس البروف جريس الأطباء العالميين وفاز عليهم وتحصل علي جائزة الطبيب "جوناثان مان " من مجلس الصحة العالمي(WHO) بواشنطن في الصحة وحقوق الإنسان وسط إحتفال عالمي مهيب. وهذه المناسة العظيمة إحتفلت بها جامعة الخرطوم وجهات عدة من ضمنها الرابطة النوبية السودانية في بريطانيا حيث ألقي بروفيسور "هيرمان بيل" كلمة ضافية، بخليط من اللغتين العربية والنوبية ،عن مولد بروف جريس ودراسته وإنجازاته المحلية والعالمية ثم قدم له الجائزة نيابة عن الرايطة وسط تصفيق وهتاف الحضور. وفي هذا الأثناء كان البروف يبكي بدموعه فرحا وتقديرا لذلك الجمع الوفي في بلاد الشتات.
- في نوفمبر عام 2010 مناسبة تكريم أبناء القرية 24 في حلفا الجديدة للبروف جريس تقديرا لإنجازاته وخدماته الجليلة لقريته وسكانها في المجال الصحي والخدمي ألقت إبنة صديقه الشاعر صلاح دهب فضل، الأستاذه "علا " قصيدة " التحدي والإنتصار " التي عني بها البروف جريس و نقتبس منها هذه الأبيات:

كأنه قال أنظروني آتكم قبسا تراءي في خفاء المشهد
ثني وثلث عزمه، صلب الإرادة، في المسار المفرد
وسم النبوغ، فإن خطي أولي الخطي فإلي السماك الأصعد
سمت النباهة إن رتا فهي البشارة يا "بلول " فزغردي
لو كان في السودان أمثال لهذا الأسمر المتوقد
لو كان في السودان أمثال الأريب إلي النهوض السيد
غايات جهد في فضاء العلم في صحو الرجال السهد
من سر أرض العبقرية أنجبتك الأمهات لموعد
يا درة البلد الغريق وبلدتي ماذا أقول ومقصدي
فلك السلام أخي وترب طفولتي عهد الزمان الأملد
بكي البروف جريس مع بداية إلقاء القصيدة وحتي نهايتها وبعدها عانق إبنة صديقه "علا" وسأل من حوله كتابة "هل أستحق كل هذا في واجب أديته !! "
- في مناسبة أخري في فبراير عام 2020 أثناء إنعقاد المؤتمر الحادي والثلاثون لجمعية أطباء النساء والتوليد توجه وزير الصحة دكتور أكرم التوم مباشرة إلي حيث يجلس البروف علي كرسيه المتحرك وجلس تحت قدمي البروف و قبل له رأسه تقديرا لإنجازته في مجال الصحة وإعجابا بإصراره علي العمل والعطاء رغم المرض والإعاقة الذين أبتلي بهما...كانت لحظات مؤثرة حين إلتقي دكتور أكرم التوم بأستاذه العبقري بروف جريس حيث بكي فيها البروف وأبكي كل من حضر المناسبة أو شاهد الفيديو المصور.
سادسا شخصيات أسطورية سودانية: إذا عددنا بعض الشخصيات الأسطورية في مجال الطب والتي يأتي ذكرها علي الألسن كل يوم ويعرفهم كل الناس علي إختلاف مستوياتهم وهم قلة، نذكر الدكتور التجاني الماحي والدكتور طه بعشر والبروف داوود مصطفي والبروف أحمد محمد الحسن والدكتور عبد الحليم محمد والدكتور حداد عمر كروم رحمهم ألله جميعا. فالبروف عبد السلام جريس هو شخصية أسطورية في مقدمة الركب لسببين أساسيين، أولا لأنه جمع مواهب وصفات كثيرة حشدت في شخصه الواحد دون غيره و ثانيا لا أجد كلمة غير تمييز، فمن المستحيل وسخريات القدر و من قصص الأساطير أن تكون الإعاقة الجسدية بمعناها تمييزا أو يضع شخصا أيا كان في الصدارة ، فالبروف جريس رغم المرض الذي تطور إلي إعاقة جسدية أنجز ما ينجزه الأصحاء. فقد عرفه الناس طالبا مميزا وطبيبا بارعا ومحاضرا مرموقا ومبتدرا للمنظمات الخدمية كل ذلك أتم إنجازه وهو مريض قعيد كرسي متحرك. إنه البروف عبد السلام جريس الملهم لكل مصاب وكل صاحب حوجة خاصة.
سابعا أسطورة قادمة: دكتور عبد السلام جريس الصغير هو حفيد البروف الأول الذي يشابهه، ماشاء الله إلتحق بكلية الطب في سن مبكرة، يحمل نفس الجينات والقسمات والذكاء المبكر وغدا إنشاء الله سنراه يسير علي خطي جده طبيبا وباحثا وأستاذا وإنسانا يشار إليه بالبنان ليكون إمتدادا لمسيرة جده وسنري البروف "عبد السلام جريس" مرة أخري في شخص الدكتور "عبد السلام سعد سيد محمد أحمد" الذي سوف يعيد عجلة التاريخ ليكون خير خلف لخير سلف وسوف يتوالي هذا النسل والخلف في المستقبل. لكن فليعلموا أنه ترك مهمة شاقة تحتاج إلي جهد وعناء شديدين.
أختم كلماتي هذه عن الإنسان عبد السلام محمد احمد جريس، وهو شخص فريد تعجز عن وصفه الحروف والكلمات، بالدعاء إلي الخالق في هذا الشهر المبارك أن يرحمه رحمة واسعة بقدر رحمته علي الآخرين والضعفاء ويغفر له ذنوبه وأن يجعل منزلته في جنة الفردوس التي وعد الله بها المؤمنين. وبالدعاء للخالق أن ينزل اليقين والطمأنينة علي زوجته وبناته المكلومات وأزواجهن وشقيقاته وال جريس وأصدقائه وأحبائه وزملائه الكثر في كل مكان وعلي أهل السودان قاطبة "فموت قبيلة أيسر من موت عالم" .
ولله ما أعطي ولله ما أخذ.. فلنصبر ولنحتسب.
شوقي أبوالريش
الدوحة في 31 مارس 2023

reeshs@hotmail.com

 

آراء