وطنية الجيش السوداني والدعم السريع في فقه الدكتور محمد جلال هاشم
كور متيوك
28 May, 2023
28 May, 2023
(1-3)
كور متيوك
kurmtiok@yahoo.com
في خضم المعركة الدائرة الأن بين الجيش السوداني و الدعم السريع في العاصِمة الخرطوم انقسم الرأي العام السوداني ما بين مؤيد للجيش ومُعارضٌ لها ولكل منهم وجهة نظر مغايرة حول كيفية إنهاء الحرب وتحقيق أهداف ثورة 11 ابريل 2019، و الداعمين للجيش هم فئتين، الفئة الأولى يضُم أنصار وعضوية حزب المؤتمر الوطني والإسلاميين الذين ينظرون لما يدور من حرب في الخرطوم بأنها فُرصة العمر للعودة إلى السُلطة في السودان و أن سُلم العودة إليها هي القوات المُسلحة طالما أنهم قد استثمروا الكثير من المال لتطويرها وتحديثها وإعادة هيكلتها وذلك خلال الثلاثون عاماً التي قضوها في السُلطة، وكانت نتيجة الثلاثة عقود هي أدلجتها وإبعاد الكثير من الضُباط الوطنيين المحترفين وتَسْرِيحٌهم للصالح العام لأسباب شتى وكان معيار البقاء و التسريح هي الانتماء إلى الحركة الإسلامية والولاء لها و للمؤتمر الوطني و بالمقابل تم تصعيد صِغار الضُباط من الإسلاميين في هيكلية الجيش، حتى تربعوا على كُل المواقع الحساسة داخلها و أن أشخاص مثل عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة و القائد العام للجيش و شمس الدين الكباشي عضو مجلس السيادة هم من فئة الضُباط الإسلاميين، لذلك فإن صعودهم إلى أعلى هرمية القوات المسلحة و الدولة (مجلس السيادة) لم تكن مُصادفة بل يندرج في إطار السياسة الكُلِية للحركة الإسلامية فيما يختص بالهيمنة على مؤسسات صنع القرار و المؤسسات الأمنية خاصة المؤسسة العسكرية باعتبار أن المؤسسة العسكرية هي الجهاز القمعي للدولة المركزية ولقد ظل الجيش يلعب هذا الدور لفترات طويلة منذ استقلال السودان في 1956 لأنها لا تتطلع بواجباتها الدستورية بل تعمل وفقاً لموجهات من في السُلطة.
طالما أن الجيش يعمل لتحقيق مصالح من في السُلطة وتسخر دورها في إرضاء النُخبة السياسية، وبما أن الدولة السودانية ظلت تُدار من قبل المركز العروبي وفرضت هيمنتها على السُلطة و الثروة منذ الاستقلال فهذا يعني أن الجيش لن يخدم المواطنين السودانيين العاديين والمُهمشين لانهم لن يستطيعوا الوصول الى السُلطة لإصلاحها حتى تُصير مؤسسة وطنية، وبما أن أشخاص مثل الدكتور محمد جلال هاشم يخشون انهيار المركز العروبي في الخرطوم وتفكك جهازها الامني وهذا ما يمكن أن يُلاحظ في موقفه من قوات الدعم السريع، فلقد شن هجوماً شرِساً على قائدها و أفرادها باعتبارهم مُجرد عرب بدو ومجموعة من الهمجية الذين لا يستطيعون إدارة دولة في قامة السودان وهذه فِرْيَةٌ مَدْعاةٌ للحيرة، خاصة عندما يَصدُر من شخص في قامته، طالما هم سودانيين من الغرب فلماذا لا يستطيعون إدارة جمهورية السودان كما يُديرها أهل المركز العروبي في الشمال النيلي، لقد أوضح موقفه الأخير حيال الأزمة في السودان بأنه والكثير من الشماليين محترفين في التمثيل و من خلال مسرحياتهم الطويلة والمُلهِمة حول الدفاع عن المُستضعفين و لثورة الهامش و المُهَمشِين و داعمين للتحول الديمقراطي وبناء دولة المواطنة وهذا يكشف أيضاً أنهم يمثلون أكبر تهديد للتحول الديمقراطي في السودان لانهم لا يريدون أي تحولات بنيوية بل تغيير شكلي و إذا شعروا بأن ثمة رياح للتغيير الجذري سيتسابقون لإجهاضها كما يفعل "هاشم" الأن.
الفئة الثانية بعد الإسلاميين وعضوية المؤتمر الوطني من المؤيدين للجيش لحسم الدعم السريع وما يسمونها بالجنجويد (صنيعة الجيش) تضُم مُفكرين و أدباء عرفوا بمعارضتهم الشديدة لنظام المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية ولكن أسميهم "المُشوشين" ولقد قاموا ببناء مواقفهم على أساس أن القوات المُسلحة هي المؤسسة النظامية و الوطنية الوحيدة التي يفترض أن يتم المُحافظة عليها بأي ثمن حتى لو اضطروا لحمل السلاح بأنفسهم "هاشم و ساكن"و من ثم يتم إعادة ترميم المؤسسة العسكرية لتأخذ شكلها القومي و الوطني المفقود، هذا موقف في قمة التشويش و بعيدة كل البُعد عن أجواء الحرب في الخرطوم وصِراع السُلطة و الثروة في السودان ومثل هذه العقلية لا يُمكِن أن يبني دولة المواطنة و لا يُمكِن أن يعتد بمثل هؤلاء لإحداث تغيير في مركزية السُلطة في الخرطوم.
أن مشروع بناء دولة المواطنة ظل حُلماً يراود كُل السودانيين في جِبال النوبة و النيل الأزرق و دارفور و الشرق، لقد ظل يراودهم حُلم أن يكون لهم وطن يشعرون بالانتماء إليها ولقد راود هذا الحُلم الجنوبيين لعقود حتى أدركوا بأن إحداث تغيير في السودان أصبح مضيعة للوقت و أن لا خيار لهم سوى الاستقلال وهذا ما حدث، أعتقد أن محمد جلال هاشم لم يعُد يهمه قضايا بناء دولة المواطنة والمساواة والعدالة لأنه أصبح مشغولاً بالدفاع عن المؤسسة الامنية القمعية للدولة المركزية و الإسلاموعروبية في السودان و على الرغم أنه لم يعلن بعد تخليه عن مشروع تفكيك دولة ما بعد الاستعمارdismantling the Postcolonial State وبناء دولة جديدة يحترم تنوع وتعدد الثقافات السودانية، غير أن مواقفه الأخيرة يفترض أن يفهم كذلك و بأنه "هاشم" قد رسم خطاً رفيعاً وقطيعة معرفية ما بين محمد جلال هاشم المُدافع عن حقوق المهمشين وما بين جلال هاشم كواحد من العاملين في حقل تكريس هيمنة المركز العروبي في الدولة السودانية.
من المؤسف أن يحتل قامة وطنية سودانية مثل الدكتور محمد جلال هاشم قائمة المشوشين ليصبح المشوش الأول بينما عرفه الكثيرين بأنه مِسْبَارٌ و مَنَارَة فِكرية مُتوهجة ينير طريق السائرين في ضلال الجهل، أنه ليس مفكراً سودانياً فحسب بل هو وأحداً من أهم المفكرين في افريقياو الوطن العربي وذلكفي حال أصبح مهتماً بالانتماء الى المركز العروبي، ولقد ظل يدافع عن قضايا الهامش و المهمشين خلال ما يقارب الأربعة عقود، لكن عندما رأى بأن الوقت قد حان لتفكيك الجيش كما ظل يُنادي - خطا خطوات تنظيم - و تقدم الصفوف وحمل راية الوطنية يدعوا السودانيين للوقوف خلف جيشهم النِظامي اسم الدلع للجيش الوطني، و لأن محمد جلال هاشم قامة فكرية و ذو قدرات معرفية غير محدودة فهو يعتقد أن عامة الناس لا يستطيعون فهم المعنى والعلاقة بين "الجيش النظامي و الجيش الوطني". ويعتقد "هاشم" أن الجيش السوداني أحد أقدم الجيوش في افريقيا و العالم الثالث و أقواها، لذلك فأن هزيمتها من المليشيات سيعتبر فضيحة تاريخية وعار سيظل يُلاحق السودانيين من الوسط النيلي، خاصة أنه لا يعترف بسودانية منسوبي الدعم السريع لذلك فهو يدعوا الى الاحتشاد خلف القوات المسلحة من أجل هزيمة الجنجويد و الأجانب من غرب أفريقيا الذين يريدون غزو الخرطوم و احتلالها، وبالنسبة له فأن هزيمة الجيش يعني انهيار الدولة السودانية ولذلك لا بُد من تجاوز المواقف الحزبية الضيقة في هذه الفترة الدقيقة، أن موقف محمد جلال هاشم يعتبر تراجعاً كبيراً و رِدَّةٌ فكرية عن مواقفه وأعتقد أنه بحاجة لتوضيح موقفه بشكل جلي بدلاً مِن صد التساؤلات الموضوعية التي طرحها مثقفين سودانيين مثل الأستاذة رشا عوض و عمار نجم الدين و مُمارسة الأستاذية على كل من يسأل أسئلة موضوعية و دمغهم بالكسل الفكري والمغبونين بفوبيا الكيزان.
بالنسبة لي لا أرى فرقاً ما بين الليالي الجهادية التي كان ينظمها الحركة الإسلامية لنصرة و مؤازرة الجيش السوداني في حروبه المُقدسة في جوبا و توريت و ملكال و في هجليج و هنا أرى كل من محمد جلال هاشم و عبد العزيز بركة ساكن يتقدمون الليالي الجهادية الإنشادية نُصرةً للجيش الوطني السوداني و من المؤسف أن جلال هاشم يكتشف وطنيته بعد كل هذه السنين الطويلة، الغريب في موقف مفكرنا ليس دعوته للوقوف خلف الجيش ضد المليشيات، بل الغرابة في ازدواجية معاييره وعدم إتساقه التي تبدوا بأنها ستصبح سِمة مُميزة لمواقفه و هذا في رايي سيخصم الكثير من رصيده باعتباره من المُفكرين السودانيين القلائل المحترمين و الصارمين في تناول قضايا التهميش والتنمية غير المتوازنة في السودان ومن الذين عرفوا بمواقفهم الواضحة حيال أزمة الدولة السودانية المركزية ولقد كان يعتقد أن دواء دولة ما بعد الاستعمار هي بتفكيكها و ليس بترميمها لكن الان يعتقد العكس "ترميمها وليس تفكيكها".
نواصل
وطنية الجيش السوداني والدعم السريع في فقه الدكتور محمد جلال هاشم (2-3)
kurmtiok@yahoo.com
في واحد من المُحاضرات المُتميزة تميز مُفكِرنا محمد جلال هاشم، و هي موجودة على اليوتيوب بعنوان "ضرورة تفكيك دولة ما بعد الاستعمار" وفيها يرجع "هاشم" كل مشاكل السودان إلى المؤسسة العسكرية و يقول "المؤسسة العسكرية هي سبب كل مشاكل السودان، إذا كان حوالي ٩٠٪ من الفترة من الاستقلال إلى يومنا هذا حكمها العساكر و السودان متدهور إذن حكم العسكر هي المسؤول الأول عن هذا التدهور، الاستعمار لمن فات ترك أربعة نخب مُتحالفة مع بعضها البعض وهي التي ورثت الدولة وهي التي تتحمل الفشل في السودان، وهم زعماء الطوائف و زعماء العشائر الدينية والمؤسسة العسكرية وطبقة الاقلية".
في هذه المحاضرة يتأسف "هاشم" من موقف قوى الحرية والتغيير "قحت" التي لا تريد تفكيك المؤسسة العسكرية والتي يعتبر أخر ما تبقى من النخُب الاستعمارية الأربعة وبدلاً من أن يعملوا على تفكيكها غير انهم سارعوا للتحالف معها مما ذادتهم قوة بعد الضعف الكبير الذي اعترى أوصال المؤسسة العسكرية جراء ثلاثون عاماً من الحُكم و الحروب الأهلية التي خاضوها لصالح الحركة الإسلامية السودانية وللبرهنة على موقفه الحاسِم حيال المؤسسة العسكرية انتقد جلال هاشم إيفاد الحكومة الإنتقالية ضباط في الجيش لمفاوضتهم في منبر جوبا للسلام، وهذا في رايي موقف مبدئي بالنسبة لشخص يعتقد أن أزمة الدولة هُم العسكر و بالتالي لا مجال للجلوس معهم لان هذا ليس من اختصاصاتهم التي تم التعارف عليها بالنسبة لدور الجيوش العالمية و يطرح جلال هاشم ثلاث خيارات لتفكيك دولة ما بعد الاستعمار وهي التسوية السياسية والتاريخية أما الخيار الثالث فهو المواجهة المسلحة.
و على الرغم من كُل هذا الوضوح لكن يبدوا أن جلال هاشم لم يكن ينوي المضي قدماً بأفكاره هذه حتى النِهاية وكان يخادع الشعب السوداني و المهمشين بالتحديد لذلك عندما جاء الوقت الفعلي لتفكيك النُخبة العسكرية انضم الدكتور محمد جلال هاشم إلى نداء الوطن والجهاد في سبيل الله و إلى النخبة العسكرية، من المؤسف أن يكون محمد جلال هاشم في صف واحد مع الكيزان المُتطرفين أمثال أنس عمر و عمر الجزولي و عبد الحي يوسف و علي كرتي و أحمد هارون و لكن في ذات الوقت فهو يعتقد أنه لا يوجد ما يدعوا للقلق حتى لو صار إسلامياً، إذا كان موقف جلال هاشم قائم على عدم السماح لمليشيا أن تنتصر على القوات المسلحة فالسؤال الذي يطرح نفسه هو اين سيقف لو توفرت عتاد و قوة عسكرية للحركة الشعبية قطاع الشمال بقيادة عبد العزيز أدم الحلو وتمكنت من الوصول إلى الخرطوم؟! هل سيدعو السودانيين للوقوف مع الجيش النظامي ضد قطاع الشمال باعتبارها مجرد مجموعة مُتمردة ومليشيا غير مُدربة و بلا عقيدة؟ ماذا لو كان الجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة الدكتور جون قرنق تمكنت من الوصول إلى الخرطوم وسيطرت على مواقع حيوية في قلب العاصِمة، خاصة القصر الجمهوري و القيادة العامة والجسور هل كان سيعود محمد جلال هاشم إلى بيت الطاعة والجهاد و الدفاع الشعبي للقِتال ضد الكُفار والنصارى.
في مقالة للدكتور محمد جلال هاشم يوم 16 مايو 2023 بعنوان "مرة أخرى حول فوبيا الكيزان و إفسادهم لمؤسسات الدولة: بين قبول ابن عنان في كلية الشرطة نموذجاً وبين كيزانية الجيش" يكتب بعد دِفاع مُستميت حاول فيها إبعاد أي شُبهة كيزانية طالت المؤسسة العسكرية، و إذا لم يطالها الإسلاميون وظلت مؤسسة مستقلة فهذا يعني بالضرورة أنها مؤسسة وطنية و على الرغم من أن التاريخ العسكري للجيش السوداني يُكشف أنها لم تخوض أي حرب خارجي منذ الاستقلال في 1956 بل ظلت تخوض حروب داخلية وتسليح قبائل ضد اُخرى ولكن محمد جلال ما زال يعتقد بأنها من أقوى الجيوش في أفريقيا و العالم الثالث و لكنه في ذات الوقت يعتقد أنها ليست وطنية و يقول "دون أن نزعم أن عقيدته القتالية وطنية" ويمضي أكثر من ذلك في إطار محاولاته لحشد الراي العام و السودانيين خلف الجيش و ممارسة نوع من الإرهاب والتهديد ضد المجموعات الثقافية ذات الأصول العربية في دارفور ويضيف "هذا الجيش أشد بأساً و سوءاً مما يتصوره التطفيفيون الذين يركنون للاستنتاجات الكسولة. ليس هذا فحسب بل الخشية، كل الخشية، أن يتجه هذا الجيش في الحرب الجارية الأن (كما هي عادته) إلى مُعاقبة المجموعات الثقافِية المدنية بدارفور، تلك التي صُدر منها مقاتلو مليشيا الجنجويد لتتكرر جرائم التطهير العرقي و الإبادة والجرائم ضد الإنسانية بطريقة عكسية، وبوحشية، للمرة الثانية..."
أن يتجه الجيش الى مُعاقبة المجموعات الثقافية ذات الأصول العربية في دارفور امر مُستبعد لعُدة أسباب و منها أن الجيش سيخرج من هذا الحرب مُنهِكاً و مُرهِقاً للغاية و ذلك إذا خرج منها كما أن نهاية الحرب ستكون عبر تفاهُمات سياسية يضع أطر جديدة للعلاقة بين الجيش و الدعم السريع الذي لن يبتلعها الأرض بل سيظل مقاتلوه يحتفظون بسلاحهم لفترة من الزمن بالإضافة إلى أن الكثير يجمع الجيش مع المجموعات العربية في دارفور والدعم السريع باعتبار أن المشروع العروبي لن يكتب لها النهاية بسبب هذا الحرب و أعتقد أن جلال هاشم هو سيد العارفين في هذا المجال، و لو قدر و حدث هذا التطهير العرقي والإبادة الجماعية ضد المجموعات العربية في دارفور فأنه سيكون واحداً من المحرضين لها وسيصعب التفريق بينه و الطيب مصطفى ونامل أن لا يحدث ما يتمناه؛ إن كان هنالك أحد يُلام على ما حدث من تكوين لمليشيات الجنجويد و التي هي جزء من الجيش السوداني بحُكم القانون والدستور وبالتالي فأن الجيش هي الدعم السريع و العكس.
لذلك نعتقد أن عبد الفتاح البُرهان عندما يعلن الحرب ضد المُتمردين فهو يعلنها ضد الجيش وليس ضد اي مليشيا في السودان وعندما يعلن محمد جلال هاشم وعبد العزيز بركة ساكن فتح باب الجهاد ضد الجنجويد والمجرمين من الدعم السريع في الخرطوم فهم بذلك يقصدون الجهاد ضد الجيش، لان التفريق بين الجيش و الدعم السريع أشبه بجدلية البيض والدجاجة و أيهما ظهرت الى الوجود أول which come first, the chicken or the egg?، لم يظهر الجنجويد و الدعم السريع من الفراغ بل هم منتوج مصنع الجيش النظامي كما يسميها جلال هاشم، لقد قاموا بتدريب الجنجويد وتسليحهم وتوفير الغطاء الجوي لعملياتها العسكرية والغطاء السياسي و القانوني حتى لا يتم ملاحقتهم قانونياً امام المحاكم الوطنية السودانية او الدولية وهنا يُكمِن أس البلاء، أن المجموعات العربية في دارفور هم مهمشين أيضاً مثلهم ومثل النوبة في الجبال و الأنقسنا في النيل الازرق وقطاعات واسعة من مكونات الدولة السودانية فقط يتم استخدامهم من قبل نُخبة الإسلاموعروبية في الخرطوم لتوفير الحماية اللازمة للمركز لكن في حقيقة الأمر هم يندرجون تحت طائلة المهمشون في السودان، من الممكن غداً أن يتخلى المركز عن إستخدام المجموعات العربية ويستخدم المجموعات الإفريقية ضد العربية كما يلمح له الدكتور جلال هاشم وينشده و لكن هذا لن يعني أن دولة المواطنة في السودان قد تحقق؛ إذا كان جلال هاشم ما زال يتساءل كما فعل الطيب صالح من أين جاء هؤلاء "الجنجويد" فنحن نجيبه بأنهم منتوج شرعي للجيش النظامي.
المُشوش الثاني بعد جلال هاشم هو الأديب والروائي السوداني عبد العزيز بركة ساكن، الحاصل على جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي بجانب العديد من الجوائز العالمية و هو شخصية مهمة و ذو تأثير كبير خاصة أنه قد أبكر في انتقاد السلوك و الأسلوب الإجرامي لمليشيات الجنجويد وذلك في عمله ذائعة الصيت "مسيح دارفور" التي صُدرت في طبعتها الاولى في العام 2012م وعبر عمله الإبداعي تعرف الكثيرين من السودانيين وغير السودانيين على المُمارسات غير الإنسانية التي اضطلع بها الجنجويد في حق المواطنين الدارفوريين من أصول أفريقية، وبالتالي فأن رأيه مهم في مثل هذه الأوضاع التي يمر به الدولة السودانية و التي يلعب فيها الجنجويد دوراً أساسياً فيها، لكن موقفه شبيه ومتطابق لموقف محمد جلال هاشم الذي رأى في انهيار الجيش إنهياراً للدولة السودانية واتفقوا بأن الجيش مؤسسة وطنية و ينضوي تحت مظلتها العديد من المواطنين السودانيين و شبهها بالنموذج المُصغر للدولة السودانية المتنوع بقبائلها المختلفة خاصة أن أشخاص مثل الفريق شمس الدين الكباشي قد وصلوا الى أعلى قمتها و هو المُنحدر من جبال النوبة و الأن أصبح مالك عقار نائباً لرئيس مجلس السيادة وهذا ما يُجسد قوميتها وتنوعها ولقد ناشد "ساكن" الشعب السوداني لمؤازرة(جيشهم) على الرغم من وجود الكيزان داخلها ودعاهم لتناسي تاريخها الإجرامي في دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة و مرارات الماضي من أجل المصلحة الوطنية العُليا the national interest، و أن لا بد من نِسيان كل هذا الجُرح القديم وفتح جرح جديد، لان الحرب التي تدور رحاها في الخرطوم الان ليس حرباً بين الكيزان و الجنجويد، بل حرباً بين الشعب السوداني و الجنجويد وحذر من التداعيات الخطيرة لانتصارهم على مستقبل الدولة السودانية.
هكذا يمكن تلخيص موقف الأديب بركة ساكن، موقفه هذا يتناغم مع ما كتبه عن الجنجويد في روايته مسيح دارفور "أهون لجمل أن يلج من ثقب إبرة من أن يدخل جنجويد ملكوت الله" أن التاريخ الإجرامي للجنجويد والدعم السريع في دارفور معروف للقاصي والداني و أكثر من يعرف ذلك هم مواطني دارفور المنحدرين من القبائل الأفريقية حيث تم التنكيل بهم وقتلهم بأبشع الطرق و اغتصبت نساءهم وأحرقت قرأهم لتنفيذ برنامج الإنقاذ القائم على الإبدال و الإحلال في إطار الإسلاموعروبية والتي تعني وفقاً لمحمد جلال هاشم مجموعة المحددات السلوكية التي تَشكّلت بها الطبيعة الأيديولوجية للدولة السودانية الحديثة و التي قامت على الأسلمة و الاستعراب بوصفها وعياً إجتماعياً ـ ثقافياً "فمن لديه قوة عسكرية بديلة فليسمها اولاً ثم فليأت بها ليهزم جحافل التتار الهمجية" و يبرر "ساكن" هذه الدعوة للوقوف مع الجيش خوفاً من الجنجويد ومن وحشيتهم و خطرهم على الدولة السودانية وحضارتها العريقة الموخلة في التاريخ و أن هؤلاء الجنجويد هم دُخلاء على الثقافة السودانية. اما مبارك اردول و هو بدوره أحد الحلفاء الجدد للدكتور محمد جلال هاشم فيعتبر الجنجويد مرتزقة همجيين اُستجلبوا من الخارج لتدمير كل ما هو جميل في الخرطوم، لو اعتبرنا أن مبارك اردول لا يعرف ويعتقد أنه يعرف، فكيف يمكننا أن نصف مفكرنا و أستاذنا محمد جلال هاشم الذي يعرف ويعرف أنه يعرف؟ كيف سنتبع محمد جلال هاشم و لا نجادل اردول؟
نواصل
كور متيوك
kurmtiok@yahoo.com
في خضم المعركة الدائرة الأن بين الجيش السوداني و الدعم السريع في العاصِمة الخرطوم انقسم الرأي العام السوداني ما بين مؤيد للجيش ومُعارضٌ لها ولكل منهم وجهة نظر مغايرة حول كيفية إنهاء الحرب وتحقيق أهداف ثورة 11 ابريل 2019، و الداعمين للجيش هم فئتين، الفئة الأولى يضُم أنصار وعضوية حزب المؤتمر الوطني والإسلاميين الذين ينظرون لما يدور من حرب في الخرطوم بأنها فُرصة العمر للعودة إلى السُلطة في السودان و أن سُلم العودة إليها هي القوات المُسلحة طالما أنهم قد استثمروا الكثير من المال لتطويرها وتحديثها وإعادة هيكلتها وذلك خلال الثلاثون عاماً التي قضوها في السُلطة، وكانت نتيجة الثلاثة عقود هي أدلجتها وإبعاد الكثير من الضُباط الوطنيين المحترفين وتَسْرِيحٌهم للصالح العام لأسباب شتى وكان معيار البقاء و التسريح هي الانتماء إلى الحركة الإسلامية والولاء لها و للمؤتمر الوطني و بالمقابل تم تصعيد صِغار الضُباط من الإسلاميين في هيكلية الجيش، حتى تربعوا على كُل المواقع الحساسة داخلها و أن أشخاص مثل عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة و القائد العام للجيش و شمس الدين الكباشي عضو مجلس السيادة هم من فئة الضُباط الإسلاميين، لذلك فإن صعودهم إلى أعلى هرمية القوات المسلحة و الدولة (مجلس السيادة) لم تكن مُصادفة بل يندرج في إطار السياسة الكُلِية للحركة الإسلامية فيما يختص بالهيمنة على مؤسسات صنع القرار و المؤسسات الأمنية خاصة المؤسسة العسكرية باعتبار أن المؤسسة العسكرية هي الجهاز القمعي للدولة المركزية ولقد ظل الجيش يلعب هذا الدور لفترات طويلة منذ استقلال السودان في 1956 لأنها لا تتطلع بواجباتها الدستورية بل تعمل وفقاً لموجهات من في السُلطة.
طالما أن الجيش يعمل لتحقيق مصالح من في السُلطة وتسخر دورها في إرضاء النُخبة السياسية، وبما أن الدولة السودانية ظلت تُدار من قبل المركز العروبي وفرضت هيمنتها على السُلطة و الثروة منذ الاستقلال فهذا يعني أن الجيش لن يخدم المواطنين السودانيين العاديين والمُهمشين لانهم لن يستطيعوا الوصول الى السُلطة لإصلاحها حتى تُصير مؤسسة وطنية، وبما أن أشخاص مثل الدكتور محمد جلال هاشم يخشون انهيار المركز العروبي في الخرطوم وتفكك جهازها الامني وهذا ما يمكن أن يُلاحظ في موقفه من قوات الدعم السريع، فلقد شن هجوماً شرِساً على قائدها و أفرادها باعتبارهم مُجرد عرب بدو ومجموعة من الهمجية الذين لا يستطيعون إدارة دولة في قامة السودان وهذه فِرْيَةٌ مَدْعاةٌ للحيرة، خاصة عندما يَصدُر من شخص في قامته، طالما هم سودانيين من الغرب فلماذا لا يستطيعون إدارة جمهورية السودان كما يُديرها أهل المركز العروبي في الشمال النيلي، لقد أوضح موقفه الأخير حيال الأزمة في السودان بأنه والكثير من الشماليين محترفين في التمثيل و من خلال مسرحياتهم الطويلة والمُلهِمة حول الدفاع عن المُستضعفين و لثورة الهامش و المُهَمشِين و داعمين للتحول الديمقراطي وبناء دولة المواطنة وهذا يكشف أيضاً أنهم يمثلون أكبر تهديد للتحول الديمقراطي في السودان لانهم لا يريدون أي تحولات بنيوية بل تغيير شكلي و إذا شعروا بأن ثمة رياح للتغيير الجذري سيتسابقون لإجهاضها كما يفعل "هاشم" الأن.
الفئة الثانية بعد الإسلاميين وعضوية المؤتمر الوطني من المؤيدين للجيش لحسم الدعم السريع وما يسمونها بالجنجويد (صنيعة الجيش) تضُم مُفكرين و أدباء عرفوا بمعارضتهم الشديدة لنظام المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية ولكن أسميهم "المُشوشين" ولقد قاموا ببناء مواقفهم على أساس أن القوات المُسلحة هي المؤسسة النظامية و الوطنية الوحيدة التي يفترض أن يتم المُحافظة عليها بأي ثمن حتى لو اضطروا لحمل السلاح بأنفسهم "هاشم و ساكن"و من ثم يتم إعادة ترميم المؤسسة العسكرية لتأخذ شكلها القومي و الوطني المفقود، هذا موقف في قمة التشويش و بعيدة كل البُعد عن أجواء الحرب في الخرطوم وصِراع السُلطة و الثروة في السودان ومثل هذه العقلية لا يُمكِن أن يبني دولة المواطنة و لا يُمكِن أن يعتد بمثل هؤلاء لإحداث تغيير في مركزية السُلطة في الخرطوم.
أن مشروع بناء دولة المواطنة ظل حُلماً يراود كُل السودانيين في جِبال النوبة و النيل الأزرق و دارفور و الشرق، لقد ظل يراودهم حُلم أن يكون لهم وطن يشعرون بالانتماء إليها ولقد راود هذا الحُلم الجنوبيين لعقود حتى أدركوا بأن إحداث تغيير في السودان أصبح مضيعة للوقت و أن لا خيار لهم سوى الاستقلال وهذا ما حدث، أعتقد أن محمد جلال هاشم لم يعُد يهمه قضايا بناء دولة المواطنة والمساواة والعدالة لأنه أصبح مشغولاً بالدفاع عن المؤسسة الامنية القمعية للدولة المركزية و الإسلاموعروبية في السودان و على الرغم أنه لم يعلن بعد تخليه عن مشروع تفكيك دولة ما بعد الاستعمارdismantling the Postcolonial State وبناء دولة جديدة يحترم تنوع وتعدد الثقافات السودانية، غير أن مواقفه الأخيرة يفترض أن يفهم كذلك و بأنه "هاشم" قد رسم خطاً رفيعاً وقطيعة معرفية ما بين محمد جلال هاشم المُدافع عن حقوق المهمشين وما بين جلال هاشم كواحد من العاملين في حقل تكريس هيمنة المركز العروبي في الدولة السودانية.
من المؤسف أن يحتل قامة وطنية سودانية مثل الدكتور محمد جلال هاشم قائمة المشوشين ليصبح المشوش الأول بينما عرفه الكثيرين بأنه مِسْبَارٌ و مَنَارَة فِكرية مُتوهجة ينير طريق السائرين في ضلال الجهل، أنه ليس مفكراً سودانياً فحسب بل هو وأحداً من أهم المفكرين في افريقياو الوطن العربي وذلكفي حال أصبح مهتماً بالانتماء الى المركز العروبي، ولقد ظل يدافع عن قضايا الهامش و المهمشين خلال ما يقارب الأربعة عقود، لكن عندما رأى بأن الوقت قد حان لتفكيك الجيش كما ظل يُنادي - خطا خطوات تنظيم - و تقدم الصفوف وحمل راية الوطنية يدعوا السودانيين للوقوف خلف جيشهم النِظامي اسم الدلع للجيش الوطني، و لأن محمد جلال هاشم قامة فكرية و ذو قدرات معرفية غير محدودة فهو يعتقد أن عامة الناس لا يستطيعون فهم المعنى والعلاقة بين "الجيش النظامي و الجيش الوطني". ويعتقد "هاشم" أن الجيش السوداني أحد أقدم الجيوش في افريقيا و العالم الثالث و أقواها، لذلك فأن هزيمتها من المليشيات سيعتبر فضيحة تاريخية وعار سيظل يُلاحق السودانيين من الوسط النيلي، خاصة أنه لا يعترف بسودانية منسوبي الدعم السريع لذلك فهو يدعوا الى الاحتشاد خلف القوات المسلحة من أجل هزيمة الجنجويد و الأجانب من غرب أفريقيا الذين يريدون غزو الخرطوم و احتلالها، وبالنسبة له فأن هزيمة الجيش يعني انهيار الدولة السودانية ولذلك لا بُد من تجاوز المواقف الحزبية الضيقة في هذه الفترة الدقيقة، أن موقف محمد جلال هاشم يعتبر تراجعاً كبيراً و رِدَّةٌ فكرية عن مواقفه وأعتقد أنه بحاجة لتوضيح موقفه بشكل جلي بدلاً مِن صد التساؤلات الموضوعية التي طرحها مثقفين سودانيين مثل الأستاذة رشا عوض و عمار نجم الدين و مُمارسة الأستاذية على كل من يسأل أسئلة موضوعية و دمغهم بالكسل الفكري والمغبونين بفوبيا الكيزان.
بالنسبة لي لا أرى فرقاً ما بين الليالي الجهادية التي كان ينظمها الحركة الإسلامية لنصرة و مؤازرة الجيش السوداني في حروبه المُقدسة في جوبا و توريت و ملكال و في هجليج و هنا أرى كل من محمد جلال هاشم و عبد العزيز بركة ساكن يتقدمون الليالي الجهادية الإنشادية نُصرةً للجيش الوطني السوداني و من المؤسف أن جلال هاشم يكتشف وطنيته بعد كل هذه السنين الطويلة، الغريب في موقف مفكرنا ليس دعوته للوقوف خلف الجيش ضد المليشيات، بل الغرابة في ازدواجية معاييره وعدم إتساقه التي تبدوا بأنها ستصبح سِمة مُميزة لمواقفه و هذا في رايي سيخصم الكثير من رصيده باعتباره من المُفكرين السودانيين القلائل المحترمين و الصارمين في تناول قضايا التهميش والتنمية غير المتوازنة في السودان ومن الذين عرفوا بمواقفهم الواضحة حيال أزمة الدولة السودانية المركزية ولقد كان يعتقد أن دواء دولة ما بعد الاستعمار هي بتفكيكها و ليس بترميمها لكن الان يعتقد العكس "ترميمها وليس تفكيكها".
نواصل
وطنية الجيش السوداني والدعم السريع في فقه الدكتور محمد جلال هاشم (2-3)
kurmtiok@yahoo.com
في واحد من المُحاضرات المُتميزة تميز مُفكِرنا محمد جلال هاشم، و هي موجودة على اليوتيوب بعنوان "ضرورة تفكيك دولة ما بعد الاستعمار" وفيها يرجع "هاشم" كل مشاكل السودان إلى المؤسسة العسكرية و يقول "المؤسسة العسكرية هي سبب كل مشاكل السودان، إذا كان حوالي ٩٠٪ من الفترة من الاستقلال إلى يومنا هذا حكمها العساكر و السودان متدهور إذن حكم العسكر هي المسؤول الأول عن هذا التدهور، الاستعمار لمن فات ترك أربعة نخب مُتحالفة مع بعضها البعض وهي التي ورثت الدولة وهي التي تتحمل الفشل في السودان، وهم زعماء الطوائف و زعماء العشائر الدينية والمؤسسة العسكرية وطبقة الاقلية".
في هذه المحاضرة يتأسف "هاشم" من موقف قوى الحرية والتغيير "قحت" التي لا تريد تفكيك المؤسسة العسكرية والتي يعتبر أخر ما تبقى من النخُب الاستعمارية الأربعة وبدلاً من أن يعملوا على تفكيكها غير انهم سارعوا للتحالف معها مما ذادتهم قوة بعد الضعف الكبير الذي اعترى أوصال المؤسسة العسكرية جراء ثلاثون عاماً من الحُكم و الحروب الأهلية التي خاضوها لصالح الحركة الإسلامية السودانية وللبرهنة على موقفه الحاسِم حيال المؤسسة العسكرية انتقد جلال هاشم إيفاد الحكومة الإنتقالية ضباط في الجيش لمفاوضتهم في منبر جوبا للسلام، وهذا في رايي موقف مبدئي بالنسبة لشخص يعتقد أن أزمة الدولة هُم العسكر و بالتالي لا مجال للجلوس معهم لان هذا ليس من اختصاصاتهم التي تم التعارف عليها بالنسبة لدور الجيوش العالمية و يطرح جلال هاشم ثلاث خيارات لتفكيك دولة ما بعد الاستعمار وهي التسوية السياسية والتاريخية أما الخيار الثالث فهو المواجهة المسلحة.
و على الرغم من كُل هذا الوضوح لكن يبدوا أن جلال هاشم لم يكن ينوي المضي قدماً بأفكاره هذه حتى النِهاية وكان يخادع الشعب السوداني و المهمشين بالتحديد لذلك عندما جاء الوقت الفعلي لتفكيك النُخبة العسكرية انضم الدكتور محمد جلال هاشم إلى نداء الوطن والجهاد في سبيل الله و إلى النخبة العسكرية، من المؤسف أن يكون محمد جلال هاشم في صف واحد مع الكيزان المُتطرفين أمثال أنس عمر و عمر الجزولي و عبد الحي يوسف و علي كرتي و أحمد هارون و لكن في ذات الوقت فهو يعتقد أنه لا يوجد ما يدعوا للقلق حتى لو صار إسلامياً، إذا كان موقف جلال هاشم قائم على عدم السماح لمليشيا أن تنتصر على القوات المسلحة فالسؤال الذي يطرح نفسه هو اين سيقف لو توفرت عتاد و قوة عسكرية للحركة الشعبية قطاع الشمال بقيادة عبد العزيز أدم الحلو وتمكنت من الوصول إلى الخرطوم؟! هل سيدعو السودانيين للوقوف مع الجيش النظامي ضد قطاع الشمال باعتبارها مجرد مجموعة مُتمردة ومليشيا غير مُدربة و بلا عقيدة؟ ماذا لو كان الجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة الدكتور جون قرنق تمكنت من الوصول إلى الخرطوم وسيطرت على مواقع حيوية في قلب العاصِمة، خاصة القصر الجمهوري و القيادة العامة والجسور هل كان سيعود محمد جلال هاشم إلى بيت الطاعة والجهاد و الدفاع الشعبي للقِتال ضد الكُفار والنصارى.
في مقالة للدكتور محمد جلال هاشم يوم 16 مايو 2023 بعنوان "مرة أخرى حول فوبيا الكيزان و إفسادهم لمؤسسات الدولة: بين قبول ابن عنان في كلية الشرطة نموذجاً وبين كيزانية الجيش" يكتب بعد دِفاع مُستميت حاول فيها إبعاد أي شُبهة كيزانية طالت المؤسسة العسكرية، و إذا لم يطالها الإسلاميون وظلت مؤسسة مستقلة فهذا يعني بالضرورة أنها مؤسسة وطنية و على الرغم من أن التاريخ العسكري للجيش السوداني يُكشف أنها لم تخوض أي حرب خارجي منذ الاستقلال في 1956 بل ظلت تخوض حروب داخلية وتسليح قبائل ضد اُخرى ولكن محمد جلال ما زال يعتقد بأنها من أقوى الجيوش في أفريقيا و العالم الثالث و لكنه في ذات الوقت يعتقد أنها ليست وطنية و يقول "دون أن نزعم أن عقيدته القتالية وطنية" ويمضي أكثر من ذلك في إطار محاولاته لحشد الراي العام و السودانيين خلف الجيش و ممارسة نوع من الإرهاب والتهديد ضد المجموعات الثقافية ذات الأصول العربية في دارفور ويضيف "هذا الجيش أشد بأساً و سوءاً مما يتصوره التطفيفيون الذين يركنون للاستنتاجات الكسولة. ليس هذا فحسب بل الخشية، كل الخشية، أن يتجه هذا الجيش في الحرب الجارية الأن (كما هي عادته) إلى مُعاقبة المجموعات الثقافِية المدنية بدارفور، تلك التي صُدر منها مقاتلو مليشيا الجنجويد لتتكرر جرائم التطهير العرقي و الإبادة والجرائم ضد الإنسانية بطريقة عكسية، وبوحشية، للمرة الثانية..."
أن يتجه الجيش الى مُعاقبة المجموعات الثقافية ذات الأصول العربية في دارفور امر مُستبعد لعُدة أسباب و منها أن الجيش سيخرج من هذا الحرب مُنهِكاً و مُرهِقاً للغاية و ذلك إذا خرج منها كما أن نهاية الحرب ستكون عبر تفاهُمات سياسية يضع أطر جديدة للعلاقة بين الجيش و الدعم السريع الذي لن يبتلعها الأرض بل سيظل مقاتلوه يحتفظون بسلاحهم لفترة من الزمن بالإضافة إلى أن الكثير يجمع الجيش مع المجموعات العربية في دارفور والدعم السريع باعتبار أن المشروع العروبي لن يكتب لها النهاية بسبب هذا الحرب و أعتقد أن جلال هاشم هو سيد العارفين في هذا المجال، و لو قدر و حدث هذا التطهير العرقي والإبادة الجماعية ضد المجموعات العربية في دارفور فأنه سيكون واحداً من المحرضين لها وسيصعب التفريق بينه و الطيب مصطفى ونامل أن لا يحدث ما يتمناه؛ إن كان هنالك أحد يُلام على ما حدث من تكوين لمليشيات الجنجويد و التي هي جزء من الجيش السوداني بحُكم القانون والدستور وبالتالي فأن الجيش هي الدعم السريع و العكس.
لذلك نعتقد أن عبد الفتاح البُرهان عندما يعلن الحرب ضد المُتمردين فهو يعلنها ضد الجيش وليس ضد اي مليشيا في السودان وعندما يعلن محمد جلال هاشم وعبد العزيز بركة ساكن فتح باب الجهاد ضد الجنجويد والمجرمين من الدعم السريع في الخرطوم فهم بذلك يقصدون الجهاد ضد الجيش، لان التفريق بين الجيش و الدعم السريع أشبه بجدلية البيض والدجاجة و أيهما ظهرت الى الوجود أول which come first, the chicken or the egg?، لم يظهر الجنجويد و الدعم السريع من الفراغ بل هم منتوج مصنع الجيش النظامي كما يسميها جلال هاشم، لقد قاموا بتدريب الجنجويد وتسليحهم وتوفير الغطاء الجوي لعملياتها العسكرية والغطاء السياسي و القانوني حتى لا يتم ملاحقتهم قانونياً امام المحاكم الوطنية السودانية او الدولية وهنا يُكمِن أس البلاء، أن المجموعات العربية في دارفور هم مهمشين أيضاً مثلهم ومثل النوبة في الجبال و الأنقسنا في النيل الازرق وقطاعات واسعة من مكونات الدولة السودانية فقط يتم استخدامهم من قبل نُخبة الإسلاموعروبية في الخرطوم لتوفير الحماية اللازمة للمركز لكن في حقيقة الأمر هم يندرجون تحت طائلة المهمشون في السودان، من الممكن غداً أن يتخلى المركز عن إستخدام المجموعات العربية ويستخدم المجموعات الإفريقية ضد العربية كما يلمح له الدكتور جلال هاشم وينشده و لكن هذا لن يعني أن دولة المواطنة في السودان قد تحقق؛ إذا كان جلال هاشم ما زال يتساءل كما فعل الطيب صالح من أين جاء هؤلاء "الجنجويد" فنحن نجيبه بأنهم منتوج شرعي للجيش النظامي.
المُشوش الثاني بعد جلال هاشم هو الأديب والروائي السوداني عبد العزيز بركة ساكن، الحاصل على جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي بجانب العديد من الجوائز العالمية و هو شخصية مهمة و ذو تأثير كبير خاصة أنه قد أبكر في انتقاد السلوك و الأسلوب الإجرامي لمليشيات الجنجويد وذلك في عمله ذائعة الصيت "مسيح دارفور" التي صُدرت في طبعتها الاولى في العام 2012م وعبر عمله الإبداعي تعرف الكثيرين من السودانيين وغير السودانيين على المُمارسات غير الإنسانية التي اضطلع بها الجنجويد في حق المواطنين الدارفوريين من أصول أفريقية، وبالتالي فأن رأيه مهم في مثل هذه الأوضاع التي يمر به الدولة السودانية و التي يلعب فيها الجنجويد دوراً أساسياً فيها، لكن موقفه شبيه ومتطابق لموقف محمد جلال هاشم الذي رأى في انهيار الجيش إنهياراً للدولة السودانية واتفقوا بأن الجيش مؤسسة وطنية و ينضوي تحت مظلتها العديد من المواطنين السودانيين و شبهها بالنموذج المُصغر للدولة السودانية المتنوع بقبائلها المختلفة خاصة أن أشخاص مثل الفريق شمس الدين الكباشي قد وصلوا الى أعلى قمتها و هو المُنحدر من جبال النوبة و الأن أصبح مالك عقار نائباً لرئيس مجلس السيادة وهذا ما يُجسد قوميتها وتنوعها ولقد ناشد "ساكن" الشعب السوداني لمؤازرة(جيشهم) على الرغم من وجود الكيزان داخلها ودعاهم لتناسي تاريخها الإجرامي في دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة و مرارات الماضي من أجل المصلحة الوطنية العُليا the national interest، و أن لا بد من نِسيان كل هذا الجُرح القديم وفتح جرح جديد، لان الحرب التي تدور رحاها في الخرطوم الان ليس حرباً بين الكيزان و الجنجويد، بل حرباً بين الشعب السوداني و الجنجويد وحذر من التداعيات الخطيرة لانتصارهم على مستقبل الدولة السودانية.
هكذا يمكن تلخيص موقف الأديب بركة ساكن، موقفه هذا يتناغم مع ما كتبه عن الجنجويد في روايته مسيح دارفور "أهون لجمل أن يلج من ثقب إبرة من أن يدخل جنجويد ملكوت الله" أن التاريخ الإجرامي للجنجويد والدعم السريع في دارفور معروف للقاصي والداني و أكثر من يعرف ذلك هم مواطني دارفور المنحدرين من القبائل الأفريقية حيث تم التنكيل بهم وقتلهم بأبشع الطرق و اغتصبت نساءهم وأحرقت قرأهم لتنفيذ برنامج الإنقاذ القائم على الإبدال و الإحلال في إطار الإسلاموعروبية والتي تعني وفقاً لمحمد جلال هاشم مجموعة المحددات السلوكية التي تَشكّلت بها الطبيعة الأيديولوجية للدولة السودانية الحديثة و التي قامت على الأسلمة و الاستعراب بوصفها وعياً إجتماعياً ـ ثقافياً "فمن لديه قوة عسكرية بديلة فليسمها اولاً ثم فليأت بها ليهزم جحافل التتار الهمجية" و يبرر "ساكن" هذه الدعوة للوقوف مع الجيش خوفاً من الجنجويد ومن وحشيتهم و خطرهم على الدولة السودانية وحضارتها العريقة الموخلة في التاريخ و أن هؤلاء الجنجويد هم دُخلاء على الثقافة السودانية. اما مبارك اردول و هو بدوره أحد الحلفاء الجدد للدكتور محمد جلال هاشم فيعتبر الجنجويد مرتزقة همجيين اُستجلبوا من الخارج لتدمير كل ما هو جميل في الخرطوم، لو اعتبرنا أن مبارك اردول لا يعرف ويعتقد أنه يعرف، فكيف يمكننا أن نصف مفكرنا و أستاذنا محمد جلال هاشم الذي يعرف ويعرف أنه يعرف؟ كيف سنتبع محمد جلال هاشم و لا نجادل اردول؟
نواصل