في الرّدِّ على آخر وزير خارجيّة للإنقاذ: إنّه طريقٌ طويلٌ للعودة إلى ديار المسيريّة
عبد الحفيظ مريود
13 July, 2023
13 July, 2023
كتب الدكتور الدرديرى محمد أحمد، آخر وزير خارجيّة لحكومة الإنقاذ، مقالاً من جزءيْن، عن "عرب الشتات"، سلخ فيه جلد النّملة، ليثبتَ أنّ مقاتلي الدّعم السّريع هم مهاجرون من النيجر، مالي وتشاد، مواطئاً السّردية الكيزانية للحرب العبثية. لنْ يكلّف الدكتور، الحاصل على الدكتوراة في القانون من بريطانيا، نفسه جهدَ أنْ يمسح زجاج نظارته، قبل أنْ يجلس إلى لوحة المفاتيح، ليكتب. ثمّة الكثير من الغبار عليها. لكنَّ تكليفه الرسمي هو أنْ يدعم – علميّاً – ما تمّ الدفع به سياسيّاً ل "تقنين الحرب وشرعنتها" من وجهة نظر الإسلاميين، والمنساقين وراءهم من الجيش والدّهماء.
حسناً...
مع اشتداد الحرب في مناطق بحر الغزال، والجيش الشّعبيّ بقيادة جون قرنق يتمدّد، ثمانينات القرن الماضى، وجدت الحكومة أنّ فكرة تسليح القبائل الرّعوية ناجزة "للدفاع عن نفسها"، فيما هي تتوغّل جنوباً، من أجل الماء والكلأ حين يأتى الصيف، متجاوزةً ضفاف "بحر العرب"، أغلب الأحيان. فنشأتْ "قوات المراحيل". انخرط فيها المسيريّة، الرّزيقات وبدرجة أقلّ البنى هلبة والهبّانيّة. وحين واجهت حكومة الديمقراطية الثالثة، برئاسة الصّادق المهدىّ أزمات متعدّدة، تفتّقتْ عبقريتها عن "الدّفاع الشعبىّ"، فزادتْ من تسليح شباب القبائل العربيّة، وشرعنته. لاحقاً – حين جاءت حكومة الإنقاذ – وجدتْ مهاداً جيّداً فبنتْ عليه، لا سيّما وأنّ ثمّة غطاء مقدّساً للحرب، وقتها.
الغارات التى تشنّها قوات القبائل في "الحرب ضدّ الدّولة والإسلام"، كانت تقضى بأنّ "الغنائم" أساسيّة. حفلتْ ديار المسيريّة – موطن وزير الخارجية الإنقاذيّ، الدرديرىّ – بالغنائم. التي كانت تطال حتّى البشر، دعك من المواشى وما يمكن أنْ يشكّل ثروة فى المجتمع الفقير، ذاك. على أنّ الإنقاذ تحايلتْ على الأمريكان فاشترت امتياز شركة شيفرون للبترول، وعملتْ مع شركاء آخرين على استخراجه. البترول بدأ فى مناطق المسيريّة. تمّت مصادرة الأراضي، دفع تعويضات "وهميّة" من أجل بنية النّفط "الحقول – المعسكرات – الأنابيب – الطرق...الخ". ينظر الدكتور حامد البشير، والى جنوب كردفان فى عهد حمدوك، والخبير الأممي إلى ذلك إلى أنّ الإنقاذ، بفعلتها تلك، أخذتِ الأرض: الزراعة والمرعى ولم توظّف شباب المنطقة. وهو ما يعنى – فى ظلّ إنعدام فرص التعليم وضيق فرص العمل – إعادة التأسيس الضنك.
لن يكون الدكتور الدرديرى فى حاجةٍ إلى من يذكّره بالأوضاع التى آلت إليها مناطق المسيريّة. ثمّة تفشٍ للنّهب، قطع الطّريق، تزايد العنف. لم ترسِ العمليات النّفطية بنيةً تحتيّة فى تلك المناطق. ليس هناك من مستشفىً معتبر، لا طرق رابطة بين أىٍّ من مدن ومناطق المسيريّة، إلّا مؤخراً ولم تكتمل، ليس هناك من مصانع، مشاريع زراعية، إعادة تأهيل لمصنع ألبان بابنوسة. حتّى بعد اتفاقية نيفاشا، والتي قضت بمنح ما نسبته 2% من عائدات النّفط المستخرج من المنطقة للمسيريّة. الواقع ذاك، سيجعل شباب المنطقة، والمناطق المجاورة الأقرب إلى الانضمام إلى الدّعم السريع، في حال قدّم عروض أفضل من الجيش، الشرطة، الأمن، وقد فعل. لقد انخرط المسيريّة الحمر والزُرق، الحوازمة، الرواوقة، الخزام في الدّعم السّريع. ولاحقاً – حين نشبتِ الحرب – نشأتْ قوات معروفة بقوات النٌّصرة، تتدافع حتّى تضجُّ بها مناطق التسجيل. أقرب هاتف – من منفاه فى تركيّا – سيجعل الدكتور، آخر وزير للخارجيّة الإنقاذيّة، والقانوني الفحل، في غنىً عن سلوك الطّريق الوعر، متذرّعا بهجرات الهلاليين، وقصص التأريخ الموغلة في الاضطراب.
لنتقدّم، قليلاً، إذن:
المراجع التى نقل عنها الدكتور روايات هجرات الهلاليين لم تخبر عن مستقرّاتهم الجديدة، بعد التقويض المؤسّس للقيروان ودويلات المغرب. نقل عن ابن الأثير، وأشار إلى ابن خلدون، المقريزىّ، الذّهبى وغيرهم. سلك البروفسير يوسف فضل حسن ذلك الطّريق قبلاً. لكنّ يوسف سيتخبّط طويلاً دون أنْ يوصلنا إلى نتائج. ولو أنّ الدكتور الدرديرىّ تريّث قليلاً، وقرأ الدكتور أحمد الياس بتمعّن، أو أعاد قراءة إبراهيم اسحق في "هجرات الهلاليين"، لما تكبّد مؤونة النّقل. ولو أنّ أعراب جهينة "عرب الشّتات" هؤلاء استقروا حول بحيرة تشاد، كما تقول المرويات الشفهيّة وبعض المصادر، فإنَّ ذلك يجعل نزوحهم إلى دارفور وكردفان اضطراريّاً، للبحث عن موطنٍ أفضل. وبالضرورة ستكون الأعداد أقلّ من الذين فضّلوا البقاء حول البحيرة، استناداً إلى مبدأ أنّ "القليل هو الذي يخرج".
لكنّ الواضح أنَّ تعداد "عرب الشّتات" فى السّودان أكبر بكثير من موطنهم الأصل، بحيرة تشاد. ذلك أنّ تعداد سكّان تشاد – في أفضل الأحوال – هو عشرة ملايين نسمة. يشكّل العرب فيها المجموعة العرقيّة الثانية – بعد السارا. وفى كلا الدولتين، محلّ الاتّهام: النيجر ومالي، لا يبلغ تعدادهم الواحد بالمائة من إجمالىّ السكّان. ذلك يجعل عرب جهينة، "عرب الشتات" عاجزين عن التأثير فى التفاعلات الكبرى للمجموعة الأكبر، فى السودان، بل ويجعل استنصار من هم في السّودان بهم، أمراً غير وارد.
في سمت العلماء، ووقار عباراتهم، يقرّر الدرديرى أنّ أول ظهور لعرب الشتات، يقصد عرب تشاد، مالى والنّيجر، في المشهد السياسيّ السّودانيّ كان عام 2003م، مع أزمة دارفور. لكنّ "علميّته" لم تسعفه ليقول: كيف جاؤوا، كم تعدادهم، من الذي أتى بهم، لا سيّما وأنّ المقال مجيّر ليخدم قضية "الدولة السّودانيّة" وهويتها، التى سيعمل هؤلاء على الإطاحة بها. سيكون الدرديرىّ، ههنا، "كوز" بامتياز: مدلّس، مضلّل، ذرائعىّ، كثير الادّعاء. ذلك أنّ التأريخ لدخول "الأجانب" في اللعبة السياسيّة السودانيّة، إنْ حدث، فهو حدث فى ظلّ حكم الإنقاذ الإسلاميّة، دولة الله في الأرض. متّسقاً مع فلسفتها في مسألة الحدود القطريّة، الرّسالة العالميّة والتولي والتبري. سبق أنْ منحت الفلسطينيين الإسلاميين جوازاتٍ وحقوقاً مساوية للسّودانيين، كما فعلت مع الإسلاميين التوانسة، غيرهم. لكنّ استقدام "الغرب أفارقة" هذه المرّة، في 2003م – كما أرّخ الدرديرىّ – لم يكن على أساس الانتماء "للحركة الإسلاميّة". بل كان على أساس الحدّ من شوكة قبائل "الزُّرقة"، الإفريقيّة، والحفاظ على دولة الإسلام، وإنْ كان فى باطنه يضمر زيادة عدد العرب، الذي يقتضي بالضرورة تغييراً ديمغرافيّاً، ووعداً – غير مكتوب – بالاستيطان.
لم يجد الدرديرىُّ ما ينقله عن ابن الأثير، ابن خلدون أو المقريزىّ في مسألةٍ شديدة التعقيد هي مسألة حرب اليمن، والانخراط فيها، كعاملٍ آخر مغرٍ لهؤلاء الأعراب للدخول إلى السّودان. سرح في فانتازيا ماكينات استخراج الرقم الوطنيّ السّودانيّ في دول الجوار المربوطة بالأقمار الصناعيّة، والتي تجعل الرقم الوطني المستخرج من دول الجوار نازلاً – أوتوماتيكيّاً – في بيانات الداخليّة السّودانية، بحيث يستحيل فرزه. مثل خيالات الطاهر حسن التّوم حول الغرفة الموجودة في بلجيكا، والتي تعمل على "تكثير" عدد المتظاهرين السلميين في مواكب ثورة ديسمبر، بحيث يكون الموكب فقط مائة شخص، وترسل الصّور إلى بلجيكا ليجعله ألفاً، فى الوقت الذي يعرف النّاس في الخرطوم "حجم الموكب". وسيتعامى الدرديرىّ عن وقائع مشابهة لمنطقة المسيريّة فى ديار المعاليا، حقل "حديدة" النفطي، شظف العيش، انعدام التنمية، انسداد أفق شباب المعاليا. ومثلما سيتعامى عن "هوييب" فيديوهات انتصارات الدّعم السّريع في المعارك:
ولد النّمر البتنّى * أمرقن لىْ شوفنا
فهو بعض تراث قبيلة المعاليا. مثله مثل تراثيات " الكاتم"، "السّنجك"، "الهسيس"، "الشقلاب" وغيرها عند أغلب قبائل البدو فى كردفان ودارفور، التى ترافق صور وفيديوهات شباب الدّعم السّريع. ليس بالضرورة أنْ تكون "سودانيّاً"، فقط، بلعبة "شدّتْ"، أو مرتبطاً "وجدانيّاً" بنشيد "صه يا كنار" للصاغ محمود أبو بكر. ف "السّودانويّة" مشروع فسيح لم يحذق "السّودانيون" معرفته. يحتاجون إعادة اكتشافه، التبصُّر حوله. سيجد الدرديرىّ – وهو يجرى على ذات النّسق – أنّ أسماء مثل: "الأسيد، الختيم، الباعش، الشاهر، الطالب.... ألخ" أسماء غير سودانيّة. من الضرورى أنْ يكون اسمك: عثمان سيد أحمد محمد طه العريفي. "الهوية الجامعة" حدّدت "علاماتها" – سلفا – كما يقول رولان بارت.
لن أذهب كثيراً فى التفاصيل الدّقيقة لواقع حياة شباب قبائل: الرّزيقات، الهبانيّة، البنى هلبة، التعايشة، الزيادية، البنى حسين، التّرجم، المهرية، أولاد راشد، المسيريّة جبل وغيرهم، مما يجعل انخراطهم فى الدّعم السّريع أمراً محتوماً وخرجاً طبيعيّاً. يعوّل الدرديرىّ على بيانات مستحيية أخرجتها بعض قيادات الإدارات الأهليّة تعلن فيها وقوفها مع الجيش فى حربه على الدّعم السّريع. لكنّه – آخر وزير خارجيّة للإنقاذ – لا يمكنه أن يرى أنّ الإدارات الأهليّة التى استشهد بها هي امتداد للدولة الإرثيّة، دولة 56، خلفاء الكولونيالية. فهي أنظمة تمّ تصميمها لتخدم الدولة المركزية، هي مركز، من حيث ارتباط مصالحها بمصالح بقية الطبقات الإرثيّة: الجيش، الأفنديّة، طبقة التّجار. مكمّلة لها. وبالتالي سيكون وقوفها – على فرض صّحته – مع الجيش وقوفاً لحماية المصالح. وسيتعامى الدرديرىّ – ككوز – أيضاً – عن بيانات إدارات أهليّة منذ اندلاع الأزمة: بيانات نظارة التّرجم، بيانات الإدارة الأهليّة لقبيلة الهمج فى النيل الأزرق، بيانات إمارة الرّزيقات فى جنوب دارفور، بينات المسيريّة جبل...الخ. لأنّها تقف مؤيدةً للدّعم السّريع. كما سيتعامى عن مقاتلين أشداء هم الفلاّتة من منطقة "تُلُسْ"، ومقاتلين أشداء من قبائل رُّفاعة في الجزيرة، سنّار، النّيل الأزرق، يفوق عددهم الخمسة آلاف مقاتل، بقيادة المقدّم البيشىّ. يتعامى عن مقاتلى: التّاما، الزّغاوة، الفور، المراريت، البنى عامر، بل حتّى الشّايقيّة لمصلحة أنْ تتأسّس السّرديّة الأسطوريّة للتنظيم والحزب، بأنّ من "يقاتلنا" هم عرب النيجر، تشاد ومالي.
لكنْ ماذا تتوقّع من السفير، عضو وفد حكومة المؤتمر الوطني – الوحيد من خارج نهر النّيل والشماليّة – الذي فصل جنوب السّودان، وزير الخارجيّة – الوحيد أيضاً من خارج الولايتين منذ استقلال السّودان – أنْ يقول؟ لقد وجّه له البروفسير عبد الله على إبراهيم صفعة "محترمة" في رّدّه عليه: الأسباب وراء تحرّكات الطوارق والعرب في غرب إفريقيا وشمالها، والتي لا علاقة لها بالمشروع الصهيوني المتوهّم للقضاء على "الدولة الإسلاميّة" في السّودان..
الدرديرىّ أحد الذين عناهم فرانز فانون فى معذبو الأرض" حين عالج "مزالق الشّعور القومي"، أحد الذين لا علاقة لهم بحياة الجماهير، منعزلين عنها، يتخيّلون أساباً "علميّة" للواقع. وهو أمرٌ بائس ومخزٍ. سيكتشف الدرديرىّ – إنْ أعاد صلته بديار المسيريّة – واقعاً لا علاقة لها بابن الأثير والذهبي، ابن خلدون والمقريزىّ. واقع سيكون على الجميع التعامل مع "وحشيّته".. فالوطن يشتمل على مناطق وكائنات شديدة الوحشيّة، لم يكتشفها، بعد.
maryood@gmail.com
حسناً...
مع اشتداد الحرب في مناطق بحر الغزال، والجيش الشّعبيّ بقيادة جون قرنق يتمدّد، ثمانينات القرن الماضى، وجدت الحكومة أنّ فكرة تسليح القبائل الرّعوية ناجزة "للدفاع عن نفسها"، فيما هي تتوغّل جنوباً، من أجل الماء والكلأ حين يأتى الصيف، متجاوزةً ضفاف "بحر العرب"، أغلب الأحيان. فنشأتْ "قوات المراحيل". انخرط فيها المسيريّة، الرّزيقات وبدرجة أقلّ البنى هلبة والهبّانيّة. وحين واجهت حكومة الديمقراطية الثالثة، برئاسة الصّادق المهدىّ أزمات متعدّدة، تفتّقتْ عبقريتها عن "الدّفاع الشعبىّ"، فزادتْ من تسليح شباب القبائل العربيّة، وشرعنته. لاحقاً – حين جاءت حكومة الإنقاذ – وجدتْ مهاداً جيّداً فبنتْ عليه، لا سيّما وأنّ ثمّة غطاء مقدّساً للحرب، وقتها.
الغارات التى تشنّها قوات القبائل في "الحرب ضدّ الدّولة والإسلام"، كانت تقضى بأنّ "الغنائم" أساسيّة. حفلتْ ديار المسيريّة – موطن وزير الخارجية الإنقاذيّ، الدرديرىّ – بالغنائم. التي كانت تطال حتّى البشر، دعك من المواشى وما يمكن أنْ يشكّل ثروة فى المجتمع الفقير، ذاك. على أنّ الإنقاذ تحايلتْ على الأمريكان فاشترت امتياز شركة شيفرون للبترول، وعملتْ مع شركاء آخرين على استخراجه. البترول بدأ فى مناطق المسيريّة. تمّت مصادرة الأراضي، دفع تعويضات "وهميّة" من أجل بنية النّفط "الحقول – المعسكرات – الأنابيب – الطرق...الخ". ينظر الدكتور حامد البشير، والى جنوب كردفان فى عهد حمدوك، والخبير الأممي إلى ذلك إلى أنّ الإنقاذ، بفعلتها تلك، أخذتِ الأرض: الزراعة والمرعى ولم توظّف شباب المنطقة. وهو ما يعنى – فى ظلّ إنعدام فرص التعليم وضيق فرص العمل – إعادة التأسيس الضنك.
لن يكون الدكتور الدرديرى فى حاجةٍ إلى من يذكّره بالأوضاع التى آلت إليها مناطق المسيريّة. ثمّة تفشٍ للنّهب، قطع الطّريق، تزايد العنف. لم ترسِ العمليات النّفطية بنيةً تحتيّة فى تلك المناطق. ليس هناك من مستشفىً معتبر، لا طرق رابطة بين أىٍّ من مدن ومناطق المسيريّة، إلّا مؤخراً ولم تكتمل، ليس هناك من مصانع، مشاريع زراعية، إعادة تأهيل لمصنع ألبان بابنوسة. حتّى بعد اتفاقية نيفاشا، والتي قضت بمنح ما نسبته 2% من عائدات النّفط المستخرج من المنطقة للمسيريّة. الواقع ذاك، سيجعل شباب المنطقة، والمناطق المجاورة الأقرب إلى الانضمام إلى الدّعم السريع، في حال قدّم عروض أفضل من الجيش، الشرطة، الأمن، وقد فعل. لقد انخرط المسيريّة الحمر والزُرق، الحوازمة، الرواوقة، الخزام في الدّعم السّريع. ولاحقاً – حين نشبتِ الحرب – نشأتْ قوات معروفة بقوات النٌّصرة، تتدافع حتّى تضجُّ بها مناطق التسجيل. أقرب هاتف – من منفاه فى تركيّا – سيجعل الدكتور، آخر وزير للخارجيّة الإنقاذيّة، والقانوني الفحل، في غنىً عن سلوك الطّريق الوعر، متذرّعا بهجرات الهلاليين، وقصص التأريخ الموغلة في الاضطراب.
لنتقدّم، قليلاً، إذن:
المراجع التى نقل عنها الدكتور روايات هجرات الهلاليين لم تخبر عن مستقرّاتهم الجديدة، بعد التقويض المؤسّس للقيروان ودويلات المغرب. نقل عن ابن الأثير، وأشار إلى ابن خلدون، المقريزىّ، الذّهبى وغيرهم. سلك البروفسير يوسف فضل حسن ذلك الطّريق قبلاً. لكنّ يوسف سيتخبّط طويلاً دون أنْ يوصلنا إلى نتائج. ولو أنّ الدكتور الدرديرىّ تريّث قليلاً، وقرأ الدكتور أحمد الياس بتمعّن، أو أعاد قراءة إبراهيم اسحق في "هجرات الهلاليين"، لما تكبّد مؤونة النّقل. ولو أنّ أعراب جهينة "عرب الشّتات" هؤلاء استقروا حول بحيرة تشاد، كما تقول المرويات الشفهيّة وبعض المصادر، فإنَّ ذلك يجعل نزوحهم إلى دارفور وكردفان اضطراريّاً، للبحث عن موطنٍ أفضل. وبالضرورة ستكون الأعداد أقلّ من الذين فضّلوا البقاء حول البحيرة، استناداً إلى مبدأ أنّ "القليل هو الذي يخرج".
لكنّ الواضح أنَّ تعداد "عرب الشّتات" فى السّودان أكبر بكثير من موطنهم الأصل، بحيرة تشاد. ذلك أنّ تعداد سكّان تشاد – في أفضل الأحوال – هو عشرة ملايين نسمة. يشكّل العرب فيها المجموعة العرقيّة الثانية – بعد السارا. وفى كلا الدولتين، محلّ الاتّهام: النيجر ومالي، لا يبلغ تعدادهم الواحد بالمائة من إجمالىّ السكّان. ذلك يجعل عرب جهينة، "عرب الشتات" عاجزين عن التأثير فى التفاعلات الكبرى للمجموعة الأكبر، فى السودان، بل ويجعل استنصار من هم في السّودان بهم، أمراً غير وارد.
في سمت العلماء، ووقار عباراتهم، يقرّر الدرديرى أنّ أول ظهور لعرب الشتات، يقصد عرب تشاد، مالى والنّيجر، في المشهد السياسيّ السّودانيّ كان عام 2003م، مع أزمة دارفور. لكنّ "علميّته" لم تسعفه ليقول: كيف جاؤوا، كم تعدادهم، من الذي أتى بهم، لا سيّما وأنّ المقال مجيّر ليخدم قضية "الدولة السّودانيّة" وهويتها، التى سيعمل هؤلاء على الإطاحة بها. سيكون الدرديرىّ، ههنا، "كوز" بامتياز: مدلّس، مضلّل، ذرائعىّ، كثير الادّعاء. ذلك أنّ التأريخ لدخول "الأجانب" في اللعبة السياسيّة السودانيّة، إنْ حدث، فهو حدث فى ظلّ حكم الإنقاذ الإسلاميّة، دولة الله في الأرض. متّسقاً مع فلسفتها في مسألة الحدود القطريّة، الرّسالة العالميّة والتولي والتبري. سبق أنْ منحت الفلسطينيين الإسلاميين جوازاتٍ وحقوقاً مساوية للسّودانيين، كما فعلت مع الإسلاميين التوانسة، غيرهم. لكنّ استقدام "الغرب أفارقة" هذه المرّة، في 2003م – كما أرّخ الدرديرىّ – لم يكن على أساس الانتماء "للحركة الإسلاميّة". بل كان على أساس الحدّ من شوكة قبائل "الزُّرقة"، الإفريقيّة، والحفاظ على دولة الإسلام، وإنْ كان فى باطنه يضمر زيادة عدد العرب، الذي يقتضي بالضرورة تغييراً ديمغرافيّاً، ووعداً – غير مكتوب – بالاستيطان.
لم يجد الدرديرىُّ ما ينقله عن ابن الأثير، ابن خلدون أو المقريزىّ في مسألةٍ شديدة التعقيد هي مسألة حرب اليمن، والانخراط فيها، كعاملٍ آخر مغرٍ لهؤلاء الأعراب للدخول إلى السّودان. سرح في فانتازيا ماكينات استخراج الرقم الوطنيّ السّودانيّ في دول الجوار المربوطة بالأقمار الصناعيّة، والتي تجعل الرقم الوطني المستخرج من دول الجوار نازلاً – أوتوماتيكيّاً – في بيانات الداخليّة السّودانية، بحيث يستحيل فرزه. مثل خيالات الطاهر حسن التّوم حول الغرفة الموجودة في بلجيكا، والتي تعمل على "تكثير" عدد المتظاهرين السلميين في مواكب ثورة ديسمبر، بحيث يكون الموكب فقط مائة شخص، وترسل الصّور إلى بلجيكا ليجعله ألفاً، فى الوقت الذي يعرف النّاس في الخرطوم "حجم الموكب". وسيتعامى الدرديرىّ عن وقائع مشابهة لمنطقة المسيريّة فى ديار المعاليا، حقل "حديدة" النفطي، شظف العيش، انعدام التنمية، انسداد أفق شباب المعاليا. ومثلما سيتعامى عن "هوييب" فيديوهات انتصارات الدّعم السّريع في المعارك:
ولد النّمر البتنّى * أمرقن لىْ شوفنا
فهو بعض تراث قبيلة المعاليا. مثله مثل تراثيات " الكاتم"، "السّنجك"، "الهسيس"، "الشقلاب" وغيرها عند أغلب قبائل البدو فى كردفان ودارفور، التى ترافق صور وفيديوهات شباب الدّعم السّريع. ليس بالضرورة أنْ تكون "سودانيّاً"، فقط، بلعبة "شدّتْ"، أو مرتبطاً "وجدانيّاً" بنشيد "صه يا كنار" للصاغ محمود أبو بكر. ف "السّودانويّة" مشروع فسيح لم يحذق "السّودانيون" معرفته. يحتاجون إعادة اكتشافه، التبصُّر حوله. سيجد الدرديرىّ – وهو يجرى على ذات النّسق – أنّ أسماء مثل: "الأسيد، الختيم، الباعش، الشاهر، الطالب.... ألخ" أسماء غير سودانيّة. من الضرورى أنْ يكون اسمك: عثمان سيد أحمد محمد طه العريفي. "الهوية الجامعة" حدّدت "علاماتها" – سلفا – كما يقول رولان بارت.
لن أذهب كثيراً فى التفاصيل الدّقيقة لواقع حياة شباب قبائل: الرّزيقات، الهبانيّة، البنى هلبة، التعايشة، الزيادية، البنى حسين، التّرجم، المهرية، أولاد راشد، المسيريّة جبل وغيرهم، مما يجعل انخراطهم فى الدّعم السّريع أمراً محتوماً وخرجاً طبيعيّاً. يعوّل الدرديرىّ على بيانات مستحيية أخرجتها بعض قيادات الإدارات الأهليّة تعلن فيها وقوفها مع الجيش فى حربه على الدّعم السّريع. لكنّه – آخر وزير خارجيّة للإنقاذ – لا يمكنه أن يرى أنّ الإدارات الأهليّة التى استشهد بها هي امتداد للدولة الإرثيّة، دولة 56، خلفاء الكولونيالية. فهي أنظمة تمّ تصميمها لتخدم الدولة المركزية، هي مركز، من حيث ارتباط مصالحها بمصالح بقية الطبقات الإرثيّة: الجيش، الأفنديّة، طبقة التّجار. مكمّلة لها. وبالتالي سيكون وقوفها – على فرض صّحته – مع الجيش وقوفاً لحماية المصالح. وسيتعامى الدرديرىّ – ككوز – أيضاً – عن بيانات إدارات أهليّة منذ اندلاع الأزمة: بيانات نظارة التّرجم، بيانات الإدارة الأهليّة لقبيلة الهمج فى النيل الأزرق، بيانات إمارة الرّزيقات فى جنوب دارفور، بينات المسيريّة جبل...الخ. لأنّها تقف مؤيدةً للدّعم السّريع. كما سيتعامى عن مقاتلين أشداء هم الفلاّتة من منطقة "تُلُسْ"، ومقاتلين أشداء من قبائل رُّفاعة في الجزيرة، سنّار، النّيل الأزرق، يفوق عددهم الخمسة آلاف مقاتل، بقيادة المقدّم البيشىّ. يتعامى عن مقاتلى: التّاما، الزّغاوة، الفور، المراريت، البنى عامر، بل حتّى الشّايقيّة لمصلحة أنْ تتأسّس السّرديّة الأسطوريّة للتنظيم والحزب، بأنّ من "يقاتلنا" هم عرب النيجر، تشاد ومالي.
لكنْ ماذا تتوقّع من السفير، عضو وفد حكومة المؤتمر الوطني – الوحيد من خارج نهر النّيل والشماليّة – الذي فصل جنوب السّودان، وزير الخارجيّة – الوحيد أيضاً من خارج الولايتين منذ استقلال السّودان – أنْ يقول؟ لقد وجّه له البروفسير عبد الله على إبراهيم صفعة "محترمة" في رّدّه عليه: الأسباب وراء تحرّكات الطوارق والعرب في غرب إفريقيا وشمالها، والتي لا علاقة لها بالمشروع الصهيوني المتوهّم للقضاء على "الدولة الإسلاميّة" في السّودان..
الدرديرىّ أحد الذين عناهم فرانز فانون فى معذبو الأرض" حين عالج "مزالق الشّعور القومي"، أحد الذين لا علاقة لهم بحياة الجماهير، منعزلين عنها، يتخيّلون أساباً "علميّة" للواقع. وهو أمرٌ بائس ومخزٍ. سيكتشف الدرديرىّ – إنْ أعاد صلته بديار المسيريّة – واقعاً لا علاقة لها بابن الأثير والذهبي، ابن خلدون والمقريزىّ. واقع سيكون على الجميع التعامل مع "وحشيّته".. فالوطن يشتمل على مناطق وكائنات شديدة الوحشيّة، لم يكتشفها، بعد.
maryood@gmail.com