المؤسسة السودانية .. من الطقوسية الى الانهيار (1/5)
محمد عبد الخالق بكري
18 December, 2023
18 December, 2023
mbakri9@gmail.com
حسب البيانات والبحث التجريبي في تاريخ المؤسسات واضمحلالها، مؤسسة السياسة السودانية مؤسسة آفلة وذاهبة حتما نحو الفناء. الذي أجد نفسي على يقين منه هو أن نتيجة هذه الحرب لن تكون شيء غير انهيار المؤسسة السودانية على رؤوس الجميع. حتى ولو تمكن طرف من تحطيم الطرف الآخر نهائيا فلن يهنأ الطرف المنتصر باستقرار. ستنشأ حركات احتجاج جديدة، في الغالب حركات مسلحة، وستنفجر مئات بؤر التوتر الجديدة. وذلك لان النظام السوداني يحتاج الى ترتيبات مؤسسية جديدة من غيرها لا سبيل للخروج من هذا المصير.
ولكن دعنا نتحدث عن المؤسسة قليلا، فقد كثر الحديث عنها هذه الأيام، وقدم لها البعض تعريفات مضللة عمدا وقصدا أو جهلا. أن المؤسسات ليست هي المنظمات: القضائية بمحاكمها والجيش بوحداته والبنك المركزي والبرلمان...الخ هذه ليست مؤسسات. هذه منظمات. حتى نقترب أكثر من تعريف المؤسسة: مؤسسة الرق التي يبيع ويشتري فيها الانسان أخيه الإنسان هي مؤسسة لأنها مبنية على أخلاق ومن ثم قوانين نظمت حتى حالة العبيد الهاربين والمحاكم والسلطات التي تعيدهم الى ملاكهم. شركة الهند الغربية الهولندية، كجزء من هذا النظام، والمحاكم وأجهزة السيطرة والقمع ليست مؤسسات، بل منظمات.
في تقديري، يجب أن نعترف، أن نكون واضحين مع أنفسنا. يجب أن نعترف بحقيقة بسيطة أن تعددية النظام الحزبي السوداني بأحزابه وانتخاباته وبرلماناته - فيما عرف بفترات الديمقراطية الثلاث - إضافة للانقلابات العسكرية التي شهدها السودان بأنظمتها الشمولية، هذه الحقب، دكتاتوريات او أنظمة تعددية، هي في حقيقة الأمر مؤسسة واحدة مهما تشعبت التفاصيل وغابت الرؤية. هذا مهم حتى نفهم الدعوة الملحة للكثير من المتعلمين، وهم على حق، لمؤتمر دستوري او الدعوة لعقد إجتماعي جديد، وهي دعوة محقة ايضا، والدعوة لسودان جديد ايضا، وحتى المغاضبين الذين وصفوا النخبة بإدمان الفشل هم ايضا على بعض من الحق. إنني اصدر من نفس مواقعهم لكني أصر أن ازمتنا هي أزمة المؤسسة.
انتهى الأمر بانقلاب مايو الى تنفيذ نفس الترتيبات المؤسسية التي كانت اجندة احزاب التعددية التي اسقطها في 1969 بحذافيرها بما في ذلك إعلان الشريعة، وأد الحريات، وقلب طاولة مؤتمر المائدة المستديرة، بل وحتى محاولة اغتيال الأستاذ محمود محمد طه في عام 1967، تحت ظل نظام التعددية، نفذها نظام جعفر نميري بحذافيرها. في نهاية الأمر إن ما حدث هو نتيجة لنفس الترتيبات المؤسسية. (وحدة الترتيبات المؤسسية بين نظام نميري ونظام ما عرف بالديمقراطية الثالثة وبين الاخيرة ونظام الإنقاذ تجدها في سلسلة مقالات بعنوان "انظر الى الوراء بغضب" نشرت عام 2020).
كل ما فعله نظام البشير والإسلاميين، مهما بدأت من بشاعته، هو التسريع بوتائر فشل هذه المؤسسة السودانية ونفاذ فرصتها في التقليل من تناقضات النظام المجتمعي وبالتالي التسريع بإنهيارها.
لنبدأ القصة من الآخر ونمشي من الوراء الى الأمام حتى يتسنى لنا الفهم. اي دعنا نبدأ من اعلى فروع الشجرة ونتوجه نحو الجزع ثم الجذر: اي من قصة الصراع الحالي بين الجيش والدعم السريع. الصراع الحالي ناتج عن حالة تحولت فيها المؤسسة الى مؤسسة طقوسية او شعائرية (Ceremonial institution) في خضم بحثها عن الديمومة. وظيفة الطقوسية هي إدامة الامتيازات والحفاظ على السلطة والثروة، لكن ثمن الطقوسية/الشعائرية باهظ التكلفة، حيث إنه يتطلب تغيرات جوهرية في هيكل السلطة وشبكتها الأساسية. وهذا ما حدث في نقطة ما (بروز الدعم السريع كقوة حاسمة في تراتبية أمن النظام منذ تأسيسه فصاعدا والتقدم في مكانته في هيكل السلطة بعد 2018). التغيرات في هيكلية السلطة لها اثار وخيمة على السلطة نفسها والمؤسسة ككل مع التطورات التي تصيب النظام الاجتماعي وانظمته الفرعية بمعنى System and Subsystems هذه التطورات تشمل الانتفاضة نفسها وتطور هويات جديدة، منها الهويات التي يمور بها الوطن ككل والاقليم الغربي بما في ذلك الهوية التي طورتها قوات الدعم السريع نفسها ضمن عوامل اخرى.
عندما تبرز تناقضات جديدة تحت ظل المؤسسة الطقوسية تعجز الترتيبات المؤسسية القديمة عن تقليل التعقيد المجتمعي وذلك لجمود الأخيرة. هذا بالضبط ما قال به (Wolfram Elsner) حيث يقول: في بحث المؤسسات لتقليل التناقضات قد تلجأ المؤسسات أحيانا للتصالح او التوافق مع ظهور عفوي لمركزيات جديدة وهياكل سلطة جديدة في شبكتها الأساسية ويكون لهذا الظهور اثار ونتائج في التراتبية الاجتماعية، وعندها تنحدر المؤسسة الى مؤسسة تسيطر عليها الطقوسية، تصبح مؤسسة جامدة غير مرنة مهمتها الأساسية الحفاظ على السلطة والمكانة. مثل هذه المؤسسات، وبالتالي الأنظمة التي تقوم عليها، لن تعكس فقط قدر ناقص من التعقيد، بل، في نقطة ما، ستعكس قدرا قليل جدا من التعقيد يؤهل للانحدار تحت الحد المطلوب للتأقلم/التكيف. هذه المؤسسة والأنظمة المرتبطة بها عرضة بكل وضوح للانحدار المؤسسي وبعد ذلك الانحدار الاقتصادي، المجتمعي والبيئي وأخيرا الانهيار."
هذا هو ما حدث بالضبط للمؤسسة السودانية وتطور الى حد غير مسبوق منذ حرب دارفور عام 2003. ليس فقط أن السلطة عجزت عن الإتيان بترتيب مؤسسي جديد ينهى الظلامات التي أدت الى حرب دار فور بحيث تحافظ على السلم الأهلي، بل لجأت تدريجيا لحزمة من المعالجات أدت لتغير جوهري في هيكلية السلطة نفسها ومراكز القوى في شبكة علاقاتها. عمدت السلطة ضمن حزمة إجراءاتها الى ترتيب مؤسسي اصلا كان موجودا في جعبة المؤسسة السودانية وهو تطوير لتجربة قوات المراحيل التي ابتدعتها حكومات الفترة التعددية عام 1987. رغم النجاح المؤقت في كبح، بل قمع التناقضات، فات على السلطة أن مياه كثيرة جرت تحت الجسر منذ عقد الثمانينات ولم يعد الترتيب المؤسسي القديم مأمونا (الحرب الأهلية الشادية، بلوغ تراكم الثروة الليبية حد أدى لتوسع السوق الإقليمي والمحلي في غرب السودان وبالتالي ازدياد حركة البضائع وحركة الناس والافكار الى حد غير مسبوق، ثم سقوط النظام الليبي وانعكاساته على الأقاليم وفوق ذلك ظهور هويات جديدة بل تطورها وتعبيرها عن نفسها).
في هذا الجزء الأخير من هذه الحلقة أود أن اذكر بعض ملامح الطقوسية قد تبدو عشوائية في تسلسلها التاريخي لكن هنالك رابط واضح بينها . تحول المؤسسة نحو الطقوسية له جذوره وليس بغتة ولكن على كل حال للامثلة التالية اهميتها.
- بدأ الانزلاق نحو الطقوسية يأخذ منحا واضحا تجلى في فترة تحالف موسي هلال مع السلطة حيث تولى المنصب الطقوسي كمستشار للحكم المحلي، الوزير كان عبد الباسط سبدرات. وقد شعر موسى هلال بالخلخلة غير المكتملة حين ذاك في هيكل السلطة وخاض خلافه مع الوالي محمد يوسف كبر ونجح في إزاحته ثم أعلن تمرده الخديج واعتقلته السلطات بعد مقتلة حوله. كان هذا في جوهرة Ceremonial transaction.
- اثار إعطاء حميدتي رتبة العميد في القوات المسلحة السودانية عام 2007 حفيظة بعض ضابط القوات المسلحة فأخرسهم البشير بأعداد الضباط الإسلاميين من خريجي الاقتصاد والهندسة الذين صاروا ضباطا بعد إجراءات طقوسية. ولعل خطبة حميدتي العصماء عن الجيش قد عبرت عن طقوسية الجيش نفسه وتحوله الى جزء من طقسوية المؤسسة السودانية. تصير حادثة جلد ضابط عظيم وتجريده من ملابسه من قبل جنود الدعم السريع وحزمه كحزمة قصب قصة هامشية في هذا الطقس المؤسسي.
- شهدت فديو لشاب صغير لا يتجاوز عمره العشرين عاما اسمه الصادق الفكة انقسم عن حركة عبد الواحد محمد نور وقام بتوقيع اتفاق مع الحكومة ممثلة في محافظ ولاية ما، تم التوقيع في احتفالية وتم منح السيد الفكة رتبة مقدم في الجيش السوداني. أصرت الحكومة في مراسيم التوقيع على ارتدائه الكدمول. حقيقي أن السيد الفكة لا يستحق وصفة بالمقدم خلاء بل الاحرى التأمل في شأن المؤسسة التي تم تجريف منظماتها الاجتماعية وهي تنحدر نحو الخلاء.
- أخيرا لابد من ذكر ما قاله السيد منى اركو مناوي حين نفض يد من تجربته في توقيع اتفاقية سلام مع نظام البشير وتبوئه منصب كبير مساعدي رئيس الجمهورية ورئيس السلطة الانتقالية في دارفور حيث وصف المنصب (بمساعد حلة)، اي بكلمة اخرى ان منصبه كان طقوسيا (Ceremonial).إذن انعكست طقوسية المؤسسة حتى في اتفاقات السلام، بما فيها سلام جوبا الأخير، مما يدل على أن ذلك اتجاه مؤسسي صار راكنا في الجسد المؤسسي السوداني وهو الشيءالذي أدى الى تكلسه وجموده وعجزه عن حل التناقضات.
هذه فقط بداية سلسلة هذه المقالات.
حسب البيانات والبحث التجريبي في تاريخ المؤسسات واضمحلالها، مؤسسة السياسة السودانية مؤسسة آفلة وذاهبة حتما نحو الفناء. الذي أجد نفسي على يقين منه هو أن نتيجة هذه الحرب لن تكون شيء غير انهيار المؤسسة السودانية على رؤوس الجميع. حتى ولو تمكن طرف من تحطيم الطرف الآخر نهائيا فلن يهنأ الطرف المنتصر باستقرار. ستنشأ حركات احتجاج جديدة، في الغالب حركات مسلحة، وستنفجر مئات بؤر التوتر الجديدة. وذلك لان النظام السوداني يحتاج الى ترتيبات مؤسسية جديدة من غيرها لا سبيل للخروج من هذا المصير.
ولكن دعنا نتحدث عن المؤسسة قليلا، فقد كثر الحديث عنها هذه الأيام، وقدم لها البعض تعريفات مضللة عمدا وقصدا أو جهلا. أن المؤسسات ليست هي المنظمات: القضائية بمحاكمها والجيش بوحداته والبنك المركزي والبرلمان...الخ هذه ليست مؤسسات. هذه منظمات. حتى نقترب أكثر من تعريف المؤسسة: مؤسسة الرق التي يبيع ويشتري فيها الانسان أخيه الإنسان هي مؤسسة لأنها مبنية على أخلاق ومن ثم قوانين نظمت حتى حالة العبيد الهاربين والمحاكم والسلطات التي تعيدهم الى ملاكهم. شركة الهند الغربية الهولندية، كجزء من هذا النظام، والمحاكم وأجهزة السيطرة والقمع ليست مؤسسات، بل منظمات.
في تقديري، يجب أن نعترف، أن نكون واضحين مع أنفسنا. يجب أن نعترف بحقيقة بسيطة أن تعددية النظام الحزبي السوداني بأحزابه وانتخاباته وبرلماناته - فيما عرف بفترات الديمقراطية الثلاث - إضافة للانقلابات العسكرية التي شهدها السودان بأنظمتها الشمولية، هذه الحقب، دكتاتوريات او أنظمة تعددية، هي في حقيقة الأمر مؤسسة واحدة مهما تشعبت التفاصيل وغابت الرؤية. هذا مهم حتى نفهم الدعوة الملحة للكثير من المتعلمين، وهم على حق، لمؤتمر دستوري او الدعوة لعقد إجتماعي جديد، وهي دعوة محقة ايضا، والدعوة لسودان جديد ايضا، وحتى المغاضبين الذين وصفوا النخبة بإدمان الفشل هم ايضا على بعض من الحق. إنني اصدر من نفس مواقعهم لكني أصر أن ازمتنا هي أزمة المؤسسة.
انتهى الأمر بانقلاب مايو الى تنفيذ نفس الترتيبات المؤسسية التي كانت اجندة احزاب التعددية التي اسقطها في 1969 بحذافيرها بما في ذلك إعلان الشريعة، وأد الحريات، وقلب طاولة مؤتمر المائدة المستديرة، بل وحتى محاولة اغتيال الأستاذ محمود محمد طه في عام 1967، تحت ظل نظام التعددية، نفذها نظام جعفر نميري بحذافيرها. في نهاية الأمر إن ما حدث هو نتيجة لنفس الترتيبات المؤسسية. (وحدة الترتيبات المؤسسية بين نظام نميري ونظام ما عرف بالديمقراطية الثالثة وبين الاخيرة ونظام الإنقاذ تجدها في سلسلة مقالات بعنوان "انظر الى الوراء بغضب" نشرت عام 2020).
كل ما فعله نظام البشير والإسلاميين، مهما بدأت من بشاعته، هو التسريع بوتائر فشل هذه المؤسسة السودانية ونفاذ فرصتها في التقليل من تناقضات النظام المجتمعي وبالتالي التسريع بإنهيارها.
لنبدأ القصة من الآخر ونمشي من الوراء الى الأمام حتى يتسنى لنا الفهم. اي دعنا نبدأ من اعلى فروع الشجرة ونتوجه نحو الجزع ثم الجذر: اي من قصة الصراع الحالي بين الجيش والدعم السريع. الصراع الحالي ناتج عن حالة تحولت فيها المؤسسة الى مؤسسة طقوسية او شعائرية (Ceremonial institution) في خضم بحثها عن الديمومة. وظيفة الطقوسية هي إدامة الامتيازات والحفاظ على السلطة والثروة، لكن ثمن الطقوسية/الشعائرية باهظ التكلفة، حيث إنه يتطلب تغيرات جوهرية في هيكل السلطة وشبكتها الأساسية. وهذا ما حدث في نقطة ما (بروز الدعم السريع كقوة حاسمة في تراتبية أمن النظام منذ تأسيسه فصاعدا والتقدم في مكانته في هيكل السلطة بعد 2018). التغيرات في هيكلية السلطة لها اثار وخيمة على السلطة نفسها والمؤسسة ككل مع التطورات التي تصيب النظام الاجتماعي وانظمته الفرعية بمعنى System and Subsystems هذه التطورات تشمل الانتفاضة نفسها وتطور هويات جديدة، منها الهويات التي يمور بها الوطن ككل والاقليم الغربي بما في ذلك الهوية التي طورتها قوات الدعم السريع نفسها ضمن عوامل اخرى.
عندما تبرز تناقضات جديدة تحت ظل المؤسسة الطقوسية تعجز الترتيبات المؤسسية القديمة عن تقليل التعقيد المجتمعي وذلك لجمود الأخيرة. هذا بالضبط ما قال به (Wolfram Elsner) حيث يقول: في بحث المؤسسات لتقليل التناقضات قد تلجأ المؤسسات أحيانا للتصالح او التوافق مع ظهور عفوي لمركزيات جديدة وهياكل سلطة جديدة في شبكتها الأساسية ويكون لهذا الظهور اثار ونتائج في التراتبية الاجتماعية، وعندها تنحدر المؤسسة الى مؤسسة تسيطر عليها الطقوسية، تصبح مؤسسة جامدة غير مرنة مهمتها الأساسية الحفاظ على السلطة والمكانة. مثل هذه المؤسسات، وبالتالي الأنظمة التي تقوم عليها، لن تعكس فقط قدر ناقص من التعقيد، بل، في نقطة ما، ستعكس قدرا قليل جدا من التعقيد يؤهل للانحدار تحت الحد المطلوب للتأقلم/التكيف. هذه المؤسسة والأنظمة المرتبطة بها عرضة بكل وضوح للانحدار المؤسسي وبعد ذلك الانحدار الاقتصادي، المجتمعي والبيئي وأخيرا الانهيار."
هذا هو ما حدث بالضبط للمؤسسة السودانية وتطور الى حد غير مسبوق منذ حرب دارفور عام 2003. ليس فقط أن السلطة عجزت عن الإتيان بترتيب مؤسسي جديد ينهى الظلامات التي أدت الى حرب دار فور بحيث تحافظ على السلم الأهلي، بل لجأت تدريجيا لحزمة من المعالجات أدت لتغير جوهري في هيكلية السلطة نفسها ومراكز القوى في شبكة علاقاتها. عمدت السلطة ضمن حزمة إجراءاتها الى ترتيب مؤسسي اصلا كان موجودا في جعبة المؤسسة السودانية وهو تطوير لتجربة قوات المراحيل التي ابتدعتها حكومات الفترة التعددية عام 1987. رغم النجاح المؤقت في كبح، بل قمع التناقضات، فات على السلطة أن مياه كثيرة جرت تحت الجسر منذ عقد الثمانينات ولم يعد الترتيب المؤسسي القديم مأمونا (الحرب الأهلية الشادية، بلوغ تراكم الثروة الليبية حد أدى لتوسع السوق الإقليمي والمحلي في غرب السودان وبالتالي ازدياد حركة البضائع وحركة الناس والافكار الى حد غير مسبوق، ثم سقوط النظام الليبي وانعكاساته على الأقاليم وفوق ذلك ظهور هويات جديدة بل تطورها وتعبيرها عن نفسها).
في هذا الجزء الأخير من هذه الحلقة أود أن اذكر بعض ملامح الطقوسية قد تبدو عشوائية في تسلسلها التاريخي لكن هنالك رابط واضح بينها . تحول المؤسسة نحو الطقوسية له جذوره وليس بغتة ولكن على كل حال للامثلة التالية اهميتها.
- بدأ الانزلاق نحو الطقوسية يأخذ منحا واضحا تجلى في فترة تحالف موسي هلال مع السلطة حيث تولى المنصب الطقوسي كمستشار للحكم المحلي، الوزير كان عبد الباسط سبدرات. وقد شعر موسى هلال بالخلخلة غير المكتملة حين ذاك في هيكل السلطة وخاض خلافه مع الوالي محمد يوسف كبر ونجح في إزاحته ثم أعلن تمرده الخديج واعتقلته السلطات بعد مقتلة حوله. كان هذا في جوهرة Ceremonial transaction.
- اثار إعطاء حميدتي رتبة العميد في القوات المسلحة السودانية عام 2007 حفيظة بعض ضابط القوات المسلحة فأخرسهم البشير بأعداد الضباط الإسلاميين من خريجي الاقتصاد والهندسة الذين صاروا ضباطا بعد إجراءات طقوسية. ولعل خطبة حميدتي العصماء عن الجيش قد عبرت عن طقوسية الجيش نفسه وتحوله الى جزء من طقسوية المؤسسة السودانية. تصير حادثة جلد ضابط عظيم وتجريده من ملابسه من قبل جنود الدعم السريع وحزمه كحزمة قصب قصة هامشية في هذا الطقس المؤسسي.
- شهدت فديو لشاب صغير لا يتجاوز عمره العشرين عاما اسمه الصادق الفكة انقسم عن حركة عبد الواحد محمد نور وقام بتوقيع اتفاق مع الحكومة ممثلة في محافظ ولاية ما، تم التوقيع في احتفالية وتم منح السيد الفكة رتبة مقدم في الجيش السوداني. أصرت الحكومة في مراسيم التوقيع على ارتدائه الكدمول. حقيقي أن السيد الفكة لا يستحق وصفة بالمقدم خلاء بل الاحرى التأمل في شأن المؤسسة التي تم تجريف منظماتها الاجتماعية وهي تنحدر نحو الخلاء.
- أخيرا لابد من ذكر ما قاله السيد منى اركو مناوي حين نفض يد من تجربته في توقيع اتفاقية سلام مع نظام البشير وتبوئه منصب كبير مساعدي رئيس الجمهورية ورئيس السلطة الانتقالية في دارفور حيث وصف المنصب (بمساعد حلة)، اي بكلمة اخرى ان منصبه كان طقوسيا (Ceremonial).إذن انعكست طقوسية المؤسسة حتى في اتفاقات السلام، بما فيها سلام جوبا الأخير، مما يدل على أن ذلك اتجاه مؤسسي صار راكنا في الجسد المؤسسي السوداني وهو الشيءالذي أدى الى تكلسه وجموده وعجزه عن حل التناقضات.
هذه فقط بداية سلسلة هذه المقالات.